القيادة النقابية المغربية في ميزان معركة الأساتذة/آت المفروض عليهم/هن التعاقد
منذ أكثر من سنة تأسست التنسيقية الوطنية للأساتذة/ت الذين فرض عليهم/هن التعاقد، وهيكلت نفسها إقليميا وجهويا ووطنيا، فدخلت في معركة بطولية لم يشهد لها المغرب مثيلا في العقود الأخيرة، انتقلت من المناوشة إلى الدخول في نضال مفتوح، مما أنعش النضال النقابي خاصة في قطاع التعليم.
التنسيقية الوطنية للأساتذة/ات المفروض عليهم/هن التعاقد في طليعة نضالات الشغيلة التعليمية
دشنت التنسيقية الوطنية معارك حامية الوطيس من أجل إدماج ما يقارب 70 ألف أستاذ/ة في سلك الوظيفة العمومية عوض التعاقد مع الأكاديميات كمخطط استراتيجي لدولة الاستبداد التي تأتمر بأوامر المؤسسات المالية الدولية المانحة للقروض وبالتالي لتدمير ما تبقى من خدمات عمومية، وتحويلها إلى مجالات مربحة مهداة على طبق من ذهب لناهبي ثروات الشعوب.
أسقطت المعركة البطولية التي تخوضها التنسيقية الوطنية للمفروض عليهم/هن التعاقد ملحق العقد الذي كانت الدولة تروم فرضه على الأساتذة/ات لترسيمهم/هن مع الأكاديميات، وهو الذي فجر المعركة بالأساس، وأرغمتها هذه النضالات على التخلي (ولو لفظيا) على اعتبارهم/هن”متعاقدين/ات”، كما عدلت من قانون الإطار الخاص بموظفي الأكاديميات لإيهامهم أنهم متساوون في الحقوق مع زملائهم الأساتذة/ات المرسمين/ات، وهو ما لن يتم سوى بإدماجهم/هن في سلك الوظيفة العمومية.
أيقظت هذه النضالات الحركة النقابية لرجال ونساء التعليم من سباتها العميق، فشمل تململ نضالي كل المؤسسات التعليمية بمختلف الجهات فأصبحت شبه مشلولة في المدن والقرى، سواء بالمشاركة في الإضرابات أو برفض الانصياع لإجراءات الدولة الرامية لتكسير معركة المفروض عليهم/هن التعاقد، هذا الانخراط الفعلي للشغيلة التعليمية في التضامن مع المفروض عليهم/هن التعاقد يبرز بجلاء الطاقة النضالية الكامنة في الشغيلة نتيجة غارات متتالية على مكتسباتها، فأصبحت لا تخيفها لا الاقتطاعات من أجور المضربين ولا الإجراءات التأديبية. بل تجاوز هذا التململ النضالي موظفي التربية والتكوين إلى التلاميذ وأولياء أمورهم، مما جعل الوزارة تسارع إلى فتح حوار مع جمعيات آباء وأمهات التلاميذ وتضع إجراءات لتوهيمهم أنها تستدرك الزمن المهدور عبر الدعم، وتسارع الزمن لإنقاذ الموسم الدراسي من سنة بيضاء.
قيادات نقابية متواطئة تساير، وتتفرج على، معركة جارية
كان لهذه القيادات النقابية يد في تشريع العمل بالتعاقد منذ عضويتها في اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم، التي أخرجت الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999 وفي طياته تنويع طرق التشغيل “خاصة العمل بالتعاقد”، كوصية من المؤسسات المالية الدولية المانحة للقروض قصد تخفيض كتلة الأجور التي تراها هذه المؤسسات تتقل كاهل ميزانية الدولة، مرورا بعضويتها في المجلس الأعلى للتعليم.
أرغمت القيادات الوطنية لنقابات رجال ونساء التعليم، على مسايرة هذه المعركة، خاصة وأن المعركة كان لها صدى بين الأطر التربوية والإدارية المرسمين. ودعمتها فروع نقابية مكافحة ونقابيون مخلصون لعلة وجود النقابة بكل تلقائية، ودون انتظار الضوء الأخضر من القيادات الوطنية، وتزامنت هذه المعركة مع نضالات فئوية تخوضها شغيلة القطاع. ولا أدل على ذلك أن فروع نقابية فرضت على بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل الالتحاق ليلة إضراب 20 فبراير 2019 (لتخليد ذكرى حركة 20 فبراير) وهي التي هرعت رفقة باقي القيادات النقابية صوب مستشار الملك يوم كانت نضالات هذه الحركة جارية، عازلة بذلك نقابة الحزب الذي يقود حكومة الواجهة المموهة للحكم المطلق، والتي ما انفكت تدافع عن إجراءات حكومتها خاصة في ولايتها الأولى.
اكتفت هذه القيادات بعد التحاقها، بمسايرة المعركة الجارية والدعوة أحيانا لتنفيذ محطات تضامنية متزامنة مع برنامج التنسيقية الوطنية للمفروض عليهم/هن التعاقد وباقي التنسيقيات الفئوية، لحفظ ماء الوجه ولكسب المشروعية للحوار باسمها لتسهيل تركيعها، فلم تكلف نفسها العمل على تعبئة منخرطيها للنضال جنبا إلى جنب مع التنسيقيات المناضلة ميدانيا ولا أبرزت ما ينتظر المرسمين من مخاطر محدقة نتيجة تخلفهم عن هذه المعركة، ولا استثارت رد فعل باقي الأجراء في القطاع العام والخاص، عبر الدعوة لإضراب عام قابل للتمديد كما يقتضي الموقف، فالأساتذة/ات المفروض عليهم/هن التعاقد في نضال بالنيابة عن جميع الشغيلة المغربية في معركة تحصين الوظيفة العمومية والذود عن المصالح الطبقية للفقراء.
قيادات منبطحة على باب الوزير لاستجداء حوار والمطالبة بعده بحوار جاد
وازت قيادات النقابات الست الأكثر تمثيلية في قطاع التعليم مشاركتها المحتشمة في هذه المعركة باستجداء حوارات قطاعية مع وزارة التربية والتكوين ومع الحكومة، لتجاوز نضالات الشغيلة التي تراها مجرد “احتقان متزايد”، والهرع صوب أي نداء يصدر من وزارة الداخلية للتوسط بين التنسيقية الوطنية والوزارة الوصية على القطاع، فلماذا رغبت هذه القيادات في اقتياد تنسيقية وطنية تناضل ميدانيا بعشرات الآلاف صوب حوارات متواترة، وهي نفسها التي لا تتورع عن وصفها بالحوارات المغشوشة، وتطالب بعد خروجها من كل حوار بحوار جاد؟ فأي جدية تنتظرها من دولة منبطحة للمؤسسات المانحة، لا يهمها مصير القطاع العام إلا فيما سيدره من أرباح على القطاع الخاص؟
تجد سياسة نصح الدولة وتحذيرها من الاحتقان واستجداء الحوار وتحريك نضالات متحكم فيها بدقة، أرضيتها في سيادة سياسة تعاون طبقي لا صلة لها بمصلحة الشغيلة داخل الحركة العمالية المغربية، من قبل خط النقابة المواطنة، هو نفسه يرتعد من قوة نضالات الشغيلة، فيسعى إلى تسريع هزمها أو إلى عزلها حتى تنطفي، ولا أدل على ذلك الموقف العملي لهذه القيادات من المعركة الجارية. إن بناء أدوات طبقية خاصة بطبقة الشغيلة ومن ضمنها استعادة المنظمات النقابية من سطوة قيادة حريصة على مصالح تشدها بالدولة أكثر من حرصها على مصلحة الشغيلة، أصبحت ضرورة ملحة، فمصلحة العمال في أيادي غير أمينة.
تحت شعار النقابات الأكثر تمثيلية يتم إقصاء ممنهج لجزء من الشغيلة التعليمية من النضال
النقابات الأكثر تمثيلية (التي حصلت على عدد أكبر من الأصوات في انتخابات اللجن الثنائية) مقياس يخص الدولة وحدها لتحدد من تفاوضه من ممثلي الشغيلة التعليمية في وضعية التعدد النقابي الذي يعيشه القطاع، والتشبث بهذه التمثيلية المزعومة للتنسيق الخماسي أو الثلاثي أو السداسي غريب عن تقاليد النضال النقابي، حيث من المفترض أن تتوحد جميع النقابات الأكثر تمثيلية أو الأقل منها، خدمة للنضال، وردا لتعديات على مكتسبات الشغيلة وتحصينا للقطاع العام. فحتى ولو اجتمعت هذه النقابات فهي لا تمثل جميعها سوى جزء يسيرا من شغيلة التعليم، فالغالبية العظمى دون تمثيل نقابي. إن المعركة الجارية تتطلب لإنجاحها إنشاء لجن المؤسسات وعقد مجالس نقابية تضم المنتمين مهما كانت نقابتهم وحتى غير المنتمين نقابيا إلى جانب أعضاء التنسيقيات الفئوية، لرد شراسة الهجوم والتصدي للتعديات.
إن ما وضحته هذه المعركة بالملموس هو أن تنسيقية المفروض عليهم/هن التعاقد هي الوحيدة الأكثر تمثيلية بين هذه الهيئات النقابية، فهي وحدها القادرة دون غيرها على تحريك عشرات الآلاف من أعضائها. بل والأكثر ديمقراطية بينها جميعا، فكل خطواتها تتخذ من قبل مجالسها الوطنية وباقتراح من التنسيقيات الجهوية والإقليمية، رغم ما قد يكتنفها أحيانا من منزلقات.
الوساطة بين الدولة والتنسيقية مهمة قذرة من بدع البيروقراطية النقابية المغربية
تتحفنا القيادات النقابية دوما ببدع في (نضالها) النقابي، فبعد تقنية النضال بإلغاء النضال يوم فاتح مايو 2016 العيد الأممي للعمال، هاهي مرة أخرى تقبل مجتمعة القيام بعمل جبان، في تكامل مع الدور نفسه الذي قامت به الشبيبة البرلمانية للأحزاب بالوساطة بين الدولة والتنسيقية. فما الذي يمنع الحكومة من دعوة مباشرة للتنسيقية الوطنية لمفاوضتها؟ فأعضاء حكومتها وممثلوها يجالسون ويفاوضون حتى من تراهم أعدائها، فما الذي يحرجها من مجالسة تنسيقية وطنية اعترفت هي نفسها بشرعية مطالبها؟ وإلا، لماذا أدخلت ما أدخلت من تعديلات بعد نضالات التنسيقية على مخططها الاستراتيجي المزعوم؟
أليس من الأجدى أن ترفض هذه القيادات منذ البداية أي نقاش حول ملف التعاقد دون حضور ممثلي التنسيقية؟ ألا تعلم أنها بفعلتها القدرة هذه تمارس ضغطا على التنسيقية؟ أليس ذلك دعوة من جهتها لوقف النضال والانغماس في حوارات خبرتها هي نفسها وأقرت أنها مغشوشة؟ فبأي ثمن تسدي هذه النقابات هذه الخدمة (الجليلة) للدولة؟
إن المطروح على هذه النقابات لخدمة المعركة الجارية أن تتوسط بين التنسيقيات التعليمية الفئوية وخاصة التنسيقية الوطنية للأساتذة/ات المفروض عليهم/هن التعاقد وبين فروعها النقابية وبينها جميعا وبين شغيلة باقي القطاعات والطلبة (خاصة طلبة الطب) والتلاميذ وأولياء أمورهم في حملة ممنهجة للتصدي لغايات وأهداف الدولة في تدمير القطاع، فهذا هو علة وجودها كمركزيات نقابية فهي بمثابة حليف للتنسيقيات لا وسيط بينها وبين الدولة.
فداحة تفريط اليسار في تجربة التوجه الديمقراطي بأساليب بيروقراطية
بينت معركة شغيلة التعليم بشكل جلي فداحة خطأ تفريط اليسار في التوجه الديموقراطي، الذي ولد بعد قرار طرد ثلاثة أعضاء الأمانة الوطنية للاتحاد المغربي للشغل في مارس 2012، وانتهى أمره وهو لا زال جنينيا بأساليب بيروقراطية بنفحة يسارية، لتبقى منه نقابة وطنية في قطاع التعليم بعد استسلام نقابتي الفلاحة والجماعات المحلية أمام أوامر قيادة الإتحاد المغربي للشغل، وهو ما يجعل تأثيرها محدودا وأفقها غامضا. إن ما أقدم عليه اليسار من وأد لهذه التجربة وهو الذي وضع من بين أهدافه بناء تجربة نقابية تكون سلاح نضال وتكرس تقاليد الحركة العمالية بروح ديمقراطية وطبقية حقيقية، لا يقل جرما عن ما تفعله البيروقراطيات النقابية بالتفرج على معارك جارية حتى تنهي بالهزيمة إن لم تتدخل لتسريعها دفعا لكل إحراج. بل إن سلوكه مذاك ينم عن حرص محموم لإثبات توبته عن شق عصا طاعة الأجهزة المتحكمة بالنقابة، فدخل الصف بانضباط، وسار على دربها في لعب دور الباحث عن إصلاح ذات البين، وناقلا لرسائل الدولة، عوض أن يحدد معسكره في خندق الذين يقاتلون بوجه سياسة الدولة، هذا يسميه نضجا مسؤولا، وهو في ميزان المصالح الطبقية انتهازية وخدلان.
لو كانت تجربة التوجه الديمقراطي الجنينية تلك قائمة إلى حدود اليوم، لتطورت في خضم النضالات، منذ النضالات البطولية للأساتذة المتدربين ثم المفروض عليهم التعاقد اليوم، ولمدت بدورها هذه النضالات بأفق لمعاركها، وهو ما خمنته بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل فأنهت التجربة بعزل نقابة التعليم عنها.
إن نقابة تعلن تشبثها بالديمقراطية ومنتمية لليسار وتشهر خطابا يدعي الحرص على مصالح الشغيلة، حري بها أن تكون في طليعة النضال إلى جانب التنسيقية الوطنية على نفس الشعارات، فكيف نكون ضد التعاقد، والنضال قائم ضده ولا ننظم له كنقابة؟ فبيانات الدعم لا قيمة لها ممن هو ضحية الهجوم الذي تقوده دولة البورجوازية على الشغيلة، فلا فرق بين مرسم ومتعاقد فالكل سيخسر مكسبا من المكاسب.
إن تحويل القيادة النقابية الرافعة لراية الديمقراطية واليسار والتقدمية إلى ناقل للرسائل لفائدة دولة البورجوازية، إلى من هم في ساحات النضال، وهي رسائل تحض على الاستسلام في جوهرها، لهو أمر مخزي. وينم عن فقدان أية بوصلة مضبوطة على مصلحة الطبقة العاملة.
انتصار شغيلة التعليم ممكن، بدليل ما أظهرته من حماسة نضالية، وانخراطا لافتا في الإضرابات والاحتجاجات الأخيرة، لكن شريطة منع القيادة النقابية من فش التعبئة بالاستسلام أمام فتات تتلقفه من الدولة، وإجبارها بضغط قوي من القاعدة النقابية والمناضلين النقابيين والفروع المكافحة على الذهاب في المعركة النضالية إلى أبعد ما تريد، حتى تحقيق المكاسب..
إن عجز القيادات النقابية عن انتزاع أي شيء طيلة الثمان سنوات الأخيرة جعلها متلهفة لتقبل رشوة بئيسة، وخيانة معركة تحمل آمال عظيمة في ميزان خدمة مصالح الشغيلة التعليمية، وهذا أمر تدركه الدولة كل الإدراك، وتستعمله كورقة ضغط لتخريب الدينامية الحالية، وهو أمر على كل المناضلين الصادقين معرفته بوضوح والحذر منه ومواجهته بلا تردد.
بقلم، سامي علام
اقرأ أيضا