الجزائر: نحو نقطة اللاعودة؟
ظفر الحراك الشعبي الذي اندلع يوم 22 شباط/فبراير عام 2019 بجولة سياسية أخرى هامة. وبحلول الموعد النهائي المحدد في 25 أيار/مايو، لم يتمكن أي من مرشحي الانتخابات الرئاسية المقررة يوم 4 تموز/يوليو، وعددهم 77، من جمع عدد التوقيعات اللازمة للمصادقة على ترشيحه. وكان ثلاثة زعماء أحزاب صغيرة قد انسحبوا من السباق.
إن استمرار الضغط الشعبي، والموقف المعارض لقضاة عديدين، ورفض أكثر من 400 رئيس من رؤساء المجالس الشعبية البلدية (رؤساء البلديات) تنظيم الانتخابات، قد أحبط عملية جمع التوقيعات. لا يمكن والحالة هذه إجراء الانتخابات في الموعد المحدد.
بعد ثلاثة أشهر من بروزه على الساحة السياسية، فإن حصيلة الحراك الشعبي مذهلة. إن طابعه الجماهيري، الوحدوي والسلمي، ورفضه أي تدخل أجنبي ثنى السلطة فوراً عن اللجوء إلى القمع الوحشي، على الرغم من استمرار التهديدات والاستفزازات والإجراءات التعسفية حتى يومنا هذا (الاعتقالات والضرب…).
فرض الحراك أيضًا حق التظاهر، وبداية انفتاح لا يزال غير كاف إلى حد كبير في وسائل الإعلام العامة والخاصة الرئيسية، والموافقة على تأسيس أحزاب وجمعيات جديدة.. ثم أجبر عبد العزيز بوتفليقة على إلغاء الانتخابات الرئاسية ليوم 18 نيسان/أبريل، والتراجع عن سعيه إلى عهدة خامسة وإقالة رئيس وزرائه أحمد أويحيى.
لقد فاقم الحراك التناقضات داخل النظام بين الملتفين حول بوتفليقة الساعين إلى الاشراف على انتقال متحكم به، والقائمين وراء نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الشعبي الوطني، الجنرال أحمد قايد صالح، الرافضين الخروج عن إطار الدستور. ستدفع هذه التوترات الداخلية أحمد قايد صالح إلى عزل عبد العزيز بوتفليقة، تحت ستار «استقالة».
وفي آخر المطاف، أدى الحراك الشعبي إلى استقالة رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز وسبب فشل ندوة الحوار الوطني التي أطلقها رئيس الدولة بالإنابة عبد القـادر بن صالح… وحتى يومنا هذا، يستمر النضال، لكن مصيره غير مؤكد.
- تطور المجال السياسي ورهاناته
القوة الهادئة للحراك
جمعة بعد جمعة، بهدوء ولكن بتصميم سليم، ينزل الجزائريون من جميع الأعمار وكلا الجنسين وجميع الظروف الاجتماعية بكثافة إلى شوارع الـ 48 ولاية في البلد تعبيرا عن رفضهم «الحل الدستوري»، والانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها يوم 4 تموز/يوليو ومطالبين بفتح مرحلة انتقالية ديمقراطية حقيقية. إن حرارة الربيع ورمضان، التي تُتعب الكائنات الحية والأذهان، لم تقلص درجة التعبئة.
بوجه عناد السلطة لفرض «حلها الدستوري»، وتهديدات أحمد قايد صالح وعودة القمع في الجزائر العاصمة أثناء مسيرات شهر أيار/مايو (حواجز أمنية عند مدخل الجزائر العاصمة، والاعتقال التعسفي والعنيف بحق المتظاهرين الذين اقتيدوا إلى مراكز البوليس على بعد عشرات الكيلومترات من العاصمة…)، يواصل الحراك الشعبي على نحو سليم مطالبته بتغيير النظام عبر انتقال ديمقراطي. لم يُرد الجزائريون مَلكية. ولا يريدون مزيدا من نظام عسكري، حتى بواجهة مدنية.
بلغت قوة الحراك درجة خلقه روافد لا تزال هشة ولكنها واعدة. وأوّلها الحركة الطلابية التي انبثقت من رمادها عبر تحطيم الأغلال التي كانت ترزح تحتها جامعة تتحكم بها منظمات “دمية” وفاسدة وتابعة للسلطة. على نحو متفاوت وبوثائر خاصة بكل جامعة، ينظم الطلبة تعبئات واضرابات وتظاهرات كل يوم ثلاثاء عمليا في جميع عواصم الولايات.
أتاحت هذه التعبئات الدائمة إعادة روابط مع التنظيم في لجن مستقلة تروم التنسيق على المستوى المحلي في البداية، ثم على المستويين الإقليمي والوطني مستقبلا. وعلى النحو ذاته تعيد الحركة الطلابية الروابط تدريجيا مع دورها التقليدي كطليعة للحراك الشعبي. وكل يوم ثلاثاء، تُرفع بعض الشعارات التي يرددها المشاركون في مسيرات يوم الجمعة، وهي شعارات تشكل بوجه عام رد الحراك الشعبي على تصريحات وقرارات أحمد قايد صالح، وأحيانا تصريحات عبد القـادر بن صالح وقراراته.
وتشكل الحركة النقابية الرافد الثاني الأهم أيضا على المستوى الاستراتيجي، الذي عبَّد له الحراك الشعبي الطريق. وحتى يوم 22 شباط/فبراير الماضي، كانت المركزية التاريخية، الاتحاد العام للعمال الجزائريين (UGTA)، كليا تحت سطوة قيادتها المعادية للعمال، والتي كانت تهدف إلى تجنيدها مرة أخرى في حملة عبد العزيز بوتفليقة للفوز بعهدة خامسة. طبعا، قبل هذا التاريخ بفترة طويلة، كانت فروع نقابية عديدة تشن اضرابات بالمقاولات، في تناقض واضح مع ما يتعهد به أمينها العام عبد المجيد سيدي السعيد في كل اجتماع ثلاثي الأطراف (الحكومة ومنظمات أرباب العمل ونقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين) التزامات باستتباب السلم الاجتماعي. لكن بات سائدا على نطاق واسع السخط الناتج عن سياسة التعاون الطبقي إزاء الأمانة الوطنية وسيدي السعيد اللذين كانا جعلا المركزية تابعة لمنتدى رؤساء المؤسسات والحكومة.
لم يجر التعبير عنه علنا، ولم يكن، بصورة خاصة، يفضي إلى بروز معارضة نقابية منظمة ومناضلة من أجل استقلال النقابة عن السلطة وأرباب العمل.إن ولادة مثل هذا التوجه هو الذي أثاره الحراك الشعبي. كنا في مقال سابق [1] أعدنا نشر مقتطف من بلاغ الاتحاد المحلي لنقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين في المنطقة الصناعية الروبية (شرق العاصمة)، والذي ساعد في اشعال فتيل الاحتجاج داخل المركزية النقابية. في 6 نيسان/أبريل، تشكل تنسيق بعد اجتماع ممثلي أربعة اتحادات ولائية مؤكدا دعمه للحراك «لتكريس جمهورية جديدة» ومطالبا برحيل سيدي السعيد وجميع قادة النقابة المتورطين في انحراف المركزية النقابية. وفي العاشر من الشهر نفسه، سينضم إلى هذا التنسيق أعضاء في اللجنة التنفيذية الوطنية (NEC)، وهي الهيئة العليا بين مؤتمرين، ثم لاحقًا الفيدرالية الوطنية لعمال المعادن والميكانيك والكهرباء والإلكترونيك (FNTMMEE) وكذلك الاتحاد المحلي في الرويبة واتحاد ولاية ورقلة (الجنوب) [2].
نظم هذا التنسيق المسمى «اللجنة الوطنية لإنقاذ واستعادة نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين» تجمعين يومي 17 نيسان/أبريل وفاتح أيار/ماي عام 2019 أمام مقر مجلس الشعب، المقر المركزي للمنظمة النقابية، سيشارك فيهما نقابيون وعمال ومناضلون يساريون كُثُر. وستطلق اللجنة عريضة وطنية «من أجل تنظيم مؤتمر استثنائي للاتحاد العام للعمال الجزائريين قبل نهاية السنة الجارية والذي يشارك فيه فقط العمال والعاملات المنتدبين من قبل القاعدة العمالية» [3].
في 22 أيار/مايو، نظمت اللجنة إضرابًا عامًا مرفوقا بمظاهرات ومسيرات في مختلف مناطق البلد.
ومع ذلك، لن يكون هذا التجديد سهلاً لأن نقابيين كُثُر محبطين غادروا الاتحاد العام للعمال الجزائريين في هكذا عشرين عامًا الماضية -خاصة في الوظيفة العمومية- وفقدت المنظمة ثقة عمال عديدين. سيتعين على المُجدّدين أيضًا مواجهة مناورات البيروقراطية التي قررت تقديم تاريخ تنظيم المؤتمر 13 في يومي 21 و22 حزيران/يونيو لقطع الطريق على المعارضين واقفال الجهاز. كما أوقف سيدي السعيد عضوية أطر نقابية عديدة كانت انضمت إلى الاحتجاج.
إن مفتاح النجاح مرهون بقدرة المحتجين على اشراك مناضلي أسفل النقابة والغالبية العظمى من الأجراء في كفاحهم. في هذا المنظور، لن يكونوا قادرين على الاستغناء عن برنامج مطالب لكيلا تقتصر استعادة نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين على استرجاع الجهاز، ولكن لكي يؤدي ذلك إلى حراك اجتماعي هدفه إدماج الحراك الشعبي تحت رايته الخاصة، وبالتالي منح هذا الأخير بعدًا اجتماعيًا صريحًا يفتقده حتى الآن.
عزز الحراك الشعبي النقابات المستقلة (كونفدرالية النقابات المستقلة والكونفدرالية العامة المستقلة للعمال في الجزائر) والتي قد تناضل بسهولة أكبر. وقد ساهم أيضًا في تقارب قسمي الحركة النقابية الاثنين (مستقلين ومُجدّدين في نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين)، اللذين باتا ملتزمين بضرورة اعتماد سياسة جبهة نقابية موحدة.
نشهد أيضا هنا وهناك بروز جمعيات نسائية قادرة على التوطد نظرا لاسهام النساء الحاشد في التعبئة الشعبية، بالأقل في كبريات مدن البلد، وإلى تواجدهن الكثيف باطراد، وحتى السائد، من الناحية الأكثر هيكلة، في الجامعة (60٪ من الطالبات) وفي عالم الشغل: التعليم، الصحة، العدالة، الإدارة، الإعلام، النسيج والصيدلة… وفي الوقت نفسه، يضاعف العاطلون تحركاتهم في الشوارع، رغم أن ذلك لا يؤدي حتى الآن إلى سيرورة تنظيم ذاتي دائم. إن إحدى اكتشافات الحراك هي طبعا النقابة الوطنية للقضاة التي انضم رئيسها الجديد مبكراً إلى الحراك الشعبي الى جانب هذه المنظمة المنخرطة فيه بعزم إلى جانب المحامين.
بالتالي، في الوقت الحالي، لا ينظم الحراك الشعبي صفوفه بهذه الصفة، ولا يبرز أية قيادة ويرفض تفويض أي شخص لتمثيله والتحدث أو التفاوض باسمه. لكن الصحوة السياسية الجماهيرية للسكان تساهم إلى حد كبير في إعادة بناء النسيج النقابي والجمعوي والسياسي في البلد، كما لو كان هذا الحراك يحس بأن حياته ستكون قصيرة نسبيًا. وهكذا يضطلع موضوعيا بدور زارع البذور التي بدأ بعضها بالنمو.
السلطة الفعلية على الجبهتين معا
إن السلطة الفعلية التي تحارب على جبهتين يجسدها أساسا أحمد قايد صالح والقيادة العسكرية التي يتحدث باسمها.
في الداخل، تُواجه تحالف زمرتين، زمرة سعيد بوتفليقة (شقيق الرئيس السابق ومستشاره) وزمرة الجنرال محمد الأمين مدين، المعروف باسم الجنرال توفيق، رئيس دائرة الاستعلام والأمن [دائرة المخابرات الجزائرية] سابقا. كانت هتان الزمرتان تجابهتا في عهدة بوتفليقة الرابعة (2014-2019) التي عارضها توفيق. بعد فوزه في المعركة بدعم قايد صالح، قام الرئيس السابق بإحالة توفيق على التقاعد واعادة هيكلة أجهزة الأمن التي عيّن على رأسها الجنرال بشير طرطاق.
هتان الزمرتان/الخصم، سابقا، تصالحتا مؤخرًا لتشكيل فصيل يعارض فصيل قايد صالح. لا مسألة مبدئية تجعل هذين الفصيلين اللذين دعما أربع عُهْدات لصالح عبد العزيز بوتفليقة وشاركا فيها وكانا يستعدان، في هكذا بداية عام 2019، لتكرار نفس الشيء في العهدة الخامسة. لمدة عشرين عامًا، شاركا دون تردد في سياسة الرئيس السابق الاستبدادية والليبرالية والمعادية للمجتمع وفيما رافقها من فساد، والذي يتظاهر رئيس الأركان اليوم باكتشافه.
تدور مواجهتمها الحالية بالفعل حول أمثل طريقة حفاظا على النظام. عبر قبول انتقال جديد متحكم به لكسب الوقت والتأثير على سيرورة إعادة تشكيل النظام، فيما يتعلق بسعيد بوتفليقة وأتباعه. وعبر رفض تجاوز إطار الدستور الحالي رفضا حازما وقاطعا، فيما يتعلق بقيادة الجيش.
في هذه المجابهة، شن أحمد قايد صالح الهجوم بإجبار بوتفليقة على الاستقالة، ما أدى في الواقع إلى تفعيل المادة 102 من الدستور التي تنص على أن يتولّى رئيس مجلس الأمّة مهام رئيس الدّولة بالنيابة، عبد القادر بن صالح، لمدّة أقصاها تسعون (90) يوما (حتى 9 تموز/يوليو)، تنظّم أثناءها انتخابات رئاسيّة (مقرر اجراؤها في 4 تموز/يوليو). احتفظ أحمد قايد صالح بالمبادرة بإلقاء خصومه الرئيسيين (سعيد بوتفليقة وتوفيق وطرطاق) في السجن بتهمة «المساس بسلطة الجيش والمؤامرة ضد سلطة الدولة». وباستغلال موضوع محاربة الفساد، الذي يحظى بشعبية بالغة لدى الجزائريين، ألقى وراء القضبان الأوليغارشيين الرئيسيين (علي حداد ويسعد ربراب والاخوة كونيناف) الذين كانوا يدعمون خصومه، وأرسل الشخصيات السياسية السابقة في عهد بوتفليقة للمثول أمام القضاء: رئيسا الوزراء سابقا أحمد أويحيى، الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، وعبد المالك سلال، ووزراء سابقين، وقادة سابقين، أو قادة أحزاب مثل جمال ولد عباس (جبهة التحرير الوطني)، وعمارة بن يونس (الحركة الشعبية الجزائرية)، وعمار غول (حزب تجمع أمل الجزائر)، والمدير العام السابق للأمن الوطني عبد الغني هامل…
تتواصل المعركة على مستوى أحزاب «التحالف الرئاسي»، والبرلمان والمنظمات التابعة. وبعد استهدافهما من قبل العدالة، سرعان ما انتصب قائدا تشكيلين صغيرين (الحركة الشعبية الجزائرية وحزب تجمع أمل الجزائر) دفاعا عن الخيار الدستوري. وقد أيد الحزبان الرئيسيان، التجمع الوطني الديمقراطي وجبهة التحرير الوطني، أيضا المسار الدستوري. لكن حزب التجمع الوطني الديمقراطي غير مسموع، ومشلول كليا بسبب الانشقاق الذي يمزقه وسيف ديموقليس المسلط على رأس قائده. إن حزب جبهة التحرير الوطني غير قادر على الخروج من الأزمة. لقد عزلت لجنته المركزية قبل بضعة أسابيع أمينه العام معاذ بوشارب، الذي أرساه بوتفليقة في هذا المنصب منذ ستة أشهر بالكاد، وأحلت محله رجل الأعمال محمد جميعي. لكن بوشارب يرفض حتى الآن التخلي عن منصب رئاسة المجلس الوطني الذي استولى عليه بالقوة عبر عملية غير قانونية في تشرين الأول/أكتوبر عام 2018 بإطاحة الرئيس السابق السعيد بوحجة بدعم نواب آخرين من تشكيله. وينقسم هؤلاء «ممثلو الشعب» الآن بين مؤيدي بوشارب ومعارضيه، ما يفرمل سيرورة «اصلاح» الحزب الأول في التحالف.
نفس الغموض هو السائد بشأن المنظمات التابعة للسلطة. بعد اعتقال علي حداد، يبدو أن منتدى رؤساء المؤسسات (نقابة أرباب العمل في الجزائر) كان قيد التحرر من قبضة زمرة بوتفليقة. لكن مؤيدي رجل الأعمال والرئيس السابق لجمعية أرباب العمل عادوا مؤخراً إلى مهامهم عبر الاستيلاء على منصب الرئيس المؤقت المكلف بإعداد انتخاب رئيس المستقبل. يسود نفس اللبس في نقابة الاتحاد العام للعماليين الجزائريين.
لا يمكن لرئيس الدولة بالنيابة عبد القـادر بن صالح، ورئيس وزرائه نور الدين بدوي تجاوز إطار الدستور الذي حدده أحمد قايد صالح، على الرغم من أنهما لم يبديا أي حماس معين تجاه اقامة الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات والتحضير لانتخابات يوم 4 تموز/يوليو. وبينما يظل رئيس الوزراء أخرسَ، فإن رئيس الدولة بالنيابة يعين ويعزل مسؤولي مؤسسات الدولة والمقاولات العامة. تشبه هذه القرارات إلى حد كبير مقاومة بوجه أحمد قايد صالح.
في مواجهة الحراك الشعبي، يحاول أحمد قايد صالح تمرير قرارته بالقوة. وبعد التظاهر بدعم الحراك الشعبي وحمايته من قمع عناصر البوليس وبعض أجهزة الأمن، وبعد التعبير عن استعداده لمسايرته حتى تحقيق جميع مطالبه، يسعى أحمد قايد صالح علنا إلى قمعه باطراد.
يصر على محاولة فرض حله الدستوري، ولم يعد يشجب منع المسيرات وقمعها في العاصمة ولا يحذر عناصر البوليس من استفزاز المحتجين. يبدو بالفعل أنه أطلق عنان عناصر البوليس والدرك لممارسة العنف علنا.
يطالب قايد صالح الحراك بالتخلي عن شعار تغيير النظام وبالانخراط في مسار الحفاظ على النظام الليبرالي الاستبدادي بواجهة ديمقراطية. إنه يخلط بين شعار تغيير النظام والموقف الذي تدافع عنه «عصابة بوتفليقة». ويتهم أيضا من لا يشاطرونه وجهة نظره بالسعي إلى إضعاف الجيش، والوقوف في طريق الجيش الوطني الشعبي الجزائري وقيادته ومخالفة مصالح الجزائر. باختصار، يُحَذّر ويُهَدّد.
إن إصراره على الرغبة في إنقاذ النظام الاستبدادي قد يلقي البلد في وضع غير متوقع. لكن الدستور، الذي يحتمي به كل حين، يبدو غير شرعي كليا، تمامًا مثل النظام الذي تخلى عن مشروع التنمية السيادية منذ عام 1980، ووافق على النظام الاقتصادي العالمي الجائر والنظام الإقليمي الإمبريالي، وأوصى بالانتقال إلى الليبرالية، واستغل الدين الاسلامي لإضفاء الشرعية على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج في بلد ترسخ فيه الارتباط إلى حد كبير بالمساواة الاجتماعية…
رهان اللحظة السياسي
إن الرهان السياسي الرئيسي في هذه اللحظة متمثل فيما إذا كان النظام الاستبدادي سيبقى قائما أو أن الطريق سينفتح أخيرًا لتغيير ديمقراطي حقيقي. الحفاظ على النظام أو بداية انتقال ديمقراطي، هذان هما تعبيرا المعادلة السياسية الوطنية.
بعد رفضه لأسابيع إجراء انتخابات رئاسية في الإطار الحالي للقوانين والمؤسسات والطاقم الحاكم، فإن الشعب الجزائري لا يكتفي طبعا بمجرد تأجيل تاريخ الانتخابات. لم يعد يتحمل تعرضه للخداع كما كان الحال عندما قدمت السلطة بعض التنازلات السياسية والوعود (1988-1992 و2001-2002 و2011) قبل التراجع ومواصلة النظام الاستبدادي. بناءً على تعلمه دروس هذه التجارب المؤلمة، نهض الشعب لإقامة سيادته المهانة.
من جانبها، وبعد فشلها في إجراء انتخابات رئاسية يوم 4 تموز/يوليو، هل ستعترف السلطة أخيرًا بأن السيد الشرعي الوحيد في البلد هو الشعب؟ هل ستكون مستعدة للتفاهم والتخلي عن «حلها الدستوري» الوهمي أو ستسعى مرة أخرى إلى فرضه باللجوء إلى مناورات تسويفية وحتى القمع؟ إذا اقتصرت على تحديد تاريخ آخر ولم تقم سوى بتغييرات سياسية شكلية، ستواجه حتماً رفضًا جديدًا. إذا لجأت إلى القمع، فلن يبقى هناك سوى نتيجتين محتملتين: ثورة ديمقراطية أو ديكتاتورية عسكرية-بوليسية.
هل ستختار السلطة هجوما قويا على طريقة عبد الفتاح السيسي بينما لا مخاطر تهدد الجمهورية؟ هل ستفضل الخيار السوداني الذي خلف قتلى وجرحى، لتقرر في نهاية المطاف فتح مرحلة انتقالية مشتركة؟ هل ستدرك أهمية التغييرات السياسية التي حدثت في الأشهر الثلاثة الماضية لمسايرة طموحات شعب الجزائر المشروعة لتقرير مصيره بنفسه؟ هذا الحل الأخير قد يجنب البلد كثيرا من القتلى والدمار ويبدد شبح مواجهة خاسرة لكلا الطرفين وتدخل إمبريالي محتمل يمكن، على سبيل المثال، استنتاج عواقبه الوخيمة في ليبيا.
باتت الكرة في أيدي السلطة. والحال أن أحمد قايد صالح في تدخلاته الأخيرة، يصر على ضرورة تنظيم انتخابات رئاسية بسرعة، حتى لو لم يعد يذكر تاريخ 4 تموز/يوليو. لذلك يجب مواصلة التعبئة. إن الطابع الجماهيري للتظاهرات الحالية، بينما دخلنا آخر أسبوع شهر رمضان، لا تدع مجالاً للشك حول عزم الجزائريين.
الضربة القادمة
على الرغم من أن عزم الحراك الشعبي لا يزال سليماً، إلا أنه لا يكتسي دوما دينامية ثورية تهدف إلى إطاحة السلطة للحلول محلها. ويظل في إطار دينامية إصلاح جذري يروم تغيير النظام عبر ضغط مستمر ومتزايد لحمل السلطة على التفاهم[4]. قد يتطور الوضع مستقبلا ويجب على الحراك والحالة هذه التكيف مع السياق الجديد عبر اعتماد تكتيك آخر. لذلك، لا ينبغي استبعاد أي شيء مسبقا. ولكن حاليا، لا يزال الخيار المحتمل هو خيار الضغط-التفاوض.
ويبدو دوما أن من الممكن دعوة الشعب إلى القيام بثورة ديمقراطية. لكن التجذر الملموس يحث بالأحرى على البحث عن مخرج سياسي موافق لطبيعة الحراك وتطلعاته ومطالبه وقوته، ولكن أيضا لحدوده وتناقضاته. لأن الهدف هو الخروج من هذه الأزمة عبر انتصار، جزئي طبعا لأنصار مجتمع اشتراكي، ولكن حقيقي وهام، لأن الثورات لا تتحقق في يوم واحد، وبوجه خاص، لا تخضع للإرادة الذاتية لمجموعة مناضلة محددة، ومُنظِّر معين. يمكن مقارنة الحراك الحالي بإضراب في مقاولة هدفه الرئيسي، بصرف النظر عن تلبية مطالب فورية مختلفة (أجور وظروف عمل…)، تعزيز وحدة العمال وبالتالي قوتهم وتنظيمهم ومعنوياتهم توقعا للنضالات القادمة. لا تكمن الغاية، على كل حال، في إطاحة إدارة المقاولة، ومصادرة المصادِرين، ولم لا، الاستيلاء على السلطة في البلد. لا يمكن تحقيق هذه الأهداف -ليس اشاعتها، ولكن تحقيقها واقعيا كشعارات- سوى في وضع ثوري. إن القيام بخلاف ذلك يرجع إلى الخلط بين الدعاوة والتحريض على أساس سوء فهم تام لرهانات سياسية حقيقية للظرفية وميزان القوى بين الجهات الفاعلة وبالتالي القدرة الموضوعية لمعسكر الشعب بالإضافة إلى إرادته الذاتية.
قد يتمثل رهان أي مفاوضات محتملة في فتح طريق مرحلة انتقالية حقيقية وليس مجرد إرجاء الانتخابات الرئاسية. وهذا يستلزم تغيير القواعد الاستبدادية للعبة السياسية للانتقال من ديمقراطية واجهة إلى نظام ديمقراطي حقيقي. هناك أنواع عديدة من انتقال متفاوض عليه. وفي الجزائر اليوم، هناك اثنان بالأقل، بإشراف هيئات مؤقتة، ينجم محتواهما وشكلهما وتشكلهما؟ ووظيفتهما؟ بوجه الدقة من ميزان القوى بين المعسكرات القائمة ووجود تسوية من عدمها بينها. هل يجب تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي يوصي بها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وقوى السوق لصالح الرأسمال الأجنبي والبرجوازية الكمبرادورية؟ أو تلبية المطالب الاجتماعية للعمال والجماهير الشعبية والحفاظ على ملكية الشعب لثروات الأمة وتراثها، ورد الاعتبار لدور الدولة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربة انعدام المساواة عبر تقويض الأوليغارشيات، وضمان الحريات الديمقراطية والنقابية؟
قد يؤدي النوع الأول إلى جملة إصلاحات عميقة إلى هذا الحد أو ذاك بهدف الانخراط في دورة انتخابية جديدة وترسيخ شرعيتها: تعديل بعض القوانين (حول الانتخابات، الأحزاب والجمعيات..)، وحل بعض المؤسسات (البرلمان..) ثم الاستعاضة عنها أو الإبقاء عليها (اللجنة الدستورية)، ومراجعة تشكل البعض الآخر (المجلس الدستوري ومجلس الدولة والمجلس الأعلى للقضاء..)، وفتح وسائل الإعلام والمجالات السياسية (حرية الوصول إلى أماكن الاجتماعات والحق في الاحتجاج..)، إنشاء هيئة وطنية مستقلة لتنظيم العمليات الانتخابية (وضع القائمة الانتخابية وتحديد الجدول الزمني الانتخابي ومراقبة العملية الانتخابية، وإعلان النتائج قبل تأكيدها من قبل المجلس الدستوري)، وحملة التحفيز على تسجيل المواطنين البالغين سن التصويت في القوائم الانتخابية… تهدف القوى السياسية والشخصيات التي تدعم هذه الطريقة، في المدى المتوسط، إلى إجراء انتخابات رئاسية تليها انتخابات تشريعية ومحلية.
يعيد النوع الثاني من الانتقال إلى الشعب دوره الوحيد في التأسيس، الكفيل بالحسم سياديا في كل المسائل المؤسسية عبر الانتخابات، بعد نقاش في المجتمع، حول الجمعية التأسيسية. سيكون النواب الممثلون فيها مسؤولين عن صياغة دستور جديد يخضع للاستفتاء، بعد صياغته. في هذا النوع من الانتقال، لا تُفترض مسبقا هيكلة مؤسسية ملزمة اعتمادها ولا اختيار انتخابات معينة (رئاسية، مجلس الأمة، اقليمية أوبلدية..) لأن الجمعية التأسيسية، على سبيل المثال، قد تقرر بوجه التحديد الغاء مؤسسات الرئيس ومجلس الأمة. ينبغي والحالة هذه السماح للنواب المنتخبين بالحسم في هذه المسائل قبل الرجوع إلى الدورة الانتخابية.
يظل اختيار هذا النوع أو ذاك من الانتقال خاضعًا للانتصار على مؤيدي الحفاظ على النظام الحالي وسيعتمد في النهاية على ميزان القوى في الميدان.
II.الرهانات الطبقية
لن تدرك الجماهير العريضة، على نحو واضح إلى حد ما، رهانات الوضع السياسي الطبقية، رهانات مخفية حاليا وراء المطلب الديمقراطي المشترك، إلا بعد بداية المرحلة الانتقالية.
ينفي الخطاب السائد الملتف حول أشكال مختلفة (قومية وإسلامية وعلمانية وديمقراطية وحتى «يسارية»)، وجود الرأسمالية والطبقات الاجتماعية المميزة لهكذا نمط إنتاج في الجزائر. ستكون الأحداث السياسية التي نعيشها مجردة من أي بعد طبقي. بناء على قراءة كتاب كارل ماركس الرأسمال وكتب الاقتصاد السياسي أو على مقارنة بسيطة مع الاشتغال الحالي لبلدان الرأسمالية المتقدمة، يستنتج مثقفون وسياسيون وصحفيون ومواطنون كُثُر خلفهم أن الجزائر «ليست حتى» بلدا رأسماليا. يتأسفون على ذلك باعتبار أن إرساء الرأسمالية سيمثل «تقدما كبيرا بالفعل».
بلد رأسمالي خاضع للسيطرة
مع ذلك، في الجزائر، هذا البلد الخاضع للسيطرة، لا يمكن للرأسمالية أن تشبه بأي حال نمط الإنتاج المجرد الذي وصفته كلاسيكيات الماركسية ولا الرأسمالية السائدة كما هي قائمة اليوم في مجموعة البلدان الصناعية السبعة. إن الطابع الخاص لطور التطور الرأسمالي الذي نشهده (سيرورة تراكم بدائي خاص) أحدث ولا يزال بالضرورة يحدث بنية طبقية خاصة بممارساتها المميزة وأشكال وعي طبقي أصيلة. هذا هو الجانب المميز لتطور الرأسمالية الذي يشكل في حد ذاته الجانب الشامل لتطور التشكيلة الاجتماعية في الجزائر منذ 40 عاما.
في ظل هذه الظروف، كل ما يكرهه مؤيدو رأسمالية مجردة مثالية ويرفضونه بصفته غير رأسمالي يشكل بوجه التحديد رأسماليتنا القائمة بالفعل، رأسمالية بلد خاضع للسيطرة بفساده المعمم، وبرجوازيته الهزيلة، الكمبرادورية والمجرمة، وطبقة عاملة منهوكة بسبب التخلي عن تصنيع البلد بعد الانفتاح («انفتاح» على الرساميل الخاصة) الجاري منذ عام 1980، وخيار إعطاء الأفضلية للتجارة والضريبة على حساب الصناعة، والتصدير الأحادي للمحروقات والتهرب الضريبي وتصدير الرساميل والمضاربة.. هذا هو التاريخ الحقيقي لتطور الرأسمالية في بلدنا. من المفهوم أن ذلك لا يثير الاعجاب، لكنه لا يتعلق بتاتا بانحراف معياري. لأنه إذا كانت هناك أمثلة عن تطور رأسمالي، فلا يوجد، باستثناء لدى الخبراء الأيديولوجيين التابعين لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي.. نموذج وحيد جاهز للاستعمال. تسود الرأسمالية على نطاق عالمي، لكن أشكالها الملموسة تختلف من بلد إلى آخر وفقًا لتاريخ تمفصل هكذا نمط إنتاج مع أنماط الانتاج التي سبقته، وأشكال اندماجه في رأسمالية عالمية تشهد تقاطبا بين بلدان مسيطرة وبلدان خاضعة للسيطرة، والتشكل الخاص بطبقاته وفصائله الطبقية عبر الاقتصاد والنضال الطبقي، وشكل الدولة ودورها الأصيلين…
الجزائر بالفعل بلد رأسمالي خاضع للسيطرة وتشُّكله نتاج تاريخ ملموس. ويتألف اليوم (تقريبًا) من أغلبية ساحقة من الأجراء (أكثر من 70٪) النشيطين، والعاطلين أو المتقاعدين، وبرجوازية تقليدية وجديدة (حوالي 20٪) وأقلية برجوازية (مقاولون ومستوردون وتجار كبار…) وكذلك كبار ملاكي الأراضي (أقل من 10٪). إن الصراع الحالي، بالمعنى الشامل ولكن في ظروف البلد الخاصة، صراع طبقي. عندما تجتاح الجماهير الشعبية الشارع صارخة ضد أنصار النظام «أنتم مُتخمون بثروات البلد»، فإنها تعني أن أقلية ضئيلة جردت الأغلبية مما كانت تمتلكه شكليا عبر الملكية العامة لوسائل الإنتاج. تمكن الشعب من معاينة كون مواقع السلطة، أوالقريبة منها، سمحت باكتساب غير مشروع للرساميل (المال) وبالتراكم الخاص، أي امتلاك وسائل الإنتاج من قبل فصيل يمثل أقلية في المجتمع وسقوط الأغلبية في ظروف البروليتاريا التي لا تمتلك سوى قوة عملها للعيش.
إن هكذا سيرورة نزع الملكية، لصالح الرأسمال الجزائري ولكن أيضًا، وبشكل متزايد، لصالح الرأسمال العالمي، لم تنته، وهي بالعكس مثار صراع ضار بين العمال والسلطة، لكنه يخترق أيضا جهاز الدولة كما قد يتضح مع عدم القدرة حتى الآن على خصخصة بعض القطاعات الاستراتيجية مثل قطاع المحروقات (قانون شكيب خليل)، أو استعادة الدولة مركب الحجار للحديد والصلب الذي باعته بسعر رخيص للرأسمال العالمي (آرسيلورـ ميتال)، والذي خربه بالكامل قبل إعادة بيعه بسعر غال للسلطات العامة. فسحت هذه الخدعة المجال لمجموعات أجنبية (المقاولة التركية توسيالي في بطيوة، والمجموعة القطرية العالمية في بلارة…) لبناء مركبات جديدة للحديد والصلب، ولكن مندرجة في سلاسل الإنتاج العالمية المنفلتة تمامًا من تحكم الجزائر. ولنستحضر في كانون الأول/دجنبر عام 2018 بيع المجموعة الاسبانية الخاصة غروبو فيلار مير Grupo Villar Mir لأسهمها في مجموعة فرتيال Fertial، الشركة التابعة للدولة سابقا المسماة أسمدال Asmidal، لصالح مجموعة حداد، ولقد ألغت الدولة، التي مارست حقها في الاسترداد، هذا البيع في آخر لحظة بفعل تعبئة العمال. ويتكرر سيناريو مماثل اليوم باتفاق بين أناداركو وتوتال، والذي يسمح للمجموعة الفرنسية بامتلاك ما يناهز نصف الإنتاج الوطني من الغاز الطبيعي المسال والغاز الصخري، إذا أضفنا هذا العقد لطاقتها الإنتاجية الحالية. هنا أيضًا، يبدو أن الدولة قررت ممارسة حقها في الاسترداد قبل التراجع. مسألة تقتضي المتابعة…
وهكذا، على الرغم من عدم ظهور الرهانات الطبقية، فهي حاضرة للغاية في الصراعات السياسية اليومية.
المطامح الضيقة للبرجوازية الجزائرية
بين مؤيدي الرأسمالية، هناك بعض محللي الوضع ورهاناته الواقعِيِين والواضحِين. إنها حالة الصحفي الذي يحلل، بطريقة مماثلة لرؤية الاشتراكيين، الواقع من زاوية الطبقات والصراعات الطبقية. في عموده الأسبوعي الذي نُشر قبل فترة وجيزة من انتفاضة يوم 22 شباط/فبراير، وجه القاضي إحسان نقدا حادا للرأسمالية الجزائرية الحالية انطلاقا من مثال واضح في نظره، مثال فشل استثمار مجموعة حداد في كرة القدم ووسائل الإعلام [5]. واختتم مقاله بإدانة لا هوادة فيها لواقع الرأسمالية الجزائرية والبرجوازية ودولتها.
وبمقارنتها مع الرأسمالية التونسية، يفسر القاضي «كم هي الرأسمالية بالجزائر في عهد بوتفليقة مزيفة وغير أخلاقية وقريبة من الاجرام.» ولم يتوقف عند هذا الحكم، بل أكد بشكل أكثر موضوعية: «لم تتمكن البرجوازية الجزائرية المرتبطة بنظام السلطة من خلق اقتصاد.»
وآخذ على بوتفليقة عدم السماح «بتطوير عالم وسائل الاعلام» الذي منعه أيضا في عام 2019، يشرح الصحفي كاتب الأعمدة:
«في بلد رأسمالي “طبيعي”، تستثمر البرجوازية في جميع قطاعات الأنشطة التي بوسعها توسيع دورة الرأسمال وتأثيرها على المجتمع لإعادة انتاج موقفها السائد. إن الدولة، في الواقع دولتها، تسمح لها بذلك. إنها تضبط، وتتظاهر بالسهر على ضمان العدالة في المنافسة، ولكن في النهاية، تمنحها القوة الناعمة للتأثير.»
وقارن الوضع بين البلد الاستعماري سابقا وبلدنا:
«في فرنسا، وسائل الإعلام الرئيسية في ملكية نحو عشرة أصحاب المليارات، الذين غالبا ما يكسبون المال ويتحكمون بإنتاج المعلومة وصنع الآراء. في الجزائر، فشل الرأسماليون المقربون من زمرة الرئيس في إقناعه بالسماح بنفس الشيء.»
وإذا أبرز مسؤولية السلطة والرأسماليين المقربين إليها في هذه الحالة الواقعية، فإن القاضي لا يتجاهل تأكيد ما يلي، بطريقة واضحة للغاية: «يدل ذلك بوجه خاص على الضعف السياسي للبرجوازية الجزائرية المحمية من نظام سياسي لا يمكن أن يضمن لها توطيد وضعها ضد التغير، الدائم الثوران، لآراء الشعب.»
وتأسف على احتكار التلفزيون العام الجزائري لبث مباريات الدوري، والذي «يشكل حرمانا للمستثمرين في كرة القدم من عائدات»، في حين تمثل حقوق الصورة إحدى «المصادر الرئيسية لمداخيل الأندية الاحترافية في الرأسمالية ”الطبيعية”»، يشير الصحفي بأن هذا الواقع «يقدم معلومات حول تأخر النظام البيئي لمجال الأعمال الجزائري الذي لا يعرف كيف يخلق أسواق تنميته عندما تتوقف الدولة، التي أعادتها سنوات بوتفليقة إلى الوراء.»
واختتم القاضي حديثه مستاء:
«لا تنتج البرجوازية الجزائرية قوة ناعمة. ولا تجعل الشعب يحلم. التي تستورد تختفي. والتي تقوم بتطوير الخدمة تعزز موقعها خفية، والتي تستثمر في الصناعة تنتظر اللحظة المناسبة. ولكن ما من واحدة لها وزن في التاريخ. ولم تكن حتى قادرة جماعيا على إنتاج أوليغارشيات حقيقية. لتوجيه سلطتها السياسية المفترضة إلى توسيع دائرة الربح من الناحية التاريخية.» سلطة يشبهها، فيما يتعلق بعهد بوتفليقة، بـ«سنوات عالم أعمال الفصل العنصري دون مخطط وطني.»
يحاول هكذا عمود القاضي، كما الحال غالبا لديه، إيقاظ الوعي الطبقي للرأسماليين الجزائريين عبر قراءة التناقضات والرهانات الاجتماعية الموضوعية والذاتية في المجتمع. وهو يتناول، على حدة، الظروف غير الأخلاقية بالضرورة للتراكم البدائي للرأسمال، واحتجاجات الفصيل الرأسمالي الفائق الليبرالية ضد سلطة مُتّهمة بإدارة عالم أعمال فصل عنصري في حين، يستحضر على نحو لا يخلو من السخرية، أن دور الدولة الرأسمالية «الطبيعية» متمثل في أن تكون محايدة زورا، لكن في الواقع في خدمة البرجوازية. اتهامات أيضا ضد الفصيل المرتبط بنظام بوتفليقة الذي يراه عاجزا عن التأثير على السلطة لتوسيع دائرة أرباحه وضمان إعادة إنتاج موقفه السائد. بشكل أعم، يشرح بطريقته الخاصة أزمة هيمنة البرجوازية الجزائرية العاجزة عن جعل الشعب يحلم بمنحه «خطة وطنية» وسلطة قادرة على «ضمان توطيد وضعها بوجه التغير، الدائم الثوران، للمواقف الشعبية.» لا شك أن القاضي محلل لامع وثاقب الفكر خسره التيار الماركسي بالجزائر، في اليوم الذي انتقل فيه إلى المعسكر المضاد.
لذلك على ضوء كل هذه الرهانات الطبقية يمكن محاولة فهم تكتيك مختلف القوى الاجتماعية وأوجه إعادة التشكل السياسي التي قد تحدث في الأشهر والسنوات القادمة.
الميولات الثورية للبرجوازية
البرجوازية الجزائرية ضعيفة ومنقسمة وتعاني أزمة هيمنة. وبينما تشكل الطبقة السائدة، فإنها لا تتمسك بزمام أمور أجهزة الدولة. وللاستيلاء عليها، أقدم فصيلها الفائق الليبرالية المعارض منذ عدة سنوات على الانعتاق من الأغلال التاريخية التي تكبلها بها أجهزة الدولة التي لا تزال في أيدي برجوازية صغيرة يظل تاريخها متسما بالثورة الجزائرية قبل وبعد الاستقلال. برجوازية صغيرة ترفض الانتقال فجأة إلى اقتصاد السوق، والاندماج «دون تردد» في الرأسمالية العالمية في إطار تبعية وخضوع كلي للنظام الإمبريالي الإقليمي. إن الرهان الأساسي للبرجوازية الخاصة الذي يقوده فصيلها الفائق الليبرالية متمثل في الانتقال من وضع الطبقة السائدة إلى وضع الطبقة الحاكمة.
بعد أن طالبوا السلطة بالعمل لصالحهم منذ مدة طويلة وبشكل ملح، لكن بلا جدوى، استثمر رجال الأعمال، ضمنهم جنود سابقون، تدريجيا في جهاز الدولة: عبر شراء المناصب العامة (رؤساء البلديات والنواب..) عبر أحزاب الائتلاف الرئاسي (جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي، الحركة الشعبية الجزائرية، تجمع أمل الجزائر..)، ولكن أيضا المعارضة الفائقة الليبرالية (طلائع الحريات، حركة مجتمع السلم، التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية..). وعبر الاستثمار الهائل في وسائل الإعلام الخاصة (الصحافة المطبوعة والقنوات التلفزية الخاصة وأجهزة الراديو على الإنترنت..) ولكن أيضًا، باطراد في وسائل الاعلام العامة، وكذلك عبر انشاء شبكات تنسيق (جمعيات، مؤسسات فكرية..). وتنظموا في نقابات وجمعيات أرباب العمل قوية باطراد لفرض مصالحهم على السلطة التنفيذية. لكن هذه الأخيرة سرعان ما روضتهم عبر الاستيلاء على منظمتهم الرائدة (منتدى رؤساء المؤسسات) التي جرى عزل رئيسها السابق رضا حمياني عبر «انقلاب علمي» تمتلك السلطة سره. تراجع بعض المنشقين، مثل يسعد ربراب (سيفيتال)، عن إدارة شؤونهم في انتظار أيام أفضل. بينما قررت الأغلبية مرافقة السلطة على أمل التأثير تدريجيا على توجهات توجهات الفصيل.
بعد فشل التكتيكين، وهذا ما لم يعق إلى حد كبير تطوره الهائل ونمو قوته المالية وقدرته على اختراق المؤسسات، انخرط الفصيل المعارض، على غرار رئيس سيفيتال، في معارضة نشطة باطراد، سعيا إلى تعبئة الشارع في العامين الماضيين قبل الاسهام في حراك 22 شباط/فبراير «لوضع حد للنظام الحالي». إن السلطة الفعلية، أي سلطة كبار القادة العسكريين، تمكنت في نهاية المطاف من حملهم جميعا على الاتفاق برمي ممثلي مختلف فصائل هذه البرجوازية في السجن! يكتسي ذلك إلى حد كبير دلالة رمزية لفشل البرجوازية الجزائرية السياسي. لكن هذا الفشل ليس ولا شك سوى مؤقتا لأن السلطة الحالية، التي ترتبط بعدة علاقات خفية، ولكن أيضا مرئية، مع أصحاب الرساميل، وتفتقد كل مشروع بديل للتنمية الرأسمالية، لن تستطيع في النهاية سوى تسليم زمام الأمور عاجلا أو آجلا إلى الممثلين السياسيين لهذه البرجوازية الصاعدة.
هل ستحدث هذه السيرورة عبر ثورة؟ هل ستوافق السلطة الفعلية أخيرًا على التفاوض حول تسليم زمام الأمور إلى ممثلي الرأسمالية الجزائرية الجديدة السياسيين؟ هذه هي الرهانات الحالية التي يجب أن تدفع منطقياً السلطة ومعارضتها البرجوازية لإيجاد تسوية في القمة تؤدي إلى إصلاحات سياسية محدودة تليها انتخابات رئاسية من شأنها أن تجعل الحاكم الأول في البلد يحظى بشرعية تسمح له أخيرًا بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والهيكلية المرجوة للغاية، لكن لا يزال تحقيقها غير كاف. تحتاط البرجوازية في الواقع من «التغير، الدائم الثوران، لآراء الشعب.» كحذرها من الطاعون.
باسم هذا السيناريو تحديدا، المحتمل على الرغم من أن لا مفر منه، يرفض بعض الماركسيين دعم الحراك الشعبي الذي يختصرون عمله في دور حصان طروادة سيء للبرجوازية. ما من ماركسي، وطبعا ليس لينين، أخفى أن إقامة نظام ديموقراطي برجوازي كان يخدم مصالح البرجوازية. لكنهم أشاروا إلى أن هذا النظام كان مفيدًا أيضًا للبروليتاريا بتيسير تنظيمها في طبقة مستقلة، من جهة، ومن ناحية أخرى، بإبراز التناقض، أمام أنظارها، بينها وبين البرجوازية، بينما يبقى هذا التناقض مخفيًا طالما أن المسألة الديمقراطية لم تحل. هذا بالضبط ما حدث في تونس حيث قد يناضل العمال ويتنظموا بحرية أكبر مما كانوا عليه في ظل دكتاتورية بن علي وحيث برزت الرهانات الطبقية إلى الواجهة: نموذج التنمية، وظروف المعيشة والعمل، والبطالة، والتضخم، والاختناق المالي عبر قروض صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وممالك الخليج…
في ظل هذه الظروف، لا تتمثل مهام أنصار الاشتراكية في الابتعاد عن النضال الديمقراطي ناهيك عن جعله مقابلا للمشروع المناهض للرأسمالية، بل ربطهما معا بالعكس في إطار سيرورة دائمة، ولتجنب الإساءة لأي أحد، مُلْزمة بالمرور عبر أطوار.
بقلم، حسين بلالوفي،31 أيار/مايو 2019
ترجمة جريدة المناضل-ة
اقرأ أيضا