الاقتصاد العالمي. عندما تصاب أسواق النفط بالفيروس (قسم I)
أدت أزمة كوفيد-19 إلى سقوط هام للطلب على النفط ولسعره على الصعيد العالمي. يتناول آدم هنية في هذا المقال بالفحص ما قد يعنيه ذلك للاقتصاد العالمي. ننشر قسما أولا، سيليه ثاني وأخير.
اتخذت الأبعاد البيئية لكوفيد-19 مكانةً متزايدةَ الأهمية في العديد من النقاشات مؤخرا، مع إسهامات هامة تستكشف الجائحة في علاقة مع الصناعة الزراعية الرأسمالية، والفقد المعمم للتنوع الحيوي وتدمير الأنظمة البيئية الطبيعية. لكن، ثمة عنصر آخر في “ايكولوجية” كوفيد-19 يستحق اهتماما أكبر بكثير؛ عنينا الكيفية التي تتداخلُ بها شدةُ صعود الجائحة مع صدمة عميقة لصناعة المحروقات الأحفورية وتعملُ في الآن ذاته على تسريعها.
تتعرض أسواق النفط العالمية لتغير غير مسبوق على أثر هذه الصدمة. رغم أن المسارات بعيدة الأمد تظل مفتوحة، لا شك أن هذه اللحظة ستطبع سياسة النفط- وآفاق تلطيف تغير المناخ- في القادم من عقود.
بلغ الطلب على النفط ومشتقاته مستويات منخفضة تاريخيا بفعل “إغلاق”- بهذا النحو أو ذاك- لدول تمثل أكثر من 90% من النتاج الداخلي الإجمالي العالمي، وتجميد متزامن لأقسام عريضة من الصناعة التحويلية، والنقل، والصناعة، والتجارة على صعيد عالمي.
إذ يُقدَّر أن إنقاص استعمال السيارات بالولايات المتحدة الأمريكية قد أدى وحده إلى سقوط مدهش للطلب العالمي على النفط بنسبة 5% – ما يعادل تقريبا وقف سير السيارات في أوربا وأفريقيا والشرق الأوسط مجتمعةً. قدر فاتح بيرول، الرئيس التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة، يوم 25 مارس أن الطلب العالمي على النفط قد ينخفض بزهاء 20 مليون برميل يوميا، وقد روجع هذا التوقع حاليا ليبلغ 30 مليون برميل يوميا. إن انخفاض استهلاك الطاقة العالمي هذا غير مسبوق، عنفا وعمقا على السواء، ويتجاوز كل أزمات القرن الماضي الكبرى- حتى أزمة العام 1929 والانهيار المالي العالمي للعام 2008.
وفيما يهوي الطلبُ على الطاقة، قد يرتفع عرضُ النفط بنحو دال، مطْلعَ مارس، على أثر إعلان روسيا والمملكة العربية السعودية إلغاء الحدود المفروضة على إنتاج النفط [يُرتقب عقد لقاء “تسوية” يوم 9 أبريل/نيسان]. أدت حرب النفط هذه، المقترنة بعواقب الجائحة، إلى تدني أسعار النفط العالمية إلى أحط مستوى منذ عقود عديدة، وإلى دفع المنتجين إلى المسارعة لإيجاد أماكن تخزين نفطها براً وبحراَ [في ناقلات النفط]، بدل البيع بخسارة. وبدُنُو التخزين العالمي بسرعة من قدرته الاستيعابية التامة، يترقب بعض الفاعلين في سوق النفط دفع المقابل من المنتجين لتخليصهم من نفطهم. حَدَتْ هذه العوامل مجتمعة بالمحللين إلى توقع عدد قياسي من حالات الإفلاس بين شركات النفط في العام 2020، وهذا احتمال قد يهدد جملة مصارف ومؤسسات مالية هامة، على غرار ما شهد العام 2008.
لكن ماذا ستمثل هذه الصدمة القوية في أسواق الطاقة لمستقبل صناعة المحروقات الأحفورية وإمكانات إنهاء التبعية للنفط؟ وضع بعض المعلقين فرضيةَ أن يكون هذا كله نبأ سارا في سياق مصيبة كوفيد-19: “قد تقتل الجائحة صناعة النفط وتساعد على إنقاذ المناخ”، كما جاء في عنوان عريض بجريدة الغارديان يوم 1 أبريل، وذلك بزوال العديد من صغار منتجي النفط وضعف شركات النفط الكبرى مثل إكسون موبيل ورويال داتش شل وبريتش بتروليوم، مما يقربنا من انتقال نحو التخلي عن المحروقات الأحفورية.
بيد أن هكذا احتمالات ميّالة إلى غض الطرف عن وقائع “رأسمالية الكوارث” (جون بيلامي فوستر) المرتبطة حتما باستخراج واستغلال المحروقات الأحفورية، والتي رسخت بعمق هيمنة شركات النفط العملاقة الستة – ” Big Oil” – على كل جوانب حياتنا. وعلى غرار كل لحظات التغيير المباغت، سيكون الطريق الذي سنسلك للخروج من هذه الأزمات المتعددة والمتداخلة وقفا على مقدرتنا على بناء بدائل سياسية فعالة عن رأس المال الأحفوري. يجب أن ننتبه بالغ الانتباه إلى الرابحين والخاسرين المحتملين الذين قد يبزغون من الوضع الراهن، والاحتياط من مماثلة انهيار مؤقت (رغم خطورته) لاقتصاد قائم على النفط مع زوال النظام ذاته.
الشرق الأوسط وروسيا والنفط الأمريكي
ثمة تاريخ مديد ومعقد خلف صعود رأسمالية عالمية مركزة على النفط. يشمل هذا التاريخ: الاستعاضة عن الفحم بالنفط والغاز في مطلع القرن العشرين، وصعود منتجي النفط في الشرق الأوسط ( المملكة العربية السعودية بالمقام الأول) بعد الحرب؛ وحروب وثورات عديدة، وتقلبات عديدة في أسعار النفط العالمية في سنوات 1970 و 1980، وتغيرات كبيرة في بنية صناعة النفط العالمية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التاريخ مرتبط أيضا بكيفية تطور المالية العالمية بعد الحرب؛ الأمر الذي غالبا ما تغفله الحسابات المركِّزة أكثر على النفط بما هو منتوج مادي. كانت تدفقات “البترودولار” أساسية في بزوغ أسواق مالية جديدة (مثل الأسواق الأوربية) بدءا من سنوات 1960، وصعود الهيمنة المالية الانجليزية-الأمريكية وبنْية التبعية للديون التي تستمر في طبع العلاقات بين بلدان الشمال والجنوب. باختصار، بلغ النفط مستوى التأثير على كل جوانب الرأسمالية العالمية في متم القرن العشرين.
بدءا من مطلع سنوات 2000، ارتفعت أسعار النفط العالمية بانتظام استجابة لتنامي الطلب العالمي المرتبط بازدهار الصين. وتدنَّت الأسعار بقوة في العام 2008 مع الأزمة الاقتصادية العالمية، لكنها سرعان ما استعادت مسارها الصاعد لتبلغ في الأخير ذروة 114 دولار للبرميل في منتصف العام 2014. كان ذلك نعمة مالية على معظم مصدري النفط بالشرق الأوسط (وكان ذا عواقب كبيرة على الدينامية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط بمعناه الواسع- انظر كتاب آدم هنية Money, Markets and Monarchies, Cambridge University Press, 2018)، لكن حقبة ارتفاع الأسعار المديدة أفادت أيضا المنتجين الهامشيين في سائر العالم. وأهم من ذلك أن الاستثمارات في تطوير عمليات التزود بالنفط والغاز المسماة”غير تقليدية” (الغاز الصخري أو الحجر الرملي) – وهي احتياطات صعبة الاستخراج وبالغة الكلفة قياسا بالمحروقات الأحفورية التقليدية- شهدت تشجيعا قويا في فترة ارتفاع أسعار النفط المديدة تلك.
ويكتسي النفط الصخري الأمريكي، وهو نفط خام محبوس في صخور أو أحجار رملية ضعيفة النفوذية، والمستخرج بوجه عام بتقنية تكسير الصخر بسائل مضغوط (ومن ثمة تعبير التكسير الهيدروليكي)، أهمية خاصة بهذا الصدد. ثمة كيفيات عديدة لحساب كلفة مردودية إنتاج النفط الصخري، ويتباين هذا الرقم بحسب حقل النفط وتكاليف التكنولوجيا واليد العاملة والرسوم، الخ.
يجب تأويل هذه المقارنات بحذر، لأن المملكة العربية السعودية وروسيا دولتان وليستا شركتين، وتتوقفان بشدة على عائدات النفط والغاز لتلبية حاجاتهما المالية. عندئذ يكون “سعر التوازن” الخاص بالنفط لهذه الدول أكبر، ويتقلب حسب مستويات النفقات الحكومية. بيد أنه لا ريب أن أسعار النفط المرتفعة خلال القسم الأعظم من عقدي الألفية الجديدة الأخيرين أسهمت في جذب استثمارات هامة في تطوير حقول الصخور النفطية وأدت إلى تحسن مهم في تكنولوجيا الاستخراج الخاصة بهذا التزود غير التقليدي.
يتعلق الأمر طبعا بكارثة بيئية واجتماعية غير مسبوقة. تقوم أساسا على الانتشار المتكرر للعنف المدعوم من الدولة على السكان الأهالي بالولايات المتحدة الأمريكية (وكندا) بقصد إخلاء المكان للأنابيب وبنيات تحتية أخرى. لكن النتيجة كانت ازدهارا مذهلا لإنتاج النفط الداخلي الأمريكي. فقد تضاعف إنتاج النفط الصخري الأمريكي ثلاثاً بين العامين 2009 و2014، دافعا الولايات المتحدة إلى مقدمة منتجي النفط عالميا. ومن اللافت للنظر أن الولايات المتحدة باتت مُصدِّرا صافيا للنفط في مطلع العام 2011. وقد تجاوزت المملكة العربية السعودية لتغدو أولَ منتج عالمي في العام 2013؛ وهي مكانة صانتها حتى اليوم. وهذا بعيد عن التوقعات المتخوفة من “التبعية الطاقية” التي طبعت النقاشات السياسية الأمريكية في مستهل الألفية الجديدة.
أوبيك+ وحرب أسعار النفط في 2020
بيد إن الارتفاع البالغ لمخزون النفط العالمي المترتب عن هذا الإنتاج الأمريكي الإضافي- موازيا لاعتدال الطلب الصيني على الطاقة، ولاقتصاد عالمي معطوب، وللتطور نحو استعمال أكبر لموارد الطاقة المتجددة- وضع حدا عنيفا لحقبة ارتفاع أسعار النفط العالمية في منتصف العام 2014. فقد سقط سعر البرنت بنسبة 70% حتى العام 2015، كي يبلغ أخيرا دَركَ 30 دولار تقريبا للبرميل في مطلع العام 2016. وهذا أشد انخفاض لأسعار النفط في ثلاثة عقود. وشهدت الولايات المتحدة الأمريكية أول انخفاض لإنتاجها السنوي من النفط منذ العام 2008، وأفلست العديد من المقاولات الصغيرة ذات مفعول الرافعة القوي (الاستدانة). أما بشأن العام 2015، فقد قدّرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) أن مختلف خسائر أهم منتجي النفط براًّ المصنفين في البورصة وصلت مبلغ 67 مليار دولار المذهل.
لم يكن المنتجون الأمريكيون متضررا وحيدا من انهيار الأسعار من 2014 إلى 2016. فقد واجه كل كبار مصدري النفط عجزا في الموازنة متناميا ونزيفا في احتياطات العملة الصعبة، منهم المملكة العربية السعودية التي استنفذت أكثر من ثلث احتياطاتها بين ذروة سعر النفط في العام 2014 ومتم العام 2016. وبوجه الضغوط المتنامية هذه على الموازنة، اتخذ اثنان من كبار مصدري النفط، روسيا والمملكة العربية السعودية، تدابير لتعزيز أسعار النفط العالمية بجملة تخفيضات منسقة للإنتاج. وقد تم تقعيد هذا التحالف الفعلي في معاهدة ثنائية، سميت أوبيك+، بين منظمة البلدان المصدرة للنفط و11 بلدا خارجها في ديسمبر 2016. ونجحت أوبيك+، إلى غاية حلها في مطلع مارس من هذا العام 2020، في إبقاء سعر النفط متراوحا بين 50 و80 دولارا.
أما شركات النفط الأمريكية، التي لم تكن ملزمة بتلك الاتفاقات الدولية- فقد بدت لها اوبيك + عرضية للغاية. شهد سياق سقوط الأسعار في 2015، موجة من عمليات تجميع الشركات والإفلاس في صناعة النفط الأمريكية، وأفاد تثبيت أسعار النفط المرتفعة نسبيا في استئناف الاستكشاف والإنتاج النفطي الوطني. ففي يناير 2020، بلغ إنتاج النفط اليومي بالولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 12.7 مليون برميل، أي بزيادة زهاء 45%عن إنتاج ديسمبر 2016، مقابل أقل من 5 مليون برميل يوميا في العام 2008. تُبرز هذه الأرقام بجلاء أنه بينما سعى معظم كبريات البلدان منتجة النفط إلى الحد من مستويات الإنتاج طبقا لاوبيك +، كانت الشركات الأمريكية حرة في رفع مستويات إنتاجها بلا أي عرقلة. وكما أشار كيث جونسون Keith Johnson في فرويت بوليسي Foreign Policy يوم 27 مارس: “ما من بلد أضاف نفطا على الوفرة العالمية الزائدة في السنوات الأخيرة غير الولايات المتحدة الأمريكية- ورغم السقوط الحديث لأسعار الخام، يواصل المنتجون الأمريكيون زيادة إنتاجهم”.
بيد أن تحالف أوبيك+ انحل في 6 مارس من هذا العام بنحو مذهل بعد رفض روسيا نداء اوبيك لخفض إضافي لإنتاج النفط العالمي اليومي بكمية 1.5 مليون برميل. لم ترفض روسيا طلب أوبيك وحسب، بل أعلنت أيضا أنها لن تلتزم بعدُ بالاتفاق الأصلي لديسمبر 2016. وسرعان ما تلا هذا القرار هجومُ المملكة العربية السعودية المضادُ يوم 8 مارس. تمثل في إعلان مدوّ مفاده أن المملكة السعودية لم تعد ملزمة بحدود الإنتاج المتفاوض عليها، وأنها ستسعى إلى رفع إنتاجها من النفط إلى 12.3 مليون برميل يوميا في ابريل(مقابل9.7 مليون برميل يوميا في مارس)، ثم سترفع مقدرتها الإنتاجية من جديد إلى 13 مليون برميل يوميا فور إمكان ذلك. ومع أفق وشوك تزويد إضافي لأسواق النفط العالمية بملايين البراميل يوميا، سقط سعر المرجع الدولي الرئيس للنفط، مزيج برنت، بنسبة تفوق 30% في ظرف 48 ساعة. كما هوت أسواق البورصة العالمية، حيث فقد مؤشر دون جونس للقيم الصناعية 2000 نقطة يوم 9 مارس، ما يمثل أكبر خسارة يومية جرى تسجيلها على الإطلاق.
يظل دافع روسيا والمملكة العربية السعودية الدقيق إلى الانسحاب من اوبيك+ غير أكيد. ويرى بعض الملاحظين أن روسيا قد تكون سعت إلى ممارسة عقوبات ردا على العقوبات الأمريكية المفروضة في فبراير على روسنفط Rosneft أكبر شركة بترول روسية. ويعتقد آخرون أنه يجب فهم قرار روسيا في سياق سياستها الداخلية الخاصة، حيث يسعى بوتين إلى إنماء دعم النخب الروسية وثيقة الارتباط بصناعة النفط والتي تعترض منذ مدة طويلة على اوبيك+. ويصف محللون آخرون ما أقدمت عليه روسيا والمملكة العربية السعودية بأنه “مهارة ساطعة في نظرية الألعاب”، وأن البلدين قاما باستباق تام قبل إعلانات مارس.
إن المبرر الاستراتيجي على الأمد الأبعد وراء قرار روسيا والمملكة العربية السعودية واضح بصرف النظر عن العوامل الظرفية. فخلال سنوات عديدة، عاين البَـلَدان مواصلة ظفر المنتجين الأمريكيين بحصص من الأسواق على حسابهما، بلا عرقلة من أي تحديد لكمية الإنتاج. وبفعل التهديد بإغراق العالم بمزيد من النفط ( وهنا يتخذ ما تقوم به المملكة العربية السعودية أهمية حاسمة بوجه خاص، بسبب قدرتها الفريدة على رفع سريع لمقدرتها الإنتاجية)، سينخفض سعره بكيفية دالة. ستتحمل روسيا والمملكة العربية السعودية وجع ضعف أسعار النفط خلال سنوات عديدة، وفي غضون ذلك، سيكون المنتجون الأمريكيون مرتفعو التكاليف قد حُشروا في الزاوية.
بقلم آدم هنية، ترجمة: فريق الترجمة بجريدة المناضل-ة الموقوفة
اقرأ أيضا