أيّ تقييم لمُؤتمر الاتّحاد المغربي للشغل الثاني عشر؟
قبل شهرين نظم الاتحاد المغربي للشغل مؤتمره الوطني. ومرة أخرى لم يشهد تحضير المؤتمر، و لامجريات أشغاله، نقاشا حقيقيا حول ما تتعرض لها الطبقة العاملة وحال أدوات نضالها.
وحتى بعد انتهاء الأشغال، بالنتائج المعروفة، لا نقاش تقييم و لا استشراف للمستقبل.
المناضلون المنتسبون لنضال الطبقة العاملة، من موقع يساري، هم المساءلون بالمقام الأول. و للأسف، ساد صمت، أقل نعوثه الممكنة هو السلبية، وأوسطها هو التواطؤ مع المتحكمين في الجهاز لدوافع انتهازية، وأسؤها خيانة.
حال منظمات العمال، ومآلها، أمر عظيم الأهمية، عليه يتوقف مستقبل المغرب، هذا البلد الحابل بانتفاضة شعبية غير مسبوقة. فما من مبرر للصمت حياله، أيا كانت الحسابات، صغيرة أو كبيرة. وسائل التواصل الحديثة تتيح النقاش حتى بعيدا عن رقابة البيروقراطية وقمعها. فلم يبق مبرر للصمت.
فيما يلي وجهة نظر تروم إحاطة غير سطحية بما سمي مؤتمرا وطنيا ثاني عشر للاتحاد المغربي للشغل.
*****
بقلم: مصطفى البحري
ماي 2019
لن يعتبر ما جرى أيام 15-16-17 مارس 2019 مؤتمرا وطنيا للاتحاد المغربي للشغل غير كاذب على نفسه وعلى الآخرين. منذ عشرات السنين، كفت مؤتمرات هذه النقابة عن أن تكون فعلا مؤتمرات بمعنى هيئات معبرة عن إرادة القاعدة العمالية، سواء بالانتداب أو بنقاش قضايا العمل النقابي وتحديد مهامه.
وينطبق هذا على هيكل الاتحاد المغربي للشغل برمته، من تحت إلى فوق. لذا ليس تقييم المؤتمر الثاني عشر سوى نظر في كيفية اشتغال هذه النقابة، تلك الكيفية التي يفرضها ما يسعى إليه قادتها من أهداف.
الجذور العميقة لنتائج المؤتمر الثاني عشر
طيلة حقبة تحكم المحجوب بن الصديق بالمنظمة، تكرس إفراغ هيئاتها من أي مضمون، حيث كل شيء خاضع لإرادته الشخصية. وقد أدت هذه الآلية إلى إعدام حياة داخلية تبني منظمة نضال، وحتى إلى تنحية العديد من قادة المنظمة وأطرها، منهم من خدم المحجوبية مددا طويلة.
قام منظور المحجوب بن الصديق، ومعاونيه في القيادة، على عزل المنظمة النقابية عن تأثير اليسار الاتحادي الذي مثل لفترة تاريخية المعارضة الأبرز للملكية. والوجه الآخر لهذا المنظور هو اقتصار النقابة على مطالب آنية غير مسيسة، في حدود متحكم بها، ومحدودة الإضرار بأرباب العمل والدولة.
الشرط اللازم لسيران هذا المنظور هو قتل كل حياة نقابية داخلية حقيقية. يتطلب ذلك أولا أن تقف نقابة المقاولة في حدود المقاولة، أي قطع أي جسر مع مقاولات الفرع الصناعي، بتجريد البنيات النقابية القطاعية من أي دور نضالي فعلي، وقتل إي اهتمام بالشأن النقابي الوطني. يبقى اسم الاتحاد المغربي للشغل، بالنسبة لعمال المقاولة، مجرد مظلة قانونية تنضوي تحتها نقابتهم. وينطبق هذا على القطاعات الوطنية فيما بينها. الكل ملزم بالانطواء في زاويته، مع تنبيه كل من يتخطى الإطار المرسوم، وردعه عند الاقتضاء.
العامل المبتدئ في النقابة يأتي إليها بضغط من عسف أرباب العمل اليومي، وهضمهم الحقوق الأولية البسيطة، حتى الواردة في قانون الشغل. لهذا لا يتعارض فهم هذا العامل للنقابة مع المنظور الانزوائي المحدد من قبل القيادة العليا. أما نضال الطبقة ككل ضد أرباب العمل ودولتهم فخارج كليا عن نطاق اشتغال الفرع النقابي في المقاولة والقطاع، سوى عندما يكون للقيادة غرض في استعمال القاعدة للضغط ضمن حدود المناوشة التي تقتضيها ضرورات التفاهمات مع أرباب العمل والدولة.
وما من أمر أدل على هذا الواقع من انتفاء صحافة نقابية تكون أداة لبلورة الوعي النقابي الجماعي المتخطي للفئة وللقطاع. فليس صدفة أن ما شهد تاريخ المنظمة من صحافة لم يكن ينهض بهذه المهمة، لا بل تم التخلي عن كل صحافة منذ مطلع سنوات 1980 بتوقف جريدة الطليعة، ولم تأت تطورات الإعلام الالكتروني بأي جديد في هذا المضمار.
بدل أن تكون القيادة النقابية جهازا لتنفيذ ما تقرر القاعدة، أي تعبيرا عن إرادة جماعية تبلورها الحياة الداخلية للنقابة، تظهر القيادة في نظر العامل كمركز له نفاذ إلى الدوائر العليا في الدولة، ومن ثمة مقدرة على التوسط لحل مشاكل العمال في المقاولة وفي القطاع. بهذا تصبح بطاقة الانخراط في النقابة نوعا من الضمانة قد يحتاجها العامل يوما ما لحل مشكل مهني فردي او جماعي في حدود المقاولة او الفئة، وفي بعض القطاعات للاستفادة من مزايا مثل خدمات الشؤون الاجتماعية، هذه التي يسير الاتحاد المغربي للشغل أغناها. والمقابل المطلوب من هذا العامل هو تسجيل الحضور في تظاهرة فاتح مايو الاحتفالية، وفي ما ينظم من مناسبات لا محتوى نضالي لها، مثل المؤتمرات و»التعبئات».
يؤدي انعدام حياة نقابية داخلية على صعيد نقابة المقاولة والفئة والقطاع إلى جعل ما يسمى مؤتمرات، محلية أو وطنية، مجرد مسرحيات محكمة الإخراج اللاديمقراطي بقصد تجديد الهياكل وفق قاعدتين:
إحكام سيطرة أتباع القيادة، التابعة للقائد الأول.
تقاسم مناصب الجهاز بين أقطاب الجسم البيروقراطي.
تحكم القيادة العليا يضمن استمرار سير المنظمة العمالية على خط الولاء للنظام، وهو طبعا لا يلغي مناوشات واحتكاكات، وحتى صدامات قد يفرضها ضغط القاعدة الموضوعي.
أما تقاسم مناصب الجهاز بين أقطاب البيروقراطية فيمليه ما تتيحه من انتفاع ومتاجرة في النضالات.
يسير هذا التدبير لصنع الأجهزة مع تغييب اي نقاش حقيقي لخط النقابة ومهامها، مع ما كرس المحجوب من احتقار للفكر والمفكرين، في صدامه مع نقابة المدرسين، المعارض التاريخي لنهجه.
استمرت هذه الآلية «التنظيمية» طيلة عقود. وماتت كل حياة داخلية في النقابة، من تحت إلى فوق. الكل يمثل أمام الكل، لأن الجميع يعرف حقيقة آلية الاشتغال تلك، ويعي جيدا ان عدم الانضباط لها سيلقيه خارج المنظمة.
هذا ما يفسر أن أعظم المصائب والفضائح، مثل المشاركة في نهب الضمان الاجتماعي، وفساد هيئات الشؤون الاجتماعية والتعاضدية التي يسيرها مسؤولون من الاتحاد المغربي للشغل، لم تهز بتاتا الجسم النقابي.
هذا ما يفسر أن تعيين ما يسمى المندوبين إلى «المؤتمر الوطني» الثاني عشر لم يثر أي اعتراض. هذا ما يفسر أن مواقف الاتحاد لا تثير أي نقاش.
قمع حرية التعبير هي القاعدة رقم 1 التي دأب على تطبيقها حتى محسوبون على اليسار الجذري.
كل صنوف انتهاك حرية التعبير وقواعد الديمقراطية الداخلية، وكل فضائح التسلط والفساد البيروقراطيين، لا تكون موضوع كلام سوى من طرف من لفظهم الجهاز، معظمهم أكباش فداء قضايا الفساد [محمد عبد الرزاق، فاروق شهير، رشيد المنياري …]
هكذا شهدنا رشيد المنياري، الذي ضحى به مخاريق في تحالفه مع بن إسماعيل خليلي، ينظم حملة تشهير باسم حركة تصحيحية وهمية. وانضم إليه فاروق شاهير، أحد كبار أقطاب الفساد النقابي في تاريخ المغرب، موجها رسالة إلى أعضاء الاتحاد بمناسبة المؤتمر كلها تهم تنطبق عليه قبل غيره.
حالة الاتحاد المغربي للشغل هذه استمرت عشرات السنين، طيلة حياة المحجوب. و ساعد المؤتمر العاشر على مدها بنفس جديد. فالسهولة التي فرض بها موخاريق نفسه في مقعد الأمين العام رغم مادة القانون التي تمنع ذلك، دالة على أن الآلية البيروقراطية قد شُحمت لتشتغل على نفس المنوال لعشرات سنين أخرى.
من أية زاوية نظر يجب تقييم وضع الاتحاد المغربي للشغل؟
النقابة شكل تنظيم عمالي أولى. تكرس تاريخيا كأداة لتحسين الوضع في ظل الرأسمالية، مع وجود تيارات عمالية تسعى لتخطي هذا الإطار. تكمن أهمية النقابة في تجميعها للعمال بغض النظر عن الفروق السياسية والفكرية والدينية وسواها: الأساس هو السعي لتحسين شروط بيع قوة العمل.
هذا التحسين يظل دائما نسبيا وهشا طالما بقيت الرأسمالية. لهذا يعتبر أنصار تحرر الطبقة العاملة التام من الاستغلال (الماركسيون)، النقابة مدرسة نضال من أجل هذا التحرر، وليست هدفا بحد ذاته. وأداة التحرر التام هي حزب العمال، قائد النضال من أجل الاستعاضة عن سلطة البرجوازيين بسلطة المنتجين المتشاركين بحرية.
لهذا فتقييم مؤتمر منظمة نقابية لا يستقيم إلا من وجهة نظر تحرر العمال التام. هل يخدم سير المنظمة النقابية هدف جعل النقابة مدرسة نضال عمالي؟
هذا المنظور ليس هو السائد لدى معظم اليسار الجذري ببلدنا. ويمثل هذا الحقل إحدى أهم المجالات التي أبان فيها هذا اليسار بعده عن الماركسية. إذا استثنينا سنوات الإبادة التي لم يتح فيها القمع لهذا اليسار إسهاما ذا شأن في الساحة النقابية، واقتصرنا على ربع قرن الأخير، نجده مارس نقابيا بنحو لا يروم سوى الظفر بتمثيل في الأجهزة، بتوافق مع المتحكمين بصنعها، سواء في ذلك عملهم في الاتحاد المغربي للشغل او في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. ما عنى ممارسة محض نقابية تخشى خلط الشأن النقابي مع الشأن السياسي. والحال أن هذا الخلط هو بالضبط مهمة الماركسيين داخل النقابات. فماذا يعني رفع وعي العمال غير انتشالهم من النضال الاقتصادي؟ هذا الانتشال يقتضي التميز عن التيار السائد في النقابة، والتيارات الإصلاحية هي التي تسود في توجيه النقابات خارج الأوضاع الثورية. التميز بماذا؟ بمنظور للنضال يهدف إلى إبراز التعارض الجوهري بين مصلحة العمال ومصلحة البرجوازية، وبلورة مطالب ذات قدرة على إنماء إرادة النضال لدى العمال، وتضعهم على طريق وعي الحاجة إلى إسقاط سلطة رأس المال. منظور يطال أشكال النضال وتنظيمه، يحفز فعل العمال الذاتي والديمقراطي.
طالما كان المنظور خاطئا لا يرى غير التمثيل في الجهاز، فلا مفر من السقوط في التوافقات مع المتحكمين بالجهاز، واعتبار اي مقعد يهبونه مكسبا. وجلي ضلال هذا المنظور. فالبيروقراطية تضبط أي وجود يساري في الجهاز ضمن الحدود التي لا ينال من هيمنة الخط البيروقراطي، وتقلمه بين فينة وأخرى. والأمثلة، على الصعيدين المحلي والوطني، أكثر من أن تعد، لا شك أن أبرزها الاتحاد الجهوي بالرباط، ومجريات المؤتمر الوطني العاشر وما تلاه.
ثم ما جدوى وجود في الجهاز ليس تعبيرا عن وجود في المنظمة متميز عن البيروقراطية؟ وما جدوى كلام جميل في أدبيات دون أن يعكس رأيا في القاعدة؟
يبدو أن اليسار المساير للبيروقراطية يحكمه هو ذاته منظور بيروقراطي: نوع من تقليد تحكم اليسار الاتحادي في المنظمة النقابية من فوق، وعلى القاعدة ان تتبع بانصياع وسلبية.
هذا المنظور أبانت التجربة، لمن لا يريد التفكير، انه منظور فاشل عمليا، وضال سياسيا.
يمكن الآن لهذا المنظور أن يقيم المؤتمر 12 بأنه ايجابي في هذا الجانب أو ذاك، لاسيما الحصول على 3 مقاعد بالقيادة العليا. لن يتاح للقادة «الحُمر» الثلاثة أي تعبير عن تميز عن الخط الموخاريقي، وسيكونون مجرد رهائن لدى هذا الخط، يضفي بهم تزكية على ما سيسن من خطوات خيانية في سياق يشتد فيه الهجوم على العمال، ويبشر بانطلاق كفاحات شعبية في سياق إقليمي مناسب.
أما من منظور ماركسي ثوري، فتقييم ما سمي مؤتمر 12 هو في النظر إلى ما تحت رأس جبل الجليد، اي الاشتغال الكلي للمنظمة ، وآليات إعدام حياة داخلية حقيقية في الاتحاد المغربي للشغل. من زاوية النظر هذه ليس المشكل في المؤتمر بل في المنظمة برمتها.
ما العمل في الاتحاد المغربي للشغل؟
أول ما يجب على المناضلين العماليين هو نزع الصنمية التي أُحيطت وتُحاط بالاتحاد المغربي للشغل. صنمية تجسدت طيلة عقود في رفض اعتبار غيره من النقابات منظمات عمال، بمبررات زائفة ومضللة أعظمها اعتبار الاتحاد المغربي للشغل نقابة مستقلة وما سواه نقابات حزبية. وجه الزيف والضلال هو أن الاتحاد المغربي فاقد لأي استقلال إزاء أول من يجب الاستقلال عنه، وهو الملكية. فحتى دون اعتبار موقع من تغرسهم المخابرات في أجهزة هذه المنظمة، وموقع أقارب أحزاب تابعة للنظام مثل الاتحاد الدستوري، ظل خطها وفيا لخدمة الاستبداد على طول الخط، لأنها لم تكن تعبر عن توجه عمالي بل عن خط فئة بيروقراطية لها مصالحها الخاصة وغارقة في الفساد.
جعل الاتحاد المغربي صنما يُعبد، هو الكامن خلف شعار «بت نبت» اللاعقلاني. وهو الكامن حول المواقف المتضامنة مع نضالات تُخاض تحت لواء هذه المنظمة [مع إضافة كدش أحيانا] وتجاهل كفاحات شغيلة القى بهم خمج الساحة النقابية إلى النضال تحت لواء نقابات مصنوعة من أحزاب رجعية.
كل المنظمات النقابية سواء بقدر ما يتخذها عمال أداة نضال من أجل تحسين أوضاعهم.
ثاني واجباتنا إزاء الاتحاد المغربي للشغل، هو كسر الصمت المكرس منذ عقود: يجب نقاش وضع المنظمة بجميع أبعاده. لم يعد للبيروقراطية أن تمنع هذا النقاش مع المتاح تكنولوجيا من إمكانات تواصل.
واجبنا إزاء الاتحاد المغربي للشغل، وسواه من نقابات، هو العمل لرفع مستوى وعي العمال وكفاحيتهم. فمن قلة وعيهم ومن سلبيتهم، واتكاليتهم، تتغذى البيروقراطية المتعاونة مع أرباب العمل ودولتهم. يجب العمل في الطبقة العاملة نقابيا وسياسيا، بالدعاوة والتحريض والتنظيم.
يجب بناء إعلام عمالي حديث، يلقي أضواء الماركسية على كل ما يهم عمل الشغيلة وحياتهم. يجب تثقيف العمال المتقدمين سياسيا، وتنوير المتخلفين بكل قضايا الوضع بالبلد، باستعمال تفاصيل الحياة السياسية المتحكم بها، وما يجري في مؤسسات الديمقراطية الزائفة. الغاية شحذ شعور الانتماء إلى طبقة على حدة، أي وعي ضرورة الاستقلال الطبقي.
الواجب إزاء الاتحاد المغربي للشغل هو الواجب إزاء كل منظمة نقابية يتخذها العمال اداة لنضالهم اليومي: رصد مجريات التنظيم والنضال ودراستها، وإرشاد المعنيين بالمعرفة النقابية والسياسية، وبالخبرة التنظيمية، وتقييم المعارك، ومد الجسور نحو عمال النقابات الأخرى، وتوحيد النضالات.
وبما أن قمة بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل تستقوي بالامتيازات المادية ومصادر الانتفاع لتصنع شريحة موالية لها بكل مستويات المنظمة، لإعادة إنتاج الحالة القائمة، يلزم تنظيم حملة ضد الفساد، تجلياته وبؤره، بفضحها بلا تردد على أوسع نطاق تتيحه وسائل التواصل الحديثة؛ وإبراز رعاية الدولة له ليبقى وسيلة للتحكم في البيروقراطية لتخدم أهداف الدولة.
تغير الوضع النضالي كثيرا عما كان أيام المحجوب، وتحسنت شروط التواصل بين القطاعات العمالية، وتعاظمت إمكانات تخطي الحواجز المصطنعة بيروقراطيا، و لا ينقص غير الإقدام ونفض عادات وتصورات أبانت التجربة طابعها الخاطئ.
اقرأ أيضا