الهزيمة العربية في يونيو / حزيران1967 وعواقبها
الأممية الرابعة
الفصل الثاني من وثيقة “الثورة العربية، طبيعتها، وضعها الراهن و آفاقها” الصادرة مارس/ آذار 1974 باسم المنظمات المنتسبة إلى الأممية الرابعة بالمنطقة العربية.
7- في إطار شروط اجتماعية-اقتصادية (موضوعية) مهترئة منذ زمن طويل، جاءت أحداث ذات طبيعة سياسية لتزعزع أكثر من مرة الأنظمة القائمة في المنطقة العربية. والاهم بين هذه الأحداث هي الحروب الإسرائيلية-العربية: فدولة إسرائيل التي أنشئت في فلسطين للدفاع عن المصالح الامبريالية في الشرق الأدنى قد ساهمت موضوعياً و بفعالية تفوق تأثير سنوات من التحريض، في تطوير الوعي القومي المعادي للامبريالية لدى الشعوب العربية، معززة هكذا الخطر الذي يهدد المصالح عينها التي يقع الدفاع عنها على عاتق هذه الدولة.
قبل حرب حزيران 1967 بعشرين عاماً، كانت حرب 1948 – عقب التأسيس الرسمي للدولة الصهيونية- قد تسببت في تبدل الخريطة السياسية العربية: فقد انضافت، إلى الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية التي كانت تعاني منها الأنظمة العربية، هزيمة جيوش هذه الأنظمة في وجه الدولة الجديدة، هزيمة ساهمت في إفقاد الحكومات القائمة هيبتها، و خلقت شروطاً ملائمة لإسقاطها. فساد المنطقة العربية وضع سابق للثورة، و ذلك خاصة في مصر حيث كانت الأزمة الاجتماعية على أشدها، بالإضافة إلى كونها المهزوم الرئيسي في حرب 1948 .
فدخل حكم فاروق المهترئ في احتضار لا علاج له؛ غير أن الوضع افتقد إلى القوة الاجتماعية القادرة على الحلول محل الحكم الملكي القائم. فالبرجوازية المصرية، الكمبرادورية في قسمها الأكبر و غير المتضايقة بتاتاً من الملكية، كانت ترى في احتمال سقوط فاروق سبباً للخوف أكثر منه مصدر فائدة؛ ومن جهة أخرى، كانت البرجوازية الصناعية المسماة بالقومية اضعف من أن تقود الشعب إلى الإطاحة بالملكية، خاصة وأن تظاهرات الشوارع في تلك الفترة كانت تميل إلى التطور باتجاه معاد للبرجوازية. وأخيراً، فالبروليتاريا، عدا ضعفها العددي(وهو عامل مؤثر لكنه ليس بحاسم)، كانت تفتقد إلى قيادة ثورية. و كان الستالينيون أنفسهم ضعفاء و مفككين و ساقطين في أعين الجماهير بسبب موقفهم العصبوي للغاية بصدد المسألة الفلسطينية.
إن هذا الوضع النموذجي- أزمة سابقة للثورة، بغياب قيادة ثورية- قد أنجب حلاً نموذجياً بالقدر نفسه: الانقلاب البونابرتي. و مما شجع هذا الإنجاب، فضلاً عن ذلك الوضع، السمة المميزة للجيش، و المشتركة بين العديد من البلدان المتخلفة: فبوصفه أقوى مكونات جهاز دولة متضخم – ومتضخم بالضبط نتيجة هزال البنى الاقتصادية و هزالة البرجوازية المسيطرة- شكَل الجيش في هذه البلدان، غداة استقلالها، الأداة الرئيسية للسلطة. و قد جمع ضمنه أهم الاتجاهات القومية البرجوازية و البرجوازية الصغيرة التي وجدت فيه إطاراً منظماً و ملائماً، بصورة خاصة، نتيجة لتركيبة الاجتماعي وأيضا نتيجة للإيديولوجية التي تشرف على تأسيسه. إن حكومة ” الضباط الأحرار” العسكرية هي عين الحكومة البونابرتية.
ترتكز البونابرتية الناصرية على توازن القوى بين الجماهير العاملة البروليتارية و البرجوازية الصغيرة من جهة، وبعض أقسام البرجوازية من الجهة الأخرى. وهي تمثل، بوصفها بونابرتية برجوازية، المصالح التاريخية العامة للبرجوازية القومية و تحارب أعداء هذه الأخيرة- الاستعمار والامبريالية و البرجوازية الكمبرادورية و الملاكين العقاريين الكبار، وأيضاً الحركة العمالية و منها خاصة الشيوعيين- وتحاول إنجاز المهام التاريخية للبرجوازية القومية و لاسيما مهمة التصنيع. و يستجيب بالأساس نضال السلطة الناصرية في سبيل الوحدة العربية للمصلحة التي تجدها البرجوازية القومية في توسيع سوقها. أما عبادة الجماهير البرجوازية الصغيرة – شرائح البرجوازية الصغيرة المدينية و الفلاحين الصغار و المتوسطين – للزعيم (عبد الناصر في هذه الحالة) فتنسجم تماماً مع الإطار البونابرتي لا بل تميُزه.
إن خصوصية البونابرتية الناصرية – ما يميزها عن البونابرتية التقليدية لبرجوازية صاعدة- خصوصية مقرونة بنتائج السيطرة الامبريالية على البلد الذي تحكم فيه: فإن الضعف البالغ للبرجوازية القومية، التي خنقها السوق الامبريالي في مهدها، يجعل من مشاركتها الفعلية في التجربة التي تمثل مصالحها التاريخية مشاركة لا يمكنها أن تكون إلا محدودة جداً. و يتوجب بالتالي على البونابرتية الناصرية أن تجد طريقاً اقتصادياً آخر: فتجد نفسها مضطرة في سبيل دفع تصنيع البلاد إلى النيابة عن الطبقة التي تمثلها نيابة اقتصادية – و ليس فقط سياسية كما هو شأن البونابرتية التقليدية. و لهذه الأسباب يشكل القطاع العام الأداة الاقتصادية المفضلة للسلطة الناصرية؛ غير أن هذا القطاع يبقى مع ذلك محكوماً بعلاقات إنتاج رأسمالية: إنه رأسمالية دولة برجوازية و ليس ” طريق تطور لا رأسمالي ” كما تزعم التحريفية الستالينية الجديدة.
علاوة على ذلك، ينتج عن الاستقلالية الاقتصادية للبونابرتية الناصرية أنها أكثر تأثراً بعلاقات القوى الاجتماعية مما هي البونابرتية البرجوازية التقليدية؛ فيمكنها، إذا ما واجهت ضغطاً جماهيرياً قوياً ، أن تقوم ببعض الإجراءات الجذرية الطابع، تكون أحياناً مناقضة تماماً للمصالح البرجوازية، كما كان الحال في عامي 1961و1963 . بيد أن هذه الإجراءات لا تعدو بالطبع كونها إجراءات محدودة و خاصة مؤقتة.
لقد قطعت التجربة الناصرية الأصلية شوطاً بعيداً في محاولتها بناء مصر برجوازية متقدمة و توحيد السوق العربي؛ غير أنها فشلت برغم ذلك مثبتة بصورة لا تقبل الجدل نظرية الثورة الدائمة. و تكررت الظاهرة الناصرية في عدة بلدان عربية (العراق و سوريا و اليمن و إلى حدِ ما الجزائر). و قد طبعت الناصرية بطابعها، و بقوة، المنطقة العربية و العالم المستعمَر بأسرة طوال أكثر من عقد. إلا أن حرب حزيران 1967 أظهرت حدود الناصرية و سددت ضربة حاسمة إلى صورتها الأصلية المصرية.
8- يندرج عدوان 1967 الإسرائيلي في الهجوم المضاد الذي شنته الامبريالية الأمريكية خلال الستينات. وكان الهدف من هذا العدوان لجم الدينامية المتصاعدة للنضال المعادي الامبريالية التي كان الشرق الأدنى يشهدها ، و التي وجدت تعبيرها في نهوض الشعب الفلسطيني إلى النضال و ظهور نوى مسلحة داخله و تزايد نشاطها العسكري ضد الدولة الصهيونية، من جهة ، من جهة أخرى، في تجذر النظام السوري الذي نتج عن انقلاب عام 1966 و الذي كان جناحه اليساري البرجوازي الصغير يفرض سياسته الراديكالية على جهاز الدولة الذي ما زال برجوازياً.
لقد كانت حصيلة حرب حزيران 1967 انتصاراً عسكرياً ساحقاً للمحور الامبريالي الصهيوني؛ و بهذا المعنى تكلل الهجوم المضاد الامبريالي بالنجاح . غير أن هذا النجاح قد اصطدم بردة الفعل التي أثارها النصر الامبريالي عينه و التي لم يكن بمقدور المنتصرين توقعها إطلاقاً. فقد تحركت الجماهير الشعبية العربية التي أهاجتها الهزيمة و ما مثلته من إهانة قومية ، تحركت في أكثف تعبئة سياسية عرفتها في تاريخها المعاصر. وقد التقى هذا الصعود لحركة الجماهير العربية المعادية للامبريالية بالمد الثوري العالمي ، ووازن النصر الامبريالي بقوة وقد سمح ببقاء السوري و المصري في السلطة بعد أن أصابتها الهزيمة إصابة قاسية.
لقد جاءت التظاهرات العارمة في 9 و 10 حزيران 1967 لتنقذ عبد الناصر و تكشف التوازن الجديد القائم بين الضغط الامبريالي و ضغط الجماهير العاملة: فبقي عبدا لناصر في السلطة، غير أن الناصرية – وقد أصابها النصر الإسرائيلي إصابة قاتلة- كانت تحتضر بدورها مثلما احتضر سالفها الملكي في الماضي. إن حدود المناهضة الناصرية، بعد أن كانت جلية على الصعيد الاقتصادي ، ظهرت للعيان في الميدانين السياسي والعسكري. فالسلطة الناصرية، العاجزة عن منافسة الدولة الصهيونية في المجال التقني- حيث أن هذه الأخيرة مسلحة من قبل الامبريالية و مزوَدة باختصاص بشري أكثر تقدماً لكونه مستورداً مباشرة من البلدان المصنّّعة- السلطة الناصرية هذه لم يكن بمقدورها أيضاً دفع التعبئة الشعبية والتسليح الشعبي الضرورين للتغلّب على إسرائيل واللذين من شأنهما لو حصلا أن ينسفا أسس حكمها البنوبارتي.
لقد أدركت الناصرية في حزيران 1967 حدودها الأخيرة: فتميزت سياسة عبد الناصر بعد حزيران بإستسلاميتها- تعاون نظامه مع الذين كانوا بالأمس أعداءه، عملاء الامبريالية في المنطقة ومنهم خاصة العربية”السعودية” ؛ وكان هذا التعاون الشرط الضروري للحصول على دعمهم المالي.
إن الناصرية قد أصبحت منذ حرب حزيران 1967 شبه مستحيلة في المنطقة العربية حيث أن أي مناهضة فعلية للامبريالية في هذه المنطقة تقتضي دينامية ثورية تتناقض مع سلطة دولة بونابرتية برجوازية. وليس الانقلابان السوداني و الليبي بالنسبة للناصرية كما كانت قبل عام 1967 ، سوى مسخين يمينيين. أما اتحاد الجمهوريات العربية القصير العمر الذي تم تأسيسه عام 1971 ، فليس له من صفة مشتركة مع الجمهورية العربية المتحدة القديمة سوى الدور القمعي الرجعي، وكان خالياً تماماً من المضمون الوحدوي و المعادي للإمبريالية الذي ميز محاولة التوحيد العربي الناصرية.
مع احتضار الناصرية أدركت حقبة من الثورة العربية نهايتها؛ و بدأت حقبة أخرى ترتسم.
9- – إن المظهر الرئيسي لصعود حركة الجماهير العربية بعد حزيران 1967 كان الاتساع الفائق السرعة لمنظمات الشعب الفلسطيني المسلّحة المعروفة باسم مشترك هو “المقاومة الفلسطينية”. بعد عشرين عاماً من السبات كان الشعب الفلسطيني خلالها مخدراً بوعود الحكومات العربية، جاءت الهزيمة العربية و النزوح الفلسطيني الجديد الذي نتج عمها ليوقظا هذا الشعب بعنف- وبالدرجة الأولى، جزءه الأسوأ مصيراً: جماهير اللاجئين الفلسطينين المجمعة في “مخيمات”. وقد عبّر تطور المقاومة الفلسطينية عن إرادة الشعب الفلسطيني في أن يمسك بنفسه زمام النضال في سبيل تحرير فلسطين، وطنه. لكن عفوية ردّ الفعل هذه فرضت عليها أيضا حدوداً.
إن اللاجئين الفلسطينيين، بوصفهم تجمعاً بشرياً غير منتج بقسمه الأكبر وخاصة غير مالك يفتقد حتى لأرض، يشكلون وسطاً اجتماعياً ذا تقبّل فريد لكل ميل قصوي حيث ليس لديهم إطلاقا أي شيء يخسرونه، بل أمامهم وطن يكسبونه. و يساهم هذا الواقع في تفسير الشعبية الهائلة التي حازت عليها المقاومة الفلسطينية برغم الطابع القصوي الواضح لشعاراتها و لتصورها لتحرير فلسطين.
وبالفعل لم تقدم المقاومة الفلسطينية، أو على الأقل قسمها الأكبر، أي أفق سوى” حرب التحرير الشعبية”- وهي هدف استراتيجي يكون غير واقعي إطلاقا لآذا ما بقي دون محتوى اجتماعي محدد و دون أهداف انتقالية سياسية و تنظيمية و عسكرية. وإنه بالطبع لضرب من الوهم الاعتقاد بأن المقاومة الفلسطينية، مع أنها شعبية بما لا جدال فيه، قادرة على التغلّب على الجيش الصهيوني- الشعبيّ هو الآخر لكن على أساس رجعي، و المجهّز تجهيزاً أفضل بما لا يقاس. إن بلوغ مثل هذا الهدف لا يقتضي فقط مساهمة الثوريين اليهود، القادرين وحدهم على نسف الأسس الأيديولوجية للتماسك الذي يميز سكّان الدولة الصهيونية و الذي هو مصدر قوتها، بل يقتضي أيضا و خاصةً اشتراك الشعوب العربية الأخرى في حرب ثورية شاملة ضد الامبريالية و حصنها الصهيوني، هي الطريق الواقعي الوحيد إلى النصر.
فلم تفلح المقاومة الفلسطينية في تقديم أي برنامج قادر على تأمين هذا الاشتراك المزدوج للجماهير العربية و اليهودية في نضالها: ان قصوية المقاومة مرتبطة عضوياً بقطريتها الفلسطينية. ونجد هنا انعكاساً للتجربة التاريخية للشعب الفلسطيني الذي تجد الميول الانعزالية ضمنه حافزاً لها في خصوصية المصير الذي شهده و في تبدد أوهامه حول الأنظمة العربية.
لكن مهما بلغت أهمية العوامل الكامنة وراء اتجاه المقاومة الفلسطينية القصوي- القطري، فإن هذا الاتجاه ليس بحتمي بل هو ميلي فقط. و لو وجدت طليعة بروليتارية ماركسية-ثورية، لكانت عرفت كيف تكافح الأوهام الخاطئة الشائعة بين الجماهير الفلسطينية وكيف تفسّر لهذه الجماهير أن تحرير فلسطين يمر بالضرورة عبر الإطاحة الثورية بالأنظمة العربية القائمة، الأمر الذي يستحيل بدون قيادة بروليتارية على الصعيد العربي تضم الثوريين اللذين يناضلون في إسرائيل نفسها. وتفادياً للمأزق و خيبات الأمل، كانت طليعة كهذه عرفت، لو وجدت، كيف تدرج نضالها العسكري ضد الدولة الصهيونية في إستراتيجية ثورية شاملة، جاعلة من نشاطها العسكري مساهمة – هي بالأصل مساهمة بالغة الأهمية-في بناء الحزب الثوري لعموم المنطقة، دون وصف هذه النشاط، خطأَ، بأنه “حرب تحرير شعبية” والحال أن طليعة كهذه كانت غائبة تاريخياً.
فقد استحال أن تنبثق قيادات المقاومة الفلسطينية عن الحركة العمالية الممثلة بالستالينيين حيث أن هؤلاء قد اعترفوا بحق الدولة الصهيونية قي الوجود على أثر اعتراف الاتحاد السوفييتي به. إن هذه القيادات جميعها منبثقة عن التيار القومي البورجوازي الصغير السائد في المنطقة العربية؛ و إذ استثنينا الامتدادات المباشرة لأحزاب عربية حاكمة، فتلك القيادات مجموع من الفرق الوطنية البرجوازية الصغيرة المتجذرة إلى هذا الحد أو ذاك، اقتربت الأكثر تقدماً بينها من البرنامج الماركسي-الثوري دون أن تستخلص قط ما ينجم عنه من مقتضيات عملية سياسية-عسكرية و تنظيمية. أما أوسع القيادات الفلسطينية نفوذاً، قيادة “فتح” ، فهي أيضاً أكثرها يمينية: فقد بررت بحجج فادحة في قطريتها و يمينيتها تبعيتها المادية إزاء الأنظمة العربية، بما فيها حتى وبالأخص أكثرها رجعيّة، الأنظمة العميلة علناً للإمبريالية الأمريكية، سند إسرائيل المعتمد. و بررت قيادة فتح، باسم “التناقض الرئيسي” مع إسرائيل، تعاونها مع الرجعيين الفلسطينيين و الأردنيين اللذين يتحملون قسطاً من مسؤولية خلق دولة إسرائيل عينها. و باسم الهوية الخاصة للشعب الفلسطيني عزلته عن باقي الشعوب العربية الذي هو على احتكاك بها و منعته من الاشتراك في النضالات الاجتماعية التي تخوضها هذه الشعوب. وغارقة في المساعدات المالية الهائلة التي تلقتها، نمّت قيادة “فتح” جهازاً بيروقراطياً يكاد يضاهي بأهميته جهاز دولة بورجوازية عادي. وتنظيمها العسكري تنظيم مأجور، الأمر الذي يتناقض بصورة فادحة مع مبادئ خلق جيش شعبي ثوري.
بيد أن “فتح” –أهم منظمات المقاومة الفلسطينية- قد خاضت بالرغم من ذلك كله، نضالاً لا ينكر طابعه المعادي موضوعياً للإمبريالية؛ وجسدت “فتح” الأماني الوطنية العادلة للشعب الفلسطيني و شكًلت ستاراً احتمت به الاتجاهات الثورية التي ظهرت في الشرق الأدنى بعد حزيران 1967 . و تجد هذه المفارقة تفسيرها في موقع قيادة “فتح” المزدوج حيث هي خاضعة للتوازن القائم بين علاقاتها مع الأنظمة العربية من جهة و الحركة الجماهيرية التي تترأسها قيادة “فتح” من الجهة الأخرى، والتي، بضغطها في اتجاه التجّذر تمنحها حداً معيناً من الاستقلالية.
10- – إن سحق المقاومة الفلسطينية- الذي كانت مرحلته الرئيسية حملة الإبادة التي خاضتها السلطة الهاشمية الأردنية في أيلول 1970 – هو نتيجة مباشرة للسياسة التي اتبعتها قيادة المقاومة وخاصة قيادة “فتح”. وبالفعل، فقد ساهمت قيادة “فتح” أكثر من أي طرف آخر في خداع الجماهير الفلسطينية حول النوايا الحقيقية للسلطة الهاشمية، وروّجت الأضاليل الداعية إلى ” وحدة الصفوف في وجه العدو القومي” بدل أن تغذي حذر الجماهير من حسين و تنظّمه.
وبرفضها لأي محاولة تهدف إلى أن تحل لصالحها ازدواجية السلطة التي شهدها الأردن قرابة السنتين، و بسلوكها دائماً سلوكاً دفاعياً، أتاحت قيادة فتح للسلطة الرجعية الاستفادة من موقع المبادرة و روّجت وهم المصالحة النهائية بعد كل حملة تصفية شنتها السلطة. و علاوة على ذلك، قدمت التنازل تلو التنازل للسلطة الأردنية- إلى حد تجريد الجماهير من السلاح- وذلك ثمناً لاتفاقيات لم تأخذها السلطة يوماً بعين الاعتبار. و فضلاً عن ذلك الموقف التضليلي حرمت قيادة “فتح” نفسها من الضمانة الحقيقية الوحيدة في وجه السلطة الهاشمية: دعم الجماهير الأردنية و جنود جيش حسين. فباسم “الهوية الفلسطينية” و ” عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية”، لم تتقدم بأي برنامج قادر على تأمين هذا الدعم لها ذاهبة حتى إلى حد الوقوف أحياناً في وجه نضالات الشغيلة.
أما اليسار الفلسطيني فبالرغم من تجنبه وهم ” الوحدة الوطنية” مع السلطة الهاشمية، لم يتميز تقريباً عن فتح في المجال العملي. ولم يعرف هو أيضاً كيف ينغرس بين الجماهير الكادحة في الأردن و لا كيف يستعد لمواجهة حملة الإبادة الحتمية. و لم يحسن تقديم برنامج انتقالي قادر على تعبئة الجماهير الأردنية، بل رفع شعارات كانت تارة قطرية دون محتوى طبقي(“كل السلطة للمقاومة الفلسطينية”) وتارة يسارية متطرفة لا تقابل أي شئ ملموس(” كل السلطة للمجالس الشعبية”). ولم ينظم اليسار معارضة فعلية لاستسلام قيادة فتح وانتهى إلى عدم التمايز سياسيا عنها بحجة وحدة الصفوف. لقد تميز اليسار الفلسطيني باتجاه قصوي-قطري مماثل لاتجاه المقاومة بمجملها. ولم يفهم بالأخص الحاجة الماسة إلى حزب طبقي ثوري قائد للمنظمة العسكرية و قادر وحده على تحقيق الإنغراس في صفوف الطبقات المنتجة على أساس غير فلسطيني المركز. وبالإضافة إلى ذلك ارتبط اليسار الفلسطيني بالأنظمة العربية التقدمية المزعومة موفراً لها غطاءً يسارياً، و خائناً بالتالي مصالح النضال الثوري ضد تلك الأنظمة. إن هذه السياسة نفسها التي سلكتها قيادات المقاومة الفلسطينية تفسر النجاح السهل نسبيا الذي لاقته الجهود المشتركةللجيش الإسرائيلي و السلطة اللبنانية في سعيهما إلى عزل المقاومة عن السكان اللبنانيين و تجميد نشاطاتها العسكرية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. أما في سوريا ، فلم تفرض المقاومة نفسها يوما سلطة مضادة، دافعة ثمن الدعم الذي تتلقاه من النظام بخضوع تام له؛ و اليوم يؤدي هذا الخضوع إلى تجميد القوات الفلسطينية الموضوعة في الواقع تحت إشراف الجيش السوري. كان السقوط المتسارع للمقاومة الفلسطينية على شاكلة صعودها؛ و بعد أن حملت المقاومة معها أوهاما عديدة، شكّلت هزيمتها صدمة مفجعة كانت أمّر من صدمة حزيران 1967 ذاتها. لكن دروس هذه الهزيمة لا يمكن أن تضيع: إن الارتباط العضوي بين النضالات القومية و النضالات الاجتماعية بات اليوم أوضح منه في أي حين مضى. لقد أصبح جلياً جداً أن تحرير فلسطين لا يمكن بلوغه كهدف منعزل وإنما فقط كجزء من الثورة الاشتراكية العربية تحت القيادة الحازمة لحزب بروليتاري ثوري لعموم المنطقة. و سوف يتحتم على الطليعة الجديدة الفلسطينية و العربية أن تستوعب هذه الحقيقة.
11- – جاء سحق المقاومة الفلسطينية في أيلول1970 بعد حزيران 1967 بثلاث سنوات ليستكمل النصر الامبريالي؛ فبتصفيتها حركة الشعب الفلسطيني المسلحة في ساحتها الرئيسية، حطمت السلطة الهاشمية- أداة الامبريالية الطيعة – التوازن الذي قام بعد 1967 بين النصر الإسرائيلي و صعود حركة الجماهير العربية، الذي كانت المقاومة الفلسطينية أهم تعبير عنه. و هكذا انفسح المجال أمام إعادة تنظيم المنطقة العربية بصورة تناسب المصالح الامبريالية و البرجوازية ، ما يعني في المقام الأول لجم الأنظمة العربية المعادية للامبريالية. وكان أيضاً من شأن موت عبد الناصر في الوقت نفسه – و هو الذي أتاح له مجده البونابرتي مقاومة الضغط الامبريالي إلى حد معين- أن يسّر هذه المهمة. وبعد مذابح الأردن بشهر، سقط الفريق البرجوازي الصغير الراديكالي الحاكم في سوريا إثر انقلاب عسكري نظمه جناح السلطة اليميني الممثل لجهاز الدولة البرجوازي. و مدت السلطة الجديدة يدها للبرجوازية السورية على الصعيد الداخلي وللحكومات العربية المرتبطة بالامبريالية، على الصعيد الخارجي. وفي عام 1970، قام نظام السادات في مصر بتصفية البيروقراطية الناصرية- ذلك الجهاز السياسي و العسكري الموروث عن الماضي الناصري- و شرع بتفكيك تدريجي لإجراءات التأميم التي طالت مصالح البرجوازية المصرية، وبإزالة الحواجز أمام تطور الرأسمال الخاص المحلي والامبريالي في مصر، الأمر الذي يعني بالفعل الشروع بتصفية المظاهر الاقتصادية الممَيزة للنظام الناصري. وفي الواقع، كان محتما أن تكون التجربة الناصرية، شأنها شأن كل سلطة بونابرتية، تجربة انتقالية؛ فقد أنتجت الطرفين اللذين كان بإمكانهما أن يحفرا قبرها: برجوازية جديدة تتألف من بقايا القديمة(البرجوازيون اللذين لم تؤمم ممتلكاتهم أو الذين قبضوا تعويضا عنها) و من جزء من البيروقراطية الحاكمة تمكُن من رسملة الأموال التي راكمها بالاستفادة من جهاز الدولة؛ و من الجهة الأخرى، بروليتاريا كبيرة الحجم و مركُزة لكنها تتميز بافتقادها إلى تجربة نضال مستقلة و تنقصها قيادة نقابية أو سياسية تمثلها فعلاً. فما أن انقطع التوازن البونابرتي، و بعد موت البونابرت، حتى تمكنت أكثر القوتين المذكورتين تنظيماً، البرجوازية الجديدة، من أن تتخلص من البيروقراطية الناصرية، ذلك الجسم الطفيلي الذي بات يعيق تطوَرها. وكان نظام السادات أداة هذه الردة البرجوازية. وفي عام 1971 أيضاً، تمكنت الديكتاتورية السودانية، منهية مسخها القصير العمر للناصرية، من تصفية الحزب الشيوعي السوداني- المنظَم الرئيسي للحركة العمالية في السودان- و الشروع بتعاون مكشوف مع الامبريالية الغربية.
أخيراً سعت الامبريالية جهدها للجم التجربة الثورية الجارية في جنوب اليمن. و نجحت، بممارسة ضغطها العسكري بواسطة العربية”السعودية” و اليمن الشمالية، في أن تفرض على حكومة جنوب اليمن اتفاق وحدة مع الشمال يهدد، في حال نقلة الى حيز التنفيذ، بتصفية المحتوى المعادي للامبريالية و للرأسمالية الذي ميز النظام الذي قام في الجنوب بعد إزاحة الجناح اليميني من “جبهة التحرير القومية” في عام 1969.
هكذا أصبح بإمكان الامبريالية الأمريكية، مع بضع سنوات من التأخُر، جني ثمار النصر الذي أحرزته في عام 1967. و بقي عليها تكريس هذا النصر نهائياً بتصفية المضمون الثوري للمسألة الفلسطينية عن طريق تطبيق ” الحل السلمي للنزاع العربي-الإسرائيلي.
12- ـ لكن بالرغم من سحق المقاومة الفلسطينية في الأردن، و انتصار الردة البرجوازية في بعض الدول العربية، و احتداد الضغط الامبريالي على عامة المنطقة العربية، فان النضالات القومية و الاجتماعية للجماهير العربية ما انفكت تتطور، لا بل خطت خطوة نوعية هامة مع ظهور حركة تمرد طويلة النفس في مصر- للمرة الأولى منذ عدة سنوات.
إن تفسير هذه المفارقة الظاهرية يكمن في أن استكمال الهجوم الامبريالي لم يغير شيئاً من الأسباب العميقة للاضطراب السياسي في المنطقة العربية. فلم تبق الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية الأساسية في البلدان العربية دون حل فحسب، بل على العكس تفاقمت من جراء عواقب حزيران 1967 في البلدان المشتركة في الحرب (ثقل الميزانية العسكرية، إغلاق قناة السويس، الخ). و قد انضاف إلى هذه الأزمة التوتر السياسي الشديد الذي نجم عن هزيمة الدول العربية، و الذي كان يتفاقم مع مرور الأيام؛ و أخذت جماهير أوسع فأوسع في البلدان العربية تتحرر من أوهامها و تقتنع بالخيانة القومية لحكوماتها.
إن الموجة الرجعية التي انطلقت عام 1970 في المنطقة العربية لم تستطع سوى إسقاط بعض القيادات: فقد أطاحت بالنظامين الرئيسيين المرتبطين بالتيار القومي العربي( البرجوازي والبرجوازي الصغير )، وسحقت المقاومة الفلسطينية ذات القيادات المنبثقة من التيار ذاته، وصفَت القيادة الستالينية للحركة العمالية في السودان، أقوى القيادات الستالينية العربية. لكن، إذا صح أن الناصرية لن تنهض من جديد، و أن القيادة البرجوازية الصغيرة للمقاومة الفلسطينية قد انفضح أمرها بصورة نهائية، وان الحركة الستالينية العربية قد أثبتت إفلاسها بأكثر مما يكفي، فإنه جلي بالقدر نفسه أن تجذر حركة الجماهير العربية قد دخل منذ ذلك الحين في مرحلة جديدة. وكانت مصر مرة أخرى البلد الذي ظهر فيه التجذَر الجديد على أشده، أكان ذلك بالعصيان البليغ المعنى لعمال الصلب و الحديد في حلوان أو بحركة الطلاب المصريين الرائعة.
وهكذا أنذرت هذه المرحلة الجديدة من تجذر الجماهير العربية بأن تكون أعمق من المرحلة السابقة و اشد خطراً على السلطات القائمة، كأن موجة ما بعد حرب حزيران لم تكن سوى مقدمة للعاصفة التي كانت تتكون. وبات تفاقم الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية في البلدان العربية الذي زادت من حدَته أزمة النظام الرأسمالي العالمي، بات يهدد بدفع غالبية قوى البروليتاريا و الجماهير الريفية الفقيرة إلى التحرك، بعد أن بقيت حتى ذلك الحين في موقف الانتظار. وسوف تحاول الطبقات الحاكمة العربية، وقد أدركت الخطر ،أن تزيله.
اقرأ أيضا