فرنسا: بعض دروس الانتخابات الأوروبية
إذا فشل إيمانويل ماكرون في رهانه أن يرى قائمة « الجمهورية إلى الأمام » تتصدر الانتخابات الأوروبية، فسيكون من المتعجل استنتاج أن النتائج الإجمالية للتصويت تشكل هزيمة ساحقة للسلطة القائمة. لأن أصوات يوم الأحد الماضي، أخذا بالاعتبار تفاصيل بسيطة، تظهر أن ماكرون وأنصاره قد نجحوا جزئياً في رهانهم، وخاصةً بناء استقطاب بين “الجمهورية إلى الأمام” والتجمع الوطني، وإحالة أي أطراف أخرى تسعى لتولي المسؤوليات على الهامش أبعد مايكون. وبالتالي، من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات قاطعة من الانتخابات الأوروبية، خاصة في فترة عدم استقرار حيث يمكن أن يتحول مجرى التصويت بسرعة، ولكن مع ذلك تظهر بعض الميول، أقله أنها مثيرة للقلق.
لقد تأكد الميل السائد بالفعل خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2017 بحصول الحزب الاشتراكي على نسبة 6.19 ٪ من الأصوات والجمهوريين على 8.48 ٪، وحتى بتعززهما فهما ينهاران باعتبارهما حزبان ضمنا في العقود القليلة الماضية التناوب في تدبير شؤون البرجوازية ودولتها. لنتذكر أنه في عام 2014 ، حصل هذان التياران على التوالي على 13.98٪ و 20.81٪ من الأصوات، في انتخابات فاز بها بالفعل اليمين المتطرف لمارين لوبان. إن فرنسا واحدة من بلدان عديدة حيت تبحث الطبقات المهيمنة عن تمثيل سياسي مستقر، وتواجه صعوبات كبيرة في تحقيقه. ولكن على المستوى الأوروبي، يمكن للمرء أن يلاحظ استقرار تشكيلات “تقليدية” معينة أو عودتها (أكثر من 30٪ بالنسبة للاشتراكية الديمقراطية في الدولة الإسبانية، والتكثل الألماني؛ الاتحاد الديمقراطي المسيحي – الاتحاد الاجتماعي المسيحي، في حالة انحدار ولكن مع ذلك يحتفظ بنحو 29 ٪ من الأصوات، ويحتل كل من حزب الشعب النمساوي والحزب الاجتماعي الديمقراطي النمساوي المرتبتين الأوليين، الخ).
شبه فشل لماكرون
أن يحتل ماكرون المركز الثاني هو من نواح عدة بمثابة فشل. لأن « الجمهورية إلى الأمام » هي التشكيلة السياسية الوحيدة عمليا الموجودة في السلطة، على صعيد البلدان الأوروبية الرئيسية، باستثناء بريطانيا التي تجتاز أزمة خاصة جدا، والتي لم تتمكن من احتلال المرتبة الأولى إبان الإنتخابات. ما يؤكد ضعف القاعدة الاجتماعية والانتخابية لماكرون، ناهيك إلى حد ما أن الأرقام الأولى تشير إلى أن “الجمهورية إلى الأمام” قد « قضمت » بشكل كبير جزء من ناخبي اليمين التقليديين، وبالتالي منطقياً، ورغم الابتزاز ب « الحصن » ضد اليمين المتطرف، فقدت جزءًا كبيرًا من ناخبيها عام 2017. ووفقًا للبيانات المتاحة، لم يستمل ماكرون سوى 54٪ من ناخبيه لعام 2017، مقابل 80٪ لـلوبان والتجمع الوطني. ويكفي القول إن عدم الاستقرار لا يزال قائماً وأن من اعتبرته، في عام 2017، قطاعات مهمة من البرجوازية، حلا للخروج من أزمة مؤسسات الجمهورية الخامسة، هو اليوم يمثل جزء من المشكلة.
لكن، في الوقت نفسه، نجحت الحسابات الصغيرة لماكرون وأنصاره: يستمر ماكرون في الظهور خيارا أقل سوءا بالنسبة للطبقات المهيمنة، من خلال المساهمة عبر تبني سياسات وخطب ليبرالية ورجعية متطرفة، في انهيار ما يسمى باليمين الجمهوري، وبتثبيت اليمين المتطرف باعتباره المعارضة الوحيدة الموثوقة. وسيشجعه ذلك على مواصلة إصلاحاته المضادة وسياساته الاستبدادية، بالاستمرار في التأكيد على أنه “لا يوجد بديل“… إن لم يكن اليمين المتطرف. هكذا أمكن المتحدث الرسمي باسم « الجمهورية إلى الأمام » أوروري بيرجي التصريح، دون أن ترجف له عين، غذاة الانتخابات: « لقد اختار الفرنسيون القطيعة مع التقاطب بين اليمين واليسار. ونحن الوحيدون القادرون على هزم اليمين المتطرف. اليوم يجب أن نحافظ على مسارنا وتماسكنا ». وهذا معناه تحضير معارك جديدة…
اليسار بأسوأ حالاته في مواجهة خطر أقصى اليمين
لم يعد الأمل مسموحا على اليسار، مع حصيلة انتخابية تاريخية متدنية، وسقوط مدو لحركة « فرنسا المتمردة »، في ميزان القوى الداخلي، ومجموع نتيجة انتخابية لفرنسا المتمردة والحزب الشيوعي أقل من حصيلة الحزب الاشتراكي وحركة “أجيال” (8.8 ٪ مقابل 9.5 ٪). فقط الخضر هم من استطاع على ما يبدو سل الشعرة من العجين، إذ حصلوا على 13.47٪ من الأصوات، وهو ما يؤكد، رغم الديناميات المتناقضة داخل ناخبي حزب أوروبا البيئة والخضر، أن اليسار يوجد في أسوأ حالاته. ظل يانيك جادوت، زعيم قائمة حزب أوروبا البيئة والخضر، يكرر بالفعل خلال الحملة الانتخابية أن البيئة التي يدافع عنها ليست « لا من اليمين ولا من اليسار“، وأنها تتوافق مع اقتصاد السوق. وهي تصريحات لا تتوافق تمامًا مع التجذر المعبر عنه، لا سيما وسط الشباب، بشأن قضايا العدالة المناخية، ومع الإدراك بأن “النظام” هو ما ينبغي بالفعل تغييره. ولكن يبدو أن حزب البيئة والخضر هو المستفيد من المخاوف البيئية المشروعة، ما يدل على أنه لا يزال يتعين خوض معارك للإقناع بأن البيئة لا تتوافق مع الرأسمالية.
ولا تسمح نتائج أقصى اليسار بأمل قلب هذه الميول أخذا بالاعتبار حالة الأمور الراهنة، إذ لا تترجم ذلك الحصيلة الانتخابية لقائمة النضال العمالي التي دعا الحزب الجديد المنهاض للرأسمالية للتصويت لصالحها. ربما لم تساعد حملة النضال العمالي، غير المبالية شيئا ما بالحركات الملموسة والمتمحورة حول شعار عام للغاية بشأن إدانة “رأس المال الكبير“، لكن الأمر يتعلق في المقام الأول بصعوبة بناء تعبئات منتصرة، تعيد الأمل والاعتبار لفكرة إمكانية إحداث تغيير جذري في المجتمع، ما يتيح فهم نقصان مصداقية مقترحات المنظمات الثورية المناهضة للرأسمالية.
إعادة بناء مشروع تحرري
إجمالا، وحتى مع أن نتائج 26 مايو تعكس ميولات حقيقية، لا يسعنا سوى الاتفاق مع باربرا ستيجلر: « لا تأخذ نتائج الخروج من مراكز التصويت في الاعتبار على الإطلاق كل الأمور الرائعة التي حدثت وغير المسبوقة في حياتنا السياسية، منذ ستة أشهر. أين حركة السترات الصفراء من صناديق الاقتراع؟ ولا شيء. يوضح هذا التشويه الدرامي وجود خلل كبير في ديمقراطيتنا »1. خلل كبير يستفيد منه اليوم اليمين المتطرف بالمقام الأول، رغم ثرثرته “المناهضة للنظام“، والذي تشهد نتائجه على انغراس حقيقي للغاية، وسط الفئات الشعبية من بين فئات أخرى، حتى مع أن الامتناع هو دائما سيد الموقف لدى هذه الشرائح الشعبية. إن انتخابات 26 مايو تمثل تحذيراً: بدون تعبئة اجتماعية ضخمة تفضي لانتصار أو انتصارات، وبدون بناء بدائل أخرى، حول مشروع تحرري، مغايرة للبديل ماكرون–لوبان الخاطئ تماما، يمكن لهذه الانتخابات الأوروبية أن تشكل بروفة شاملة للانتخابات الرئاسية عام 2022، بسيناريو أسوأ.
بقلم، جوليان سالانغ، 29 مايو 2019، ترجمة جريدة المناضل–ة
1. « Barbara Stiegler : “Ce scrutin ne rend pas compte de ce qui s’est produit d’inouï en six mois” », liberation.fr [3], 27 mai 2019.
رابط المصدر: : https://npa2009.org/actualite/politique/quelques-lecons-du-scrutin-europeen
اقرأ أيضا