من أجل فهم للأوبئة بمنظور معاد للرأسمالية
قد يبدو القول إن جائحة كوفيد 19 هو جائحة رأسمالية أمرًا سخيفًا. فالفيروسات، بعد كل شيء، هي أجسام طبيعية موجودة بشكل مستقل عن جميع الهياكل الاجتماعية، وقد حلت بالبشرية قبل وقت طويل من سيطرة الأنظمة الرأسمالية عليها. من أوبئة “الطاعون” التي ضربت اليونان القديمة حتى “الموت الأسود” التي أثرت على المجتمعات الأوراسية قبل الرأسمالية، لن نعدم أدلة في التذليل على ذلك: إن الرأسمالية لم تخترع الأوبئة. لذلك، يبدو أن الزعم بأنها قد تكون مسؤولة عن الكوفيد 19 هو إما زعم لامنطقي وإما ينهل من نظرية المؤامرة (لاستخدام الصفة المستخدمة عمومًا لاستبعاد أي فكر نقدي يسعى إلى الصعود إلى سلسلة المسؤوليات الاجتماعية لظاهرة ما)، إذن يجب الاعتراف منذ البداية بأن SARS-CoV-2 (اسم الفيروس الذي ينقل مرض كوفيد 19) يوجد بشكل مستقل عن الهياكل الرأسمالية. ونتيجة لذلك، يُفترَض أن يركز مناهضو الرأسمالية فقط على الإدارة الرأسمالية للوباء ولن يكون لهم ما يقولونه عن ظهور الوباء في حد ذاته، الذي سيُختزَل فقط إلى كونه ظاهرة “طبيعية”. ومع ذلك، فإننا أمام حقائق مقلقة: لقد شهدنا، منذ سنوات قليلة، تكاثر الأمراض المعدية (انظر المبيان رقم 1). ومن بينها، الأمراض المرتبطة بالفيروسات التاجية التي عرفت نشاطا محموما. ابتداء من السارس (متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد) التي أصابت الصين في 2002-2003 إلى كورونا (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية التاجية) التي أصابت شبه الجزيرة العربية في عام 2012، مروراً حاليا ب SARS-CoV-2، يبدو أن عائلة الفيروس التاجي، مع أوبئة الإنفلونزا المختلفة، تمثل واحدة من المخاطر الصحية العظيمة في القرن الحادي والعشرين.
(تعذر إضافة المبيان)
مبيان رقم 1.
يُظهر المبيان رقم 1 زيادة، منذ 1940، في أعداد فترات الأوبئة (المحور الأزرق) مع تضاعف أنواع العدوى المختلفة (المحور الأحمر) [الرسم مأخوذ من مقال Jade Lindgaard وAmélie Poinssot، المنشور على موقع Médiapart يوم 22 مارس 2020 بعنوان: «Le coronavirus, un boomerang qui nous revient dans la figure»].
كيف نفسر ذلك؟ لماذا يمكن تحميل الرأسمالية، التي تجعل من الأزمات الصحية ظاهرة خارجية تمامًا عنها، مسؤولية هذا التضخم الوبائي؟ هذه هي الأسئلة هي التي سنحاول الإجابة عنها بغرض تجنب السقوط في فخ التطبيع المفرط مع الظواهر الوبائية واعتبارها ظواهر طبيعية حصرا، والكشف، مرة أخرى، عن الرأسمالية كما هي عليه: تنظيم اجتماعي قاتل.
الغرابة المزدوجة أو البراءة المعلنة للرأسمالية
لنعتبر أن هناك خفاش ما حامل لفيروس ما يتجول ليلا في غابة يمكننا التخمين بسهولة أنها تتعرض لعملية إزالة. إنها تمسك في فمها ما تطعم به نفسها، وتواجه بخوف مرور الآليات المتزايد داخل موطنها، فتطير بعيدا لتختبئ في حظيرة. فتسقط الطعام رغما عنها على أرضية هذا المبنى، فينقض عليه خنزير ويبتلعه. لقد اضحى الخنزير مصابا بالفيروس، سيُقتل ويٌقدًّم في مطعم في ماكاو. يمكننا بعد ذلك أن نحزر بأن الفيروس قد قام بعمل ما يسمى “قفزة الأنواع”، لقد انتقل من الخفاش إلى الإنسان بواسطة الخنزير. ثم تبدأ جائحة عالمية بالغة الخبث. هذا المشهد الوهمي هو المقطع النهائي لفيلم العدوى Contagion (صدر في 2011)، الذي عاد في نهاية الفيلم ليخبرنا عن أصل المرض، بعدما قص علينا في البدء قصة انتشاره.
(تعذر إضافة الصورة)
خفاش يحمل فيروسًا يلجأ إلى مزرعة للخنازير. رسم مستخرج من فيلم العدوى بواسطة ستيفن سودربرغ (2011)
إذا كان المشهد في هذا الفيلم يبدو مألوفًا لنا، فذلك لأنه يصف الوضع الحالي بشكل مباشر. استبدل لحم الخنزير بالبانجولين ومطعم ماكاو بسوق ووهان ولديك الفرضية الأكثر ترجيحًا لمسار انتقال كوفيد 19 من الخفافيش إلى الإنسان. لم يكن تخيل ستيفن سودربرغ، مخرج فيلم “العدوى”، هذا المشهد في عام 2011، ناتجا عن كونه صاحب رؤية. إنه يستعيد فقط نمطًا فيروسيًا كان معروفًا بالفعل في ذلك الوقت. في عام 2003، كان لوباء السارس جينيالوجيا مشابهة نسبيًا: فمرة أخرى، ينقل خفاش الفيروس التاجي، لكن هده المرة عبر الزباد . قبل وقت قريب كذلك، انتقل الوباء الناتج عن فيروس الإيبولا (الذي تسبب في أكثر من 11000 حالة وفاة بين 2013 و2016 بمعدل وفاة بين 57 و59 ٪ من المرضى) من خفافيش أفريقيا الوسطى إلى البشر إما مباشرة أو عن طريق القرود . وبالتالي فإن هذه الأمراض الحيوانية (أي التي يتم تداولها خلال عملية تسمى “حيوانية” من الحيوانات إلى البشر) تضم قائمة رائعة من الحيوانات التي نعتبرها بشكل تلقائي كحيوانات “برية”. يحيلنا الخفاش أو البنغولين أو القرد أو الزباد مباشرة على منظر طبيعي غير مألوف بالنسبة لنا، والذي نتخيله غريزيًا على أنه غابة عذراء بعيدة ظلت مغلقة بشكل تام أمام النشاط البشري . يمكننا بسهولة تخيل الفيروسات المجهولة التي يمكن أن تنتشر هناك بكل راحة البال. وحتى عندما يغامر بعض البشر بالوصول إلى هناك، يبدو لنا أن كل شيء غريب مرة أخرى: ما هي هذه المجتمعات حيث نأكل البنغولين؟
ثم يتم بناء غرابة مزدوجة وجذرية:
– غرابة بيولوجية: تنشأ هذه الأوبئة، المعتبَرة ككوارث طبيعية، من برية متوحشة لا يمكن السيطرة عليها، بما فيها خيراتها أو انتقاماتها، حيث تغدو المجتمعات البشرية عاجزة، متروكة لقدرها.
– غرابة ثقافية: تظهر هذه الأوبئة في ثقافات “غريبة”، “متخلفة” غير ممتثلة للعقلانية الرأسمالية الغربية، تنتج أنماط حياة (خاصة الطعام) قائمة على الاستهلاك الحيواني. وهكذا تم بناء اعتراض مزدوج (عالم متوحش ضد فضاء متحكم به وتقاليد متخلفة في مقابل العقلانية الغربية) من خلاله يعلن الرأسماليون براءتهم: هذه الأوبئة هي مصائب لا مفر منها لكنها غريبة تمامًا عن أنماط إنتاجنا.
ويمكن كذلك أن يتنصل نمط الإنتاج الرأسمالي من الفيروس باعتماد الخطاب العنصري الذي يسمح مرة أخرى بتأكيد الطابع “الأجنبي” للوباء. هكذا يصف دونالد ترامب SARS-CoV-2 بأنه “فيروس صيني”، وتتعدد الهجمات ضد السكان الصينيين في أوروبا (وخاصة في فرنسا) في بداية الوباء. هكذا يتم بناء مماثلة بين الحيوانات التي يتم اعتبارها “مسؤولة” عن الوباء وبين أولئك الذين يأكلونها – وكلاهما يمكن وصفهما بـ “البرية/التوحش”
من البديهي أن أول إجابة محتملة على هكذا خطاب تكمن في التأكيد على أن “الفيروسات ليس لديها جواز سفر” (وهو ليس مبدأ سياسيًا بقدر ما هو حقيقة وبائية). إنه يحبط خطاب كراهية الأجانب القائل بأن إغلاق الحدود يمكن أن يكون سياسة فعالة ضد الوباء. ومع ذلك، فإن هذه الاستجابة، إذا كانت ضرورية، غير كافية. أفضل طريقة لتجنب فخ إسناد الجنسية إلى الفيروس هو التركيز على أسباب إنتاجه. من هنا تظهر بشكل أوضح سخافة إعطاء الفيروسات جنسية ما، لأنها مرتبطة بلا شك بديناميات الرأسمالية العالمية.
“تنتج المزارع الكبيرة أنفلونزا كبيرة” : الإيبولا نموذجا
لفهم الارتباط الذي قد يكون موجودًا بين النشاط الفيروسي وعمليات تراكم رأس المال على نطاق عالمي، دعنا نبتعد مؤقتا عن كوفيد 19 ولننظر في وباء آخر مررنا عليه بسرعة، هو الوباء الناتج عن فيروس الإيبولا (فيروس يسبب حمى عالية جدًا وغالبًا مميتة). إن انتقال هذا الفيروس إلى البشر قديم ولكنه احتل واجهة وسائل الإعلام في وقت الوباء الذي ضرب بشكل رئيسي دول غرب أفريقيا 2013-2015. إن أصل هذا الوباء، “نقطة الصفر” المفترضة، يغرقنا في مشهد هو نفسه المذكور أعلاه. نحن في وسط غابة غينيا، جنوب غينيا، في غابة كثيفة تبلغ مساحتها حوالي 50000 كيلومتر مربع (حوالي ضعف مساحة مقاطعة بريتاني الفرنسية). ومع ذلك، وبسرعة كبيرة، يتلاشى الانطباع بوجود علاقة مع طبيعة عذراء لا وجود فيها لأي نشاط بشري: نحن نوجد هنا – مع ذلك- في أحد مراتع المضاربات لرساميل العالم. إن غينيا، مثل العديد من البلدان في القارة الأفريقية، بلد يتمتع بموارد طبيعية وفيرة تجذب الشركات الدولية الكبيرة. هناك احتياطات كبيرة من الذهب والماس، والأهم من ذلك، ثلث احتياطيات العالم المعروفة من البوكسيت. وهكذا أصبحت غينيا، في عام 2017، المصدر العالمي الثالث لهذه المواد الخام التي تستخدم بشكل رئيسي لتصنيع الألمنيوم ، يكفي لإثارة شهية الرأسماليين: حصل “تحالف التعدين المسؤول” « Alliance minière Responsable »، الممول على وجه الخصوص من قبل آن لوفيرجيون وخافيير نيل (وبنصيحة من أرنود مونتبورج)، مؤخرًا على منجم بوكسيت في البلاد . الزراعة الصناعية حاضرة لكي لا تترك أحدا يتفوق عليها: لم يعد في جنوب غينيا الكثير من “الغابات” وشهدت زيادة في مزارع الكاكاو والمطاط، وقبل كل شيء زيت النخيل. مرة أخرى، ترتبط هذه الدينامية مباشرة بتدفق رأس المال الغربي الذي يسيطر على الأرض لاستيراد الأساليب المكثفة للزراعة الرأسمالية. تمكنت شركة Farm Land of Guinea-limit-ed ومقرها نيفادا من الحصول على أكثر من 100،000 هكتار من أراضي الدولة الغينية في عام 2011 . لم يعد للمناظر الطبيعية “الغريبة” و”البرية” للغابة البكر وجود: إن التأمل في “غينيا الغابوية” لم يعد يعني إلا التأمل في مشهد الرأسمالية التي أصبحت مألوفة لنا أكثر بكثير – إنه المشهد الذي صاغته رساميل الزراعة الصناعية. يمثل هذا التحول دينامية كلاسيكية للرأسمالية التي تسعى باستمرار، كما هو موضح من قبل الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي، “لإنشاء مشهد جغرافي يسهل عليها النشاط في وقت معين، ثم تدميره وبناء مشهد مختلف تمامًا في وقت لاحق”.
لهذا الافتراس الرأسمالي عواقب بيئية كارثية: كان لدى غينيا 14 مليون هكتار من الغابات في الستينيات، ولديها الآن 700000 فقط . إن إزالة الغابات الهائلة هذه تصطدم بلامبالاة الرأسماليين الذين لا يرون في الموارد الطبيعية غير المستغلة إلا إمكانية إضافية فقط لتراكم رأس المال: هكذا أمكن للأمم المتحدة أن تؤكد، بناءً على دراسة أجراها البنك العالمي، أن مناطق السافانا في غرب إفريقيا لديها القدرة على “تحويل العديد من البلدان الأفريقية إلى أبطال عالميين في إنتاج المواد الخام الزراعية”. أما بالنسبة للمخاطر البيئية، فإن المنظمة الأممية تقفز عليها بإصدار حكم سخيف: “إن استخدام أرض السافانا في غينيا للزراعة سوف ينطوي حتماً على تكاليف بيئية، ولكن هذه الزراعة يمكن أن تكون مفيدة للبيئة نفسها.” ، إن هذه الجملة وحدها تلخص كل التضارب الإجرامي لما يسمى “الرأسمالية الخضراء”.
إجرامي لأن علماء الأوبئة يؤكدون بالإجماع بأن هناك صلة مباشرة بين عمليات إزالة الغابات هذه وإنتاج الأوبئة – وهذا على عدة مستويات. إن تدمير الغابات هو في المقام الأول تدمير للعوائل الطبيعية للعديد من أنواع الحيوانات، بدءًا بالخفافيش (حاملات فيروس إيبولا). ينطوي هذا التغيير في بيئتها على تغيير في سلوكها. في غابة غينيا، على سبيل المثال، لاحظ البيولوجيون هجرة الخفافيش من غابات متقلصة بشكل متزايد إلى مزارع نخيل الزيت، والتي تتزايد أكثر فأكثر بسبب الطفرة الكبيرة التي عرفها إنتاجها وتسويقها . وبالتالي أصبحت هذه المزارع، التي يرتبط إنشاؤها مباشرة بتدفق رأس المال من العالم الغربي بشكل رئيسي، الأماكن المميزة لإنتاج الفيروسات لأنها سهلت “قفزات الأنواع” بتقريبها الأنواع الحيوانية التي تسبب الأمراض من المناطق الحضرية .
ومع ذلك، فإن العلاقة بين إزالة الغابات والوباء لا تنتهي عند هذا الحد. فالعديد من علماء الأوبئة يعتبرون عمليات إزالة الغابات مسؤولة عن ازدياد ضراوة الفيروسات المنتشرة . هذه نقطة مهمة. يمكن الزعم بأنه لا صلة بين تكثيف تدفق الرساميل إلى غينيا على مدى السنوات العشرين الماضية ووباء إيبولا، بحجة أن هذا الفيروس أقدم بكثير: فأول حالة من حالات حمى ايبولا يعود تاريخ اكتشافها إلى سنة 1976. وفي هذه القضية وجب إعطاء ملاحظتين سريعتين. أولاً، يشير عالم الأحياء روب والاس إلى أن “كل تفشي لفيروس إيبولا يبدو مرتبطًا بالتغيرات في استخدام الأراضي بسبب رأس المال”. هكذا، ظهر وباء ايبولا أول مرة لعام 1976 في مدينة سودانية (تنتمي اليوم إلى جنوب السودان)، اسمها “نزارا”. وهو ما يتوافق مع التاريخ الذي شهدت فيه صناعة القطن السودانية تطورا، أدى إلى إزالة كبيرة للغابات المطيرة. كانت “نزارا” موقعًا لمصنع غزل قطن ممول من المملكة المتحدة. حتى بالعودة في الزمن، لا يبدو أن العلاقة بين الاستغلال الرأسمالي وإنتاج الفيروس تنفصم.
(تعذر اضافة الصورة)
صورة جوية من عام 1976 تظهر مصنع قطن يقع في نزارا (مصدر الصورة: ويكيبيديا).
ومع ذلك، فإن المشكلة الرئيسية توجد في مكان آخر. إذا كان فيروس إيبولا قديما، فإنه لم ينتج عنه خطر جائحة كبير مثل جائحة 2013-2015. بشكل عام، الفيروس شديد الضراوة: معدل الوفيات هو في المتوسط 40 ٪ (في عام 1976، أصاب الفيروس 318 شخصًا وقتل 280). وضراوته هي التي تكبح انتشاره: فمن خلال قتل حامله بسرعة كبيرة، يكون للفيروس فرصة أقل للانتشار (يموت حامله قبل أن يتمكن من إصابة أشخاص آخرين). ومع ذلك، فإن المنطق المكاني لرأس المال ينتج بيئات تسمح بمضاعفة اتجاهات الانتشار، مساهمة في ارتفاع خطر حدوث جوائح فيروسية شديدة الخطورة. أدى تركز رأس المال الأجنبي المذكور أعلاه إلى تركز حضري كبير جدًا: مدينة Guéckédou الموجودة قرب من نقطة صفر انتشار الوباء في غينيا سنة 2013-2015، ارتفع عدد سكانها بين 1983 و2012، من 2800 نسمة إلى 350.000 نسمة تقريبًا. لا يقتصر تفسير هذه الظاهرة على خلق الوظائف التي تلت افتتاح المزارع و/ أو المناجم. بل يجب ربطها أيضًا بعملية “التراكم البدائي” كما يراه ماركس في “رأس المال” : لقد شهدنا تسليع وخصخصة للأرض طردت على إثرها مجتمعات الفلاحين الذين كانوا بالتالي مضطرين للجوء إلى ضواحي المدن . في حين أن التحاليل التي تناولت الفيروس تذهب أحيانا في اتجاه تبني خطاب مالتوسي بشأن الانفجار السكاني، لكن المشكلة هنا ليست في النمو السكاني في حد ذاته بقدر ما هي حول ديناميات التركيز الحضري المرتبط بتدفق رأس المال الأجنبي. وهي دينامية تعمل كحلقة مفرغة: الزحف الحضري يفاقم إزالة الغابات، وبالتالي يضاعف مخاطر الأمراض الحيوانية المنشأ، ويجد الفيروس، بمجرد حصول “قفزة النوع”، فرصة للاستفادة من العديد من اتجاهات الانتشار. خلال وباء 2013-2015، انفجر عدد حالات الإصابة: 28000 حالة على الأقل خلفت أكثر من 11000 حالة وفاة. باختصار، يعزز رأس المال إنتاج الفيروسات من خلال استغلال الموارد الطبيعية في البحث عن الربح، الشيء الذي يقوض التوازنات الجغرافية والإيكولوجية للمناطق ويسرع، بالإضافة إلى ذلك، انتشار الأوبئة عن طريق خلقه التجمعات الحضرية التي هي نتيجة لعامل مزدوج: الاستغلال الاقتصادي ومصادرة الأراضي. كان هذا الدور المزدوج لرأس المال في انتشار وباء الإيبولا قد سمح لعالم الأحياء “روب والاس” بأن ينعت جسما ميكروبيولوجيا بنعت مستمد من الاقتصاد السياسي: إنه يقول إن وباء إيبولا هو وباء “ليبرالي جديد”.
هذا النعت هو أيضًا طريقة أخرى لقول إن الفيروسات لا تحمل جواز سفر. وإذا لم تكن تحمله، فذلك ليس فقط لأن انتشارها يؤدي إلى اختراق الحدود، بل وربما أيضًا لأن المنطق الذي يكمن في إنتاجها، أو على الأقل في تسريع إنتاجها، يحيل على البعد العالمي للدوائر الرأسمالية وإلى أولئك الذين مولوا (واستفادوا من) إزالة الغابات. ومن هنا جاء تأكيد بديهي لروب والاس: “إن أماكن مثل نيويورك ولندن وهونج كونج، وهي المصادر الرئيسية لرأس المال، [ينبغي] اعتبارها البؤر الرئيسية للمرض”.
كوفيد 19 ليس “فيروسًا صينيًا”
إذا كنا قد رافقنا هذه المسيرة المديدة لفيروس إيبولا، فذلك لأنه أقدم وبالتالي تم توثيقه بشكل أفضل من السارس- CoV-2 والمرض الناتج عنه (كوفيد 19). ومع ذلك، بالجمع بين المعلومات القليلة التي تم نشرها حول إنتاج هذا الوباء، تمت ملاحظة نفس المنطق، بل أضحى من الممكن الإتيان ببعض العناصر الجديدة حول الطريقة التي يتفاعل بها المجال الاقتصادي مع المجال البيولوجي. هذا الرابط الذي لا يمكن إنكاره بين نمط الإنتاج الرأسمالي وظهور مرض حيواني المنشأ، يجعل من الممكن استبعاد التفسيرات الثقافية (ناهيك عن العنصرية) التي تشير إلى طريقة الحياة الصينية أو التحليلات الغامضة التي ترى في كوفيد 19 “انتقاما للأرض”.
البانغولين: حيوان بري أم سلعة رأسمالية؟
لفهم أفضل للكيفية التي يمكن أن تؤدي بها التفاعلات بين نمط الإنتاج الرأسمالي والبيئة التي ينغرس فيها مؤديا لإنتاج كوفيد19، دعونا نعود إلى نقطة الصفر المفترضة للمرض: سوق ووهان. هناك مرة أخرى، يستثيرنا إغراء الغرابة: إنه سوق رطب، أي سوق تباع فيه الحيوانات البرية، الميتة أو الحية، للاستهلاك البشري. قائمة الحيوانات المباعة هناك تجعل هذا السوق غريبًا جدًا: الثعابين، لحم التمساح، الحمير، الثعلب أو البنجولين. فلنرجع إلى سؤالنا الأصلي: كيف نفسر استهلاك هذه الأنواع التي، بالإضافة إلى أنها تبدو غير صالحة للاستهلاك، من المحتمل أن تكون مسببات أمراض مخيفة؟
(تعذر اضافة الصورة)
قائمة الحيويانات الموجهة للطعام المعروضة في سوق ووهان، بما في ذلك لحم الثعبان أو الإبل لقطة شاشة لفيديو
Youtube: https://www.youtube.com/watch؟v=TPpoJGYlW54)
سيعزو التفسير الثقافي حتمًا هذه الأنماط الغذائية إلى تقاليد صينية عمرها قرون، وربما لن يفشل في النهاية في الإصرار على ضرورة وضع حد لهذه الممارسات للحد من مخاطر الوباء. ومع ذلك، إذا كان صحيحًا أننا نجد في آسيا ممارسات تقليدية يمكن أن تفسر استهلاك هذه الحيوانات (حراشيف البانجولين المستخدمة على سبيل المثال في الطب الصيني)، فإن هذه الحقيقة تخفي تفاصيل أكثر إزعاجًا: هناك انفجار جديد في سوق ما يسمى الحيوانات البرية.
(تعذر اضافة الصورة)
تطور رقم أعمال صناعة الحيوانات البرية بين عامي 2004 و2018 (رسم بياني مأخوذ من فيديو Youtube المذكور سابقًا)
لا يوجد شيء غير قابل للتغيير حول هذا الاستهلاك للحيوانات البرية: له تاريخ وهذا التاريخ حديث. يمكننا إيجازه في قسمين: الأول يعيدنا إلى السبعينيات . توجب على النظام الصيني إدارة مجاعة قتلت أكثر من 30 مليون شخص، وفشل في إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام جميع سكانه (الذين بلغوا آنئذ 900 مليون نسمة). ثم قرر إصلاح النظام الزراعي الذي كان إلى حدود ذلك الوقت خاضعا لسيطرة الدولة بالكامل: لقد أذن بتطوير مزارع الماشية الخاصة. مزارع الفلاحين الصغيرة، المتضررة بشدة من المجاعة، تحولت إلى الحيوانات البرية، مثل السلحفاة، لمحاولة البقاء على قيد الحياة. ومع ذلك، بقي هذا التحول هامشيًا للغاية، وربما تكون المرحلة الثانية من هذه القصة أكثر حسماً. في عام 1988، قررت الحكومة الصينية تعريف الأنواع البرية على أنها “موارد طبيعية”، مما فتح الطريق فعليًا لاستغلالها من قبل المزارع الرأسمالية الكبيرة التي تهدف إلى تحقيق الربح: منذ هذا التاريخ بدأ استهلاك الحيوانات البرية ينفجر. وفي هذا الوقت (وليس قبل ذلك)، أخذت تتطور الخطابات التي تسلط الضوء على الفوائد الطبية المفترضة التي يمكن لمستهلك هذه الحيوانات جنيها. وبعيدًا عن الخطاب الناشئ عن الطب التقليدي، كان الأمر استراتيجية تجارية تافهة اتبعتها المزارع الكبيرة التي تستغل هذه الأنواع من أجل زيادة الأرباح الناتجة عن استغلال هذا “المورد الطبيعي” الجديد. وهذا يفسر سبب وجود زيادة في الطلب عليها، لا سيما من الطبقات المتوسطة الغنية التي تعيش في المدن . وهكذا، فإن البنغولين والأنواع الأخرى التي يطلق عليها “البرية” كانت موضوع تسليع دمجها في سلاسل القيمة الغذائية الزراعية . من هذه الزاوية، يبدو لنا أن البنغولين أقل غرابة بكثير مما كان عليه في البداية: إنه في نهاية المطاف مجرد سلعة عادية مثل أي سلعة أخرى (باستثناء، بالطبع، أن السلعة المعنية متهمة بانها أصل جائحة خطيرة بشكل كبير).
من الواضح أن عملية التسليع هذه لها تأثير مباشر على سيرورة إنتاج أوبئة جديدة ذات المنشأ الحيواني. أولاً، لأجل صيد الحيوانات الموجهة للبيع، يصبح من الضروري التوغل في مناطق يصعب الوصول إليها، مما يزيد من خطر تعرض الكسابة للأنواع الحيوانية التي تحمل فيروسات مختلفة، مثل الخفافيش. ثانياً، لأنه ينطوي على تسويق أنواع حيوانية حاملة لفيروسات لا يتوفر المستهلكون على نظام مناعة يمكنه أن يعطي استجابة فعالة بحيث أنه لم يواجهها من قبل. لذلك يمكننا أن نرى أن التعارض الثنائي بين المساحات الحضرية والمساحات “البرية” لا يثبت: فالرأسمالية تخضع الثانية بالكامل للأولى من أجل دمج “الموارد الطبيعية” المختلفة الموجودة هناك، والتي تم تسليعها سابقا، في سلاسل القيمة.
ووهان ليست مجرد سوق: المضاربة العقارية والتجارية
يتفاقم هذا التوسع المكاني للرأسمالية – من المراكز الحضرية إلى المساحات البرية المفترضة – بسبب المضاربة العقارية (التي تميل إلى قضم، وفقًا لمنطق سبق ذكره عند الحديث عن فيروس إيبولا، النظم البيئية حيث الأنواع الحيوانية مثل الخفافيش) والزراعة الصناعية الرأسمالية.
قبل أن تشتهر ووهان بسوقها الرطبة، كانت “عاصمة البناء” في الصين . كانت هذه المدينة بالفعل في قلب التسارع الوحشي للتوسع الحضري الصيني، خاصة بعد أزمة عام 2008 والإدخال الهائل لرأس المال الأجنبي للمضاربة في سوق الإسكان الصيني. وفقًا لتقديرات مدونة Chuang ، في 2018-2019 ، كانت المساحة الإجمالية المخصصة لمواقع البناء في المدينة تعادل حجم جزيرة هونغ كونغ ككل! .
وقد أدى ذلك إلى دفع البنية التحتية للأعمال الزراعية إلى الضواحي البعيدة، وبالتالي، تم نزع ملكية مزارع الفلاحين الصغيرة التي كانت آنذاك في هذه الأراضي. لذلك لم يكن لدى هؤلاء الفلاحين خيار آخر سوى الانتقال إلى الضواحي الحضرية أو التعمق في مناطق الغابات، وبالتالي تعريض أنفسهم أكثر لأنواع الحيوانات الملوثة. أكثر من ذلك، وفي ارتباط مع استهلاك الأنواع البرية المذكورة أعلاه، فإن هؤلاء الفلاحين، الذين حرموا من أماكن إنتاجهم، ليس لديهم خيار للبقاء على قيد الحياة، غير صيد الحيوانات البرية لبيعها في الأسواق العالمية، أو لاستهلاكهم الخاص. وهذا ما يفسر أن استهلاك البنغولين يتم في نفس الوقت من قبل الطبقات الوسطى الحضرية الغنية ومن الفلاحين الأفقر . لذا فإن هذا النظام الغذائي، المعروض هنا وهناك على أنه صيني نموذجي، هو في الواقع نتيجة تسليع من جهة ونزع ملكية من جهة أخرى – باختصار، نتيجة الاستغلال الرأسمالي.
الوباء مسألة بيئية
باختصار، نظرًا لارتباطه بإزالة الغابات على نطاق واسع والاستغلال الرأسمالي للتربة، يجب ربط خطر الجوائح بالسؤال البيئي : هذا هو أحد الدروس المهمة في “عصر انتشار الدمار، الناجم عن التراكم اللانهائي، إلى أعلى، داخل النظام المناخي العالمي، وإلى أسفل، نحو الركائز المكروبيولوجية للحياة على الأرض” . ودون السقوط في الخطاب المرتبط بمنظورات نهاية العالم المروعة والسهلة، يجب أن نفهم أن الخطر هائل. مع انتشار أساليب الزراعة المكثفة، قد تتكاثر الأوبئة. وبغض النظر عن العلاقة التي تناولتها هذه المقالة بين العالم “البري” المفترض والبشر، فإن إنتاج الفيروسات مرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالنظام الصناعي الزراعي نفسه. إن التربية الأحادية المكثفة للحيوانات يضعف جدران الحماية المناعية التي تساهم في تباطؤ انتشار الجوائح . هذا النمط من الإنتاج الحيواني مسؤول بشكل مباشر عن أنواع مختلفة من أنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور التي انتشرت على مدى السنوات العشرين الماضية. لقد لاحظ عالم الأحياء روبرت والاس، في حالة إنفلونزا الطيور (سلالة الإنفلونزا H5N1) أنه لم يتم العثور على سلالة شديدة الإمراض في مجموعات الطيور البرية، فقد تكونت الجائحة على الأرجح في أوساط الحيوانات المجمعة في الضيعات الصناعية . من السهل أن نفهم أنه عندما يكون للفيروس العديد من العوائل المختلطة من نفس النوع، فمن المرجح أن يكون معدل انتقاله أعلى بكثير. لذلك تُظهر ممارسات الزراعة الصناعية أن الرأسماليين، الباحثين عن أرباح أكبر فأكبر، لا يأخذون في الاعتبار المخاطر الوبائية المرتبطة بممارستهم. في أسوأ الأحوال – ويظهر لنا الوباء الحالي ذلك – ستتم الاستعانة بمصادر خارجية لتحمل تكاليف الوباء (ستدفع الدول ثمنها دون مطالبة الرأسماليين بأي حساب، والسياسة المطبقة في فرنسا هي مثال صارخ). تستجيب الأزمات الصحية لنفس منطق الأزمات الاقتصادية: خصخصة الأرباح وتشريك الخسائر. ثم نجد أنفسنا في وضع نميل إلى وصفه بالعبثي إذا لم يكن دراميًا: نظام رأسمالي مسؤول بشكل غير مباشر عن جائحة لا يستطيع إدارتها بسبب الانتكاسات الاجتماعية التي فرضتها علينا البرجوازية (خفض ميزانيات الصحة، ونقص في تمويل البرامج البحثية، إلخ).
من المؤكد أن الرأسماليين، الذين يسارعون دائمًا إلى النأي بأنفسهم عن الكوارث التي يتسببونها، سيجادلون بأن الأمراض الحيوانية المنشأ كانت موجودة دائمًا – وهذا صحيح . ومع ذلك، فإن ديناميات تطور هذا النوع من الأمراض مخيفة. لقد سبق أن ذكرنا الزيادة الكبيرة في الأمراض المعدية في مقدمة المقال، يجب أن نزيد على ذلك ملاحظة أن تلك القادمة من أصل حيواني تزداد أكثر فأكثر . يمكننا دائمًا استحضار البعد “الطبيعي” لهذه الفيروسات التي تصيب البشر دون أن يتمكن هؤلاء من مواجهتها. يتم نسيان ذلك، كما جادل إنجلز منذ قرن ونصف، قائلا إنه “إذا تم اعتبار أن الطبيعة، حصرا، هي التي تؤثر على الإنسان […]، فإن الفهم “الطبيعي” للتاريخ […] هو فهم أحادي الجانب ويغفل أن الإنسان يؤثر أيضًا على الطبيعة، ويغيرها، فتنتج عن ذلك شروط وجود جديدة” .
يجب أن نكافح ضد هذا “الفهم الطبيعي” للفيروسات: ترتبط الأوبئة ارتباطًا مباشرًا بتراكم رأس المال الذي يخلخل الأنظمة البيئية من أجل مراكمة المزيد من الثروة. إن الأوبئة، مثلها مثل إفقار التربة أو الاحتباس الحراري، هي مجرد تعبير آخر عن العداء الموجود بين الرأسمالية والبيئة. يجب ربط ذلك بما أطلق عليه ماركس “قطيعة التمثيل الغذائي” : نمط إنتاج غير مستدام ينطوي على تناقض بين النمو وإعادة الإنتاج ويعرض استمرار الحيوات للخطر.
اشتراكية أو همجية: فلنضغط على مكابح الطوارئ!
إن النضال البيئي والنضال ضد الأوبئة مرتبطان بعلاقة لا تنفصم، وكلاهما يستلزمان النضال ضد الرأسمالية. إن عكس هذا النمط من الإنتاج سيسمح بإدارة أفضل للموارد بفضل إعادة توطين الإنتاج الذي يتم تقييمه كنافع ووضع وسائل الإنتاج تحت رقابة العمال. سيمكن ذلك الحيوانات الموجهة للاستهلاك بالتكاثر طبيعيا وبالتالي سينقلون الحصانات المتطورة إلى المستهلكين. سيؤدي هذا إلى القطع مع الزراعة الصناعية الأحادية وبالتالي تفادي الأخطار التي تشكلها من وجهة نظر وبائية. وأخيرًا، سيؤدي ذلك إلى إزالة التعارض بين المدينة والريف بفضل توزيع أفضل للسكان (الذين لن تعود تدفقات رأس المال هي من تحدد وجهات تحركهم) وبفضل مراعاة أحسن للحدود البيولوجية لبيئتنا (عودة العناصر الغذائية المستهلكة إلى التربة التي تنتجها، والحفاظ على الحواجز الفيروسية التي تمثلها المناطق الغابوية، وما إلى ذلك). كما كتب ماركس، “إن إلغاء التعارض بين المدينة والريف ليست طوبى، الطوبى هي إلغاء العداء بين الرأسماليين والمأجورين. ”
لا يمكن لهذه التغييرات الانتظار، ويجب أن يكون الوباء الذي يسبب الكثير من القلق بمثابة تحذير. أصبحت الإطاحة بالرأسمالية، أكثر من أي وقت مضى، البديل الوحيد الموثوق به للهمجية، سواء كانت تتخذ شكل ما يسمى كارثة “طبيعية” أو دينامية سياسية ملفتة. حتى لا يكون الحجز المنزلي أسلوبنا الجديد في الحياة، حتى لا تصبح الأوبئة جزء من حياتنا اليومية، فقد حان الوقت لفرض تنظيم اجتماعي جديد قادر، من خلال الإدارة الذاتية للموارد، على استعادة التوازن الذي يهدد التراكم اللانهائي بشكل خطير. مع توالي التهديدات، مع تكاثر الأخطار، تتبادر إلى ذهننا عبارة والتر بنيامين:
” الثورات، وفقا لماركس، هي قاطرات التاريخ. لكن في بعض الأحيان تكون الأشياء مختلفة. في بعض الأحيان تكون الثورات هي الشكل الذي تقوم فيه الإنسانية، المسافرة عبر هذا القطار، بالدوس على فرامل الطوارئ. ”
الرابط الأصلي للمقال:
https://www.contretemps.eu/lecture-anticapitaliste-pandemie-covid19/
بقلم، بول سيبيلوت، 02 أبريل 2020، مجلة: contretemps، تعريب: فريق الترجمة بجريدة المناضل-ة الموقوفة
اقرأ أيضا