«روتيني اليومي»: إعلان تحرر إماء المنزل، أم إعادة إنتاج نفس الأدوار الاجتماعية والثقافية المفروضة على النساء
أثارت فيديوهات يوتوب تحت عنوان «روتيني اليومي» رد فعل عنيف ضم أصواتا رجعية، ولكن في نفس الوقت طيفا من التقدميين الذين اعتبروا ذلك مشوِّها لصورة المرأة وهاجموا تفاهة مضمون الفيديوهات.
حُبِسَتْ المرأة لقرون في سجن البيت وحُكِمَ عليها بالمؤبد مع الأعمال الشاقة، وعملت الثقافة السائدة على تصوير المنزل مملكة المرأة الصغيرة، وجرى ترسيخ فكرة أن الدور الطبيعي للمرأة هو الطبخ ورعاية الأولاد.
تراجعت هذه الأدوار- التي طالما اعتُبرت طبيعية/بيولوجية، إثر تعلُم المرأة وخروجها للعمل. ورغم ذلك لا زال جزء مهم من العمل المنزلي واقعا على عاتق النساء، خصوصا الكادحات. أما نساء الطبقات الغنية فلأسرهن إمكانية الاعتماد على الآلات الحديثة أو الاستعانة بخادمات ينلن نصيب الغنيات من شقاء العمل البيتي.
ماذا كان أصحاب الهجمات إذن ينتظرون من نساء حُبسن لقرون في عمل مبلد للدماغ ومحطم للأعصاب؟ هل كانوا يترقبون أن يناقش أولئك النساء نظريات التنوير ويقدمن دروسا في علم الحساب أو حلقات فلسفة؟
ليس الذنب ذنبهن، فلم يقمن إلا بالافتخار علنا، بما كان المجتمع الذكوري يعتبره وظيفتهن الطبيعية، لم يقمن إلا بإقحام يوميات «مملكتهن الصغيرة» في المجال العام لوسائط التواصل الالكتروني. لذلك من الطبيعي جدا أن تتباهى أولئك النساء بإتقان كل فنون الطبخ وشتى صنوف التنظيف وتصميم المنزل.
أما بالنسبة لانتقاد لباس أولئك النساء، فذاك لباس المطبخ. ولا أظن أحدا من أولئك المنتقدين سيتصور امرأة منشغلة في المطبخ لابسة الملحاف أو التشادور. ثم إن أولئك النساء لم يفتخرن مرة أخرى إلا بما هو شائع: «رأس مال المرأة هو جسدها»، وتقوم شركات إشهار الملابس وعرض الأزياء وكذلك جميع أنواع الإعلانات الدعائية باستعمال جسد المرأة رمزا للدعاية وإثارة المستهلك. فهل ما تقوم به هذه الشركات حلال، بينما هو حرام حين تقوم به امرأة في المطبخ.
عكست تلك الفيديوهات كذلك التفاوتات الطبقية والتراتبية الاجتماعية التي تخترق صفوف النساء. فهناك من يصورن «روتينهن اليومي» في تجميل وجوههن وانتظار من يُقِلُّهُنَّ بأفخر السيارات إلى صالات تربية الأجسام… بينما روتين الكادحات اليومي كله شقاء وانتظار عودة الزوج المشقوق اليدين من عمل يهد الجسد.
وتُظهر تلك الفيديوهات أنواع التباهي الاجتماعي والتنافس على عرض الممتلكات (ليس الجسدية فقط) ولكن أيضا استعراض التجهيزات للتدليل على البحبوحة المعاشة داخل «سجن النساء». وهذا انعكاس لثقافة المجتمع البرجوازي: تزيد قيمة الشخص بعدد الأشياء التي يراكمها، بينما لا يملك أي قيمة ذاتية، فكرية كانت أو معنوية. وليس هذا إلا أحد أوجه الاستلاب الذي يعانيه الإنسان في مجتمع الملكية الخاصة والسعي وراء مراكمة الأرباح.
التهجم على نساء «روتيني اليومي» ودعوتهن إلى التوقف عن نشر فيديواتهن لن يعالج شيئا من المعضلات التي فجرنها، بل فقط سيعيد إغلاق تلك الثغرة التي فتحنها وقام المجتمع بإطلالة على يومياتهن في تلك السجون العتيقة، وكل هذا عملا بالقول المأثور «إذا ابتليتم فاستتروا».
فقط رفع المستوى الفكري للنساء هو ما سيجعلهن ينعتقن من وباء التنافس على عرض فنون الشقاء المنزلي وفي نفس الوقت التدافع لعرض مقتنياتهن. ولن يتأتى هذا السمو الفكري ما دامت المرأة تقضي نصف يومها (نصف عمرها في نهاية المطاف) غارقة في مياه العمل المنزلي الآسنة وتربية الأطفال.
بداية الطريق هو في تحرير المرأة من ذاك القفص الذي نُعت بالـ»الذهبي»، وأولى الخطوات الاعتراف بالطابع الاجتماعي والمنتج للعمل المنزلي، ما يستدعي احتسابه في الناتج الداخلي الخام وبالتالي ضرورة تمتيعهن بأجر وبساعات عمل ملائمة: العمل المنزلي لا يستفيد منه، في نهاية التحليل، إلا الرأسماليون الذين يلقون بنفقات تجديد قوة العمل على كاهل النساء.
الاعتراف بالطابع الاجتماعي للعمل المنزلي يفرض على المجتمع تولي جزء من تلك الوظائف التي أرغمت المرأة على تقلدها على مر أزمان المجتمع الطبقي. وسيتأتى هذا بتوفير مغاسل ومطاعم ومحاضن جماعية تقيمها الدولة وتمول من الضرائب التصاعدية على الثروة.
هكذا فقط سيتوفر للمرأة وقت فراغ إضافي ستوجهه إلى أنشطة تفتح دماغها على حقول المعرفة الإنسانية وكل أشكال التثقيف والترفيه. آنذاك سيكون الروتين اليومي للنساء- وللرجال كذلك- مختلفا كليا عن رتابة الشقاء في المطبخ وفي العمل.
آنذاك ستفتح الفرصة أمام ملايين النساء كي يصلن المستوى الفكري لسيمون ديبوفوار وحنة إرنت وفاطمة المرنيسي.
بقلم، شيماء النجار
اقرأ أيضا