ما هي البرجوازية الصغيرة؟
تقديم جريدة المناضل-ة
ماهي البرجوازية الصغيرة؟ سؤال أثار خلافات كثيرة بين الماركسيين. تعددت الإجابات بين معتمد منهم على تحليل سوسيولوجي أحادي الجانب وبين منطلق من الوضع الطبقي (دون إغفال الملامح السوسيولوجية والسيكولوجية) لهذه الطبقة (متعددة الشرائح الاجتماعية) التي تقع في موقع وسط بين الطبقتين الرئيسيتين للمجتمع: البرجوازية الكبيرة والبروليتاريا.
يثير المفهوم غموضا كبيرا في المجتمعات المتخلفة التابعة، حيث تتعايش شرائح من هذه الطبقة موروثة عن أشكال ما قبل رأسمالية وأخرى أحدثها اقتحام نمط الإنتاج الرأسمالي في عصر الإمبريالية لهذه المجتمعات.
ومن خلافات تحديد المفهوم ينتج تضارب في الدور الذي تضطلع به هذه البرجوازية في عملية التغيير الثوري (الوطني والاجتماعي)، بين من يعطيها دورا مستقلا ومن يؤكد أن البرجوازية الصغيرة مهما بلغت جذريتها، فإنها في لحظة الأزمات الثورية إما أن تتبع البرجوازية الكبيرة أو أن تتبع البروليتاريا.
يقدم هذا المقتطف من كتاب محمود حسين (1) المعنون “الصراع الطبقي في مصر من 1954 إلى 1970” الصادر في أبريل 1971 عن دار الطليعة بيروت، تعريفا ماركسيا يدمج الملامح السوسيولوجية والسيكولوجية لهذه الطبقة في مجتمع “الانتقال المحجوز” بين أشكال إنتاج ما قبل رأسمالية ونظام رأسمالي تابع امبرياليا. ويتناول الكتاب باقتضاب المطامح (الاقتصادية والوطنية) لشرائح هذه الطبقة والحدود التي تقف أمام هذه المطامح.
طبعا، يجب استكمال تحليل الكتاب بمستجدات “الرأسمالية المتأخرة” التي أدمجت قطاعات واسعة كانت محسوبة في السابقة ضمن دائرة البرجوازية الصغيرة في دائرة الاستغلال الرأسمالي مثل المهن الحرة، وما أطلق عليه إرنست ماندل “بلترة العمل الذهني” التي وسعت دائرة المأجورين لتشمل قطاعات كانت محسوبة في السابق على البرجوازية الصغيرة.
==============
مقتطف من كتاب محمود حسين؛ الصراع الطبقي في مصر…
“أما البرجوازية الصغيرة فهي من المراتب الاجتماعية، غير متجانسة، تتحدد بالوضع الذي تحتله بين الطبقات (المسيطِرة أو غير المسيطِرة) التي تعيش من استغلال الآخرين والطبقات التي تعيش من بيع قوة عملها. عليه فإن البرجوازية الصغيرة تضم جميع المراتب التي تملك رأس مال صغيرا أو قطعة صغيرة من الأرض أو مهارة معينة أو مستوى من الثقافة، بحيث تستطيع أن تعيش من عملها- في الإطار التاريخي الموصوف- فتستثمر وسيلةَ عملها المالية أو الفنية أو الثقافية دون أن تكون بحاجة إلى بيع قوة عملها ودون أن تشتري قوة عمل الآخرين إلا أحيانا، في نطاق ثانوي.
والبرجوازية الصغيرة، في مجموعها، خاضعة للقهر الوطني ولأشكال غير مباشرة من الاستغلال الاقتصادي، من قبيل الاحتكارات الأجنبية والطبقات المحلية المسيطرة و- على نطاق ضيق- من قبل البرجوازية المتوسطة. والشكل الوحيد من التضامن الاجتماعي الغريزي الذي تعرفه البرجوازية الصغيرة، بوصفها طبقة مفتتة، هو التضامن القومي المتحقق من خلال اللغة والثقافة الوطنيتين، لذا فإن للقهر الوطني وقعا خاصا على البرجوازية الصغيرة. فالكرامة الشخصية لدى الملاك الصغير أو الموظف الصغير لا تنفصل عن كرامته بوصفه مصريا، والإذلال الذي فرضه المحتل كان يقع على كل من هؤلاء وقع الإهانة الشخصية الدائمة.
أما على الصعيد السياسي- الاقتصادي فإن القهر الوطني يعني القضاء على كل تفتح وعلى كل ترق في صفوف البرجوازية الصغيرة. فهو مرادف للركود أو للإفلاس واليأس.
رغم ذلك فإن نزعتين متناقضتين تتجاذبان البرجوازية الصغيرة. فهي، بوصفها طبقة تملك امتيازا صغيرا- بالقياس على الطبقات المُعْدَمَة- تستطيع أن تتطلع إلى استغلال الآخرين (أي أن لديها مضمرات رأسمالية)، إلا أنها تقترب من الطبقات المُعْدَمَة، بوصفها طبقة نشيطة تعيش من عملها الخاص الذي هو، إلى ذلك، عمل فردي، مفتت، معرض دائما للتأثر بضغوط القوى الطبقية المُسَيْطِرَة التي لا تملك البرجوازية الصغيرة قدرة على رد أذاها.
هي إذن متجاذبة بين تأثير الطبقات القومية المُسْتِغِلَّة سياسيا وأديولوجيا وتأثير الطبقات الواقعة تحت الاستغلال المباشر. والتمايز الطبقي الرئيسي الذي يجري، داخل هذا المجموع، في نهاية الحرب العالمية الثانية هو ذاك الذي نزع إلى الفصل بين المراتب- الأكثرية- التي لا تملك إذ ذاك أي إمكان موضوعي للتحول إلى مراتب مُسْتَغِلَّة وتشعر أنها تدفع أكثر فأكثر نحو الطبقات المُعْدَمَة، وبين المَرْتَبَة- الأقلية المتعلقة بالطريق الرأسمالي والباحثة عن الوسائل الكفيلة برفع الحواجز التي تحول دون نمو الرأسمالية.
هذا السياق من التمايز الطبقي- وفهمه جوهري للتعرف إلى القواعد الاجتماعية الحقيقية التي قام عليها النظام الناصري- يتولد هو نفسه انطلاقا من فاصلين آخرين.
الفاصل الأول هو ذاك الذي يفصل البرجوازية الصغيرة الريفية عن البرجوازية الصغيرة المدينية، وهو فصل يحدثه الفارق الشديد الجلاء بين شروط الحياة العامة في الريف وشروطها في المدينة. فالريف خاضع مباشرة لأعتق الأساليب السياسية، وهو يسبح في مناخ أيديولوجي أقل انفتاحا على التغير بكثير، والاستغلال فيه على وجه التعميم، هو بوضوح، أشد فظاظة منه في المدينة، ومستوى الحياة فيه أشد انخفاضا، بوضوح أيضا. أما المدينة فهي، في المقابل، المركز الممتاز للسيطرة البرجوازية، حيث يتوافق تركز السكان والرساميل مع تركز شبه احتكاري للعمل الذهني، مما يجعل منها وسطا ممتازا وأكثر دينامية، لا تجد الطبقات غير المُسْتَغِلَّة فيه شروط عمل ومستوى معيشة أرفع مما هو سائد في الريف، فحسب، بل تجد فيه أيضا إمكانات صعود اجتماعي.
صفوة القول أن إمكانات التفتح الرأسمالي المتوفرة للبرجوازية الصغيرة كانت قائمة، على وجه التعميم، في المدينة.
أما الفاصل الثاني فهو ذاك الذي يفصل فروع البرجوازية الصغيرة التي تتعاطى العمل اليدوي عن فروعها التي تتعاطى العمل الذهني (بالمعنى الواسع). فالواقع أن العمل الذهني يشكل امتيازا في كل مجتمع قائم على الفصل بينه وبين العمل الذهني. وخاصة في مجتمع كمصر، كانت علاقات الإنتاج تنمو فيه حينذاك، في إطار أيديولوجي وسياسي موروث عن عهد الإقطاع، مرتكز على نظام قهر وطني- ينزع إلى إبقاء أكثرية السكان الساحقة أسيرة الجهل أو حتى، بكل بساطة، أسيرة الأمية.
والفروع الكادحة (التي تتعاطى العمل اليدوي) من البرجوازية الصغيرة، هي مكونة في الريف، آنذاك، من الفلاحين المتوسطين- الذين يمتلكون بضعة أفدنة (من واحد إلى خمسة) أو يستأجرون مثلها (بمعدل خمسة أفدنة) فيعيشون عليها هم وعائلاتهم من عملهم الخاص- وهم يشكلون %15 من سكان الريف. وفي المدينة تضم هذه الفروع صغار الحرفيين وهم يشكلون أقل من %10 من سكان المدن.
وإذ يجد المنتمون إلى هذه الفروع أنفسهم في وضع المَلاَّكين، في بلد لا تملك أغلبية السكان المطلقة فيه أية وسيلة عمل، فإن خطا فاصلا هاما، اجتماعيا وسياسيا، يقوم بينهم وبين الطبقات المُعْدَمَة. لكنهم من ناحية أخرى لا يملكون ما يردون به عن أنفسهم ما تخضعهم له المصالح المُسَيْطِرَة على السوق المصرية من ضغط سياسي واقتصادي. وهم لا يملكون، في هذا الإطار، أي حظ فعلي في التفتح، إذ لا تعطيهم مصلحتهم الطبقية مثل هذا الحظ، بأي من وجهيها المتناقضين.
فوجه “الملاك” من مصلحتهم الطبقية، وهو الذي كان يشدهم نحو القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على دفع النمو الرأسمالي، لم يكن يمتلك أية وسيلة للتحقيق. بل إن هذه الفروع كانت، على العكس من ذلك، تدفع أكثر فأكثر إلى اليأس ويقذف بها نحو الجماهير المعدمة.
ووجه “العامل” من مصلحتهم الطبقية، وهو الذي كان يقربهم من البروليتاريا وينزع بهم إلى الاندماج في التيار الثوري الجذري- التيار الذي لا تستطيع البرجوازية الصغيرة بسائر فروعها أن تجد في غير إطاره مجالا للتفتح بإعادة تربيتها وبخلق أشكال جماعية للإنتاج، تحت قيادة بروليتارية- هذا الوجه لم يكن يمكن له، بطبيعة الحال، أن ينمو إلا في ظل قطيعة تامة مع النظام القائم، وتحت أثر الدفع الثوري البروليتاري، على الصعيدين السياسي والأيديولوجي. هذا الشرط أيضا لم يكن متحققا أثناء المرحلة التي ندرس.
عليه كانت هذه الفروع، في مجموعها، منجرفة في سياق انحطاط سريع تناول شروط معيشتها، وفي سياق تمرد يائس على الصعيد السياسي.
لكن ما كان يجري في الريف من انحطاط مستمر لشروط معيشة هذه الطبقة، هو خاصة ما شكل مصدر قلق للطبقات المالكة. فالواقع أن هذه الطبقة هي القادرة وحدها، في الريف، على الاضطلاع، اجتماعيا، بدور المرتبة الوسيطة- المؤمنة للاستقرار- بين الطبقات المالكة والجماهير الكادحة. فما دامت تقف، بمجموعها، في صف النظام القائم، فهي تشل الاندفاع الثوري لدى المعدمين، الذين يغويهم تأثيرها الأيديولوجي.
غير أن أزمة النظام كله، غداة الحرب العالمية الثانية، سوف تزيد، على نحو لا يحتمل من حدة الاستغلال المباشر لصغار المستأجرين (والمظهر الرئيسي لذلك هو زيادة الإيجارات) وسوف تزيد أيضا من الاستغلال غير المباشر لصغار الملاكين، المتمثل في أعمال الابتزاز على أنواعها، وفي الضغوط الاقتصادية، بتوسط السوق، وفي الضغوط المباشرة من قبل الملاكين الكبار لبيع السماد أو الحبوب إلخ.
هذا الوضع سوف يقود البرجوازية الصغيرة بسرعة إلى التمرد وإلى كسر إطار القيم الجامدة المتمثلة في الخضوع والصبر، وهي سوف تحطم بذلك قيود التقليد، فاتحة أمام الجماهير المعدمة طريق التمرد الذي تخطى، مذ ذاك، جميع أطر الشرعية وأدى إلى انتفاضات الفلاحين البطولية التي قامت عامي 1951 و1952 على القطاعات الأرستقراطية الكبرى.
أما عند الطرف الأدنى من البرجوازية الصغيرة فينتظم الموظفون الصغار في جهاز الدولة (الجنود المحترفون، شرطة السير، السجانون، إلخ…). وهم ملزمون، بعد أن تلقوا تعليما ابتدائيا، باحتمال عمل مرهق، وهم مستعدون، أساسا، لبذل جهد مضن جدا، لكونهم مختارين من قلب الجماهير الكادحة. هذا العمل يجعلهم في مأمن من البؤس الذي استلوا منه، لكنه لا يعطيهم مطلقا أي أمل في التبرجز.
أما الفروع غير اليدوية من البرجوازية الصغيرة، وهي مركزة، كما رأينا، في المدينة، فإنها هي التي تضع في موضع الفعل حصيلة علمية وتقنية وثقافية، داخل جهاز الدولة والمؤسسات الخاصة أو في إطار المهن الحرة، ولكن دون أن تعطيها هذه الحصيلة وزنا حاسما أو دورا قائدا في أي مكان كان. ذلك أن مراكز القيادة كانت، على وجه التحديد، محدودة العدد جدا ولم يكن سبيل الولوج إليها مفتوحا إلا أمام أبناء الطبقة المُسَيْطِرَة أو أمام الأجانب أو أمام المُتَمَصِّرِين أو أمام العناصر المُسْتَغْرِبَة [عكس المُسْتَشْرِقَة: المترجم]، بينما كان محكوما على الأغلبية العظمى من هؤلاء البرجوازيين الصغار بالبقاء على الهامش.
هذا، والعمل، في حالة المستخدمين والموظفين الصغار، خاصة في الإدارة أو في التعليم، عمل مجتزأ مميت للقلب. والدخل الذي ينجم عنه، وإن كان مرتفعا بالنسبة إلى الجماهير المعدمة، يبدو تافها بالنسبة إلى البرجوازية الكبيرة.
هؤلاء جميعا كانوا خاضعين للتجبر والقهر على أيدي رؤسائهم وكذلك للقهر الأيديولوجي- بفعل سيادة الأجانب وفرض الثقافة الأجنبية على أنها أصل الأصول في جميع الميادين- وأخيرا للضغط الاقتصادي غير المباشر من قبل الطبقات المالكة، المتمثل في الخفض المستمر لقوتهم الشرائية.
إلا أن امتياز الزاد الصغير الذي كانوا يملكونه من ثقافة أو اختصاص كان ينزع بهم إلى الانفصال عن الجماهير المنصرفة إلى العمل اليدوي. لكن هذا الانفصال، وهو ذو طابع أيديولوجي خاصة، يظل ممكن التجاوز في المرحلة الثورية، حيث تستطيع جميع هذه المراتب أن تقف بأخوة في الصف البروليتاري.
حتى إذا سلمنا أن مجموع هذه المراتب التي تشكل البرجوازية الصغيرة، لم يكن لها من مصلحة موضوعية في تأييد نظام الانتقال المحجوز [المحجوز بين نظام ما قبل رأسمالي ونظام رأسمالي تابع للإمبريالية: موقع المناضل- ة] الذي كان يقهرها بصورة أو بأخرى، فإن الشأن يختلف حينما يتعلق بأفق نمو رأسمالي وطني.
ففي هذا الأفق، كان الفرع المثقف من هذه الطبقة يستطيع، في الواقع، تحقيق مستوى ما من الترقي الاجتماعي المؤقت في حدود حاجات الطريق الرأسمالي إلى مِلاَكات متوسطة أو إلى ناطقين ثقافيين باسمه. إلى ذلك، كانت بعض القطاعات من البرجوازية الصغيرة الكادحة (عدا الموظفين، خاصة) تتضمن مرتبة ضئيلة من صغار الفلاحين أو الحرفيين أو التجار، تستطيع البروز في السوق والتحول إلى مجموعة من الرأسمالية المتوسطين، في خلايا مجتمع يعيش مرحلة توسع اقتصادي.
ينبغي أخيرا تحديد الوضعية الخاصة بـ”النخبة” البرجوازية الصغيرة. فإذا وضعنا جانبا أفرادا من الفروع المختلفة التي درسناها، خصتهم الصدفة بنعمتها، بقيت مَرْتَبَةً مرتبطة بالطريق الرأسمالي المصري القومي ومتمتعة، بما هي مَرْتَبَة اجتماعية، بفرص لتحويل طاقاتها الرأسمالية الكامنة إلى مصالح رأسمالية مستقرة نهائيا. هذه الرتبة كانت تكون جزءا من البرجوازية الصغيرة المثقفة، جزءا يتألف من المِلاَكات المتوسطة في جهاز الدولة وفي الاقتصاد، وهو الجزء الذي نعرفه على أنه “النخبة” البرجوازية الصغيرة أو المرتبة العليا من البرجوازية الصغيرة المثقفة.
وما يشكل قوام الوضع الخاص لهذه المرتبة، هو امتلاكها لتخصص نظري أو فني (مدني أو عسكري) متقدم نسبيا ودخولها، بحكم هذا التخصص، في مِلاَك الجهاز السياسي أو الإداري أو العسكري أو الجامعي أو الاقتصادي، على مستوى المسؤولية الوسيطة (لأن مستوى المسؤولية القيادية كان حكرا على أعضاء الطبقة المُسَيْطِرَة). أولئك هم ضباط الجيش والشرطة وأساتذة الجامعة والصحافيون أو علماء الاقتصاد المعروفون والفنيون أو الموظفون الذين وصلوا إلى مراكز وسيطة، إلخ…
وهم جميعا من أصل مصري برجوازي صغير، فإنهم طليعة من استطاعوا “البروز”، في ظل نمو رأسمالي نسبي تبع الحرب [العالمية] الأولى، وذلك بفضل التضحيات التي ارتضاها أهلهم- من صغار الفلاحين أو التجار أو الموظفين- ليدفعوا لهم كلفة الدراسة الضرورية. وهم يختلفون اختلافا بينا عن المِلاَكات السفلى، ليس بحكم اختصاصهم فحسب، بل أيضا بحكم التربية الطبقية التي اكتسبوها خلال خدمتهم داخل أجهزة الاستغلال أو القمع. فهم إذن مُعَدُّونَ أيديولوجيا وفنيا- تبعا لنمو الرأسمالية وازدهارها- للارتفاع إلى المراكز القيادية والاندماج بالطبقة الرأسمالية.
لكن نظام الانتقال المحجوز الذي كان يخنق مصر، كان يجعل محالا تفتح هذه “النخبة”. فالواقع أن منطق هذا النظام كان يقتضي قصر الامتيازات إلى الأبد على أقلية شديدة الضآلة، انطلاقا من وضعها المُسَيْطِر، والامتيازات المذكورة لم تكن امتيازات طبقة رأسمالية سائرة نحو الاتساع، بل كانت، كما رأينا، امتيازات طبقة تابعة، ذات قواعد ضيقة وذات ارتباط حميم بالملكية العقارية التقليدية. لذا فإن نمو الرأسمالية المصرية، المقتصر على المجالات التي تسمح بولوجها الاحتكارات الأجنبية والمشروط بِتَطَلُّبِ الأرباح السريعة المرتفعة، لم يكن يستطيع فتح آفاق ما أمام “النخبة” البرجوازية الصغيرة.
أما الصفات الطبقية المفروضة، في ظل هذه الشروط، للانتساب إلى الطاقم الذي كان يتولى قيادة الدولة والاقتصاد- وهي صفات ظلت خارج متناول هذه النخبة- فإنها لم تكن صفات الاختصاص والمقدرة الإدارية أو الفنية ولم تكن تستجيب لضرورة تحديث الأجهزة القائدة وجعلها قادرة على أداء وظيفتها، وإنما كانت هي عين الصفات المطلوبة في بلد مقهور وَمُسَيْطَرٍ عليه وفي طبقة محلية قائدة ما زالت خاضعة، في جانب كبير منها، لنظام قيم سابق على الرأسمالية. عليه إن الصفة المطلوبة من عضو مرشح لدخول المٍلاَك القائد، كانت، قبل كل شيء، أواصره العائلية أو صلاته بالطبقة المُسَيْطِرَة (بالأرستقراطية أو القصر) أو علاقاته برجال الأعمال الأجانب أو ثقافته الغربية.
هكذا فإن وضع “النخبة” البرجوازية الصغيرة كان يجعلها متضامنة مع نمط الإنتاج الرأسمالي، مع الطريق الرأسمالي المصري، ويجعلها تناصب أشد العداء أولئك الذين كانوا، في نظرها، مسؤولين عن سد هذا الطريق، وهم انجلترا وأسلوبها في القهر الوطني والأرستقراطية العقارية المُسَيْطِرَة على السلطة المحلية وأخيرا كبار موظفي الدولة الذين كانوا، بحكم علاقاتهم مع الأجنبي، يستحوذون على ما تتطلع إليه هذه “النخبة” من وظائف.
من هنا إن تطلعاتها كانت تلتقي بتطلعات الفلاحين الأغنياء (“المقاولين” منهم خاصة). فهي أيضا كانت تبتغي تحرير الرأسمالية المصرية من عوائقها الداخلية والخارجية، وإمدادها بدينامية جديدة تتولى “النخبة” البرجوازية الصغيرة، في نطاقها، دورا قياديا وترتفع، على هذا النحو، إلى مصاف الطبقة المُسَيْطِرَة.
هذه التطلعات كانت تتضمن، في الوقت نفسه، نزعة معادية للشعب وتفضيلا لجميع التغييرات التي تتم دون أن تستطيع الجماهير الشعبية الاستفادة منها وتقوية قدراتها على العمل والتنظيم (السياسي والعسكري) فالواقع أن هذه التغييرات، لا يكون من شأنها، دون هذا الشرط، زعزعة موقع الطبقة المُسَيْطِرَة فحسب، بل أيضا جعل نظام الاستغلال كله مهيض الجانب.
أما الطلاب وتلاميذ المدارس الثانوية– وهم في معظمهم من أبناء البرجوازيين الصغار- فيحتلون منزلة على حدة. فهم يشكلون أكثر من فروع البرجوازية الصغيرة المثقفة نشاطا على الصعيد السياسي، وذلك لأنهم لا يشغلون مركزا نهائيا ثابت الأسس في البنية الاجتماعية القائمة ولأنهم يطرحون على أنفسهم مسألة المستقبل ولأنهم مجتمعون، بوصفهم طلابا، في إطار مؤقت من النشاطات ذات الطابع الذهني البحث.هذا الوضع يمدهم بتحسس غير عادي للأحداث السياسية والاجتماعية، وبقدرة على الإحاطة بالمشاكل في مجموعها، وبإمكان الاحتكاك بتجارب- كتبية- أجنبية، وأخيرا، بحرية تخيل خاصة في نقد البنى والأيديولوجيات البالية.
ثم إن القهر الأجنبي وامتيازات الأرستقراطية لا تشكل العائق الأكبر أمام ترقيهم الاجتماعي فحسب، بل تشكل العائق الأكبر أيضا- وهذا هو الأساس- أمام التفتح الوطني، الثقافي والسياسي، عامة. وهم يمتازون بتحسس خاص لهذا الجانب من القهر، وهم- في هذا الوضع الذي يعطيهم طاقة نسبية على التلبية- يمتلكون قدرة خاصة على أخذ المبادرات السياسية الجريئة وعلى إعادات النظر، أيديولوجيا، في النظام القائم.
لكن الطلاق الكامل القائم بينهم وبين النشاط العملي المنتج- أي عزلتهم عن الجماهير العريضة، المُعْدَمَة الكادحة- يجعلهم عاجزين عن أن يوالوا- من تلقاء أنفسهم- أيديولوجية ثورية متماسكة وأن يصلوا النظرية بالممارسة وبالتالي أن يمارسوا تأثيرا حاسما في إنماء السياق الثوري على المدى الطويل.
رغم ذلك يبقى قسم من الطلبة قادرا على التبصر بخطر عزلته وعلى التوجه نحو أشكال أكثر تنوعا من التضامن والكفاح مع الطبقات الكادحة. وأبرز الأمثلة التاريخية وأبعدها مغزى، بعد الحرب، على مبادرة من هذا النوع، هو تشكيل اللجنة الوطنية للعمال والطلبة عام 1946.
ختاما تنبغي الإشارة إلى مكانة البرجوازية الصغيرة الخاصة ودورها الخاص داخل التشكيلة الاجتماعية المصرية.
أما مكانها فيعينه نمط الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية. بيد أن عدم التوصل إلى إنجاز هذا الانتقال، جعل التشكيلة الاجتماعية تتميز بسلسلة من التبايانات والانفصامات الناتجة عن هذه المرحلة الطويلة من الانتقال المحجوز.
هكذا ثمة تباين بين النمو الرأسمالي في المدن والأطر السياسية والأيديولوجية- السابقة على الرأسمالية- التي كانت تحتويه. وكان ينتج عن هذا تباين أشمل بين القاعدة الاقتصادية المنتقلة والبنية الفوقية التقليدية المتحجرة، وقد نما تباين ثالث بين القاهرة- العاصمة التي تركزت فيها جميع السلطات وجميع أشكال النشاط- وبين الريف المكون من قرى ومدن متفاوتة الانعزال عن بعضها ومنحبسة في الأفق المحلي وخاضعة للعاصمة الكلية القدرة.
والبرجوازية الصغيرة هي التي تشكل الصلة بين جميع هذه المستويات المنفصمة بعضها عن بعض في التشكيلة الاجتماعية. ويتلاقى في وضعها النمط الإقطاعي الداخل في طور الانحلال- عبر أشكال الإنتاج الفردية التي تحدد هذه الطبقة- والنمط الرأسمالي الداخل في طور التكوين- عبر كوامنها الرأسمالية و”رأسمالها” السائل أو العقاري أو الثقافي الذي ترجو تحويله إلى وسيلة استغلال.
حتى إذا عرف التوازن الاجتماعي مرحلة استقرار نسبي مؤقت- أي مرحلة خفوت لصراع الطبقات- فإن هذه البرجوازية الصغيرة تجعل من نفسها درعا بين الطبقة المسيطرة والجماهير البروليتارية أو التي هي في وضع بروليتاري، فتمارس عليها تأثرا يصيبها بالشلل. ولكن لما كانت البرجوازية الصغيرة نتاجا لانحلال الإقطاع، تعجز الرأسمالية المصرية عن دمجها في صلبها، فإنها تجد نفسها على تقاطع سياقين: الماضي المتقهقر والمستقبل المحجوز، وهي لذلك تستوعب أزمة الانتقال وتستشعرها مضاعفة. لذا فهي تستطيع، إن ألجأتها البروليتاريا إلى ذلك، أن تسلك طريق الديمقراطية الشعبية.
هكذا فإنها تستطيع، في مرحلة الأزمة- أي مرحلة تعمق صراع الطبقات وتجذره- أن تتمرد على القماقم القهرية والقمعية التي تحجز نمو مصر السياسي والأيديولوجي والاقتصادي وتحجز معه تفتح البرجوازية الصغيرة نفسها. وذلك بدءا بالقماقم الأجنبية، قماقم التبعية والإذلال الوطنيين التي تحجز في آن سوية، جميع آفاق الشعب، من أفق الاستقلال الوطني إلى أفق الحرية السياسية، وبالتالي إلى أفق النمو الاقتصادي لجميع الطبقات الاجتماعية المصرية.
غير أن الفرع المديني المثقف من البرجوازية الصغيرة هو الذي يضطلع، إذ ذلك، بدور اجتماعي وسياسي فريد، وذلك بفعل احتكاره للنشاط الذهني بين الطبقات الشعبية. فجميع الأحزاب والمنظمات السياسية التي ترفض البنية القائمة والطبقة المُسَيْطِرَة تجد هيئاتها القيادية في هذا الفرع من البرجوازية الصغيرة. فأما حالة “الضباط الأحرار” و”الإخوان المسلمين”، و”الاشتراكيين” إلى حد ما، فإننا نقع خاصة على “النخبة” البرجوازية الصغيرة. وأما في حالة “الشيوعيين” فإننا نقع على البرجوازية الصغيرة الفقيرة التي ارتبطت بأقلية من البروليتاريين”.
………….
(1). محمود حسين اسم مستعار اختاره الكاتبان المصريان عادل رفعت وبهجت النادي ليتم نشر إنتاجهما الفكري تحته، ولد عادل رفعت عام 1938 في الأسكندرية بينما ولد بهجت النادي عام 1936 في مركز فارسكور في محافظة دمياط.
اقرأ أيضا