الدولة بلا قناع
دانيال تانورو
ليست الدولة محايدة حسب النظرية الماركسية، إنها أداة في خدمة الطبقة المهيمنة. قال إنجلز عن الدولة إنها “في آخر المطاف، عصابة من الرجال المسلحين”. تقدم الأحداث الأخيرة توضيحًا جيدًا لصلاحية هذا التحليل. طبعا، لا تقتصر الدولة اليوم على الشرطة والجيش، لم نصل بعد لحالة من هذ القبيل. لكننا نرى بوضوح أفضل بكثير من “الأوقات العادية”، أن المؤسسات الديمقراطية ليست سوى قناع، وأن جهاز الدولة أداة في خدمة المالكين. يتطلب تحرير المستغلين والمضطهدين تدمير آلة الحرب هذه.
في الغرب، قللت الطبقة السائدة أولاً من خطر الوباء. تحدث مسؤولون عديدون، مثل ماجي دي بلوك، عن “إنفلونزا موسمية بسيطة”. حينها، ركزت كل عيون هؤلاء السيدات والسادة على تدهور صحة الاقتصاد الرأسمالي العالمي. لذا، في هذا السياق، لا مجال لإضاعة الوقت في القلق بشأن وباء موسمي عادي.
لم تبدأ الأمور في التحول فعلا، ببلجيكا، سوى عندما عم خطر Covid-19 شمال إيطاليا، في بداية مارس. لنتذكر السياق: مفاوضات تشكيل حكومة متعثرة لأشهر، وبدا الجمود تاما، وأطلق بارت دي ويفر النار ضد حكومة تسيير الأعمال، وأعلنت ال PTB إن” الأمور ستكون أفضل مع أقل عدد من الوزراء” وبدا البلد على وشك الانفجار.
نهاية الاستراحة
كم يبدو كل هذا بعيدا! ومع ذلك، فقد مرت أقل من أربعة أسابيع. ماذا حدث؟ الأمر بسيط: في مرحلة معينة، أدرك أتباع الطبقة السائدة أن التقاعس في مواجهة الوباء سيكلف الشركات أكثر بكثير من التصرف، وأنه سيكلف النظام السياسي أكثر من ذلك بكثير، لأن الأحزاب ستفقد مصداقيتها ومصداقية المؤسسات إذا استمرت في التشاحن دون فعل أي شيء ضد الخطر. منذ تلك اللحظة، تم إعلان نهاية الاستراحة، وتجمعت جميع الأحزاب التي تدير الرأسمالية حول الدولة.
حدث الشيء نفسه في جميع البلدان، ويجب ملاحظة هذه الحقيقة المهمة بصدد أوروبا: اجتمعت الطبقات المهيمنة الوطنية حول دولتها الوطنية، لاتخاذ تدابير وطنية وفقًا للسياق وطني. جرى إغلاق الحدود وبرز الاتحاد الأوروبي على حقيقته: سوق مشتركة تحكمها محاولة هيكلية فوق-دولاتية هشة، تستند أساسًا إلى الدول الأعضاء.
الرأسمال والصراع الطبقي والدولة
لماذا هذا التجمع حول الدول الوطنية؟ لأن الدولة هي الأداة الأساس لسلطة المالكين، الوسيلة النهائية لإبقاء المضطهدين تحت القهر عندما يثورون، أو يخاطرون بالتمرد. والحال أن هذه الدولة لم تأت من فراغ، فهي موجودة بأشكال مختلفة منذ انقسام المجتمع إلى طبقات. تشكلت الطبقة الرأسمالية تاريخيا داخل الدول الوطنية للنظام القديم، حيث استولت على السلطة وحولتها وفقا لمصالحها. كانت الدولة هي نفسها في جميع البلدان ولكنها اتخذت أشكالًا مختلفة، تبعا للسياق والتاريخ وما إلى ذلك. وهذا هو سبب أن الرأسمالية عرضة لهذا التناقض الهائل وغير القابل للحل: الرأسمال عالمي، لكن سلطة الرأسماليين لا تزال تعتمد في نهاية المطاف على الدول الوطنية.
لا يبدو أن السلطة الرأسمالية تعتمد في المقام الأول على الدولة، في الأوقات العادية. خاصة في النظام النيوليبرالي للرأسمالية، حيث يبدو المجتمع مشتغلا إلى حد كبير بطريقة آلية، عبر السوق. لا نستيقظ للذهاب إلى العمل لأن الدولة تجبرنا على ذلك، ولا نحتاج إلى إذن من الدولة للتنقل، أو الذهاب إلى السينما، إلخ. ومع ذلك، فإن انطباع الحرية هذا وهم، لأن السوق مرتهن بالشروط العامة للإنتاج والنقود. بيد أن الدولة تحدد الشروط العامة للإنتاج (قانون الأعمال، قانون الشغل، التشريعات الضريبية، التعليم، إلخ). وتاريخياً، الدولة هي أيضاً من تسك النقود وتحدد قيمتها وفقا للحالة الصحية للشؤون الرأسمالية. لهذا السبب، عندما يضر تمرد عمالي أو أي “حادث” آخر بالشؤون الرأسمالية، تخرج الدولة من الظل وتحتل الواجهة بشرطتها وجيشها وقوانين طوارئها ومحاكمها، إلخ.
تساعد حقيقة كون الدولة الأداة الأساس الأولى والنهائية للسلطة الطبقية، وأنها الأداة التي يواجه بها الرأسماليون الطبقة العاملة، في تفسير سبب بقاء الدول القومية حاسمة في حين أن الرأسمال عابر للأوطان. والواقع أن الصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال، بينما هو في الأساس متشابه في كل مكان، اتخذ أيضًا أشكالًا محددة حسب البلد، وفقا للسياق والتاريخ والدين، إلخ. وقد أدى ذلك إلى تشكيلات اجتماعية محددة، مثلا بأنظمة ضمان اجتماعي مختلفة حسب البلد (عبر الرسملة أو عبر التوزيع). والحال أنه، في أوقات الأزمات، عندما يكون على البرجوازية منع حدوث انفجار اجتماعي، فإن المعرفة التفصيلية بهذه الخصائص – وتلك الخاصة بحركتها العمالية – ذات أهمية حاسمة 1. لهذا السبب، في تلك الفترات، تصطف الطبقة المالكة دائمًا خلف دولتها الوطنية: إنها، إذا جاز التعبير، ضمن أثاثها، وتعرف كل الحيل ومن التجربة أنها أفضل أداة لها.
لِمَ لا الاتحاد الأوروبي؟
تسلط الأزمة الحالية فجأة الضوء على الطبيعة المتناقضة للاتحاد الأوروبي. لماذا لم يكن الاتحاد الأوروبي في طليعة الإدارة الرأسمالية للوباء؟ لأنه ليس دولة بل “شبه دولة”، محاولة عقيمة من قبل الطبقة المهيمنة للتغلب جزئيًا على التناقض بين تدويل رأسمال والطابع الوطني للسلطة البرجوازية، من أجل الدفاع بشكل أفضل عن المصالح المشتركة للرأسماليين الأوروبيين بوجه المنافسين الأمريكيين والآسيويين. نقلت معظم الدول الأعضاء سلطة سك النقود إلى الاتحاد الأوروبي (اليورو)، لكن هذه السلطة غير كافية للتعامل مع الأزمة. وهكذا، ليس لدى الاتحاد الأوروبي أي اختصاص في مسائل السياسة الصحية، على سبيل المثال، ولا يمكنه اتخاذ الإجراءات المالية إلا بالإجماع. ومن هنا الانطواء على الدول الوطنية. بيد أنه بقدر ما سيؤدي هذا التراجع وتأثير الوباء إلى إذكاء الاختلافات بين الأوضاع الصحية للاقتصادات المختلفة، ستستمر زيادة التوترات حول العملة الموحدة، وبالتالي أيضًا أزمة الاتحاد الأوروبي.
لِمَ لا الجهات/الأقاليم؟
إن القاعدة العامة القاضية بانتصاب الطبقة المهيمنة خلف دولتها لمواجهة الأزمات الخطيرة ذات وقع خاص في بلدنا: إنها تفسر تخلي هؤلاء الساسة البرجوازيين، المعروفين في جميع أنحاء العالم بانقساماتهم المحلية، عن ذلك بين عشية وضحاها لإعادة الاصطفاف خلف الدولة الفيدرالية. من المؤكد أن بارت دي ويفر اعترض، لكن فقط بضعة أيام. في النهاية، شهدنا عرضا هزليًا: اصطف رؤساء جميع الكيانات الفدرالية المتنافسون بحكمة وراء ممثلة الدولة الفيدرالية التي يرغب معظمهم في رؤية رأسها على نهاية رمح – رئيسة وزراء ليبرالية لحكومة أقلية فائقة يمينية، مستقيلة وفقط لتسيير الأعمال الجارية – كما لو كان الأمر عاديا! لماذا؟ لأن الأمر يتعلق بإدارة أزمة صحية من أجل المصلحة العليا للرأسمالية مع تجنب حدوث انفجار اجتماعي، ولتحقيق ذلك يتوجب وضع اليد على الرافعات الرئيسية – الضمان الاجتماعي والداخلية والقضاء والبنك الوطني – واستعمال هذه الرافعات بموازاة الحفاظ على وهم التشاور مع عالم الشغل ومراعاة أزمة المناخ. بعبارة أخرى، يجب إشراك اليمين التقليدي، واليمين الجديد (N-VA)، والاشتراكية الديمقراطية والخضر لخلق مناخ يفضي إلى ما يشبه الوحدة الوطنية.
الحرب والحرب الصحية والوحدة الوطنية
غالباً ما يجري، في المعسكر البرجوازي، مقارنة مجابهة الوباء بـ “الحرب”. المقارنة سخيفة – ليس الفيروس والخفافيش والبنغولين أعداء – ولكنها مع ذلك مفيدة لفهم ما يحدث. قال منظّر الحرب الشهير، كلاوزفيتز، إن “الحرب هي مواصلة السياسة بوسائل أخرى”. يمكننا أن نقول أيضًا أن الإدارة الصحية هي اتباع السياسة بوسائل أخرى. إنها استمرار السياسات البرجوازية الساعية إلى التغلب على التناقضات المتزايدة المستعصية عن الحل للرأسمالية بخوصصة القطاع العام، وزيادة استغلال الطبقات الشعبية، واضطهاد النساء والأشخاص من أعراق أخرى. ونهب الجنوب وتدمير الموارد الطبيعية. سياسة تلجأ لوسائل وحشية متزايدة لبلوغ ذلك، ولقمع وحشي متزايد وتقييد متسارع للحقوق الديمقراطية.
إن ما يحدث في بلادنا – وفي دول أخرى – إنما هو في الواقع اتباع تلك السياسة بوسائل أخرى. فالإدارة الصحية سياسة طبقية تتمثل أهدافها الأساسية في:
– 1. الحد من الأثر، إلى أقصى قدر، على القطاع الإنتاجي للقيمة المضافة (قلب الرأسمالية)، حتى لو كان ذلك يعني تعريض العمال للخطر؛
– 2. منع التشكيك، قدر الإمكان، في خطط التقشف المفروضة على قطاع الرعاية الصحية، حتى لو كان ذلك يعني تعريض العمال للخطر؛
– 3. تسطيح منحنى الوباء بفرض وقف جميع الأنشطة الاجتماعية والثقافية والأسرية، حتى لو كان ذلك يعني جعل الحياة مستحيلة لملايين الناس والنساء والأطفال على وجه الخصوص؛
– 4. الاستفادة من حالة الطوارئ الموضوعية لإنشاء آليات استبدادية لسلطة قوية؛
– 5. ترك دول الجنوب تواجه مصيرها علما أنها لا تتحمل أي مسؤولية عن الوباء بل تعاني منه بشدة.
تسقط الأقنعة!
لا يمكن أن ينشأ تنسيق مثل هذه السياسة المعقدة بشكل تلقائي من السوق. لهذا السبب، كما هو الحال في فترة الحرب الاجتماعية، أو ببساطة الحرب، تخرج الدولة من الظل لفرضها (بما في ذلك على الرأسماليين الأفراد، لأنهم يضعون دائمًا مصلحتهم الرأسمالية الخاصة فوق تلك الخاصة بطبقهم!). تضع الدولة البرلمان خارج اللعبة وتعتمد أدوات مخصصة غير منتخبة (مثل “فريق خبراء استراتيجية الخروج2” و “مجموعة إدارة المخاطر”) تسمح لها بصقل سياستها بإشراك مباشر لكبار أرباب العمل، ورئيس البنك المركزي وعلماء مفرطي السذاجة. تقرر الدولة من يذهب للعمل رغم الخطر، ومن يعمل في المنزل، ومن لم يعد يعمل. تقرر الدولة ألا يغادر أحد المنزل وترصد الأماكن العامة بشرطتها المزودة بطائرات بدون طيار. توزع الدولة الصدقات لتخفيف صدمة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية على الشرائح غير المحمية بالضمان الاجتماعي. في مقابل تجميد خفض إعانات البطالة (أقل المتوجب، على أي حال!)، تفرض الدولة على عالم الشغل مطالب أرباب العمل التي رفضتها النقابات خلال اجتماع “مجموعة العشرة”: زيادة في عدد ساعات العمل الإضافي المسموح بها، والعمل “المرن” للعاطلين المؤقتين (مليون!) في البستنة والحراجة، والعمل لطالبي اللجوء (الذين، مع ذلك، ليس لديهم أي ضمان للحصول على صفة اللاجئ!)، ترحيل العمال من قطاع إلى آخر، زيادة مخزون عمل الطلاب المتاح؛ وأخيرًا وليس آخرًا، طلب محتمل للعاملين الصحيين! تأكد ما توقعناه: تشمل السلطات الخاصة الممنوحة لهذه الحكومة احتمال حظر الإضراب…
باختصار، تنزع الدولة، في أوقات نقص المعدات الطبية هذه، القناع وتبين حقيقتها: أداة بحتة في خدمة الطبقة السائدة. فجأة، تظهر الأحزاب والمنظمات الأخرى أيضًا بدون أقنعة. في الواقع، مثلما يسلط الموقف من الحروب الرأسمالية الضوء بوضوح على من يقف إلى جانب النظام الرأسمالي، فإن الشيء نفسه ينطبق على ما يسمى بـ “الحرب ضد الفيروس”: أولئك المشاركون فيها هم إلى جانب النظام الرأسمالي، لا شيء أقل من ذلك. وهذا يغنينا عن الكلام بخصوص الأحزاب اليمينية. وبالنسبة للحزب الاشتراكي والخضر، الذين صوتوا على السلطات الخاصة ويتعاونون على تنفيذها بالمشاركة كل يوم سبت في اجتماع الأزمة مع “Kern”، فليس الأمر مفاجئا، بل تأكيدا فقط. تأكيد آخر لا غير. أما بالنسبة للمنظمات النقابية، فهي تواجه أكثر من أي وقت مضى نفس الخيار الاستراتيجي: التشاور، والتعاون الطبقي و “النقابية الدولانية” أو العمل النقابي الكفاحي؟ لنرى ما قد يحدث لاحقا…
ترجمة فريق الترجمة بجريدة المناضل-ة
إحالات
1. لأهمية المعرفة التفصيلية بالخصائص الوطنية، راجع مقال بول فان بيلت على موقعنا: gaucheanticapitaliste.org/abracadabra-et-hop-retour-a-la-collaboration -des-classes / [7]
2. استراتيجية الخروج: هي استراتيجية المستثمر للخروج من الإطار الاستثماري الذي ارتبط به. وهي عبارة عن خطة يقوم المستثمر أو التاجر أو صاحب العمل بتنفيذها في حالات الطوارئ بحيث يقوم بتصفية أصول المؤسسة بهدف تحقيق أقصى قدر من الفائدة أو تقليل الضرر الناتج عن تلك الحالات.
المصدر: https://npa2009.org/idees/societe/letat-sans-masque
اقرأ أيضا