بعض الأفكار عن الانتفاضة الجزائرية
إن ما يحدث في الجزائر تاريخي حقاً. ربح الشعب المعركة الأولى في نضاله من أجل تغيير جذري للنظام. في هذه المقابلة، يقدّم لنا الدكتور حمزة حموشان بعض الأفكار حول توقعات وآفاق الحركة الشعبية المتنامية باستمرار.
أجريت المقابلة في الأصل باللغة الإنجليزية من قبل عمر حسن لمجلة Redflag.
-
كانت تغطية الصحافة الدولية للسيرورات الثورية في الجزائر والسودان منقوصة. هل يمكن أن تبدأ بشرح مطالب الإحتجاجات في الجزائر؟ ما هي أهدافها؟
بدأت حركة الاحتجاج الجماهيرية بعد أيام فقط من إعلان بوتفليقة عن نيته الترشح لولاية خامسة كرئيس للجزائر. كانت في البداية صغيرة ومحلية، ثمّ أصبحت ضخمة وانتشَرت على المستوى الوطني اعتبارًا من يوم الجمعة 22 فبراير 2019. وهكذا، يخرج ملايين الجزائريين كل يوم جمعة منذ ذلك التاريخ (بعض التقديرات تتأرجح بين 17 و22 مليون نسمة لإجمالي عدد السكان البالغ 42 مليون نسمة). خرج الملايين، صغارا وكبارا، رجالا ونساء من مختلف الطبقات الاجتماعية إلى الشوارع في هبّة كبيرة، واستعادوا الأماكن العامة التي صودرت منهم منذ فترة طويلة. تلَت مسيرات الجمعات التاريخية هذه، احتجاجات في العديد من القطاعات (التعليم، الصحة، العدالة، صناعة البتروكيماويات، الطلاب، النقابات، إلخ)، ممّا جعل الاحتجاج أمرًا يوميًا.
ما بدأ كرفض قاطع لترشيح شخص في الثمانينات من عمره وغير قادر على الحكم، تحوّل مع عناد النخب الحاكمة وحيَلهم الخادعة إلى رفض موَّحَد للنظام القائم، مع مطالب بالحرّية والعدالة والتغيير الديمقراطي الجذري. هذه الانتفاضة أو الثورة هي تعبير أساسي عن تلاقٍ بين السخط الشعبي من أسفل مع أزمة داخلية عميقة داخل الطبقات الحاكمة. بشكل أساسي، لم يعد بإمكان الأشخاص من أعلى الحكم بالطريقة القديمة ولم يعد بمقدور الأشخاص الموجودين في الأسفل تحمّلهم. إنه أيضاً تعبير عن عقود من المعاناة العميقة والغضب ورفض الاستبداد القمعي وقمع الحريات والاقصاء الاقتصادي والاجتماعي والفساد المستشري والمحسوبية، والتراكم الطفيلي والتفقير، وتزايد أوجه عدم المساواة الاجتماعية والتنمية المتفاوتة، فضلاً عن آفاق مغلقة في وجه الشباب العاطلين عن العمل الذين ما زالوا يخاطرون بحياتهم للوصول إلى الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط هربًا من اليأس والإذلال والتهميش والنزول إلى رتبة “Hittiste” (حيطيّون من كلمة حيط – حائط أي الذين يقضّون معظم وقتهم مسندين ظهورهم إلى الحائط) ، هؤلاء المُعطَّلين عن العمل الذين توقفوا عن أن يكونوا فاعلين في جزائر ما بعد الاستعمار. وكلّ هذا في بلد غني مثل بلدنا!
الشعار الجزائري “الشعب يريد يتنحاو ڨاع” (الشعب يريد أن يتنحّوا جميعًا، أو بشكل أدقّ، الشعب يريد إقصاؤهم جميعًا!) ليست سوى نسخة أخرى من “الشعب يريد اسقاط النظام”، الشعار الذي رأيناه خلال جلّ الانتفاضات العربية في 2010-2011.
في هذا الصدد، أعتقد أن ما يحدث في السودان والجزائر يجب أن يُنظر إليه على أنه استمرار لعملية ثورية في منطقة شمال إفريقيا وغرب آسيا، وهي سيرورة ثورية ذات صعود وهبوط، مكاسب و انتكاسات، اذ أسفرت عن انتقال ديمقراطي “نيوليبرالي” في تونس وثورات مضادّة دموية وتدخلات إمبريالية في بقية الدول التي شهدت هذه الانتفاضات. الأمل هو أن يتعلم شعبا الجزائر والسودان من تجارب إخوانهم وأخواتهم في بلدان أخرى وأن يدفعوا بثوراتهم لتتجذّر أكثر وتحقّق مطالبهم الأساسية من أجل الكرامة والعدالة والسيادة الشعبية والحرية، ووضع حدٍ لعقود من القمع السياسي والاقتصادي.
-
بيّنت العديد من مقاطع الفيديو المنشورة على الإنترنت إبداع وتضامن الحركة الثورية في الجزائر وفي أماكن أخرى. هل يمكن أن تحدّثنا عن بعض اللحظات المميّزة بالنسبة لك؟
نعم، قامت الحركة الثورية في الجزائر بتحرير الإبداع غير المحدود”للعبقرية الشعبية”. من خلال الهتاف:”حنا صحينا وباصيتو بينا” (استيقظنا وسوف تدفعون) يعبّر الناس عن إرادتهم السياسية المُكتَشَفة من جديد. عملية التحرر هي في الوقت نفسه عملية تحول. يمكننا أن نشعر بهذا في النشوة والطاقة والإبداع والثقة والفكاهة والفرح التي ألهمتها هذه الحركة بعد عقود من القمع الاجتماعي والسياسي.
يمكن أن تكون الدعابة والسخرية مزعزعة وهدامة للغاية وقد أظهر الجزائريون ذلك في شعاراتهم وأغانيهم ولافتاتهم التي أحيت وأبرزت الثقافة الشعبية. لقد رأيت وسمعت الكثير من الشعارات على الإنترنت وفي شوارع عدة من مدن الجزائر. وإليكم بعضًا منها التقطتها بواسطة كاميرا هاتفي:
– “الجزائر، أرض الأبطال يحكمها الأصفار. “
– “لقد أوقفنا الحرقة (الهجرة غير الشرعية)، وتوقفنا عن تعاطي المخدرات وسنوقفكم أيضًا.”
– “تغيير النظام … 99 ٪ من التحميل. “
– “لا لبوتفليقة ومشتقّاته.”
– “نحن بحاجة إلى Detol لقتل 99.99 ٪ من العصابة.”
– وهذا شعار حملته طالبة طبّ: “لقد تم تطعيمنا وقمنا بتطوير نظام مكافحة IgG (مضادات الأجسام) … وما زلنا نتلقى معزّزات كل يوم جمعة.”
– “المشكلة هي استمرار الوثنية وليس استبدال الصنم.”
– “أنا لست هنا لألتقط “سلْفي”، أنا هنا لتغيير النظام.”
استهدفت بعض الشعارات بشكل مباشر التواطؤ والتدخل الفرنسيّين:
– “تخشى فرنسا عندما تحصل الجزائر على استقلالها، أن تطلب تعويضاً عن الحديد الذي استخدمته لبناء برج إيفل.”
– “ألو ألو ماكرون، عاد أحفاد نوفمبر 54.”
وكردّ فعل على دعوات القائد الأعلى للقوات المسلحة الڨايد صالح لتطبيق المادة 102 من الدستور، التي تسمح لرئيس المجلس الأعلى بتولّي منصب الرئيس المؤقت وتنظيم الانتخابات في غضون 90 يومًا بعد إعلان شغور الرئاسة من قبل المجلس الدستوري ممدّدة بذلك الوضع الراهن، أجاب الناس:
– “نريد تطبيق المادة 2019 … سترحلون كلّكم.”
– “طلبنا رحيل العصابة بأكملها، وليس ترقية بعض أعضائها.”
– “البطاريات ميتة، لا داع للضغط عليها.”
– “عزيزي النظام، أنت هراء ويمكنني إثبات ذلك رياضيا.”
– “هنا الجزائر: صوت الشعب. الرقم 102 لم يعد في الخدمة. اتصل بخدمة الشعب على الرقم 07، من فضلك “(في اشارة الى المادة 07 من الدستور التي تنصّ على أن الشعب هو مصدر كل السيادة).
هذه مجرد أمثلة قليلة من بين آلاف الشعارات الاخرى والأغاني الخلاقة والمضحكة والمرحة. هذا يدل على أن العبقرية الشعبية مازالت حية ويمكن تعبئتها من أجل المقاومة والمطالبة بتغيير جذري.
فيما يتعلق بالتضامن الدولي، ما يمكنني قوله هو أن الشعوب المضطَهَدة في المنطقة وخارجها تشارك في نوع من الحوار فيما بينها. السودانيون والجزائريون يتابعون بعضهم بعضًا ويتزايد إلهامهم وتصميمهم على متابعة ثوراتهم لإسقاط الأنظمة التي سحقتهم على مدى عقود. هناك رسم كاريكاتوري للصحفي الجزائري علي ديلام والتي تظهر فوز السودانيين 2-1 ضد الجزائريين في مباراة كرة قدم من خلال الإطاحة برئيسين حتى الآن ضد واحد فقط في الجزائر. يستلهم المغاربة أيضًا ما يحدث في الجزائر وقد رأينا ذلك في غناء الملاعب. أخيرًا وليس آخرًا هو التضامن الأزلي والثابت مع الشعب الفلسطيني. كلّ هذا يشهد على أن الناس يتطلعون إلى الحرية والعدالة والتحرر وأنهم يصبحون مصدر إلهام عندما يرون آخرين يأخذون مصيرهم في أيديهم ويتحدّون قوى الوضع الراهن.
-
على الرغم من أنّ أحداث 2011 مرّت في معظم أنحاء المنطقة، إلا أن اختلافات محلية مهمة شكلت النتائج المتباينة التي شوهدت منذ ذلك الحين. على سبيل المثال، في مصر، كانت الحركة يقودها الشباب وغير منظمة، مما يعني أنها كانت تفتقر إلى وزن مؤسسي واجتماعي معين في لحظات حرجة، بينما في تونس دور الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT )- خاصة صفوفه الدنيا – كان مهما جدا. ما هي القوى الاجتماعية التي قادت الحركة في الجزائر؟ وهل هناك منظمات أو أفكار لها أهمية خاصة أو شعبية؟
في نهاية المطاف، الانتفاضة الجزائرية لها خصائصها أيضاً، وسأحاول أن أقدّم لكم بعض المؤشرات لفهم نقاط القوة والضعف فيها.
- ما يجعل هذه الحركة فريدة من نوعها حقًا هو حجمها وسلميتها وانتشارها الوطني، بما في ذلك في الجنوب المهمّش. تتميز الحركة أيضًا بالمشاركة الكبيرة للمرأة، وبشكل خاص الشباب، الذين يشكّلون غالبية السكان. لم تشهد الجزائر مثل هذه الحركة الواسعة والمتنوعة منذ عام 1962، عندما خرج الجزائريون إلى الشوارع للاحتفال باستقلالهم الذي حصلوا عليه بشقّ الأنفس من الحكم الاستعماري الفرنسي.
- يمكن للمرء أن يرى في هذه الانتفاضة استمرار النضال ضد الاستعمار في الخمسينيات والستينيات لاستعادة السيادة الشعبية والاقتصادية. إن المظاهرات والمسيرات الكثيرة التي جرت تشير بقوة إلى الثورة الجزائرية المناهضة للاستعمار وشهدائها الأمجاد الذين ضحوا بأرواحهم من أجل استقلال الجزائر، مما يؤكد من جديد أن الاستقلال الرسمي لا معنى له من دون السيادة الوطنية والشعبية، خاصة وأن النخبة لدينا تبيع البلاد ومواردها منذ أكثر من ثلاثين عامًا. يتم تأكيد هذه المشاعر المعادية للاستعمار من خلال العداء الثابت للتدخل الأجنبي والتدخل الإمبريالي. لقد رأينا كيف رفض الشعب الجزائري بحزم التواطؤ الفرنسي مع النخب الحاكمة ورفضه لمحاولات وزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة تدويل الصراع من خلال رحلاته الى الولايات المتحدة، أوروبا، روسيا والصين.
ج) التضامن مع فلسطين: يفهم الجزائريون أن تحريرهم لن يكتمل بدون تحرير فلسطين. إن هذا التضامن حقًا فريد من نوعه في العالم العربي: إلى جانب الأعلام الجزائرية، نرى دائمًا العلم الفلسطيني والناس يمجّدون دائمًا الشهداء الجزائريين والفلسطينيين دون أي تفريق. يفسّر ذلك بكون الجزائر الوحيدة (مع فلسطين) في المنطقة التي شهدت تجربة وحشية ولا إنسانية لاستعمار استيطاني عنصري.
(د) ذاك المشهد السياسي القاحل عمومًا والناتج عن عدم وجود معارضة سياسية حقيقية، وافلاس سياسات الأحزاب المتعددة إضافة إلى قمع أو تدجين الاتحادات العمالية ومختلف مكونات المجتمع المدني، أدى بالناس الى تنظيم أنفسهم بشكل مختلف. في السنوات الأخيرة، تم التعبير عن المعارضة والسخط بشكل متزايد من خلال المظاهرات القطاعية أو ظهور الحركات الاجتماعية الأفقية، لا سيما في الصحراء الغنية بالنفط والغاز، حيث رأينا حركات المعطلين والمناهضين للغاز الصخري عامي 2012 و2015. العداء للأحزاب السياسية متجذر بعمق، كما يتضح من الديناميات الشعبية الحالية. كما هو الحال في مصر، فإن الحركة يقودها الشباب وغير منظمة نسبيًا. لا يوجد قادة أو هياكل منظمة يمكن تحديدها بوضوح.
من الواضح أن الأمر يتعلق بانتفاضة شعبية بقدر ما حشدت القوى الجماهيرية للطبقات الوسطى وكذلك الطبقات المهمشة في المناطق الحضرية والريفية، التي تأثرت بالسياسات النيوليبرالية لعدة عقود ومن اقتصاد ريعي فاسد في ظلّ عولمة مفترسة تسهّل نهب الموارد المالية والطبيعية للبلاد. تجدر الإشارة إلى أن الطلاب والعمال (خاصة العاملين في قطاع النفط والغاز) والنقابات المهنية والقضاة والمحامين يلعبون دورًا مهمًا للغاية في هذه التعبئة من خلال تنظيم مظاهراتهم الخاصة والدعوة إلى الإضراب مساهمين في الحفاظ على زخم الدينامية. على عكس السودان، حيث يلعب التحالف من أجل الحرية والتغيير وتجمّع المهنيّين السودانيين دور الهيكل التنظيمي والقيادي، يبدو في الجزائر أن الأمور منظمة بطريقة أفقية وبشكل رئيسي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أين يتم إطلاق الدعوات للاحتجاج.
هـ) لست من أولئك الذين، إذا لم تعجبهم نتائج الثورة، أو القوى التي تحملها، نقاط ضعفها، ومطالبها واستراتيجياتها، فإنهم يسارعون إلى إنكار طابعها الثوري أو ببساطة حرمانها من اسم “الثورة”. مع ذلك، يجب أن نحافظ على حسنا النقدي ونظل نزهاء فكريًا ونتعلم من أخطاء الثورات السابقة.
تقديس العفوية، والافتقار إلى قيادات والعداء لأي شكل من أشكال التنظيم ليس حصرًا على الحالة الجزائرية، ولكن لوحظ أيضا في ثورات أخرى في بلدان مثل مصر وتونس. صحيح أنّ العفوية والحركة بدون قادة سوف تولّد، في البداية، تعبئة كبيرة بين مختلف الطبقات تعطي انطباعاً بالوحدة رغم كل الاختلافات الطبقية، الجنسية والأيديولوجية. ومع ذلك، يمكن أن يصبح هذا خطراً عندما تتم إسقاط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمهمّشين من النقاش. في مثل هذه السيناريوهات فإن القضايا المشروعة للسيادة الشعبية والعدالة الاجتماعية سوف تفسح المجال أمام المفاهيم الليبرالية السائدة والغامضة حول “التسيير الديمقراطي” و”الحكم الرشيد” و”الحرية” و”المساواة” على حساب مطالب معذَّبيي الأرض.
وقد أُطلق على هذا الوضع “ثورة بلا ثوار” أو “ثورات بلا تنظيم”. هذه الديناميات والحركات غير المتبلورة وغير المهيكلة ضعيفة للغاية. قد تكون هذه الميزات نقاط ضعف قاتلة، لا سيما عندما يبدأ القمع.
من أجل تمديد الحراك الحالي، نحتاج إلى هياكل ومنظمات ذات رؤية متماسكة، قادرة على صياغة مطالب واضحة، واقتراح استراتيجيات مختلفة للمقاومة، ووضع جدول أعمال متطور بالكامل. يمكن للقادة الظهور بطريقة عضوية، لكن هذا يتطلب تنظيمًا مستمرًا بالإضافة إلى تكاثر المبادرات لفتح مجالات للنقاش والتفكير.
هذه هي الحقيقة على الواقع. رغم ذلك، إنه لمُلهم أن ترى الناس يستعيدون ثقتهم في أنفسهم ويكبر إيمانهم بـقوة “نحن” الجماعية. لقد رأينا كيف لم ينخدعوا بكل الحيل التي قدمتها لهم نخب النظام. الحركة تزداد قوة وتزداد مطالبها كل يوم. ما يوحدهم هو أن جميع رموز النظام القديم يجب أن تختفي ويجب أن تحاسب على كل المعاناة والفوضى التي تسببوا فيها.
-
أصبح الدور الريادي للمرأة في حركة الاحتجاج في السودان ذا أهمية متزايدة، لا سيما مع آلاء صالح. هذه ليست مفاجأة لأولئك الذين درسوا التاريخ؛ كثيرا ما توصف الثورات بأنها مهرجانات المضطهدين. هل يمكنك التحدث قليلاً عن الوضع في الجزائر فيما يتعلق بالمرأة والأقلية الأمازيغية وغيرها من الجماعات المضطهدة؟ ما هي مظالمهم المحددة وكيف هي مشاركتهم في الاحتجاجات حتى الآن؟
لا يمكن أن تكون الثورات بدون المرأة ودون مشاركتها الفعالة. والثورة الجزائرية ليست استثناء لذلك. منذ بداية هذه الديناميكية الشعبية، لعبت النساء دورًا مهمًا في ربط مطالباهن ضد النظام الأبوي بالمتطلبات الديمقراطية للحركة ككل. في الواقع، رأيت كيف زادت مشاركة المرأة أسبوعًا بعد أسبوع. كان عددهن كبيرًا في المظاهرات التي رأيتها في الجزائر، بجاية وسكيكدة. كما يشاركن بشكل كبير في الحركات الطلابية والنقابية. ومع ذلك، لا يمكننا أن ننكر حقيقة أن جزءًا كبيرًا من المجتمع الجزائري لا يزال محافظًا وذكوريا. قد تؤكد الحادثة التالية هذه الحقيقة: تعرضت بعض المناضلات النسويات للمضايقات والاعتداءات خلال مسيرة بالجزائر العاصمة وتم تحذيرهنّ (من قبل الرجال) من صياغة “مطالب نسوية تقسّم الحركة”. كان هناك أيضا شريط فيديو هدّد فيه صاحبه باستخدام الأسيد ضد اللواتي يتجرّأن على رفع مثل هذه المطالب. قد يكون هذا حادثًا متطرفًا منعزلًا، لكني أرى أنه يُظهر التمييز الجنسي الراسخ ومعارضة حقوق النساء في مجتمعنا. تمثّل أجساد النساء ساحة قتال، ورأينا كيف تعاملت الشرطة مع أربع نساء ناشطات بعد اعتقالهنّ: لقد تعرضن للإهانة بتجريدهنّ من ملابسهن!
على الرغم من كل التقدم الذي أحرزته النساء في العقود الأخيرة في التعليم والتوظيف والمشاركة السياسية، فإنّ كفاحهنّ من أجل المساواة مع الرجال وضد الاضطهاد الأبوي والعنف لا يزال بعيد المنال (كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم). ما زلن يقاومن رؤية رجعية لدورهنّ في المجتمع، يتجسد في التدابير الاجتماعية المحافظة للغاية مثل قانون الأسرة الرجعي الشهير لعام 1984.
بالنسبة للأقلية الأمازيغية، أودّ التصحيح هنا: انّها ليست أقلية. في الحقيقة، غالبية الجزائريين هي من أصل اثني أمازيغي. أفضّل القول إننّا عرب- أمازيغ، لأنّ اللغة العربية هي أيضًا عنصر مهمّ في هويتنا الثقافية والسياسية. خلقت مشاكل الهوية هذه العديد من التوترات المجتمعية في العقود الأخيرة لأنّ تنوعنا الثقافي قد تم تجاهله لصالح تصور أضيق لهويتنا. تمّ تهميش البعد الأمازيغي للتراث الثقافي الجزائري وتحويله إلى أحداث فولكلورية. ومع ذلك، فقد تطور الكفاح من أجل الاعتراف بالأمازيغية كعنصر مكافئ للّغة العربية والإسلام في هويتنا الثقافية بشكل كبير منذ الربيع الأمازيغي عام 1980، عندما ظهرت الحركة الثقافية الأمازيغية إلى حيز الوجود في منطقة القبائل. كان الربيع الأمازيغي أول تحدٍ سياسي واسع النطاق ضد النظام منذ الستينيات، عندما عبرت منطقة القبائل عن مطالبها ضد استبداد النظام واحتقاره للهوية الثقافية واللغوية الغنية للأمازيغ، وكذلك إهمال اقتصاد المنطقة. ألهمت هذه الحركة الديمقراطية الجماهيرية الحقيقية عقدًا من الصراع المستمر والتمرد.
في أبريل 2001، بدأت انتفاضة أخرى في منطقة القبائل وفي عام ونصف العام، احتلت حركة شعبية قوية تسمى العروش مركز الصدارة وأعادت مسألة الديمقراطية إلى جدول الأعمال. نظمت هذه الحركة في 14 يونيو مسيرة عظيمة تجاه الجزائر وألهمت الكثير من المواطنين في مناطق أخرى للثورة ضد الحُڨْرة (الإذلال والظلم الاجتماعي). ومع ذلك، فقد استُمِيلت هذه الحركة واخترُقَت وسُحقَت.
عندما يتحدث الغربيون عن الأقلية الامازيغية، فإنهم يشيرون بشكل أساسي إلى سكان القبائل. لأسباب تاريخية تعود إلى الحقبة الاستعمارية كانت هذه المنطقة في طليعة الكفاح ضد القمع والاستبداد، ولاتزال كذلك في هذه المرحلة. وينطبق الشيء نفسه على المجموعات الأمازيغية الأخرى مثل الشاويّين والمزاب والطوارق. كلهم مقحمون كمواطنين جزائريين في مواجهة تكتيك النخب الحاكمة “فرق تسد”. في الواقع، كانت الشعارات واضحة في المسيرات المختلفة: لا نريد تقسيمًا، فنحن جميعًا جزائريون، مما يُبرز وحدتهم الشعبية.
-
ما هي التيارات الرئيسية للتوجه اليساري في الجزائر وإلى أي مدى يلعب اليسار المنظم دوراً في هذه الحركة؟
في رأيي، ينبغي أن يكون اليسار هو القوة القادرة على الجمع بين الحرية والمساواة. أنا لا أتحدث فقط عن المساواة السياسية، ولكن أيضًا عن المساواة الاجتماعية والاقتصادية التي تقضي على التباينات الطبقية في المجتمع. لا يمكن أن تكون الديمقراطية كاملة في سياق هيمنة رأس المال وديكتاتورية الأسواق. لهذا السبب نحتاج أيضًا إلى الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية. ماذا سيفعل الجزائري الشاب بالحرية إذا لم يكن لديه وظيفة أو سكن لائق؟
لسوء الحظ، ولأسباب مختلفة، وخاصةً على المستوى العالمي، فإن اليسار المنظم في الجزائر مجزّأ، صغير وضعيف للغاية. ومع ذلك، في مثل هذه اللحظات الثورية يمكن أن يتجدد وينمو إذا أراد أن يلعب دوره التاريخي كأداة للجماهير للتعبير عن، وتحقيق، مطالبها الأساسية بالحرية والكرامة والعدالة. وللقيام بذلك، يجب أن يكون لديه رؤية واضحة لهذا المستقبل المنشود، وأن يكون مستقلًا فكريا وتنظيميا، والتخلص من النظرة الأبوية وأن يشكّل منظمات جماهيرية تخدم الفئات المحرومة.
أكبر حزب يساري في الجزائر هو حزب العمّال التروتسكي للويزة حنون. لسوء الحظ، ولأسباب عصية على الفهم، لطالما ساندت لويزة حنون بوتفليقة، لأنها اعتبرته حصنًا ضد الإمبريالية. إن هذا الموقف “المضاد للإمبريالية” الذي يبرّر الاستبداد قد شوهد بالفعل، خاصّة في حالة سوريا مع بشار الأسد. هذا مثير للسخرية خصوصا وأن عهد بوتفليقة هو أكثر العصور ليبرالية في تاريخ الجزائر المستقلة مع الكثير من التنازلات المقدمة للشركات متعددة الجنسيات والعواصم الغربية. إنه عصر تنازلات النخب الحاكمة من خلال ربط مصالحها بالخارج وإخضاع المصالح الوطنية لمصالح رأس المال الأجنبي. بمعنى آخر، لقد تخلى نظام بوتفليقة عن الشرعية الشعبية لصالح رأس المال الوطني والدولي.
هناك تنظيمات صغيرة وأحزاب سياسية أخرى كحزب العمال الاشتراكي (PST) والحركة الديمقراطية والاجتماعية (MDS) تحاول اطلاق مبادرات مثل دعوات التنظيم الذاتي للعمال، الطلاب والجماهير الشعبية. وأعتقد اعتقادا راسخا أنه ينبغي تشجيع هذه المبادرات وتعزيزها. نرى هذا بالفعل في الحركة الطلابية وكذلك في محاولات بعض النقابيين على مستوى القاعدة لاستعادة أكبر نقابة في الجزائر، الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وتخليصها من الفاسدين والموالين للنظام.
-
أعرف أنه في بلدان مثل مصر، هناك تقليد سياسي قوي للناصرية التي تدافع عن الجيش على أساس ماضيه “القومي العربي” المزعوم. هل هناك أوهام مماثلة في الجزائر؟ وإلى أي مدى استوعب الناس دروس الدور الرجعي للجيش في الثورة المصرية؟
إن تاريخ الجيش الشعبي الوطني في الجزائر فريد من نوعه: إنه ذي أصول شعبية، وُلد في الكفاح ضد المستعمرين الفرنسيين ولعب منذ ذلك الحين دورًا رائدًا في المجال السياسي. لا يزال يتمتع بهذه الشرعية الثورية رغم كل تجاوزاته منذ الاستقلال عام 1962، بما في ذلك مقتلة مئات الشباب خلال الانتفاضة التي اندلعت في أكتوبر 1988، وانقلاب عام 1992 ودوره في المجازر ضد المدنيين في العشرية السوداء. بسبب العسكرة العميقة للمجتمع، هناك خوف مبرر من الجيش وما يمكن أن يفعله. علاوة على ذلك، لا يمكننا أن ننسى أنّ القيادة العسكرية العليا والجنرالات شاركوا في نهب المال العام وفي فساد مستشري. ارتباطه بالأوليغارشية، حرم الشعب الجزائري من حقه في تقرير المصير. أما فيما يتعلق بحزب جبهة التحرير الوطني، فقد تم تشويه سمعته بالكامل باعتباره الواجهة المدنية لنظام عسكري فاسد وسلطوي. تم التعبير عن ذلك بشعارات كثيرة مثل: “آف آل آن، ارحل! “
الولوج الحاسم للجماهير للساحة السياسية أجبر القيادة العسكرية العليا على الانفصال عن الرئاسة. تدخل الجيش بوضوح لإنهاء حكم بوتفليقة للحفاظ على النظام القائم. إنّ التخلي عن بوتفليقة هو لحظة مهمة في الديناميكية الشعبية التي بدأت في فبراير 2019، لكنها مجرد انتصار أول في الكفاح الطويل من أجل التغيير الجذري الذي يجب أن يشمل الإطاحة بجميع رموز النظام، بما في ذلك اللواء الڨايد صالح؛ فهو شخصية رئيسية في نظام بوتفليقة ومؤيد لعهدته الخامسة قبل أن يتراجع تحت ضغط الحركة الشعبية المتنامية. من الخطأ للغاية الثقة في قيادة الجيش، كما يظهر بوضوح من تهديداته الأولية للحركة قبل تبنّيه نبرة أكثر تصالحية. في بيانه بوهران في 10 أبريل، قال القايد صالح إنه لا يوجد مخرج للأزمة الحالية، إلّا في دستور مُصَمَّم بشكل أساسي لحماية النخب الحاكمة ومصالحهم. في الأساس، يقدّم دعمه ووزنه للانتقال المتحكم فيه من أعلى، أي إلى انقلاب ضد الانتفاضة الشعبية.
بالنسبة لي، يقود الڨايد صالح والقيادة العسكرية العليا الثورة المضادة التي بدأت تظهر علاماتها علنًا، بما في ذلك القمع العنيف للمتظاهرين المسالمين. أولئك الذين خُدعوا به وبإعلاناته حول مساندته لمطالب الشعب بدأوا بالتفطن وأصبحوا أكثر حذراً. لا يمكن تطبيق شعارات مثل “الجيش الشعب، خاوة خاوة” على الجنرالات الفاسدين الذين استفادوا من نظام بوتفليقة وأيّدوه.
يجب أن يكون الشعب الجزائري – وخاصة الطبقات الشعبية- حذراً من تدخل مثل هذه الجهات الفاعلة من أجل تجنّب سيناريو السيسي في مصر. هناك، أيضًا، ادّعى السيسي أنه تدخّل نيابة عن الشعب عندما قام بانقلاب على مرسي وكلّنا نعرف ما حدث منذ ذلك الحين. قد يكون من التكتيكي الاستفادة من الصراع الداخلي المتواصل على السلطة بين النخب الحاكمة، لكن سيكون من الخطأ المميت الاعتقاد بأن قيادة الجيش ستكون إلى جانب الشعب أو ثورته. يجب أن تكون الجماهير الجزائرية أكثر يقظة وعزمًا من أي وقت مضى على منع القوى المعادية للثورة من الالتفاف حول هذه الانتفاضة التاريخية.
-
في رأيك، ما هي المهام والتحديات العاجلة التي تواجه الحركة؟
بعد تسع أسابيع من الاحتجاج، على الرغم من كل محاولات التلاعب والتقسيم والتخويف، فإن الحركة لا تضعف. على العكس من ذلك، فإنها تتجذر وتمتد إلى العديد من القطاعات المهنية. لم يتوقع أحد أن يدعم القضاة الحركة الشعبية: إنهم يرفضون الإشراف على الانتخابات الرئاسية القادمة المقرّر إجراؤها في 4 يوليو. لا يزال الطلاب ينظمون مظاهرات ومسيرات ضخمة في جميع أنحاء البلاد لدعم الحراك الشعبي ودعوا إلى إضراب وطني. كذلك تواصل بعض النقابات المستقلة دعواتها إلى الإضراب لدعم الديناميكية المستمرة.
في الأسبوع الفارط، أعلن العشرات من رؤساء البلديات رفضهم إجراء انتخابات في مناطقهم. بعض منظمات المجتمع المدني مصمّمة على استعادة المساحات العامة من خلال تنظيم مناقشات وأنشطة عامة، التي مازالت تُمنع في العاصمة وغالبا ما تنتهي بالقمع والاعتقالات. لقد رأينا أيضًا كيف أنّ العديد من الزيارات الوزارية قد توقفت أو أُلغيت بعد طرد عدّة وزراء في تبسّة وبشار وتيسمسيلت وتيبازا وولايات أخرى.
أصبح من الواضح جدًا أن الناس يرفضون خطة الانتقال التي يريد النظام أن يفرضها، ومن الواضح أننا نعيش في وضع ثوري قد يزيد حدة ويصبح أكثر جذرية تبعا لرد فعل الطبقات الحاكمة، ومستوى الوعي السياسي وتنظيم الحركة. إن ما يسمّيه المتظاهرون “أعضاء العصابة” لهم مصلحة كبيرة في الحفاظ على الوضع الراهن وسيبذلون قصارى جهدهم للتمسك به، بما في ذلك عن طريق التضحية ببعض أكباش فداء لربح الوقت وإنقاذ النظام.
لا يمكننا أن نكون ساذجين. الثورات لها تكلفة والقمع سيكون في الموعد. يتم تحديد الطابع السلمي أو العنيف للثورة دائما من قبل الطغاة وأساليبهم. النظام لن يستسلم بسهولة. لهذا السبب، يجب تغيير ميزان القوى بشكل كبير لصالح الجماهير من خلال استمرار المقاومة (المسيرات، المظاهرات، احتلال الأماكن العامة، الإضرابات العامة، وإلخ.) لإجبار قيادة الجيش على تلبية مطالب تغيير النظام وتصفية رموزه. يجب على المنظمات والمثقفين الذين لديهم وعي كبير والمتسلحين بالمبادئ الثورية عرقلة الطريق أمام القيادة العسكرية والأوليغارشية الكومبرادورية.
أعتقد أنّه يمكن تلخيص بعض التحديات التي تواجهها الحركة في:
- التنظيم عن طريق دفع وتشجيع التنظيم الذاتي المحلي من خلال لجان الأحياء والمجموعات الطلابية والتمثيلات المحلية المستقلة وفتح المساحات للنقاش والتفكير من أجل الوصول إلى رؤية صلبة وبرنامج متماسك. سيغذّي هذا الدينامية على المدى المتوسط والطويل لأن المعركة أبعد من أن تنتهي.
- إن تزويد الحركة بهياكل وآليات شعبية وديمقراطية سيمكننا من تطوير استراتيجية: كيفية صياغة مطالب واضحة، ونوع التكتيكات التي يجب تبنيها، ومعرفة متى نكثف المقاومة أو نفاوض. لا يمكننا التسرع في الذهاب إلى الانتخابات الآن لأنّ القوى المهيكَلة هي دائما (بما في ذلك قوات النظام القديم) من سيستولي على الحكم.
- في هذه المرحلة الحاسمة، من المهم للغاية التأكيد على حرية التعبير والتنظيم الفردي والجماعي في كل وقت، وليس فقط يوم الجمعة.
- إنكار ورفض أي انتقال يسيّره الأوليغارشيون والعسكريون بشكل قاطع والدعوة إلى تأسيس جمعية تأسيسية سيادية وشعبية لاقتراح دستور شعبي وديمقراطي حقيقي يضمن العدالة الاجتماعية والسيادة الشعبية على الموارد الطبيعية. على أي حال، يجب أن يكون الانتقال الديمقراطي في أيدي الشعب، وتديره قواه ومن أجل الشعب.
- الاستمرار في رفض أي تدخل أجنبي في الأحداث الجارية.
- أخيرًا، يجب أن نجمع بين الحقوق الاجتماعية الاقتصادية والديمقراطية، لأن هذه الثورة هي تعبير عن إرادة المضطهَدين للدفاع عن مصالحهم المشتركة.
تواجه ثورتنا مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة والمخاطر حقيقية بالفعل وتتطلب مستوى من الوعي والتنظيم والاستراتيجية الثورية لمواكبة تطلعات الجماهير، وخاصة الأكثر فقراً منها.
التغيير الجذري ليس عملية مبرمَجة تشُغّل بزرّ ضاغط. إنها عملية سياسية مستمرة، وهي مواجهة تتطلب تضحيات، تتسارع في لحظات معينة، على طريق معبّدة بالصراعات الطويلة والخبرات المتراكمة. على حدّ تعبير عبارة مشهورة معروفة لدى المسلمين (بتصّرف): “دعونا نعمل من أجل تغيير جذري كما لو أنّ الأمر سيستغرق دهرًا ولنهيئ لذلك الميدان كما لو أنّه سيحدث غدًا”.
ترجمة: يوسف فاضل
اقرأ أيضا