طبيعة العدل والإحسان الطبقية والسياسية على ضوء تقريرها السياسي الأخير
صدر تقرير سياسي عن الدائرة القطرية للدائرة السياسية للعدل والإحسان المنعقدة بتاريخ 19 و20 أكتوبر 2019. يُعَدُّ التقرير مناسبة للوقوف على الطبيعة السياسية والطبقية لجماعة سياسية تعلن معارضةَ النظامِ من منظور طبقي مغاير لمصالح الطبقة العاملة التاريخية.
قوة سياسية برجوازية
تعبر جماعات الإسلام السياسي عن مصالح “الطبقات الوسطى” التي يطحنها المجتمع البرجوازي: صغار المالكين الذين تسحقهم المنافسة والتضخم والديون والمثقفين التقليديين المقصيين عن دائرة تدبير هياكل “الدولة الحديثة”.
تسعى أقسام الطبقة المالكة هذه إلى تحسين وضعها داخل المجتمع الرأسمالي، وتخشى حركاتَ النضالِ القادمة من أسفل، خاصة الحركة العمالية، التي تهدد المجتمع القائم على الملكية الخاصة. كما تسعى أكثرها جذرية إلى الاستيلاء على جهاز الدولة البرجوازي، ليس لتحطيمه واستبداله بجهاز مغاير طبقيا قائم على “السيادة الشعبية” ولكن لاستعماله من أجل الاستجابة لطموحات الترقي الطبقي لصغار المالكين، وهو ما عبر عنه تقرير الدائرة السياسية بلغتها المعتادة “إقرار العدل في الدولة والمجتمع”، نفس الدولة البرجوازية وذات المجتمع الرأسمالي.
لذلك تسعى هذه الجماعات إلى تجنب الثورات وحصرها في حدود تغيير سياسي في حالة حدوثها مع تسريع إعادة الجماهير إلى حظيرة الطاعة الطبقية. وهو ما ركز عليه تقرير الدائرة السياسية عن حديثه المتكرر عن “انتقال سياسي” و” عبور المرحلة الانتقالية نحو الاستقرار بأمان”.
فقهاء ناصحون للسلطان
تُظْهِرُ انتقادات العدل والإحسان الموجهة إلى الاستبداد طبيعة هذه الجماعة. تستعمل الجماعة- شأنها شأن بقية أحزاب البرجوازية المعارضة بالمغرب مثل فيدرالية اليسار- الاحتجاج الشعبي لتنبيه الاستبداد إلى مغبة “تغوله” و”إغلاقه للحقل السياسي” وإلى خطورة “إفقاد الوسطاء السياسيين مصداقيتهم”. لذلك تنذر السلطان بأنه سيجد نفسه “مباشرة، دون واقيات، أمام فوهة المطالب الشعبية”. وهي دعوة مباشرة للاستبداد، أو على الأقل العقلاء والحكماء داخل الدولة، لتدارك الأمر قبل أن تجد نفسها أمام “فوهة المطالب الشعبية”.
كما أن التركيز على سمات الاستبداد وتحميلها مسؤولية شرور المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، تبرئة مباشرة للمجتمع الطبقي الرأسمالي، فالبنسبة للجماعة “الطغيان يصنع الحرمان” أي أن التفاوت الاجتماعي ناتج عن الاستبداد، وليس العكس، أي أن الاستبداد يرعى ويحافظ على تفاوت اجتماعي يجد جذوره في بنية المجتمع الطبقية.
معارضة تقف مع الاستبداد على نفس الأرضية الطبقية
أعاد تقرير الدائرة السياسية نفس الانتقادات التي وجهها النظام لـ”النموذج التنموي”، مكررة نفس ما تكرره بقية أحزاب المعارضة الليبرالية من أن جذر المشكل يتمثل في غياب إصلاحات سياسية، غاضة الطرف عن الجذور الطبقية لانحباس التنمية: برجوازية تفضل الاستثمار في قطاعات سريعة الربح، التبعية للإمبريالية، السياسة النيوليبرالية الموصى بها من المؤسسات المالية الدولية.
لذلك لا يتعدى ما تقترحه الجماعة إصلاحات “اقتصادية ومالية الضرورية لإقلاع تنموي يولد الثروة ويوزعها بشكل عادل”. لا حديث عن الامتناع عن سداد الديون [رغم انتقادها في التقرير]، ولا عن التراجع عن برامج خوصصة القطاع العمومي، ولا استرجاع الأموال المنهوبة ومعاقبة المتورطين، ولا ضريبة تصاعدية على الثروة المنقولة وتلك المكونة من أصول ثابتة [رغم الحديث عن سياسة جبائية عادلة].
نقل تظلمات أقسام برجوازية متضررة
تناول التقرير انتقادات تعبر عن استياء أقسام من الطبقة البرجوازية المحرومة من فرص الاغتناء الاقتصادي الذي تحتكره الملكية وبطانتها: “احتكار شديد للثروة في يد العائلات النافذة التي استفادت أساسا من الريع والتوزيع غير العادل للأراضي والثروات والامتيازات”. وهي انتقادات تشكل جوهر الخط السياسي لأحزاب برجوازية معارضة أخرى [فيدرالية اليسار الديمقراطي].
وحيث تحدث التقرير عن أوضاع الطبقة العاملة، فقد حول السهام عن المجتمع الرأسمالي، مقتصرا على انتقادات أخلاقية مركزا على ما أسماه “سياسات فاشلة ورأسمال جشع ومحاسبة غائبة”… إن سياسة الدولة قائمة على تطويع الطبقة العاملة كي يعتصر منها الرأسمال أكبر قدر من فائض القيمة، ولا وجود لرأسمال “غير جشع”، كل الرأسماليون متعطشون لرفع معدل ربحهم، وأكثرهم طيبوبة تدفعه سياط المنافسة إلى تشديد استغلال عماله.
استعمال قتالية الجماهير
تخشى أحزاب المعارضة البرجوازية الهبات الجماهيرية، ولكنها تسعى لاستعمالها كقوة ضغط محسوب لانتزاع تنازلات من الاستبداد. لذلك فهي تقوم بتوجيه قتالية الجماهير بشعارات سياسية لا علاقة لها بما انتفضت الجماهير من أجله. وهو ما ورد حرفيا في تقرير الدائرة السياسية، حين اعتبرت احتجاجات السنة الفارطة “ردا شعبيا عمليا على قتل السياسة والتضييق على الحريات لصالح التخريب وتجريف المشهد السياسي أمام خدام الاستبداد”.
لم يخرج كادحو الريف وجرادة ضد تجريف “المشهد السياسي ولا ضد قتل السياسة”، بل ضد سياسة غير اجتماعية حكمت عليهم بالبؤس والفقر وعلى مناطقهم بالتهميش، ولم تخرج شغيلة التعاقد المفروض ولا طلبة الطب ضد “تغول السلطة”، بل ضد هجوم ليبرالي لتفكيك نظام الوظيفة العمومية لتعميم الهشاشة.
تستفيد أحزاب المعارضة البرجوازية من غياب معبر سياسي مستقل عن الطبقة العاملة، لتصرف نضالات الكادحين في قنوات شعاراتها السياسية الخاصة بالطبقة البرجوازية. وحين يمتلك العمال حزبهم فلن يقوموا ضد “الإقصاء السياسي” ولا ضد “إغلاق المشهد السياسي”، بل لإقامة حكم ديمقراطي يقررون هم شكله وطبيعته، وليس عقد مساومة مع استبداد موروث عن الماضي الاستعماري وما قبله.
حرص كبير على الاستقرار السياسي
ينضح التقرير بصيغ تظهر تناغم الجماعة مع خطاب الاستبداد الحريص على الاستقرار السياسي. حرص عليه مما يحبل به المجتمع من تناقضات قد تنفجر في أي لحظة، وهو ما أطلق عليه تقرير الجماعة “سير الوطن نحو المجهول” الذي يجب تفاديه. ويحدد التقرير مهام الجماعة “في مثل هذه الأوضاع المتأزمة” في أن “النخب والفاعلين السياسيين والاجتماعيين” عليهم “تحمل مسؤولية المحافظة على استقرار البلاد”.
لذلك تدعو الجماعة إلى بناء “ائتلاف سياسي جاد” ينقذ “سفينة الوطن” لتفادي “انفجار غير محسوب التوقيت ولا متوقع النتائج”. إنه رجيع أول رسالة وجهها مؤسس الجماعة آنذاك إلى الحسن الثاني: “الإسلام أو الطوفان” وإن ترجمناها إلى اللغة السياسية لأحزاب المعارضة البرجوازية لكانت ما صرح به محمد الساسي [عن فيدرالية اليسار]: “الانفراج أو الإنفجار”.
إن الاستقرار الذي تتحدث عنه أحزاب المعارضة البرجوازية، هو استقرار المجتمع الرأسمالي القائم على استغلال الطبقة العاملة وصغار المنتجين. استقرار يضمن استمرار هذا الاستغلال مع تفادي ما يؤجج النضالات العمالية والشعبية، وتنفيس “الاحتقان” السياسي والاجتماعي بإصلاحات سياسية [العدل] وفتات تنازلات اجتماعية [الإحسان]..
انتظارية سياسية
يدفع الحرص على الاستقرار السياسي وتفادي أي مناوشات سياسية أو اجتماعية قد تهدد بالانفجار، إلى دخول الجماعة في انتظارية سياسية تبررها بأن الاستبداد إلى زوال، ولا داع لدفعه إلى ذلك.
هذا هو مضمون كلمة الدكتور متوكل في المؤتمر القطري للدائرة السياسية 23، بعنوان “الاستبداد لا مستقبل له ومستمسكون بمبادئنا ما بقينا”، قائلا أن الاستبداد سيراكم “الأخطاء تلو الأخطاء، والخطيئات تلو الخطيئات إلى أن يقع تحتها. تلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا”. وما دامت تلك سنة الله- كما ورد في تقرير الدائرة السياسية أيضا- فلا داعي لاستعجالها بثورات قد تدمر أقدس أقداس المجتمع الرأسمالي: الملكية الخاصة.
يجد هذا الاستنكاف السياسي جذوره في خشية الجماعة التصادم مع جهاز دولة “متغول”، لذلك بدل التضحية بـ”أقوى تنظيم سياسي” يفضل تحاشي المواجهة، بما فيها الاستنكاف عن التدخل النشيط في حراكات اجتماعية هزت البلد مثل: حراك الريف وجرادة.
إنها سمة تاريخية لأحزاب المعارضة البرجوازية: مشاهدة تضحيات الجماهير من النوافذ وانتظار انتهائها لتقاسم ثمرة السلطة مع الاستبداد، الذي يجري تنبيهه، من طرف هذه الأحزاب ذاتها، إلى مكامن ضعف سياسته قبل اندلاع الثورات والاحتجاجات.
معاداة رجعية للإمبريالية، مع استعداد دائم للمساومة
يتحدث التقرير عن قوى “الاستكبار العالمي” وهو مفهوم أخلاقي يخفي علاقات التبعية الإمبريالية التي تحكم على بلدان الجنوب بالفقر المستديم. كما تحدث عن “انحياز أمريكي” في القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل، وكأن الأمر “انحياز” وليس سياسة قائمة الذات مبنية على مصالح جيوسياسية واقتصادية إمبريالية، وكأن بالإمكان سياسة أخرى “منحازة” لصالح الفلسطينيين.
إن استعداد الجماعة للمساومة مع الإمبريالية يظهر في مديحها المفرط لحكم الإخوان المسلمين في مصر، دون الإشارة إلى مساوماتهم مع الإمبريالية: الحفاظ على سياسات البنك العالمي والاعتماد على سياسة اقتراض خارجي كثيفة [وهو ما انتقده التقرير فيما يخص المغرب]، اعتبار محمد مرسي نتنياهو صديقا للشعب المصري، اندراج نجاح الإخوان الانتخابي فيما أطلق عليه أوباما انتقالا سياسيا يحافظ على سلامة جهاز الدولة المصري، إعلان مرسي الجهاد في سوريا يومين بعد إعلان أمريكا استعدادها تسليح المعارضة السورية.
من أجل مواجهة سياسية لجماعات الإسلام السياسي
جماعات الإسلام السياسي- وضمنها العدل والإحسان- عدو طبقي للحركة العمالية، وأكبر تهديد قد يواجه الحراك الشعبي بالمغرب حين تظهر قوة سياسية طبقية مستقلة.
عكس المعارضة الليبرالية [فيدرالية اليسار] لن يتخلف الماركسيون الثوريون عن المشاركةَ في نضالات شعبية بمبرر تواجد “الأصولية الدينية” في هذه النضالات. لكن لن يسعى كذلك الماركسيون الثوريون للبحث عن تحالفات سياسية مع هذه الجماعات لمجرد أنها “مناهضة للمخزن”.
تقع على كاهل الماركسيين الثوريين مهمة برنامجية عظيمة وهي الدفاع عن العلمانية وخوض صراع سياسي ضد أفكار وشعارات هذه الجماعات، من أجل نزع الهيمنة الأيديولوجية والثقافية التي تمارسها على جماهير الشعب. هذه الهيمنة التي تكبح نضالية الجماهير إما بمبررات الانكفاء السياسي أو بقبول سلبي للواقع مبرر دينيا، أو بإطفاء الاستياء الشعبي بسياسات الإحسان.
بقلم، أزنزار
اقرأ أيضا