حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (2 من 2)
لمَ لا تزال تجربة الحزب مفيدة اليوم؟
“قصّة حزب العمل الشيوعي السوري (1976-1992): فصل من تاريخ اليسار في سوريا”(المرايا، 2020)، هو كتاب جديد للكاتب والناشط السياسي راتب شعبو يسلط الضوء على التجربة السياسية لحزب العمل الشيوعي السوري، مقدّما قراءة هامة وضرورية عن المقاومة السياسية التقدّمية ضدّ النظام السوري من السبعينيات حتى التسعينيات. الباحث والمؤلف القدير، جوزيف ضاهر، يقدم قراءة موّسعة للكتاب، يشرح من خلالها: لمَ لا تزال تجربة حزب العمل الشيوعي مفيدة اليوم؟
(يشكّل هذا المقال الجزء الثاني من سلسلة من جزئين للكاتب جوزيف ضاهر يتعمّق فيها بتاريخ حزب العمل الشيوعي في سوريا).
نشب صراع عنيف في السبعينيات والثمانينيات بين النظام السوري والحركة الإسلامية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، وتفاقم هذا الصراع ليبلغ ذروته في مجزرة حماة في العام 1982، حين حاصرت قوّات النظام المدينة وقتلت الآلاف من الأشخاص على الأقلّ، لا بل أكثر على الأرجح.
كتب شعبو أنّ التوتّر بين المحورين شكّل “الامتحان السياسي الفعلي الأوّل” لرابطة العمل الشيوعي التي أصبحت لاحقًا حزب العمل الشيوعي (ص: 115). لطالما عارضت الرابطة نظام حافظ الأسد الذي كانت تعتبره نظامًا فاسدا ودكتاتوريا ولاوطنيا، ومعارضًا لمصالح الفئات الشعبية والقضية الفلسطينية على حدّ سواء.
موقف الرابطة من الإخوان
كان لرابطة العمل الشيوعي والإخوان المسلمين هدف مشترك، أقلّه ظاهريًا، وهو الإطاحة بنظام الأسد. لكن، وجدت الرابطة أنّ مقاربة الإخوان المسلمين مليئة بالشوائب، في ظلّ خطاباتهم وممارساتهم الطائفية والمناهضة للديمقراطية1. وغالبًا ما كان أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يقتلون شخصيات علوية لا تمتّ بأيّ صلة سياسية مباشرة للنظام2.
رأت الرابطة الصراع بين المعسكرين (النظام السوري والإخوان المسلمين) كنزاع بين شريحتين من البرجوازية السورية، لا هو ديمقراطيّ ولا “وطنيّ”، كما أنّه لا يخدم مصالح البلاد. تمثّلت الفئتان بالبرجوازية البيروقراطية المهيمنة على النظام، من جهة، والبرجوازية التقليدية، المؤلّفة خصوصًا من التجّار البارزين، المتحالفة مع الإخوان المسلمين، من جهة أخرى. لكنّ القاسم المشترك بين الفئتين هي أنّهما عارضتا مصالح الطبقات الشعبية.
نحو معسكر ثالث
في المقابل، عملت الرابطة على تأسيس ما عُرف بـ”الخط الثالث”. في العام 1979، نشرت صحيفة الحزب (الراية الحمراء)، مقالًا افتتاحيًا تدعو فيه إلى تشكيل ما أسمته بـ”الجبهة الشعبية المتحدة”، على أن تتألّف الجبهة “من القوى الممثلة للطبقات الشعبية” في سوريا وتعارض النظام والإخوان المسلمين، بينما تعمل “لسحب البساط الشعبي من طرفي الصراع و تحقيق برنامها الديموقراطي المستقل” (ص. 117)3. لاحقًا، شرحت الرابطة بدقّة أكبر أنّها تعتبر هذه الجبهة “الأداة التنظيمية للطبقات الشعبية القادرة على صنع الثورة اجتماعية” (ص: 152).
انتقدت رابطة العمل الشيوعي الأحزاب السياسية السورية التي كانت جزءًا من ائتلاف الجبهة الوطنية التقدّمية الذي دعم نظام الأسد في مواجهته العنيفة للإخوان المسلمين، وتحالف الحركة الوطنية اللبنانية، المائل إلى اليسار، بالإضافة إلى بعض منظمات المقاومة الفلسطينية (ص: 117)، إذ كانت هذه المجموعات لا تزال تعتبر النظام السوري قوّة قومية أو وطنية وتقدّمية.
على الرغم من جهود الرابطة لاستقطاب أحزاب يسارية أخرى إلى صفوف الجبهة الشعبية المتحدة، افتقدت الرابطة إلى قوّة جذب كافية. في هذه الأثناء، شكّلت مجموعات يسارية أخرى ائتلافها الخاصّ والمشابه، بعد بضعة أشهر فقط على صدور المقال التحريري في الراية الحمراء. اتّحدت هذه المجموعات ووقّعت “ميثاق التجمّع الوطني الديمقراطي” (ص: 160)4.
لم تفلح الرابطة في اكتساب موقع لها في الميثاق، على الرغم من التواصل المستمرّ مع “الاتحاد الاشتراكي العربي”، حزب ناصري بقيادة جمال الأتاسي، وحزب “البعث الديمقراطي العربي الاشتراكي” التابع للجنرال البعثي اليساري السابق صلاح جديد. اعترض قائد المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري، رياض ألترك، وهو أحد الموقّعين على الميثاق، على إدماج الرابطة.
الرابطة والمكتب السياسي للحزب الشيوعي
في السنوات التي سبقت توقيع الميثاق، وصف راتب شعبو العلاقات بين المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري ورابطة العمل الشيوعي ك “علاقة مريضة”، وغالبًا ما رفض المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري نقاشات رسمية مع الرابطة، على الرغم من تواصل أعضاء من الحزبين بصفة فردية وخاصّة مع بعضهم. اتهم قادة المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الرابطة أنها ليست “أكثر من فعل مخابراتي سوري بإشراف علي دوبا، رئيس جهاز الأمن العسكري، أو فعل المخابرات الروسية بغاية قطع الطريق على تطوير الانشقاق الثوري للمكتب السياسي داخل الحزب الشيوعي… ” (ص: 140)5.
بالكاد تضمّن الميثاق محتوى أو هدفًا متعلّقًا بالطبقات، وانتقدت الرابطة مواقف أكثرية الأحزاب فيه، تحديدًا المكتب السياسي6، لوجهة نظرهم المزعومة بأنّ “نشاط الإخوان المسلمين هو تعبير عن حركة الشارع” وليس عن حزب محدّد. كذلك، عجز الميثاق عن إدانة سلسلة الاغتيالات الطائفية التي نفّذها الإخوان المسلمون. في السنوات اللاحقة، أصبح موقف الميثاق من الإخوان المسلمين أكثر برودة، من دون أن يصل إلى حدّ الانتقاد الشديد. مع ذلك، لم يتّخذ الموقعين على الميثاق بشكل عام موقفًا واضحًا من هذه الجماعة.
سعى حزب العمل الشيوعي الذي انبثق عن الرابطة إلى تشكيل جبهة مستقلّة وتقدّمية واسعة ضدّ الأسد والإخوان المسلمين في الثمانينيات، خصوصًا بعد الدمار الذي خلّفته مجزرة حماة في العام 1982، حين كرّر أعضاء حزب العمل الشيوعي دعوتهم لتشكيل “خط ثالث” منفصل عن هذين الطرفين المتناحرين.
المقاومة الفلسطينية
منذ نشأة حزب العمل الشيوعي، توسّطت القضية الفلسطينية النقاشات في “الحلقات الماركسية” التابعة له، والتي برزت في الستينيات.
غالبًا ما كان اللاجئون الفلسطينيون في سوريا ناشطين في حزب العمل الشيوعي أو مقرّبين منه. شارك عدد كبير من أعضاء الحزب في المقاومة الفلسطينية، إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية اليسارية، مثل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان والأردن. وفي بعض الحالات الموثّقة، استشهد أشخاص كانوا حضروا جلسات الحلقات الماركسية في عمليات عسكرية ضدّ إسرائيل. وحارب بعض أعضاء الحزب مع منظمات فلسطينية لمقاومة حصار قوى الاحتلال الإسرائيلية لبيروت في العام 1982.
تواصل القمع في السنوات اللاحقة، خصوصًا خلال التظاهرات الشعبية في عاميّ 1985 و1986 في سوريا ضدّ العمليات العسكرية التي شُنّت في إطار “حرب المخيّمات” على المخيّمات الفلسطينية في بيروت، وخلال التظاهرات في يوم الأرض الفلسطيني في العام 1986.
تراجعت التظاهرات بشكل ملحوظ في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين عقب هذه الموجة الأخيرة من القمع. لكنّ القوى الأمنية السورية استمرّت في اتّباع سياسة التخويف العنيف ضدّ الفلسطينيين في المخيّمات. بحلول 1990، أُفيد بأنّ حوالي 2,500 سجينًا سياسيًا فلسطينيًا اعتُقلوا في السجون السورية9.
محاولة أكراد سوريا لتقرير مصيرهم
تميّزت رابطة العمل الشيوعي، ولاحقًا حزب العمل الشيوعي، عن غيرها من الحركات اليسارية في دعمها للشعب الكردي في سوريا والمنطقة في تقرير مصيره. عارضت حركات أخرى هذه القضيّة أو تجاهلتها، بينما أدانت صحيفة حزب العمل الشيوعي ومناشيرها التمييز ضدّ أكراد سوريا.
حاجج الحزب “أنّ الطريق الى حق تقرير المصير للشعب الكردي يمر عبر وحدة قوى الثورية العربية والكردية ضدّ سلطة البرجوازيات الديكتاتوريات والفاشية التي لن تعطي هذا الحق أبدا”. فتمامًا كما كانت الحال مع المقاومة الفلسطينية، كانت هذه النزعة إلى الوحدة المنبثقة من أسفل، أي من الثوّار الذين كانوا يأملون أن يسقطوا النظام السوري، كفيلة بالدفع تجاه تحرير الشعب الكردي.
كان حزب العمل الشيوعي يشارك كلّ عام في النوروز، احتفالات رأس السنة الكردية (و الفارسية) التي تُقام في فصل الربيع. أصبح هذا العيد مناسبة للمجتمعات الكردية والجماعات السياسية للمطالبة بحقوقهم الوطنية، والثقافية، والديمقراطية. وصفت منشورات الحزب الاحتفالات كفعل مقاومة وتأكيد على الحقوق الوطنية الكردية في بلد يقمع شعبه الكرديّ (ص. 142).
كان القمع مستشريًا. ففي العام 1986، منعت الحكومة جميع مظاهر الاحتفال بالنوروز في منطقتين في ضواحي دمشق (الغوطة وفي بساتين أبو جرش)، ومنعت وصول الباصات إلى مكان تجمع الناس لنقلهم إلى الغوطة، تحولت الشوارع إلى محل للاحتفال. وتعاملت الشرطة بعنف مع المتظاهرين، واستشهد شاب كردي وجرح آخرين، كما جرى اعتقال عدد من المشاركين. كان من بين هتافات المتظاهرين “بيخدم مين اعتقال الشيوعيين؟” ويأتي الرد “بيخدم كل الرجعيين”، وأيضا “بدنا نقول، بدنا نقول، هالقمع ما رح يطول”. بعد هذه الحملة القمعية، نظّم المشاركون اعتصامًا وقطعوا الطريق العام. شارك أعضاء في حزب العمل الشيوعي في هذا التحرّك، بينما نشر أعضاء الحزب بيانًا تُرجم إلى اللغة الكردية لإدانة عنف الشرطة، وطالبوا بالإفراج عن جميع المعتقلين على هذه الخلفية (ص. 143).
لطالما اعتبر حزب العمل الشيوعي بأنّ تحرير فلسطين مرافق “لإسقاط الأنظمة اللاوطنية” الإقليمية و”قيام سلطة ديمقراطية شعبية” كقواعد لإنطلاق ولدعم الثورة الفلسطينية (ص. 69). ومن جرّاء القمع الذي واجهته المنظمات الفلسطينية خلال صراع أيلول الأسوَد في الأردن في العام 1970، ومعارضة حافظ الأسد للمقاومة الفلسطينية لإسرائيل ضمن حدودها، أصبح الحزب أكثر تمسّكًا بموقفه.
ازدادت معارضة الحزب لنظام الأسد بعد تدخّل الجيش السوري في لبنان في العام 1976، والذي لاقى إدانة واسعة من مجموعات المعارضة الديمقراطية واليسارية والنقابات المهنية في سوريا7.
في العام 1982، أرسل الحزب مجموعتين من المتطوّعين إلى لبنان للتدرّب مع القوات المسلّحة لمنظمة التحرير الفلسطينية ولعب دور معاون للمقاومة الفلسطينية. قبل ذلك، خلال الحصار العسكري الإسرائيلي لبيروت، أرسل الحزب 11 طبيبًا من أعضائه وأصدقاء للحزب إلى العاصمة اللبنانية للمساعدة في معالجة المقاتلين المصابين في صفوف المقاومة الفلسطينية، بينما عمل أعضاء آخرون على حراسة مقارّ المقاومة كي يتفرّغ المقاتلون الفلسطينيون للمحاربة (ص: 240).
تأسيس اللجان الشعبية (1983-1986)
بعد عام، لعب حزب العمل الشيوعي دورًا بارزًا في تأسيس اللجان الشعبية (1983-1986)، وهي حركة جمعت الفلسطينيين في سوريا8. في وثيقتها الأولى، وصفت اللجان الشعبية نفسها كهيئات شعبية، وطنية، وديمقراطية، وحدّدت أنّها لا تصبو إلى أن تصبح حزبًا سياسيًا رسميًا. على الصعيد التنظيمي، تشكّلت كلّ لجنة من أربعة إلى خمسة أفراد على أساس المكان الجغرافي (الحي) أو الطابع المهني. كانت اللجان مستقلّة عن بعضها في نشاطاتها الثقافية والسياسية، واقتصر تنسيقها على كيفية نشر وتوزيع النشرات والبيانات السياسية باسم اللجان الشعبية ككل (ص. 240-241).
في هذا الوقت، كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق مسرحًا لنشاطية سياسية كثيفة. تكاثرت التظاهرات في المخيّمات، واستهدفت الانتقادات الهجمات على الفلسطينيين في لبنان، والتي شنّتها مجموعات مدعومة من النظام السوري. ردّت القوى الأمنية السورية باعتقال مئات الفلسطينيين.
كذلك، حدّت القوى الأمنية بشدّة من سفر الفلسطينيين خارج سوريا، بينما أصبح تنظيم المجموعات الفلسطينية لقاءات عامّة شبه مستحيل بسبب القمع المستمرّ، باستثناء المجموعات المؤيّدة للنظام أو المدعومة من السلطات السورية.
تواصل القمع في السنوات اللاحقة، خصوصًا خلال التظاهرات الشعبية في عاميّ 1985 و1986 في سوريا ضدّ العمليات العسكرية التي شُنّت في إطار “حرب المخيّمات” على المخيّمات الفلسطينية في بيروت، وخلال التظاهرات في يوم الأرض الفلسطيني في العام 1986.
تراجعت التظاهرات بشكل ملحوظ في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين عقب هذه الموجة الأخيرة من القمع. لكنّ القوى الأمنية السورية استمرّت في اتّباع سياسة التخويف العنيف ضدّ الفلسطينيين في المخيّمات. بحلول 1990، أُفيد بأنّ حوالي 2,500 سجينًا سياسيًا فلسطينيًا اعتُقلوا في السجون السورية9.
ظهرت محاولات لتوسيع نموذج اللجان الشعبية الفلسطينية ليشمل المقوّم الكردي في سوريا، لكن باءت هذه المحاولات بالفشل بسبب رفض الأكثرية الساحقة من الأحزاب الكردية تشكيل هذه اللجان، ووسط شنّ القوى الأمنية لحملة جديدة ضدّ الحزب في العام 1986، ما أضعف نشاطاته بشكل ملحوظ.
لطالما اعتبر النظام السوري التعاون المحتمل بين المجموعات السياسية الكردية والعربية السورية خطًّا أحمر وقمع أيّة بوادر تهدف إلى ذلك. ونظرًا إلى تقبّل النظام السوري لبعض المجموعات السياسية الكردية من تركيا والعراق في البلاد في تلك السنوات، مثل حزب العمال الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الشخصية الكردية العراقية جلال طالباني، والحزب الديمقراطي الكردي التابع للشخصية الكردية مسعود برزاني، امتنعت هذه المجموعات عن أيّ محاولة لحشد الأكراد السوريين ضدّ النظام في دمشق.
دروس للمعارضة في سوريا
لمَ لا تزال تجربة حزب العمل الشيوعي مفيدة اليوم؟
منذ بداياته، أدرك الحزب أنّ التحرّر والتحرير للطبقات الشعبية في سوريا مرتبطان بتحرير الطبقات الشعبية في المنطقة، خصوصًا الفلسطينيين والأكراد. اعتبر الحزب نضالات هذه المجموعات نضالاته أيضًا، وفهم أنّ الخلاص لن يأتي من الدول في المنطقة، حتى لو عبّرت عن تعاطفها مع تلك القضايا.
تتناقض هذه النظرة بوضوح مع نظرة هيئات المعارضة السورية الرئيسية في المنفى اليوم، خصوصًا المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية المعروف أيضًا بالائتلاف الوطني السوري، إذ اعتمد الطرفان على القوى الأجنبية منذ انطلاقتهما، وسرعان ما واءما أفعالهما ومواقفهما السياسية مع هذه القوى. وكانت النتيجة أنّه بدلًا من تحسّس رابط بين النضالات الشعبية في المنطقة، غالبًا ما دعم الطرفان الأعمال القمعية لهذه الدول، مثل قمع تركيا للأكراد ضمن حدودها وفي سوريا، أو حرب السعودية في اليمن.
أمّا القضية الفلسطينية، فكان التجاهل والإسكات نصيبها لإخافة الحلفاء الإقليميين والغربيين. والأسوأ من ذلك هو أنّ الأكثرية الساحقة من هيئات المعارضة السورية عارضت الحقوق الوطنية للأكراد وردّدت خطابات عنصرية وأعمالًا قمعية ضدّ الشعب الكردي، حتى أنّها دعمت الاجتياحات بقيادة تركيا وبمساعدة مجموعات المسلحة المعارضة السورية لعفرين ومناطق أخرى. وأدّت هذه الحملات إلى انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان وأرغمت الآلاف من الأكراد على النزوح.
أخيرًا، لم يتمكّن أيّ معسكر سياسي تقدّمي ومستقلّ من التطوّر بعد 2011 لمعارضة النظام والجماعات الأصولية الإسلامية، إنّما تحالف “حزب الشعب الديمقراطي السوري” (المنظمة السياسية التي خلفت الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي بقيادة رياض الترك) وغيره من القوى الديمقراطية والليبرالية مع الإخوان المسلمين وتيارات يمينية محافظة أخرى في المعارضة السورية كانت أكثر تمثيلًا، لتأسيس المجلس الوطني السوري. واستمرّت ديناميات مشابهة في صفوف الائتلاف10. كذلك، لم تتردّد هذه الجهات الفاعلة في إدراج شخصيات إسلامية متطرّفة في صفوفها وحاولت في بعض الأحيان التطبيع مع الحركات الجهادية أو الدفاع عنها.
تميّزت رابطة العمل الشيوعي، ولاحقًا حزب العمل الشيوعي، عن غيرها من الحركات اليسارية في دعمها للشعب الكردي في سوريا والمنطقة في تقرير مصيره. عارضت حركات أخرى هذه القضيّة أو تجاهلتها، بينما أدانت صحيفة حزب العمل الشيوعي ومناشيرها التمييز ضدّ أكراد سوريا.
حاجج الحزب “أنّ الطريق الى حق تقرير المصير للشعب الكردي يمر عبر وحدة قوى الثورية العربية والكردية ضدّ سلطة البرجوازيات الديكتاتوريات والفاشية التي لن تعطي هذا الحق أبدا”. فتمامًا كما كانت الحال مع المقاومة الفلسطينية، كانت هذه النزعة إلى الوحدة المنبثقة من أسفل، أي من الثوّار الذين كانوا يأملون أن يسقطوا النظام السوري، كفيلة بالدفع تجاه تحرير الشعب الكردي.
كان حزب العمل الشيوعي يشارك كلّ عام في النوروز، احتفالات رأس السنة الكردية (و الفارسية) التي تُقام في فصل الربيع. أصبح هذا العيد مناسبة للمجتمعات الكردية والجماعات السياسية للمطالبة بحقوقهم الوطنية، والثقافية، والديمقراطية. وصفت منشورات الحزب الاحتفالات كفعل مقاومة وتأكيد على الحقوق الوطنية الكردية في بلد يقمع شعبه الكرديّ (ص. 142).
كان القمع مستشريًا. ففي العام 1986، منعت الحكومة جميع مظاهر الاحتفال بالنوروز في منطقتين في ضواحي دمشق (الغوطة وفي بساتين أبو جرش)، ومنعت وصول الباصات إلى مكان تجمع الناس لنقلهم إلى الغوطة، تحولت الشوارع إلى محل للاحتفال. وتعاملت الشرطة بعنف مع المتظاهرين، واستشهد شاب كردي وجرح آخرين، كما جرى اعتقال عدد من المشاركين. كان من بين هتافات المتظاهرين “بيخدم مين اعتقال الشيوعيين؟” ويأتي الرد “بيخدم كل الرجعيين”، وأيضا “بدنا نقول، بدنا نقول، هالقمع ما رح يطول”. بعد هذه الحملة القمعية، نظّم المشاركون اعتصامًا وقطعوا الطريق العام. شارك أعضاء في حزب العمل الشيوعي في هذا التحرّك، بينما نشر أعضاء الحزب بيانًا تُرجم إلى اللغة الكردية لإدانة عنف الشرطة، وطالبوا بالإفراج عن جميع المعتقلين على هذه الخلفية (ص. 143).
هنا تكمن الأهمية الثابتة للتجارب والنقاشات السياسية لحزب العمل الشيوعي: في الاستراتيجيات التي يجب اعتمادها ضدّ النظام السوري والجماعات الأصولية الدينية، وفي إنشاء معسكر سياسي تقدّمي ومستقلّ، وفي طرح قضية تقرير المصير للفلسطينيين والأكراد. لا تزال هذه القضايا ملحّة اليوم كما كانت في الأيام الماضية لحزب العمل الشيوعي.
يجب ألّا توضع مقاومة حزب العمل الشيوعي وإيديولوجيته السياسية في أدراج الذاكرة والنسيان. ومن الضروري استقاء الدروس من المقاومة التقدّمية للحزب بين السبعينيات والتسعينيات والاستفادة منها لتحقيق مقاومة مستقبلية تستمدّ القوّة من تاريخ هذا الحزب من دون تكرار الأخطاء نفسها.
(يتوجّه المؤلّف بالشكر لراتب شعبو ومنيف ملحم على تقديم مساعدتهما ووقتهما لكتابة هذا المقال)
ملاحظات:
1 : مثلًا، في العام 1981، أعلن المراقب العام السابق للإخوان المسلمين علي البيانوني في مقابلة مع الصحيفة الفرنسية Le Monde أنّه، إذا وصلت جماعة الإخوان إلى السلطة، لن تُعطى حرية تأسيس الأحزاب للمجموعات الماركسية، حتى تلك المعارضة للنظام.
2 : في يونيو/ حزيران 1979، ارتكب أعضاء الإخوان المسلمين و”الطليعة المقاتلة” التابعة لهم مجزرة بقتل حوالي 80 طالبًا علويًا في المدرسة المدفعية في حلب.
3: حمل المقال التحريري في الراية الحمراء (ص. 36) عنوان “نحو بناء جبهة شعبية متّحدة”.
4: تألّف الميثاق من الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري، وحزب العمّال الثوري العربي، والحزب العربي الاشتراكي، وحزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي.
5: تمسّك رياض الترك لاحقًا بموقفه السياسي العصبوي تجاه أعضاء حزب العمل الشيوعي. الاطلاع على شهادة منيف ملحم .
6: في رسالة داخلية في يوليو/ تموز 1980، كشف المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري ثلاثة احتمالات لتطوير النظام السياسي في سوريا، بما فيها الاعتماد على الطبقة البرجوازية ذات تطلّعات “أوروبية”، أي المؤيدة للديمقراطية. لطالما كان تحالف بين فئات أوسع من البرجوازية السورية والإخوان المسلمين واردًا بالنسبة إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري.
7: في العام 1980، تمّ حلّ جميع النقابات المهنية بموجب مرسوم حكومي. أنشأ النظام عندها نقابات مهنية جديدة وعيّن قادة جُدُدًا كانوا الذراع المؤسسية للدولة والحزب الحاكم. في الوقت نفسه، تصاعد القمع ضدّ النقابيين التابعين للأحزاب المعارضة أو المتماهين معها، والذين فازوا في انتخابات 1978 و1979 على مرشّحي البعث الرسميين.
8: الحصار ورحيل منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، والمواجهات الداخلية في قيادة فتح، ثمّ حرب المخيّمات.
9Middle East Watch (1991). Syria Unmasked: The Suppression: of Human Rights by the Asad Regime, New Haven, CT, Yale University Press. pp. 106–108
10: أعلن رياض الترك في سبتمبر/أيلول 2018 أنّ إحدى أولى مشاكل المجلس الوطني السوري عند تأسيسه كانت هيمنة الإخوان المسلمين والجماعات التابعة لهم على المعارضة. الاطلاع على: محمد علي الأتاسي، “في أوّل حديث له بعد خروجه متسلّلًا من سوريا”، القدس العربي، 2 سبتمبر/أيلول 2018.
اقرأ أيضا