«الجنرالات للمزبلة، الجزائر مستقلة»: الثورة الجزائرية الجديدة كلحظة فانونية
في سياق السنة الثانية لانطلاق الحراك الشعبي بالجزائر، وتزامنا مع المسيرات الشعبية، وتصاعد النضالات العمالية التي تبرز عزيمة كادحي الشعب الجزائري على تحقيق تغيير جذري، يعيد تأسيس البلد اقتصاديا وسياسيا بما يلبي طموحاته كاملة. ننشر مقال الرفيق حمزة حموشان، وإننا سعداء بمتابعة النقاش بين مناضلي ومناضلات منطقتنا المغاربية والعربية، حول قضايا المنطقة، إيمانا منا أن مصيرنا ووحدة ديمقراطية لشعوبنا غير ممكنان دون قطيعة عميقة مع السيطرة الإمبريالية وأنظمتها التابعة الفاسدة والديكتاتورية. وأن هذه الأخيرة غير ممكنة بدورها دون نقاش جماعي وديمقراطي يصهر جهود الطلائع السياسية التي تفرزها الانتفاضات وتضافر جهودها.
بقلم: حمزة حموشان
أوضحت حقبة الاضطرابات – ما سمّي «الربيع العربي» – التي شهدتها منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا قبل عقد من الزمن (2010-2011) راهنيّة فكر فانون وممارسته على نحو غير مسبوق، بل بيّنت ما يكسبه إيّانا من بصيرةٍ في عنف العالم المانوي الذي نعيش فيه وإدراك عقلانية التمرد ضده.
جاءت كتابات فانون في حقبة تصفية الاستعمار ببلدان أفريقيا والجنوب العالمي إجمالًا، وفانون مارتينيكيُّ المولد جزائريُّ الاختيار يكتب من وجهة نظر الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وبصدد تجاربه السياسية بالقارة الأفريقية، ما يستدعي السؤال: هل بوسع تحليلاته أن تتجاوز حدود زمنه؟ هل لها أن تكون كونية أو، على الأقل، تنطوي على ميول كونية؟ هل لنا أن نتعلم منه بصفته مفكرًا مثقفًا وثوريًّا ملتزمًا أم علينا ببساطة أن نبقيه في زمانه كوجهٍ آخرٍ من وجوه مناهضة الاستعمار، أكل الدهر عليه وشرب في عصرنا «ما بعد الاستعماري»؟
فكر فانون الدينامي والثوري، في نظري كناشط جزائري شاب، متمحورٌ دومًا حول الإبداع والحركة والتطور، فهو فكر رُسُليٌّ وحيٌّ ومُلهم، وملتزم أخلاقيًّا بقضية التحرر والانعتاق من كل أشكال الاضطهاد، فقد دافع بالقوة والحجة عن طريقٍ نحو المستقبل حيث الإنسانية «تتقدم أبعد قليلًا»، وتنفصل عن عالم الاستعمار والنزعة الكونية الأوربية، وقد كان يمثل،على نحوٍ آخر، نضج الوعي المناهض للاستعمار، وكان مفكر نزع استعمار بامتياز، وتجسيدًا حقيقيًّا للمثقف الملتزم، وقد أسهمت كتاباته في نقلةٍ نوعية للنقاش حول العرق والاستعمار والإمبريالية والآخرية وما يعني أنْ يضهد كائنٌ بشريٌّ كائنًا بشريًّا آخرًا.
رغم عمره الوجيز (إذ مات في السادسة والثلاثين بسبب سرطان دم)، خلّف فانون فكرًا ثريًّا ووضع نصوصًا غزيرةً من كتب ومقالات وخطبٍ عدديدة، فألّف كتابه الأول «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» (1952) قبل عامين من معركة ديان بيان فو (1954)، وكَتب آخر أعماله، كتاب «معذبو الأرض» (1961) ذائع الصيت، تلك الدراسة الرائدة في مجال النضال المناهض للاستعمار والعالمثالثي، قبل عامٍ من استقلال الجزائر، في لحظة إنجاز البلدان الأفريقية استقلالها. ويمكننا أن نرى في مساره التفاعلات بين أمريكا السوداء وأفريقيا، وبين المثقف والمناضل، وبين الفكر/النظرية والفعل/الممارسة، وبين المِثالية والبراغماتية، وبين التحليل الفردي والحركة الجماعية، وبين الحياة النفسية (إذ كان له تكوين في الطب النفسي) والنضال المُجسَّد، وبين القومية والوحدة الأفريقية، وأخيرًا بين مسائل الاستعمار (القديم) ومسائل الاستعمار الجديد.[1]
توفّي فانون في 6 ديسمبر 1961 دون أن يشهد استقلال الجزائر، فلم يرى تحرر بلدِه المُتَبنّى من سيطرة استعمارٍ فرنسيٍّ آمنَ بحتميّة انتفائه، بعد أن كرّس نفسه جسدًا وروحًا للتحرر الوطني الجزائري، وكان موشورًا استوضح مختلف ظلال ما يجري في الجزائر للثوريين بالخارجر، وأحد الأسباب التي جعلت «الجزائر» مرادفةً لـ «ثورة العالم الثالث». لقد كانت أفكار فانون متأثرة دومًا بالممارسة العملية فتؤثّر على الناس وتغيّرهم، فألهمت نضالاتِ القضاء على الاستعمار في العالم برمته، وكيَّفت النزعة الوحدوية الأفريقية ووصل أثرها لتنظيمات وحركات تحرّر السود، مثل حزب الفهود السود، في الولايات المتحدة الأمريكية.
يكتب فانون: «لا بد لكل جيل أن يكتشف رسالته وسط الظلام، فإما أن يحققها أو أن يخونها»،[2] وتحدّي الاكتشاف وسط الظلام هذا ينتصب أمامنا من جديد في السنوات الأخيرة مع تفجر التمردات والانتفاضات بكل ربوع العالم، منها الموجة الثانية من الانتفاضات العربية في لبنان والسودان والعراق، والجزائر التي تشهد ثورةً أخرى – بعد ستة عقودٍ من نشرِ تحفة أعمال فانون معذبو الأرض – إنّما ضد البرجوازية الوطنية هذه المرة، تلك البرجوازية التي انقضّ عليها في فصل «مزالق الوعي القومي» في نفس الكتاب.
ماذا عسى فانون أن يقول بصدد الثورة الجزائرية الجديدة؟ وكيف كان ليتصرف بوجه تطور الأحداث؟ ماذا بوسعنا، نحن الشباب الجزائري، أن نتعلم من تأملاته الفكرية وتجاربه؟ هذا المقال محاولة لتحليل الانتفاضة الجزائرية 2019-2020 من خلال نظرة فانونية، مع سعي لإبراز عبقرية فانون، وراهنية تحليله، والقيمة الحية لأفكاره النقدية والمنزلة المركزية لتفكيره المنازع للاستعمار ضمن جهود ثوريي معذبي الأرض.
قالت أليس وولكر ذات يوم: «الشعب لا يَستبعد عباقرته، وإن استُبعِدوا، فمن واجبنا، بصفتنا فنّانين وشهودًا للمستقبل، أن نُرجِعهم من أجل خير أبنائنا، عظمةً عظمةً إن اقتضى الحال».[3] وبهذه الروح أباشر هذه المساهمة، لأن أفكار فانون النظرية وممارسته الجذرية ظلّت غائبةً في الفكر السياسي الجزائري لنصف قرنٍ من الزمن لأسبابَ مختلفة سأتطرق لها أدناه.
لكن لابد، قبل بلوغ ذلك، من جولة تاريخية عبر حقبة الاستعمار كي ندرج فكر فانون في سياقه ونُرسي أسس نقده للبرجوازية النهّابة التي انتفض الجزائريون ضدها في 2019-2020.
فانون والجزائر تحت نيّر الاستعمار
«إن هذه البحبوحة الأوربية مخزيةٌ تمامًا، لأنها قامت على ظهر العبيد، وتغّذت بدماء العبيد، وجاءت رأسًا من أرض هذا العالم المتخلف. إن رخاء أوروبا وتقدمها شُيدا بِعَرَق الزنوج والعرب والهنود والصُفر وجُثثهم».[4]
«لقد أتخمت أوروبا ذهبًا وموادَّ أولية من البلدان المستعمرة، من أمريكا اللاتينية والصين وأفريقيا. فمن هذه القارات كلها التي تنصب بوجهها أوروبا اليوم صرحَ بَحبوحتها، كانت تأتي منذ قرون في اتجاه أوروبا ذاتها، الألماس والنفط والحرير والقطن والأخشاب والمنتجات المحلية. أوروبا خَلَقها العالم الثالث. والثروات التي تتخم أوروبا اليوم إنما سرقتها من الشعوب المتخلفة.»[5]
شكّل النضال ضد المستعمرين الفرنسيين من أجل استقلال الجزائر أحد أعظم الثورات المناوئة للإمبريالية إلهامًا في القرن العشرين، وكان ضمن موجة إلغاء الاستعمار التي انطلقت بعد الحرب العالمية الثانية في الهند والصين وكوبا وفيتنام، وغالبية البلدان الأفريقية والعربية، مندرجًا في روح مؤتمر باندونغ وعصر «يقظة الجنوب»، هذا الجنوب المُخضَع منذ عقود (132 عامًا فيما يخص الجزائر) للسيطرة الإمبريالية والرأسمالية بأشكال عدة، من أنظمة «الحماية» وحتى الاستعمار الاستيطاني.
يمكن اختزال حقبة الاستعمار في عمليات نزع الملكية والتكديح والتوطين القسري، والاستغلال المحض والعنف الشرس، فالاستعمار، كما يقول، «ليس آلة تفكير، ولا جسدًا محكومًا بالعقل. أنه العنف في حالته الطبيعية»،[6] والعالم الاستعماري، بنظره، عالم مانويّ سائر إلى خلاصته المنطقية في «تجريده المُستَعمَرَ من إنسانيته، حتى تكاد تعدّه حيوانًا».[7]
أعقب إعلان حرب الاستقلال يوم 1 نوفمبر 1954 إحدى أطول حروب تصفية الاستعمار وأشدّها دموية، فقد شهدت انخراطًا جماهيريًّا من فقراء القرى والطبقات الشعبية الحضرية (البروليتاريا الرثة)، والتقديرات الرسمية تشير إلى استشهاد مليون ونصف المليون جزائري في حرب السنوات الثمانية المنتهية في العام 1962، حربٌ باتت أساس السياسة الجزائرية الحديثة.
تبيّن لفانون حال وصوله إلى مستشفى الأمراض النفسية في البليدة في عام 1953 أنَ الاستعمار كان – في جوهره – مضخّةً كبيرةً إلى المستشفيات النفسية، فهو إنكارٌ منهجيٌّ للآخر، ورفضٌ جامح لكل صفةٍ إنسانية فيه، وعنفُه، بعكس أشكال سيطرة أخرى، شاملٌ ومنتشرٌ ودائمٌ وكليٌّ. ولم يستطع فانون وهو يعالج الجلادين والضحايا الإفلاتَ من هذا العنف الشامل الذي حلّله، دا دفعه إلى الاستقالة في العام 1956 والانضمام إلى جبهة التحرير الوطني (ج.ت.و)، فكتب: «يعيش العربي، هذا المستلِب الدائم في بلده، بوضعِ تجريدٍ مطلقٍ من الذاتية»، وأنّ حرب الجزائر «عاقبةٌ منطقيةٌ لمحاولة مبتورة لمصادرة عقل شعب»،[8] فاتُّهمَ ظُلمًا وتَجنيًّا بأنه رسولُ العنف، لتجرّؤه على وصف عنف النظام الاستعماري وتحليله.
كان فانون يرى الأيديولوجيا الاستعمارية مدعومةً بادعاء التفوق الأبيض وما يلازمه من رسالة حضارية مزعومة، فبعثت توقًا لدى «المتحضرين من أهالي البلد» إلى أن يصيروا بِيْضًا، توقٌ ليس سوى انحرافًا وجوديًّا، يصطدم بطابع التفاوت الاجتماعي للنظام الاستعماري الذي يفرّق حسب اللون.
حلل فانون في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» الاستلاب الثقافي للمستعمَرين والمُستعمَرات، ضحايا العنصرية، وانعكاسه في سلوكيّاتهم وهويّتهم، وأكد أن الأمر نتيجة سيطرة مستمرة قائمة على الاستغلال الاقتصادي، فهذا الوضع الذي لا يطاق يثير، عاجلًا أم آجلًا، سيرورةَ المقاومة والتحرر والسعي للخلاص من الاستلاب، فتحدى فانون على امتداد عمله المهني وكتاباته النضاليةِ المقاربات والخطابات الثقافوية والعنصرية السائدة حول الأهالي، مثل أعراض سُكان شمال أفريقيا: العرب كسالى، كذابون، مخادعون، لصوص، الخ،[9] وقدم تفسيرًا ماديًّا يُدرج الأعراض، والسلوكيات، والحقد الزنجي، وعُـقَـد النقص، في حياة الاضطهاد والعلاقات الاستعمارية غير التكافئة، فعيَّن حلّها في العمل صوب تغييرٍ جذريٍّ للبنى الاجتماعية.
كان فانون يعلّق آمالًا كبيرة ويؤمن أشدَّ إيمان بالجزائر الثورية، ويشهد على ذلك كتابه المنير «العام الخامس للثورة الجزائرية»[10] الذي يتحدث فيه عن أنّ التحرر ليس هِبةً، بل تنتزعه الجماهير بأيديها، وإذ تناله تتغير هي ذاتها، وأكّدَ ببلاغةٍ أن أرقى أشكال الثقافة – أي: التقدم – بالنسبة للجماهير هي مقاومة السيطرة والتغلغل الاستعماريَيْن، فالثورة بنظره سيرورةُ تغيير تخلق «أرواحًا جديدة»، ولهذا السبب يختتم هذا الكتاب بهذه الكلمات: «الثورة العميقة الحقيقية متقدّمةٌ جدًّا تحديدًا لأنّها تغير الإنسان وتجدد المجتمع، فهذا الأكسجين الذي يخلق إنسانيّةً جديدةًا ويهيئها، هو الثورة الجزائرية».[11]
حقبة الاستقلال: إفلاس النخب الحاكمة «ما-بعد الاستعمارية»
لسوء الحظ، مُنِيت التجربة الثورية الجزائرية وسعيها للقطيعة مع النظام الإمبريالي الرأسمالي بالهزيمة في وجه القوى المضادة للثورة ومعها التناقضات الخاصة بالثورة نفسها، وقد زرعت فشلها منذ البداية وغذّته بالنخبوية التنظيمية والسلطوية والتبقرط المفرط، وذلك رغم بعض وظائف إعادة توزيع الثروة التي حسَّنت سبل عيش الناس تحسينًا كبيرًا. فعلى سبيل المثال، نَسَفت البيروقراطيةُ المشلولة للدولةِ التجاربَ الخلاّقة في المبادرة العمالية وتسييرهم وإدارتهم الذاتيتين التي أجريت في سنوات 1960-1970، وفشلت في تفعيل الرقابة العُمّالية على عمليات الإنتاج، وكان غياب الديمقراطية هذا ملازمًا لصعود برجوازية كومبرادورية مناوئة للاشتراكية، ومعارضة بقوة لعمليات الإصلاح الزراعي الحقيقي،[12] فضربت الثورة المضادة النيوليبرالية، في الثمانينيات، آخر مسمار في النعش وأعلنت بداية عصرٍ من تفكيك التصنيع وهجر السياسات المحفزة للسوق، وذلك على حساب الشرائح الشعبية، فأذاع كبار دعاة الأرثوذكسية النيوليبرالية أنّ كل شيء وأيّ شيء، الآن، قابلٌ للبيع وعبّدوا طريق الخصخصة.
لعلّ هذا الإخفاق المؤسف هو ما يحفظ القدرة التنبّؤية لمؤلفات فانون المكتوبة قبل أكثر من نصف القرن، فما يصف ينطبق على ما جرى في الجزائر (وفي غيرها)، لا سيما «مزالق الوعي القومي» الذي يهزُّ قارئه في كشفه إفلاس البرجوازيات الوطنية في أفريقيا والشرق الأوسط وعقمها المستمرة حتى يومنا هذا، في جنوحها إلى تعويض القوة الاستعمارية بنظامٍ طبقيٍّ جديد يعيد إنتاج بُنى الاستغلال والاضطهاد الاستعمارية القديمة.
نفضت البرجوازية الوطنية الجزائرية في الثمانينيات،على غرار نظائرها بسائر المعمور، الشرعية الشعبية من على كاهلها، وأدارت ظهرها لواقع الفقر والتخلف، ولم تنشغل سوى بملء جيوبها الخاصة وتصدير الأرباح الهائلة المستخلصة من استغلال شعبها.
كانت هذه البرجوازية الطفيلية وغير المنتجة (مدنيةً وعسكريةً)، حسب تعبير فانون، تُسيِّرُ شؤون الدولة ونهجها الاقتصادي للانتفاع الخاص، لتمثّل أكبر خطر على سيادة الأمة، فهي تبيع الاقتصاد لرأس المال الأجنبي وللشركات العابرة للأوطان، وتتعاون مع الإمبريالية في «حربها على الإرهاب»، الحرب الذريعية الجديدة لبسط الهيمنة والانقضاض على الموارد. وفي الجزائر، تخلت هذه البرجوازية الوطنية – وثيقة الارتباط بتثبيت السلطة – عن مشروع التنمية المستقلة الذي اشتغل في الستينيات والسبعينيات، ولم تتفاوض مع الغرب للحصول على تنازلات منه حتى لتخرج من هذا التخلي بقيمة ما لصالح اقتصاد البلد، بل قدمت، بدلًا من ذلك، تنازلًا تلو آخر من أجل عمليات خصخصة عمياء ومشاريع من شأنها النيل من سيادة البلد وتهديد سكانه وبيئته، مثل: استغلال الغاز الصخري والموارد البحرية.[13]
اتّجهت الجزائر إلى مصيرٍ كان يخشاه فانون، مع أموال النفط المستعملة لشراء السلم الاجتماعي وتعزيز جهاز الدولة القمعي، فاختزال الطبقات الحاكمة له في وجهٍ مناهضٍ للاستعمار يستهدف تغييب هجومه الشرس على بَلادة البرجوازية الوطنية وفقرها الفكري والروحي.
فالعبقرية الكامنة في رُسُليّة «معذّبو الأرض»، كما بيّن إدوارد سعيد، تكمن في ما كشفه من هوّةٍ بين البرجوازية الوطنية وميول جبهة التحرير الوطني التحررية، فقد أدرك أن النزعة الوطنية الأرثوذكسية كانت تقتفي «نفس النهج التي وضعته الإمبريالية التي بدت متنازلة عن سلطتها، وكانت في الواقع توسّع هيمنتها».[14]
واليوم تخضع الجزائر، بل وحتى تونس والمغرب ونيجيريا والسنغال وغانا والغابون وأنغولا وأفريقيا الجنوبية، وغيرها، لأوامر الأدوات الجديدة للإمبريالية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتتفاوض بشأن انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، وما زالت بعض بلدان أفريقيا تستعمل الفرنك الأفريقي (CFA) الذي غيّر اسمه إلى الإيكو (Eco) في ديسمبر لعام 2019، عملةٌ موروثة عن عهد الاستعمار، ولا تزال خاضعةً لتحكّم الخزينة الفرنسية؛ بلاهةٌ وبَلادةٌ صرف.
هذا السلوك الصادم لما يسمى «البرجوازية الوطنية» لا صلة له أبدًا بتغيير أحوال الأمة أو تحسينها، فمشروعها هو «أن تجعل نفسها وسيطًا بين البلاد ورأسماليةٍ مضطرّةٌ للتخفّي، رأسماليةٌ ترتدي اليوم قناعَ الاستعمار الجديد.»[15] وها هنا محلّ تثمين القيمة الراهنة لاستعمال أفكار فانون النقدية في تطرّقه لمسألة الطبقات الاجتماعية، ووصفه الواقع المعاصر ما بعد الاستعمار الذي كيّفه الاستعمار الجديد، وحاكته برجوازية وطنية «تعادي المصلحة الوطنية بلا استحياء»، واختارت نهجًا بغضته البرجوازية التقليدية، فهي «برجوازيةٌ برجوازية، برجوازيةٌ ارتضت غباءَ ألّا تكون إلا برجوازيةً».[16]
لا بدّ أن فانون كان سينصدم من ديمومة التقسيم الدولي للعمل، فنحن الأفارقة نواصل «شحن المواد الأولية»، وما زال «الأهالي يعملون مزارعين صغار لدى أوروبا، وتظل البلاد اختصاصية في تقديم المحاصيل الخام».[17] لقد أوقعت الطبقات الحاكمة في الجزائر البلدَ في فخ نموذج تنمية استخراجيٍّ نهّاب تتراكم فيه الأرباح بين أيدي أقلية محلية ودعّامها الأجانب على حساب حرمان أغلبية السكان.[18]
عقلانية التمرد: الحراك والثورة الجزائرية الجديدة
لا مجال للشكّ بأن الواقع المؤسف الذي وصلنا إليه كان سيصيب فانون الذي حذّرنا منه، وعمل مع غيره من الثوريين للحؤول دونه، فلم يخطئ البتة في وصفه شراهة البرجوازيات الوطنية وانقسامها وحدود النزعة الوطنية التقليدية.
بيدَ أن فانون ينذرنا بأن اغتناء هذه الطبقة الانتهازية الشائن سيرافقه «إيقاظ حاسمٌ للشعب، ليتصور الشعب عندئذ أنه لا بدّ من غَدٍ عَنِيف يحمل إليه الفرج ويَعِدُه بالخير»،[19] وقد تجلّى مفهوم عقلانية التمرد والعصيان بِفعل الموجة الثانية من الانتفاضات العربية وغيرها من المظاهرات الجماهيرية في العالم في 2019-2020، مع خروج الجماهير الشعبية إلى الشوارع ضد ضد عنف الأنظمة السياسية التي لا تَهِبها إلّا المزيد من الفقر والتهميش والحرمان للسواد الأعظم، يقابله الثراء الفاحش للنخبة الصغيرة.
حطم الجزائريون والجزائريّات جدار الخوف، وقطعوا مع سيرورة استلابٍ عامَلتهُم كَقاصرين ودوّختهم لعقود طويلة، فاقتحموا المشهد السياسي، واكتشفوا إرادتهم السياسية ودَخلوا التاريخ مجددًا، فمنذ يوم الجمعة 22 فبراير 2019، انتفض ملايين الناس، شبابًا وشيوخًا، رجالًا ونساءً، من مختلف الطبقات الاجتماعية في تمردٍ بطوليٍّ، فخرجت مسيراتُ الجمعة التاريخية، تليها تظاهراتٌ في القطاعات المهنية، وحّدت الناس في رفضِ النظام الحاكم والمطالبة بالتغيير الديمقراطي الجذري، «يتنحاو كاع!» (يجب أن يرحلوا جميعا!)، و«البلاد بلادنا ونديرو راينا» (البلد بلدنا وسنديره كما نريد)، شعاران يرمزان لهذه الانتفاضة السلمية حتى الآن، ويعبران عن التطور الجذري لهذه الحركة الشعبية (أو الحراك الشعبي) الذي انطلق بإعلان الرئيس المخلوع بوتفليقة عزمه السعي إلى ولاية خامسة رغم عجزه وفقده القدرة على الكلام وغيابه عن الحياة العامة.
لم يتمرد شعب الجزائر للمطالبة بالديمقراطية والحرية حسب، بل تمرد من أجل الخبز والكرامة، ضد الظروف الاقتصادية والاجتماعية الجائرة التي عاشها عقدًا بعد عق، فانتفض لتحدي جغرافيا ثُنائية الاضطهاد وضحاياه التي وصفها فانون بإتقان، جغرافيا فرضها النظام الرأسمالي الإمبريالي المَعولم وخُدّامه المحليون.
ما شهدته الجزائر في 2019-2020 هو حراكٌ تاريخيٌّ وفريدٌ في حجمه الهائل فمن بلغ الستين من العمر لم يشهد تعبئةً كهذه منذ نزول الجزائريين إلى الشوارع احتفالًا بالاستقلال عام 1962، وفريدٌ في اشتماله على الجنوب المهمش للبلاد ومشاركة النساء والشباب الكثيفة، وهما السواد الأعظم من سكان الجزائر.
وجاءت هذه الثورة مثل هبة هواء منعشة، أكد الشعب بها أنّه سيّد مصيره، أو كما قال فانون:
لا تتجلى أطروحة أن البشر يغيرون أنفسهم في ذات لحظة تغييرهم العالم بقدر ما تتجلى في الجزائر. ولا يقف أثر هذه المواجهة عند إعادة الإنسان تشكيل وعيه بذاته، ولا عند تغيير تصوّره لأسياده السابقين وللعالم الذي أضحى أخيرًا بمتناوله، بل هذا النضال يجدد، على مستويات مختلفة، الرموز والأساطير والمعتقدات وانفعالية الشعب، فها نحن نشهد في الجزائر انطلاقًا جديدًا للإنسان.[20]
ربما تكمن إحدى نجاحات الانتفاضة الشعبية الراهنة في تغير الوعي السياسي والعزم على الكفاح من أجل تغيير ديمقراطي جذري، فضخّت سيرورة التحرر كمًّا لا سابق له من الطاقات والثقة والإبداع وروح التمرد.
إن تطور الحركة وتنامي قوّتها خلال أكثر من سنة بلا تراجع ولا تباطؤ، بل بتقدمٍ، بعد عقود من إخضاع المجتمع المدني وإخراس المخالفين والمخالِفات وتشظية المعارضة، أمرٌ لافت للنظر فعلا وملهم، فقد أفلح الحراك في تفكيك شبكات الخديعة التي نشرتها الطبقة الحاكمة وآلتها الدعائية، ليبرهن تطور شعاراته وأناشيده وأشكال المقاومة على سيرورات ارتقاءٍ سياسيٍّ وتربية شعبية، أسّست لمصادرةٍ شعبية للفضاء العام لخلق نوعًا من الساحات اليونانية (الأغورا) حيث يناقش الناس ويتحاورون ويتبادلون وجهات النظر، ويتحدثون عن الإستراتيجية والآفاق، وينتقدون بعضهم البعض أو يعبرون عن أنفسهم ببساطة بكيفيات متعددة، لاسيما عبر الفن والموسيقى، فتفتحت آفاق جديدة للمقاومة والبناء الجماعي.
اتخذ الإنتاج الثقافي دلالةً مغايرة لارتباطه بالتحرر واعتباره للعمل السياسي والتضامن، وبعيدًا عن الإنتاجات الفولكلورية والعقيمة تحت الإشراف الخانق للنخب السلطوية، نشهد ثقافةً تتحدث للشعب بالشِعر والموسيقى والمسرح والرسوم الساخرة وفن الشوارع وتدفعُ بمقاومته ونضالاته قُدُمًا، فالثقافة شكلٌ من أشكال العمل السياسي: «ليست الثقافة القومية ذلك الفولكلور الذي حسب من ينظرون إلى الأمور نظرةً مجردة أنهم يكتشفون فيه حقيقة الشعب، وليست الثقافة القومية تلك الكتلة المتجمدة من الحركات الصرفة التي أصبح ارتباطها بالواقع الراهن يضعف شيئًا فشيئًا، فالثقافة الزنجية الأفريقية إنما تقوى وتشتد حول كفاح الشعوب، لا حول الأغاني أو القصائد أو الفولكلور».[21]
النضال من أجل تصفية الاستعمار مستمر
«طالبت شعوب مستعمرة عديدة بنهاية الاستعمار، لكن نادرًا ما ماثل ذلك فِعل الشعب الجزائري». (من أجل الثورة الإفريقية)
بعيدًا عن الجدل الاصطلاحي حول ما إذا كانت هذه الأحداث تشكّل «حركة» أو «انتفاضة» أو «تمرد» أو «ثورة»، يمكن القول بيقين إنّ ما يجري في الجزائر هذه الأيام هي سيرورةُ تغييرٍ حبلى بِطاقةٍ تحررية، فتطور الحركة ومطالبها، وخصوصًا تلك المعنية بـ «الاستقلال» و«السيادة» و«إنهاء نهب موارد البلد»، يمثل أرضًا خصبةً للأفكار المناهضة للاستعمار، والرأسمالية، والإمبريالية، بل وخصبًا للفكر الإيكولوجي، ومن شأنه أن يمهد الطريق لِنضال تقدمي بتعبئة القوى الاجتماعية المعنية: العمال (في الاقتصاديْن الرسمي وغير الرسمي)، والفلاحين، والشباب العاطل، والجماهير الشعبية، وغيرهم.
يرى الجزائريون علاقةً مباشرةً بين النضال الراهن والنضال المناهض للاستعمار في الخمسينيات، فالراهن هذا إكمالٌ وتتمةٌ لعملية إنهاء استعمارٍ تخفّى ولم يرحل، وبرفعهم شعار «الجنرالات للمزبلة، الجزائر مستقلة» يعرّون الخطاب الرسمي الأجوف عن الثورة المجيدة ويفضحون توظيف البرجوازيات اللاوطنية الانتهازي لها لمواصلة الاغتناء الشخصي، في لحظةٍ فانونيّةٍ ثانية يعرّي فيها الناس الوضعَ الاستعماري الجديد الذي انتهى إليه بلدهم، ليؤكدوا خاصّية فريدةً لانتفاضتهم: انغراسها في النضال المعادي للاستعمار ضد الفرنسيين.
بهذا النحو يستعيد الجزائريون صفتهم كشعبٍ ثوريٍّ ويؤكدون توقهم لأن يكونوا الورثة الحقيقيين للشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل تحرر هذا البلد، فقد رأينا الكثير من الشعارات والأناشيد التي نضحت بهذا التطلع في إشارتها إلى قدماء الحرب ضد للاستعمار، مثل علي لابوانت، وعميروش، وبن مهيدي وعبان: «لن يتوقف أحفادك يا علي [لابوانت] أبدًا طالما لم ينتزعوا حريتهم!» و«نحن أحفاد عميروش ولن نتراجع أبدًا!».
يغدو جليًّا أن الاستعمار الذي حلله فانون قبل ستة عقود لم يرحل كليًّا، فالواقع أنه تحول وتموّه في أشكال وآليات بالغة التعقيد، مثل الديون، وبرامج التقويم الهيكلي، واتفاقات «التبادل الحر»، واتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوربي، والنظام الاستخراجي النهّاب، والاستحواذ على الأراضي، والزراعة التجارية المكثفة، وقوانين الهجرة، والحدود القاتلة، والتدخل «الإنساني» و«مسؤولية الحماية»، والتعاون الدولي والتنمية، والعنصرية، وكره الأجانب، إلخ، فهذا بمجمله يمثّل أشكالَ سيطرة وتحكم بقصد الحفاظ على مصالح الأقوياء.
إن النضال من أجل إلغاء الاستعمار انطلق من جديدٍ، يطالب فيه الجزائريون بسيادةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لم يستردّوها عند الحصول على الاستقلال السياسي في العام 1962، وقد كان لدى فانون حدسٌ بهذا الصدد: «إن الشعب الذي تبنّى في بداية الكفاح تلك الثنائية الأولى التي أوجدها المستوطن الأجنبي: البيض والسود، العرب والأروام، يُدرك الآن في خضم النضال أنه قد يصادف سودًا أبيضُ من البِيْض، وأن فئاتٍ من السكان لن تحملها إمكانية علوِّ رايةٍ وطنيةٍ وإمكانيةُ قيامِ أمةٍ مستقلِّة على التنازل عن امتيازاتها ومصالحها».[22]
الثورة المضادة: الدور الرجعي للجيش
على غرار كل ثورة، احتشدت القوى المضادة للثورة للحؤول دون التغيير، والحملة المضادة للثورة الجارية حاليًّا في الجزائر تستفيد من الدعم الخارجي، فعلى صعيد إقليمي: تستعمل الإمارات والسعودية ومصر أموالها ونفوذها لوقفِ موجات التمرّد خوفًا من تفشّي عدواها في المنطقة، وعلى الصعيد العالمي، تساند النظام الجزائريَّ فرنسا وأمريكا وبريطانيا وروسيا والصين، ومعها كبريات الشركات، خشيةَ الخطر المحتمل على مصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية.
وأزمنة الثورات والانتفاضات تصبح لحظات توطيدِ السياسات الاقتصادية اللاشعبية ومنح امتيازات للمستثمرين الأجانب، ولنا عبرةٌ في قانون المالية لعام 2020 والقانون الجديد حول المحروقات الذين يصبان في مصلحة الشركات عابرة الأوطان،[23] وفي حالةٍ كهذه لا يمكننا إدراك الوضع السياسي في الجزائر بنحوٍ كامل دون تفحّص التأثيرات والتشابكات الأجنبية ودون إلمام بالمسألة الاقتصادية من زاوية الاستحواذ على الموارد الطبيعية والاستعمار الجديد في مجال الطاقة والنمط الاستخراجي.[24]
لم يطلق الجيش النار لحد الآن، لكنه واصل تبريرَ مختلف الإجراءات القمعية، فقد كانت الجزائر دومًا ومنذ الاستقلال في العام 1962 تحت حكمٍ عسكري، مباشرة أو مداورةً، وعسكرة المجتمع هذه خلقت ثقافة خوف وحذر، فالقمع العنيف للانتفاضات السابقة وقسوة حرب التسعينيات يفسّران تحفّظ الحركة الشعبية عن المواجهة المباشرة مع الجيش.
وتعلن البرجوازية العسكرية دومًا أنّ «رسالة الشعب أن يكون تابعًا، أن يظل تابعًا»،[25] فالجيش – كما أوضح فانون – «يجمّد الشعب ويرهبه»،[26] لكن الناس يظلّون، رغم رفض القيادة العسكرية العليا لكل خارطة طريقٍ ولكل دعوةٍ لحوار حقيقيٍّ مقترح من الحراك الشعبي، عازمين على نزعٍ سلميٍّ للطابع العسكري عن جمهوريتهم، فيهتفون: «جمهورية وليس ثكنة». وبعد إسقاط بوتفليقة، تواصلت المظاهرات ضد الجيش الذي حافظ عمليًّا على سلطته على البلد.
«ففي هذه البلاد الفقيرة المتخلفة التي نرى فيها وفقًا للقاعدة أكبر ثراء يتاخم أبأس فقر، يكون الجيش والشرطة أعمدة النظام القائم، وهما جيش وشرطة يشرف على توجيههما خبراء أجانب، وهذه قاعدة أخرى يجب أن نتذكرها. وتكون قوة هذه الشرطة وسلطة هذا الجيش متناسبتين مع حالة الركود التي يعيش فيها سائر الأمة. إن البرجوازية الوطنية تبيع نفسها للشركات الأجنبية بصراحة ما تنفك تزداد. وبالرشوة ينتزع الأجنبي الامتيازات تلو الامتيازات، وتتكاثر الفضائح، ويغتني الوزراء وتستحيل نساؤهم إلى دمى؛ ويدبر النواب أمورهم أيضًا، ولا يبقى شرطي ولا موظف من موظفي الجمرك إلا ويشارك في هذه القافلة من الرشوة والفساد».[27]
هذا المقطع الجامح من كتاب معذبو الأرض صورة وفية كفاية عن وضع الجزائر والعديد من البلدان الأفريقية والعربية حيث القمع وإلغاء الحريات قاعدة – بدعم طبعا من الخبرة الأجنبية – وحيث النخب الشرهة تضفي طابعا مؤسسيًّا على الرشوة وتخدم المصالح الأجنبية. وقد كان أحد الشعارات الرمزية للانتفاضة الراهنة معبرا جدا: «التهمتم البلد. يا لصوص».
يعلم الجزائريون ما يقدر عليه الجيش، ولا يزالون رغم صدمة العقد الأسود (حرب سنوات 1990 الأهلية) يلحون بشجاعة على مطلب «دولة مدنية، لا عسكرية!» وبذلك يكون النظام الجزائري على حقيقته: ديكتاتورية عسكرية مقنعة بواجهة «ديمقراطية».
صراع الطبقات، والتنظيم، والتربية السياسية
«بعد وقت وجيز ستكون هذه القارة محررة. من جانبي، بقدر انخراطي في الدوائر الثقافية والسياسية، أتيقن أن أكبر خطر يحدق بأفريقيا هو غياب الأيديولوجيا».[28]
«هذه الشروح كلها، وهذه التوضيحات المفصّلة المتعاقبة التي تحمل الوعي والنور إلى النفوس، وهذا المسير في طريق معرفة تاريخ المجتمعات، هذا كله لا يمكن أن يجري إلا في إطار تنظيمٍ يتناول الشعب».[29]
حافظ الحراك على وحدةٍ وطابعٍ سلميٍّ مثاليين رغم كل ما حيك ضده ورغم جهود الدولة لتقسيمه واحتوائه وإنهاكه، وبُرِهنَ ذلك بمختلف الشعارات، من قبيل: «الجزائريون إخوة، الشعب موحد، أنتم الخونة».
قيادة الحراك شبابيّة وتنظيمه غير هيكليّ إلى حدٍّ ما، فلا زعماء معروفين ولا بنى منظمة تدفعه، وذلك لأنّ الانتفاضة الشعبية تحشد القوى الجماهيرية للطبقات الوسطى والطبقات المهشمة للمناطق الحضرية والقروية، فبعكس السودان حيث أدّى تجمّع المهنيين السودانيين دورًا رائدًا وتنظيميًّا، يجري التنظيم في الجزائر أفقيًّا على أساس الشبكات الاجتماعية. وكان الإضراب العام في الأسابيع الأولى للانتفاضة، الذي أسهم في إجبار بوتفليقة على التنحي وفي زعزعة التحالفات داخل الطبقة الحاكمة، منظمًّا بشكل عفويٍّ بعد دعواتٍ على الشبكات الاجتماعية مصدرها الأول مجهول. وهذه الديناميات والحركات غير المتبلورة، وغير المهيكلة، وعديمة القادة، بالغة الهشاشة، فيمكن أن تولّد تعبئات متعددة الطبقات تتخذ حجمًا كبيرًا ولا يكون جمهورها وقيادتها هدفًا سهلًا للقمع أو الاحتواء لكنها تحمل أوجه ضعف قاتلة في الأمد البعيد.
لكن ما الممكن تعلّمه من فانون في مضمار صراع الطبقات والتنظيم؟
يقع التحليل الطبقي في صلب تحليل فانون، فكما كتب المفكر الماركسي اللبناني مهدي عامل، مؤكدًا أفكار فانون بصدد ما تتميز به الممارسة الثورية وما يتغيّر فيها من كيفيّة ودلالةٍ وقيادةٍ بعد الاستقلال: «فيما كان [العنف الثوري] قبل الاستقلال نضالًا وطنيًّا أساسًا، يصبح بعد الاستقلال نضالًا طبقيًّا حقيقيًّا» تكتشف عبره الجماهير عدوها الحقيقي: البرجوازية الوطنية.[30] ينتقل النضال إذن من مستوىً وطني صرف إلى مستوىً للنضال الطبقي اقتصاديٌّ واجتماعيٌّ، ليحثنا فانون على الانتقال من وعيٍ وطنيٍّ إلى وعيٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ في قوله: «ما لم تُبرِز مضمون الوطنية وتعمّقها، ما لم تحولها بسرعة إلى وعيٍ سياسي واجتماعي، إلى تطلّعٍ إنسانيٍّ، فإنك تسير في طريق مسدودة لا مخرج منها».[31]
بيد أن فانون يدعونا إلى «توسعة الماركسية» كوسيلةٍ لإدراك خصوصيات الرأسمالية في العالم المستعمَر، وعالم ما بعد الاستعمار، فحسب إيمانويل واليرشتاين، تمرّد فانون «تمرّدًا كبيرًا على الماركسية المتحجّرة للحركات الشيوعية في عصره»، مؤكدًا صيغةَ مراجعةٍ للصراع الطبقي تحدث قطيعةً مع دوغما مؤداها أن البروليتاريا الحضرية والصناعية هي الطبقة الثورية الوحيدة ضد البرجوازية.[32] فقد كان فانون يفكر في الفلاحين وفي البروليتاريا الرثة، بعد تجريدها من الطابع القبلي وتوطينها، كمرشّحٍ لتكون ذاتًا ثوريةً تاريخيةً في حالة الجزائر المستعمرة، وهنا يلتقي فانون بتشي غيفارا في تأكيدهما أنّ الثورة تبدأ في البلدان المستعمرة في المناطق القروية وتنتقل إلى المدن، ويطلقها الفلاحون فينضمُّ إليهم البروليتاريا وليس العكس، كما الحال عليه في البلدان الرأسمالية الأوربية وحتى الاشتراكية.[33]
باختصار، الصراع الطبقي جوهريٌّ بشرط تحديدٍ واضح للطبقات المتصارعة، ووفق هذا المنطق، في انتفاضتنا الراهنة يكتسي تحديدُ الطبقات الثورية (أو تحالفاتها) وتعريفها أهميةً حاسمة. وعلينا نتجاوز النزعة العُمّالوية، ونعتنق تصورًا أوسع للبروليتاريا في تعبيراتها المعاصرة، بما تشمل من شبابٍ عاطل، وعمّالٍ حضريين وقرويين، وعمال القطاع غير المنظم، والفلاحون، وهلمّ جرًّا، فهي طبقاتٌ ليس لها ما تخسره سوى أغلالها، ما يضفي عليها طابعًا ثوريًّا كامنًا.
في فصل «عظمة العفوية وأوجه ضعفها» من «معذبو الأرض» عبّر فانون عن مخاوفه حول إنهاك البروليتاريا الرثة في حال تُرِكَت بلا بُنيةٍ تنظيمية.[34] وبقصد تفادي ذلك وقطع الطريق على برجوازيّاتٍ طفيلية ما تزال تمسك زمام السلطة في الجزائر، كتب فانون: «يجب ألا تتوافر للبرجوازية شروط الوجود والازدهار، وبتعبير آخر: يجب أن ينصب الجهد المتعاون والمنسق الذي تقوم به الجماهير المنظمة في حزبٍ ويقوم به المثقفون الواعون وعيا رفيعًا والمسلّحون بمبادئ ثورية، يجب أن ينصب هذا الجهد على سد الطريق أمام قيام هذه البرجوازية العقيمة الضارة».[35]
وقد يذكرنا فانون بملاحظة هامة ذكرها عن بعض الثورات الأفريقية تخص طابعها الموحّد المستبعِد لأي فكرةٍ عن أيديولوجية اجتماعية-سياسية لطريقة التغيير الجذري للمجتمع، فوجه الضعف الكبير هذا حاضرٌ اليوم في الثورة الجزائرية الجديدة، فالوطنية، يقول فانون، «ليست عقيدةً سياسيةً، وليست برنامجًا»،[36] ملحًّا على ضرورة الحزب السياسي الثوري (أو الحركة الاجتماعية المنظمة) القادر/ة على السير قدمًا بمطالب الجماهير، حزب/هيكلٌ يكون مربّيًا سياسيًّا للشعب و«أداة بين أيديه» وناطقًا باسمه بماسحة و«مدافع نزيه» عن جماهيره، وهكذا تصوّرٌ للحزب بنظر فانون يستلزم بلوغه ابتداءً التخلصَ من الفكرة النخبوية و«الغربية جدًّا، والبرجوازية جدًّا وبالتالي المُسيئة، القائلة بأن الجماهير عاجزة عن قيادة نفسها».[37]
كان فانون يمقت الخطاب النخبوي الذي يدعي أنّ نضج الجماهير قاصر، ويؤكد أنّ الجماهير في النضال تبلغ مستوى ما يعترضها من مشاكل، فمن المهم إذن بالنسبة لها أن تُدرِك الوجهة وسببها، وجهةُ نظرٍ أوضحها نيل غيبسون ببلاغة: «عند فانون، كانت «نحن» دومًا «نحن» خَلّاقة، «نحن» فعلٍ سياسيٍّ وممارسةٍ، وتفكيرٍ واستدلال».[38] فلا وجود للأمة بنظره سوى في برنامج اجتماعي-سياسي «تنضجه قيادة ثورية وتعتنقه الجماهير اعتناقًا قائمًا على الفهم الواضح والحماسة الثابتة».[39]
ما نراه اليوم مع الأسف، في أفريقيا والمنطقة العربية، نقيضُ ما أكّده فانون وشدّد، فأمامنا بلاهة البرجوازيات المعادية للديمقراطية مجسّدةً في ديكتاتورياتها القبلية والعائلية تمنع الشعوب بقوّة السلاح من المشاركة في تنمية بلدانها لتحفّز مناخَ عداءٍ هائل بين الحكام والمحكومين. وفي خلاصة «معذبو الأرض» يؤكد فانون أنّ علينا بلورةَ مفاهيم جديدة عبر التربية السياسية المستدامة يُثْرِيها نضال الجماهير، والتربية السياسية ليست مسألة خطابات سياسية، فهذه «التوعية السياسية إنما تعني في الواقع فتح الأفهام، وإيقاظ العقول، وإقحام الأذهان في العالم»،[40] «فإن كان بناءُ الجسر لا يرفع وعي العاملين عليه، يجب ألّا يبنى هذا الجسر، وليظل المواطنون يعبرون النهر سباحةً أو على قارب».[41]
لعلّ هذا بعضٌ من أعاظم موروث فانون، فرؤيته الجذرية والكريمة منعشة وراسخة في النضالات اليومية للناس الذين يفتحون فضاءاتٍ لأفكار وتصوراتٍ جديدة، فكل شيء بنظره يتوقف على الجماهير، ومن ثمة فكرته عن المثقفين الجذريين الملتزمين في الحركات الشعبية ومعها، والقادرين على اقتراح مفاهيم جديدة بلغة غير تقنية وغير مهنية، فالثقافة عند فانون يجب أن تغدو ثقافة كفاح، والتربية أن تغدو مسألة تحرر شامل.[42] وهذا ما يجب أن يظل ماثلًا في الذهن عند الحديث عن التربية في المدارس والجامعات؛ التربية الماحية للاستعمار بالمعنى الفانونيِّ تربيةٌ تساعد على خلق وعي اجتماعي وسياسي، فعلى المناضلـ/ـة أو المثقفــ/ـة ألا تسلك طريقًا مختصرًا بِذريعة مجاراة الأمور وتسييرها، فهذا التماشي لا-إنساني وعقيم، فالمقصود هو التفكير الجماعي، أساسُ المجتمع المتحرر.
ظِلُّ فانون: الثورة الجزائرية الجديدة وحركة حياة السود مهمة
«نحن ذاهبون. مهمتنا فتح الجبهة الجنوبية من أجل نقل أسلحة وذخيرة إلى باماكو. حرّكوا سكان الصحراء، وتغلغلوا في الهضاب الجزائرية العليا. وبعد حمل الجزائر إلى ربوع أفريقيا، اصعدوا مع أفريقيا برمتها نحو الجزائر الأفريقية، نحو الشمال، نحو الجزائر العاصمة، المدينة القارّية. إخضاع الصحراء، وإنكارها، وتجميع أفريقيا وخلق القارة».[43]
انطلق في العام 2020 من شوارع مينيابوليس بأمريكا تمردٌ عالميٌّ على الفوقيّة البيضاء على أثر قتل جورج فلويد، رجل أسود يبلغ من العمر 46 عامًا سنة قتله شرطيٌّ طرحه أرضًا وخنقه حتى الموت بوضع ركبته على رقبة فلويد لثماني دقائق، رغم استجدائه، على غرار إيريك غارنر قبله، بالكلمة الشهيرة: «لا أستطيع التنفس!»، فانطلق على إثره تمرّدٌ ما برح حتى ألهم حراكًا عالميًّا، مثله في ذلك مثل النضال الفيتنامي ضد الاستعمار الذي انطلق، بتوصيف فانون، من اختناقٍ مماثل: «لم يتمرد مواطن الهند الصينية بسبب اكتشافه ثقافة جديدة، بل لأنه «ببساطة» بات مستحيلًا عليه، بأكثر من وجهٍ، أن يتنفس».[44]
لم يعد بوسعنا التنفس في منظومة تجرّد الناس من إنسانيتهم، وتكرّس فرط الاستغلال، وتسيطر على الطبيعة والإنسانية، وتوطّد شتّى أشكال التفاوت بين الناس وتكبّل حياتهم بالفقر، ورغم الأفق التي فتحتها التمردات المناوئة له شتى بقاع الأرض، فنجاح أفعال المقاومة العرضية هذه، والمحصورة جغرافيًّا إلى حدٍّ بعيد، مرهونٌ بِتجاوزها النطاق المحليّ وأخذها بعدًا عالميًّا، وإقامتها تحالفاتٍ مُستدامَة في وجه الرأسمالية، والاستعمار، والنظام الأبوي.
هل يمكن أن تلتقي مختلف هذه النضالات المعاصرة، من الانتفاضات العربية إلى حركة حياة السود مهمة، لتبني تحالفاتٍ قوية وتتخطى تناقضاتها وأوجه ضلالها الخاصة؟ هل بوسعها أن تشرع في حركة جديدة تمكّننا من الطعن في الأسس الاستعمارية لمصاعبنا الراهنة، ومن مواصلة طريق إلغاء استعمار فضاءاتنا السياسية والاقتصادية والثقافية وأطرنا المعرفية ؟
لا، الأمر ليس ممكنًا فحسب، بل ضروريٌّ إنّ أردنا الخوض في النضال لأجل تحرّر معذّبي الأرض ومعّذباتِها فلا مناص من البتّ في هذا العمل والعامل الحاسم، عاملُ بناء أسس التضامن والتحالف عبر الأوطان. ولعلّ في الماضي ما يستلهم وينتهل منه، بتأمل حقبة محاربة الاستعمار، وعصر باندونغ والتيار العالمثالي، والتجارب الثورية للقارات الثلاث (أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا) وغيرها من التجارب الأممية، ولعلّنا سنجد في فانون (أو بوجه الدقة: إرثه الفكري) همزة الوصل ونقطة التقاءِ تلك النضالات، كما كان في الستينيات والسبعينيات.
تتعرض بعض صفحات التاريخ للتجاهل، وأخرى للإخراس بقصد الحفاظ على أشكال هيمنةٍ ما، وطمس عصر مُلهم من الروابط الثورية بين نضالات التحرر في مختلف القارات، وعلينا لمواجهة حاضرنا وبناء المستقبل أن ننبش هذا التاريخ كي نستأنس بصفحاته، ونستمد منها دروسًا ونتبين بعض إمكانات التلاقي بين النضالات الجارية.
خلال عقديّ استقلالها الأولينِ، أصبحت الجزائر، كما وصفها سمير مغيلي، «عقدةً حرجة في كوكبةِ التضامن العابرة للأوطان» المتجسدة بين الحركات الثورية للعالم برمته.[45] ففي ذروة حقبة الحركة الأمريكية للحقوق المدنية والقوّة السوداء، «مثلما كانت الجزائر تَعتَبرُ أمريكا السوداء شطرًا من العالم الثالث يقطنُ بطن الوحش»،[46] اعتبرت أمريكا السوداء الجزائرَ «البلدَ الذي حارب المستعبد وانتصر».[47]
صارت الجزائر رمزًا قويًّا ونموذجًا للنضال الثوري استلهمت منه جبهات التحرير المختلفة في العالم، وباتت العاصمة الجزائرية، بفضل سياستها الخارجية الجريئة في الستينيات والسبعينيات، مكة الثوريين، فكما صرح قائد غينيا بيساو الثوري أملكار كابرال في مؤتمر صحفي على هامش المهرجان الأفريقاني الأول في 1969: «خُذوا قلمًا وسجلوا: يحجُّ المسلمون إلى مكة، والمسيحيون إلى الفاتيكان، وأمّا حركات التحرر الوطني فإلى مدينة الجزائر!».
بفضل الفيلم الشعبي «معركة مدينة الجزائر» وكتابات فرانز فانون، احتلّت الجزائر مكانة هامة في «أيقونات وخطابة وأيديولوجيا فروعٍ أساسيةٍ من حركة التحرر الأفريقية-الأمريكية»،[48] فقد اعتبرت كفاحها من أجل الحقوق المدنية مرتبطًا بنضالات الأمم الأفريقية من أجل الاستقلال، وكما أوضحت طالبة العلوم السياسية في جامعة هارليم فرانسي كوفينتن في أواخر الستينيات: «شهدت السنوات الأخيرة إقبالًا واسع النطاق على قراءة مؤلفات فانون، واستشهد بها المنخرطون في «الثورة» التي بدأت في جماعات أمريكا السوداء، فإن كان كتاب معذبو الأرض «دليل الثورة السوداء»، ففيلم معركة مدينة الجزائر كان رديفه السينمائي».[49]
كشفت نصوص فانون وتحليله لحرب الجزائر أوجه توازٍ عدة بين تجربة السيطرة الاستعمارية في الجزائر والاضطهاد العرقي الذي تعرض له السود لقرون طويلة في أمريكا، فغدا كتابه «إنجيل السود» على حدّ تعبير ألدردج كليفر،. وفي خواتم السبعينات بيع منه 750,000 نسخة في أمريكا، ما حدا برئيس مجلة «ليبريتور» دان واتس على القول: «يمكن لكل أخٍ، أيًّا كان، أن يستشهد بفانون».[50]
في زيارته نيويورك في أكتوبر لعام 1962، التقى الرئيس الجزائري الأول وأحد قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية أحمد بن بلة الدكتورَ مارتن لوثر كينغ، وصرّح بأن ثمة علاقةً وثيقة بين الاستعمار والتمييز،[51] وبعد ذلك بسنوات عبر الحاج مالك الشباز (المعروف بمسمى «مالكوم إكس») عن تلك الرؤية الداعية إلى منظور شاملٍ للاضطهاد (استعماريًّا كان أم عرقيًّا)، فبعد زيارته الجزائر والقصبة في 1964، موقع معركة الجزائر ضد العسكر الفرنسيين في 1957، والرد على مزاعم وجود نوع من «عصابة حقدٍ» تدعى «إخوان الدم» (Blood Brothers) تتخذُ هارليم قاعدة لها وترتكب جرائم ضد البيض، صرح للمنتدى العمّال النضالي (Militant Labor Forum) قائلًا: «نفس الظروف التي سادت في الجزائر وأجبرت الشعب، شعب الجزائر النبيل، على اللجوء في آخر المطاف إلى تكتيكات من طرازٍ إرهابيٍّ احتاجها لإسقاط العبء عن كاهله، فالظروف نفسها تسود اليوم في أمريكا في كل جماعة سوداء».[52]
هذا المنظور الشامل لنضالاتنا وترابطها هو ما علينا تأكيده لإحداث قطيعةٍ مع أشكال القهر والقيود المفروضة على حركاتنا، لنعتنق حِسًّا أمميًّا جذريًّا يحفّز التضامن ولا يثبطه، وهنا تكمن أهمية استرداد الإرث الثوري للمنطقة المغاربية، وأفريقيا، وغرب آسيا والجنوب العالمي، كما صقله وشحذه كبار المفكرين، مثل فرانز فانون، وأميلكار كابرال، توما سانكارا، وآخرون. إن علينا إطلاق مشاريع جديدة تستجيب لصعوبات زماننا وتحدّياته المستحدثة مستلهمةً من تلك القديمة التي كانت تروم التحرر من النظام الإمبريالي الرأسمالي، فالاستناد إلى هذا التراث الثوري، واستلهام أفقه التمرديّة، وتطبيق مرجعياته الأممية على السياق الراهن، أمر بالغ الأهمية للجزائر، ولحركة حياة السود مهمة، وغيرهما من النضالات التحررية عبر العالم.
على سبيل الخلاصة
تقع على كاهل القوى التقدمية في الجزائر، وفي سواها، مهمّةٌ عظيمة: مهمة وضع المسألة الاقتصادية الاجتماعية في مركز النقاش حول البدائل، وضخِّ التحليل الطبقي في الحراك السياسي الأوسع، وعليها، وعلى اليسار الجذري الثوري بوجه الدقة، بلورةُ رؤىً جديدة تتجاوز المقاومة المحضة للهجوم النهبيِّ الراهن للرأسمالية، وبدأ بمساءلة تصوّراتنا عن التنمية والحداثة ذاتها، تصوّراتٌ تستهدف إدماجنا في نمط حياةٍ قائمٍ على فرط الاستهلاك وإلحاقنا بموقعٍ خاضعٍ في النظام المعولم.
لقد حثنا فانون على الابتكار، وعلى الإقدام على اكتشافات، وعدم تقليد أوروبا تقليدًا أعمى، فالنضال من أجل إلغاء الاستعمار يجب أن يطعن في سيطرة الثقافة الأوربية، وفي تبنّيها نزعة كونية، دونَ الوقوع في شَركِ الحنين لماضٍ رومانسيٍّ مُتخيَّلٍ ومُجَمَّد، فهاذان الاستلابان هما ما يتعيّن على الشعوب المستعمَرة تجاوزهُ في نضالها الثقافي، وفي سبيل إلغاء استعمار العقول بتفكيك المفاهيم الغربية من «التنمية» و«الحضارة» و«التقدم» و«الكونية» و«الحداثة».
فهذه المفاهيم تمثل ما يسمى «استمارية» السلطة والمعرفة، ما يعني أن أفكار «الحداثة» و«التقدم» جرى تصورها في أوروبا وأمريكا الشمالية ثم غرسها في قارّاتنا (أفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية) في سياق مطبوع بنزعةٍ استعماريّة،[53] فعززت، هي وثقافتها ذات المركز الأوربي، الإرث الاستعماري لمصادرةِ الأراضي، ونهب الموارد، والسيطرة على الشعوب «الأخرى» من أجل «إدخالها إلى الحضارة».
هذه المفاهيم («التقدم»، «التنمية»، «الحداثة») مفاهيم مفروضة، ومستنِدةٌ على تصورٍ خطيٍّ لتطور التاريخ يقسم العالم إلى «متطور» و«متخلف»، و«متقدم» و«نامي»، و«حديث» (أي غربي) و«متأخر» (أي غير غربي)، وهي مفاهيم تدّعي الكونية، وتأمر المقصيين والمحرومين بإتباع طريق محددٍ سلفًا لولوجِ عولمة إمبريالية واستعمارٍ، تقودههما البلدان «المتقدمة»، مضفيةً بذلك شرعية على غَلَبتِها، لتؤكد (هذه المفاهيم) تفوقها بعد أن أعلنته هي نفسها بإقصاء أشكال المعرفة الأخرى وبالطعن في شرعيتها هي وأنماط الحياة والإسهامات الحضارية الأخرى.[54]
لم يقترح علينا فانون وصفةً واضحةً لإنجاز الانتقال، بعد إلغاء الاستعمار، نحو نظام سياسيٍّ جديدٍ مُحرَّر، ولعلّ ذلك لأنّ لا خطّةَ واحدةً ولا حلٌّ مفصّلٌ لكلّ الناس، ولربما كان يَعتبر الأمر سيرورةً مديدةً تُنيرها الممارسة والثقة بالجماهير وبمقدرتها الثورية لإيجاد بديل تحرّري.
ففي خاتمة «معذبو الأرض»، كتب:
هيا يا رفاق، يجدر بنا أن نقرّر من الآن أن ننتقل إلى الضفة الأخرى، فالليل الطويل الذي كنا غارقين فيه يجب أن نقشعه ونخرج منه، فلا بد أن يجدنا النهار الجديد الذي نشهده حازمينَ وَواعين وعازمين الأمر، فلا نضيعن وقتنا في دعواتٍ مملة وتلونات تبعث على التقيؤ، ولنترك هذه الأوروبا التي لا تفرغ من الكلام عن الإنسان وهي تقتله حيثما وجدته، في جميع زوايا شوارعها وفي جميع أركان العالم. هيا يا رفاق، لقد انتهت لعبة أوروبا تمامًا، وعلينا أن نجد شيئًا آخر، فنحن اليوم نستطيع أن نفعل كل شيء، شريطةَ ألا نقلد أوروبا تقليدًا أعمى وأخرق، وألا تحاصرنا الرغبة في اللحاق بأوروبا. فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، علينا يا رفاق أن نلبس جلدًا جديدًا، وننشأ فكرًا جديدًا، أن نحاول خلقٍ إنسان جديد.[55]
من الجوهريِّ لنا، من وجهة النظر هذه، مواصلةُ مهام إلغاء الاستعمار، من أجل استعادة إنسانيتنا المهدورة، بمقاومة الأصناف الاستعمارية والرأسمالية للمِلكية والاستخراج، ولابد أن ترى النور تصوراتٌ جديدة وبدائلٌ ضد الهيمنة.
المصدر: الهامش
المراجع
[1] Bouamama, S. (2017). Figures de la révolution africaine : de Kenyatta à Sankara. Paris: La Découverte, Dl, p. 140-159 [2] Fanon, F. (1987). Les damnés de la terre. Paris: Editions La Découverte, p. 196. [3] Walker, A. (1983). The color purple, Alice Walker. New York: Harcourt, p.92. [4] Fanon, Les damnés de la terre, 85. [5] Ibid, 90. [6] Ibid, 51. [7] Ibid, 31. [8] Fanon, F., James, R., Corcoran, S. and Khalfa, J. (2018). Alienation and freedom. London, Uk: Bloomsbury Academic, p.434. [9] Fanon, F. (2001). Pour la révolution africaine : écrits politiques. Paris: Éditions La Découverte, pp.24–26. [10] Fanon, F. (1972b). Sociologie d’une révolution : (l’An V de la révolution algérienne). Paris: F. Maspero. [11] Ibid, 151. [12] Bennoune, M. (1988) The Making of Contemporary Algeria, 1830-1987: Colonial upheavals and post-independence development. Cambridge: Cambridge University Press. [13] Hamouchene, H. and Rouabah, B. (2016). The political economy of regime survival: Algeria in the context of the African and Arab uprisings. Review of African Political Economy, 43(150), pp.668–680. [14] Said, E.W. (1994). Culture and imperialism. New York: Vintage Books.(إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية- دار الآداب)
[15] Fanon, Les damnés de la terre, 142. [16] Ibid, 140. [17] Ibid, 141. [18] حموشان، حمزة (2019). النمط الاستخراجي ومقاومته في شمال افريقيا. أمستردام: المعهد الدولي – ترانس ناشونال (TNI). [19] Fanon, Les damnés de la terre, 157. [20] Fanon, Sociologie d’une révolution, 15 [21] Fanon, Les damnés de la terre, 224, 226. [22] Ibid, 133, 134. [23] Roubah, B. (2019). The people’s movement in Algeria, eight months on. [online] Africa Is a Country. Available at: https://africasacountry.com/2019/10/the-peoples-movement-in-algeria-eight-months-on [Accessed 20 Jun. 2020]. [24] حموشان، النمط الاستخراجي. [25] Fanon, Les damnés de la terre, 158. [26] Ibid, 168 [27] Ibid, 164. [28] Fanon, F. (2001). Pour la révolution africaine : écrits politiques. Paris: Éditions La Découverte. [29] Fanon, Les damnés de la terre, 132. [30] Hamdan, H. (1964a). La Pensée Révolutionnaire de Frantz Fanon. Révolution Africaine, N72. [31] Fanon, Les damnés de la terre, 194. [32] Wallerstein, I. (2009). READING FANON IN THE 21ST CENTURY. New Left Review, [online] 57, pp.117–125. Available at: https://newleftreview.org/issues/ii57/articles/immanuel-wallerstein-reading-fanon-in-the-21st-century. [33] Hamdan, H. (1964b). La Pensée Révolutionnaire de Frantz Fanon. Révolution Africaine, N71. [34] Wallerstein, READING FANON. [35] Fanon, Les damnés de la terre, 165. [36] Ibid, 193. [37] Ibid, 178. [38] Gibson, N.C. (2011). 50 years later: Fanon’s legacy | Pambazuka News. [online] www.pambazuka.org. Available at: https://www.pambazuka.org/governance/50-years-later-fanons-legacy [Accessed 21 Jul. 2020]. [39] Fanon, Les damnés de la terre, 193. [40] Ibid, 187. [41] Ibid, 191. [42] Gibson, 50 years later. [43] Fanon, Pour la révolution africaine. [44] Fanon, F. (1952). Peau noire, masques blancs. Editions Du Seuil, p183 [45] Meghelli, S. (2009). From Harlem to Algiers: Transnational Solidarities between the African American Freedom Movement and Algeria, 1962-1978. In: H.D. Aidi and M. Marable, eds., Black Routes to Islam. Palgrave Macmillan, pp.99–119. [46] Neal, L. (1966). The Black Writer’s Role. Liberator, Jun., p.8. [47] Joans, T. (1970). The Pan African Pow Wow. Journal of Black Poetry, 1(13). [48] Meghelli, From Harlem to Algiers. [49] Covington, F. (1970) ‘Are the Revolutionary Techniques Employed in The Battle of Algiers Applicable to Harlem?’ In T.C, Bambara (ed). The Black Woman: An Anthology. New York: Penguin, p245 [50] Zolberg, A. and Zolberg, V. (1970). The Americanization of Frantz Fanon. In: P.I. Rose, ed., Americans from Africa: Old Memories, New Moods. Chicago: Atherton, p198 [51] Luther King Jr., M. (1962). ‘People in Action: My Talk With Ben Bella.’ New York Amsterdam News. 27 Oct. [52] Meghelli, From Harlem to Algiers. [53] Mignolo, W. (2012). Local histories/global designs : coloniality, subaltern knowledges, and border thinking. Princeton, N.J. ; Oxford: Princeton University Press. [54] Eduardo Gudynas, E. (2013) ‘Debates on development and its alternatives in Latin America. A brief heterodox guide’. In M. Lang & D. Mokrani. (eds). Beyond Development: Alternative Visions from Latin America. Quito & Amsterdam: Rosa Luxemburg Foundation & Transnational Institute. [55] Fanon, Les damnés de la terre, 304-307.—
حمزة حموشان
ناشط وباحث جزائري مقيم في لندن. عمله يتمحور حول مسائل العدالة الاجتماعية ومناهضة الإمبريالية، وهو عضو مؤسس في «حملة التضامن الجزائرية» و«عدالة بيئية شمال أفريقيا»، والتحق بالمعهد الدولي (TNI)، وشارك في تأليف كتابين: «الثورة القادمة إلى شمال أفريقيا: الكفاح من أجل العدالة المناخية» و«النضال من أجل ديمقراطية الطاقة في المنطقة المغاربية» وبفصول في «أصوات التحرر: فرنتز فانون» وموسوعة «الإمبريالة ومناهضة الإمبريالية».
اقرأ أيضا