سيرة ذاتية للأمل: مقدمة الطبعة العربية من كتاب ليون تروتسكي “حياتي” بقلم أشرف عمر
———
مقدمة المترجم:
سيرة ذاتية للأمل
حين شرع الثوري الروسي ليون تروتسكي (1879 – 1940)، أحد أبرز قيادات الثورة الروسية عام 1917، في كتابة سيرته الذاتية عام 1929، استقرَّ على عنوان “حياتي: محاولة في كتابة سيرة ذاتية” من ضمن عدة اختيارات، جاء من أبرزها: “نصف قرن: 1879 – 1929″، و”في خدمة الثورة: تجربةٌ في السيرة الذاتية”، و”حياة نضال: السيرة الذاتية لثوري”، و”أن تحيا هو أن تناضل: السيرة الذاتية لثوري”.
كَتَبَ تروتسكي هذه السيرة عن نفسه من منفاه في تركيا، استنادًا إلى العديد من المسودات الخاطفة عن حياته للنشر في الصحف. ويغطي الكتاب، الذي نُشِرَ لأول مرة عام 1930، ونقدمه هنا للقارئ العربي مُترجَمًا عن النسخة الإنجليزية الصادرة عن دار Pathfinder Press الأمريكية، فترات نشأة تروتسكي وشبابه، وبدايات نضاله السياسي ومنفاه الأول إلى سيبيريا ثم هروبه إلى أوروبا، وعبر ثورة 1905، مرورًا بنضاله من المنفى الثاني في أوروبا، وصولًا إلى ثورة 1917 وما تلاها من حربٍ شنَّها جنرالاتٌ روس مدعومين بجيوشٍ أوروبية جرَّارة، وحتى نضاله ضد الستالينية، وطرده من الحزب الشيوعي ونفيه خارج البلاد للمرة الثالثة.
يتمتَّع هذا الكتاب بقيمةٍ أدبية رفيعة لما يتناوله من حياةِ ثوريٍّ برز اسمه في صدارة الكثير من الأحداث التاريخية التي غيَّرَت وجه العالم في عصره. ويتميَّز كذلك بأسلوبٍ أدبي ممتع، ليس فقط لأن هذه سيرةٌ ذاتية هي بطبيعة الحال ضربٌ من ضروب الأدب، بل أيضًا لأن هكذا أسلوب هو ما اعتاد المؤلف الكتابة به في أغلب أعماله –التاريخية والسجالية على الأقل. نجد بين طيَّات هذا الكتاب الكثير من السرد التاريخي، والشروح الفلسفية، والرؤى والتصوُّرات الشخصية والسياسية، والسجالات النظرية التي لا يخلو بعضها من حِدَّة. لكنه يظل مع ذلك كتاب سيرة ذاتية، إذ كانت هذه العناصر مُكوِّناتٍ رئيسية لحياة المؤلف الشخصية الواعية حتى اغتياله عام 1940 على يد أحد عملاء الستالينية في المكسيك.
رغم الحجم الكبير له، كان من الممكن أن يُصدِر المؤلف كتابه بحجمٍ أكبر بكثير ربما يصل إلى الضِعف، فما أكثر المواضع التي يختم فيها تروتسكي قوله بأن “المجال لا يتسع هنا لذلك وسأخصِّص كتابًا آخر لهذا الأمر”. عمدتُ إلى إدخال الكثير من الهوامش الإضافية مُرفَقَةً ببعض الإشارات الأدبية والسياسية والأحداث التاريخية التي كان مُتعارَف عليها في عصر الكاتب والتي ربما طواها الزمن، سعيًا لتقديم أوضح صورة قدر الإمكان لحياة المؤلف والسياق السياسي والتاريخي الذي عاش فيه.
ونظرًا للسنوات الإحدى عشرة الفاصلة بين هذه السيرة الذاتية واغتيال المؤلف (من 1929 إلى 1940)، بما اشتملت عليه تلك الفترة من أحداثٍ ثريةٍ بالسياقات والتفاصيل في حياة تروتسكي، أرفقت كذلك مُلحقًا في نهاية الكتاب هو في الأصل ترجمة عربية لمقدمةٍ مكتوبة للنسخة الإنجليزية من الكتاب، كَتَبَها في أكتوبر 1969 الشيوعي الأمريكي جوزيف هانسن، أحد أفراد طاقم السكرتارية الخاص بالمؤلف في المكسيك من 1937 إلى 1940. لعل هذا المُلحَق يسهم في رسم صورة لجانبٍ من حياة المؤلف في ما بعد إصدار سيرته.
دفاعًا عن الثورة الروسية
ارتبط اسم ليون تروتسكي بكافة المحطات الرئيسية للثورة في روسيا، سواء الثورة الأولى عام 1905 التي أجهزت عليها القيصرية بالقمع والاعتقال والنفي والإعدامات، أو ثورة العام 1917 التي انتصرت على القيصرية وظلَّت تنبض بالحياة طيلة سنوات حتى صعدت الستالينية على أنقاضها في منتصف العشرينيات.
منذ حياته السياسية المبكرة، ظلَّ المؤلف يدافع عن الثورة الاشتراكية، بالنضال السياسي والنظري والأدبي، كحلٍّ جذريٍّ وحيد لمعاناة عشرات الملايين من الفلاحين والعمال والمُهمَّشين الروس من الاستغلال والاضطهاد والقمع. أخذ يخوض في سجالاتٍ نظريةٍ وسياسية أولًا ضد الأفكار الإصلاحية التي دعت للمواءمة مع النظام القيصري، راعي الإقطاع والرأسمالية، وإدخال إصلاحات فيه لا إسقاطه، وثانيًا ضد أفكار وممارسات الإرهاب الفردي التي تستبدل نضال الجماهير ولا تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى توطيد أركان النظام.
برز ليون تروتسكي في ثورة 1905 كقائدٍ ورئيسٍ مُنتَخَب لسوفييت مدينة بطرسبورج (عاصمة روسيا آنذاك)، ذلك المجلس الذي أسَّسه العمال من مندوبين اختاروهم بالانتخاب من مواقع العمل والأحياء كجهازٍ قيادي وتنظيمي للثورة. مُنِيَت هذه الثورة بالهزيمة إثر الضربات القاضية التي سدَّدَتها لها القيصرية، وبحلول منتصف العام 1907 بات من الواضح أن هذه الموجة من الثورة قد انتهت بالكامل. كان المؤلف وقتذاك في منفاه السيبيري، الذي تمكَّن من الهرب منه إلى أوروبا، ليواصل النضال بقلمٍ في يده؛ يكتب ويحرِّر ويصدر الصحف، ويسعى جاهدًا للحفاظ على تراث الثورة المهزومة واستخلاص خبراتها من أجل المستقبل، محاولًا أيضًا الاشتباك في المعارك الصغيرة التي أخذت في التصاعد شيئًا فشيئًا بعدما ابتلعت الجماهير مرار الهزيمة.
واصَلَ تروتسكي هذا النضال بدأبٍ وثبات من منفاه الأوروبي، بينما كانت النضالات في الداخل الروسي تتكثَّف في الأفق في مسارٍ يُنبِئ بثورةٍ على الأبواب (بالأخص في الفترة من 1912 إلى 1914)، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى لتقطع هذا المسار وتُشوِّش الجماهير وتُلطِّخ الأجواء بصبغةٍ قومية سَمَحَت للقيصرية الروسية –كما لأغلب دول أوروبا- بتدشين حملاتٍ من القمع تكبت بها النضالات الجماهيرية.
انخرط المؤلف في النضالات المحلية للحلقات والأحزاب الثورية في أغلب البلدان التي مرَّ عليها. لكن المنفى لم يكن يعني أن المؤلف كان بعيدًا عن مُتناوَل القمع، إذ لاحقته الشرطة السرية القيصرية أينما كان، وأخذت في أكثر من بلدٍ تُحرِّض السلطات المحلية على معاقبته وطرده. ونتيجةً لذلك، كما نتيجةً لنشاطه الثوري بالطبع، حُكِم عليه غيابيًا بالسجن في ألمانيا عام 1915، وفي العام التالي طُرِدَ من فرنسا، فرَحَلَ إلى إسبانيا، التي طُرِدَ منها هي الأخرى في العام نفسه متجهًا إلى نيويورك حيث مَكَثَ هناك فترةً وجيزةً حتى تمكَّن من العودة إلى روسيا بعدما أطاحت الثورة بالقيصر ورجاله في فبراير 1917.
لدى عودته، قابَلَ المؤلف ترحيبًا واسعًا في أوساط الثوار، على خلفية سمعته كقائدٍ لسوفييت العاصمة في الثورة الأولى ونضاله المتواصل مذاك الحين، لكنه قوبِلَ أيضًا بتوجُّسٍ حذِر من الإصلاحيين الذين أرادوا توقيف الثورة عند حدِّ إسقاط القيصر دون استكمالها لتضرب الأسس الطبقية لكافة مظالم المجتمع الروسي. ولم تمض إلا بضعة أشهر حتى انتُخِبَ ثانيةً رئيسًا لنفس السوفييت الذي تشكَّل من جديد في 1917 استنادًا لخبرات الثورة الأولى، والذي احتذت به كافة المدن الروسية لتأسيس سوفييتاتها. قاد تروتسكي الثورة الروسية، دعايةً وتحريضًا، جنبًا إلى جنب مع لينين وغيرهما الكثيرين، حتى تمكَّنَت السوفييتات من الاستيلاء على السلطة بزعامة الحزب البلشفي في أكتوبر.
ترأس تروتسكي الوفد الروسي في مفاوضات بريست ليتوفسك، كمُفوَّضٍ للشئون الخارجية، من أجل انسحاب روسيا من الحرب العالمية، كمطلبٍ شعبي نادت به الثورة. خاض في هذه المفاوضات بعضًا من أقوى السجالات وأشدِّها حدَّة ضد أباطرة وجنرالات ودبلوماسيي أكبر قوى أوروبا الإمبريالية، دفاعًا عن ثورة وعمال وفلاحي روسيا في تحقيق السلام. وبعدما وضعت الحرب العالمية أوزارها، بما تكبَّدَته روسيا من خسائر فائقة لأجل أن تنعم بالسلام، دعمت أوروبا جنرالات القيصر السابق بجيوشٍ كبرى (في ما عُرِفَ إجمالًا بالجيش الأبيض) لسحق السوفييتات في حربٍ أهلية استمرت من العام 1918 إلى 1921. وفي مواجهة الغزو الأجنبي، توجَّه المؤلف لبناء جيش الجمهورية السوفييتية.
لم تكن لدى تروتسكي خبرةٌ عسكرية تُذكَر إلا من خلال عمله كمراسلٍ صحفي أثناء الحرب العالمية. واجَهَته الكثير من المصاعب في التقنيات والتدريبات العسكرية اللازمة للعمال والفلاحين المُتطوِّعين في الجيش الأحمر الوليد. ومن أجل مواجهة جيوشٍ مركزيةٍ جرَّارة فائقة العسكرة، أدخَلَ تروتسكي انضباطًا صارمًا داخل الجيش في مراحل لاحقة من بنائه. لكن هذا الانضباط لم يكن مبنيًا قط على الولاء الأعمى أو الخوف من بطش القيادات أو المنطلقات الوطنية المجردة، بل على التماسك السياسي على قيم ومبادئ الثورة الاشتراكية والحماس الشعبي للدفاع عنها. أمضى تروتسكي السنوات الثلاث لهذه الحرب في ما عُرِفَ بـ”قطار الحرب”؛ يجول جبهات القتال جيئةً وذهابًا، ويلتقي الضباط والجنود في كلِّ كتيبةٍ؛ يخطب فيهم ويُحدِّثهم ويناقشهم. وفي القطار، يعقد الاجتماعات ويُجري الاتصالات ويكتب ويحرر ويصدر منشورات الجيش وصحيفته السياسية. يسرد المؤلف في هذا الكتاب عددًا كبيرًا من القصص التفصيلية لفِرَقٍ من الجنود أرعبهم القتال وزعزع عزيمتهم، لكنهم يتقدَّمون في صدارة القتال دفاعًا عن الثورة بعد نقاشه هو والضباط معهم. النقاش والإقناع والتماسك السياسي، كان هذا هو الأولوية الأولى في بناء الجيش الأحمر وسبيله في تحقيق الانتصار تحت قيادة تروتسكي.
في كافة مراحل حياته، تصدَّر تروتسكي الدفاع عن الثورة، ووَهَبَ لذلك عمره بأكمله منذ بدأ النضال السياسي في 1897 (كان في الثامنة عشر من عمره). كان ذلك دفاعًا سياسيًا عنها كخيارٍ لابد منه حتى في أقسى فترات الركود الجماهيري، ودفاعًا سجاليًا ضد خصومها وأولئك الذين ابتغوا تبديدها بمجرد أن بدأت، ودفاعًا عسكريًا حين تطلَّب الأمر ذلك خلال ثلاث سنواتٍ من الحرب الأهلية، وحتى دفاعًا تاريخيًا لم يتوان عنه بقية حياته في مواجهة تزييفات وافتراءات الستالينية.
“الثورة الدائمة” في مواجهة الستالينية
أُنهَكَت الجماهير الروسية، لا سيما طليعتها العمالية الثورية، إنهاكًا شديدًا جراء سنوات الحرب العالمية والدمار الاقتصادي المُصاحب لها، ثم حرب التصدي لجيوش أوروبا والمزيد من الدمار الاقتصادي، فضلًا عن أن أعدادًا كبيرة من العمال الواعين سياسيًا الذين قادوا طبقتهم في الثورة هم أنفسهم لقوا حتفهم خلال الحرب الأهلية. أصابت الثورة حالةٌ من الركود على خلفية هذا الوضع الجاثم. وزاد الوضع سوءًا على خلفية سلسلة الهزائم التي مُنِيَت بها الثورات في أوروبا –الأكثر تقدُّمًا من روسيا بالطبع- في الفترة من 1918 إلى 1923. وبينما كانت الاشتراكية في روسيا، الوليدة من دمارٍ اقتصادي يكاد يكون شاملًا، تنتظر انتصار ثورات أوروبا –ولا سيما في ألمانيا- فقد أدَّت هذه الهزائم إلى حالةٍ من العزلة في مواجهة عالمٍ من الرأسمالية المُعادية.
ولَّدَ هذا الوضع الخانق خيارين أمام الاشتراكية في روسيا؛ إما الحفاظ على مبادئها واستكمال بنائها انتظارًا لموجة ثورية مقبلة في أوروبا (اندلعت موجات لاحقة بالفعل وأجهضتها الستالينية نفسها)، وإما مواكبة التنافس الرأسمالي العالمي والتحوُّل إلى سياساتِ نفس استغلال جماهير العاملين ومراكمة الأرباح، لكن باسم “الدولة الاشتراكية”. هذا هو السياق الذي سيطَرَ فيه ستالين وزمرته على السلطة السياسية بعد لينين، وقد تبنوا الخيار الثاني في ردِّ فعلٍ انهزامي وانتهازي على انعزال الثورة الروسية.
بلوَرَت الستالينية نفسها في ما عُرِفَ بنظرية “الاشتراكية في بلدٍ واحد”، التي جادلت بأن من الممكن بناء جزيرةٍ اشتراكية معزولة دون أن تمتد الثورة في بقية أرجاء البحر الرأسمالي. لكن هذه “الجزيرة الاشتراكية” وجدت نفسها بطبيعة الحال في مواجهةٍ تنافسية مع البلدان الرأسمالية التي تتفوَّق عليها اقتصاديًا وعسكريًا بمراحل فائقة. وبينما تخلَّت هذه النظرية عن البُعد الأممي للاشتراكية، واعتبرته حاجةً زائدة لا ضرورةً تفرض نفسها، وبالتالي عمدت إلى المواءمة مع العالم الرأسمالي من حولها ومواكبة التنافس معه، فقد وجدت نفسها في مسارٍ لابد لها فيه ليس فقط من اتباع نفس آليات النظام الرأسمالي في توليد الأرباح وفي شكل السلطة والحكم، بل تكثيف هذه الآليات أضعافًا بحيث تستطيع عدو المسافة الطويلة التي تفصلها عن بقية الرأسمالية المتنافِسة معها. فكفَّت الجزيرة عن أن تكون “اشتراكية”.
في مواجهة ذلك، كانت نظرية “الثورة الدائمة” لتروتسكي هي ما حافظت على التراث والجوهر الثوريَّين للاشتراكية، تلك النظرية التي تمحوَرَت أفكار ونظريات المؤلف حولها وفي اتساقٍ معها. بلوَرَ المؤلف هذه النظرية في صورةٍ واضحة لأول مرة في العام 1906، على خلفية مسارات ثورة 1905 والعلاقات الطبقية في روسيا، وكذلك علاقة روسيا بأوروبا وبقية العالم الرأسمالي. قامت النظرية على مُقوِّمتين رئيسيَّتَين؛ أولًا أن المطالب الديمقراطية والوطنية المُلِحَّة في البلدان المتأخرة مثل روسيا لا يمكن تحقيقها بشكلٍ كامل في ثورةٍ إلا تحت قيادة الطبقة العاملة للجماهير، حتى وإن كانت تُمثِّل أقليةً في المجتمع. البرجوازية من ناحية، نظرًا لطبيعة مصالحها ونشأتها منذ البداية في البلدان المتأخرة على يد الدولة الإقطاعية، وكذلك ارتباطها برأس المال الأجنبي، فإنها أول من يخون هذه المطالب حتى وإن كانت هي أيضًا تسعى إليها. رعبها من حركة الجماهير أكبر من رغبتها في أي تحرُّرٍ ديمقراطي. الفلاحون هم أيضًا لا تتوفَّر لديهم الإمكانات الطبقية التي تؤهِّلهم لقيادة ثورة من هذا النوع، إذ ينقسمون حسب الملكية إلى مُعدَمين لا يمتلكون شيئًا، ومُستأجِرين، ومُلَّاك صغار، وآخرون ذوي ملكيةٍ كبيرة، فضلًا عن أن نمط الإنتاج الموسمي الذين يعيشون فيه يفرض عليهم العزلة ويُبدِّد القدرة لديهم على تنظيم حركتهم. في المقابل، رأى تروتسكي أن الطبقة العاملة وحدها، بقدراتها التنظيمية وقوة تأثير حركتها على توليد الأرباح في المجتمع، هي القادرة على قيادة الثورة حتى من أجل مطالب ذات طابع ديمقراطي ووطني.
لكنه رأى أيضًا أن ثورةً ديمقراطية وطنية بقيادة الطبقة العاملة ستفتح الباب على مصراعيه للمواجهة بين هذه الطبقة والرأسمالية، ولن تتمكَّن حينها الطبقة العاملة من الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية والوطنية وإرسائها إلا بتسديد ضرباتٍ قاضية لعلاقات الملكية الرأسمالية؛ أي بالقضاء على الرأسمالية نفسها، وإلا لن تنتزع أيَّ ديمقراطيةٍ على الإطلاق. هذا ما جرى بصورةٍ عملية في الثورة الروسية. وقفت البرجوازية ضد المطالب الديمقراطية والوطنية بعد إسقاط القيصر في فبراير 1917. رفضت البرجوازية المطلب الوطني بالانسحاب روسيا من الحرب الدموية لما تجنيه قطاعاتٌ مهمة فيها من أرباحٍ من جرائها. تصدَّت البرجوازية للمطالبات العادلة بتوزيع الأرض على الفلاحين لما يربطها بالإقطاع من علاقاتٍ وثيقة. ورأت في الديمقراطية العمالية الوليدة في الثورة أكبر تهديدٍ لها، وأخذت تضغط لتجويع الشعب بغرض تركيعه. كانت المواجهة في هذه الثورة –شأنها في ذلك شأن الكثير من الثورات الاجتماعية العميقة عبر التاريخ- بهذه المُباشَرة؛ إما القضاء على الرأسمالية للحفاظ حتى فقط على الديمقراطية والمطالب الوطنية، وإما الاستسلام لضغوط الرأسمالية وكأن ثورة لم تقم من الأصل.
عبَّر تروتسكي عن هذا المفهوم، حين كَتَبَ أن الثورة الدائمة هي “ثورةٌ وطنية ترفع البروليتاريا إلى سدَّة الحكم وتفسح المجال أمام إنضاج الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية”. كان هذا هو الاستخلاص النظري للمسار الذي اتخذته ثورة 1917، ذلك المسار الذي عارضه مَن يصفهم تروتسكي برجال “الصف الثاني” بعد لينين حتى في آتون الثورة نفسها بدعوى عدم جاهزية الطبقة العاملة لذلك في المرحلة الديمقراطية من الثورة (أما ستالين، فظلَّ صامتًا تمامًا، ويخلو كلُّ ما كُتِبَ عنه من ذِكر أيِّ إسهامٍ له في ذلك الجدال الذي استمر طيلة أشهر حول هذه القضية أثناء الثورة).
المُقوِّمة الثانية لنظرية الثورة الدائمة تتلخَّص في أن هذه الثورة الديمقراطية، التي من أجل حفاظها على مكتسباتها الديمقراطية والوطنية نضجت إلى ثورةٍ اشتراكية، لا يمكن أن تنجو لفترةٍ طويلة دون أن انتصار سلسلة من الثورات في أوروبا المتقدمة. ظلَّ المؤلف على مدار سنوات، بعد انتصار أكتوبر 1917، يُكرِّر بلا كلل أنه “لا يمكن أن نحتفظ بالديمقراطية (ولا حتى الديمقراطية!)، إلا إذا قامت الثورة في أوروبا”. كان لينين على اتفاقٍ تام مع هذا البُعد الأممي في نظرية تروتسكي، وأعلن في عشرات المناسبات أنه “لا يمكن للاستعمار العالمي في أيِّ ظروف وبأيِّ شرط أن يعيش جنبًا إلى جنب مع الجمهورية السوفييتية. إن الصراع حتمي على هذا الصعيد”، أو “إما أن تندلع الثورة في البلدان الأخرى، أي في البلدان الأكثر تقدُّمًا في الاتجاه الرأسمالي، رأسًا أو على الأقل بسرعةٍ عظيمة، وإما أن يكون مصيرنا الهلاك”.
سارت الستالينية في المسار المعاكس لكل ذلك، واستدعى مسارها الجديد ممارسةً ديكتاتورية شديدة القمع داخل الحزب، وفي السوفييتات والنقابات؛ ديكتاتورية الحزب على الطبقة العاملة، ضد أي رمزٍ للمعارضة. امتلأت السجون بالكوادر الثورية والعمالية المُعارِضة التي كانت لها أدوارٌ مهمة في قيادة الثورة قبل بضع سنوات. وأخذ ستالين يعزل ويطرد ويستبدل المعارضين بآخرين موالين للمسار الجديد الذين انقلب على البلشفية وتراث لينين الثوري في الحزب. ساعدته في ذلك الأوضاع الخانقة الجاثمة على روسيا، والتي حالت دون ردعٍ حاسمٍ له من أسفل. وكذلك ساعده بالطبع منصبه كأمينٍ عام للحزب (كان لينين مُصرًّا في وصيته السياسية الأخيرة قبيل وفاته على عزل ستالين من هذا المنصب)، إذ عمل من خلال هذا المنصب على تكديس الحزب بأعدادٍ هائلة من الأعضاء غير الواعين سياسيًا والذين لم تكن لهم مشاركةٌ تُذكَر في الثورة، بل انصاعوا بكلِّ هدوءٍ للقيادة الستالينية.
دفاعًا عن إرث لينين
لم يكن بمقدور الستالينية تبرير ضيق أفقها وسيطرتها الخانقة واستئثارها بالسلطة إلا من خلال زعم الاستناد إلى إرث اللينينية، بالطبع بعد تزييفه لردم الفجوة بين بيروقراطية الأولى وثورية الثانية. كان لزامًا على الستالينية وفق ذلك أن تحذف من التاريخ وتُزوِّر فيه ما يتناقض مع إستراتيجيتها الجديدة آنذاك –أي أن تُزوِّره بالكامل تقريبًا. ولأن السياسة والنظرية والتاريخ لا ينفصلون، بل يُشكِّلون سويًا كلًّا واحدًا، فصار من الضروري أن تمتد أذرع التزييف من نظرية الاشتراكية في بلدٍ واحد، التي أُلصَقَت بالماركسية لصقًا مُبتَذلًا، إلى التاريخ نفسه، لتحذف وتُشوِّه، وتقتطع من السياقات، وتخفي ما قد ينفي عنها إرثها اللينيني المزعوم.
صوَّرَت الستالينية ممارسات لينين الماركسية على أنها مجموعةٌ من الشعارات والنصوص الجوفاء المُقتَطَعة من السياق التي يكفي فقط الجهر بها عاليًا حتى يقود الثوريون الجماهير. وصوَّرَت الحزب البلشفي على أنه مجموعةٌ مُختارة من صفوة الثوريين الذين لا مثيل لهم، وليس حزبًا جماهيريًا عريضًا خاض النضال بدأبٍ وصبر على مدار سنواتٍ طوال حتى أثبت استحقاقه قيادة الجماهير في الثورة. وصوَّرَت عملية بناء هذا الحزب على أنها تاريخٌ من الانشقاقات والصراعات المريرة التي حسمها لينين في غمضة عين، وليس عبر خوضٍ عميقٍ في النقاش والسجال عبر ديمقراطية مركزية تحفظ وحدة الحزب. وحوَّلَت الكومنترن (المنظمة العالمية التي تأسَّست في فترة النهوض الثوري بعد انتصار ثورة روسيا وجمعت مندوبي الأحزاب الشيوعية الثورية لبحث تكتيكات النضال عالميًا) إلى مدرسةٍ يُلقِّن فيها الأستاذ السوفييتي الستاليني رفاقه الشيوعيين أجندته الخاصة، التي لم تخدم سوى الأهداف التنافسية للاتحاد السوفييتي في عهد ستالين وكذلك توازنات علاقاته مع دولٍ خارجية.
والحقيقة أن الصورة التي أخذت الستالينية تُرسِّخها للينين، باعتباره معصومًا من الخطأ، لم تكن فقط تعبيرًا عن فهمٍ مرتبك للتجربة اللينينية، التي ارتكزت في أغلب محطاتها على خوض المعارك وتصويب الأخطاء بآلياتٍ ديمقراطية، بل لقد عبَّرَت عن تراثٍ مناقضٍ تمامًا. كانت الستالينية أقرب إلى إعلاء لينين إلى منزلة الآلهة، وكان ذلك أكبر تشويه له، وأسوأ تدمير لتلك النسخة التي تداولتها أجيالٌ لاحقة من الشيوعيين عبر العالم عن لينين، إذ يُفرِّغ هذا الإعلاء التجربة اللينينية من مضمونها الجدلي، ويضع محلَّها كتلةً صمَّاء من احتكارية الصواب المنزوعة من سياقها التاريخي. كانت هذه الصورة ضرورية للستالينية منذ مراحل صعودها المبكر؛ فمن أجل إضفاء المعصومية حول أتباعه كان لابد من تقديس لينين نفسه –مع بعض التزييف بالطبع.
هذه الصورة الستالينية للينين هي ما كان تروتسكي يبتغي تبديدها في الكثير من كتاباته –لكن جاء ذلك هنا في كثيرٍ من المواضع من زاوية علاقته به، نظرًا للطبيعة الأدبية الخاصة لهذا الكتاب. لعلَّ أفضل تعبير عن هذه الصورة هو ما كَتَبَه المؤلف نفسه، حيث: “نفس لينين هذا هو الذي تُصوِّره أدبيات رجال الصف الثاني بما يشبه هالة النور التي اعتاد رسامو أيقونات سوزدال إحاطة رؤوس المسيح والحواريين بها، فبدلًا من الصورة المثالية التي يبتغون تقديمها، تجد نفسك أمام “كاريكاتور”، تمامًا كما يحاول رسامو الأيقونات الارتقاء فوق أنفسهم لكن في النهاية لا يعكسون إلا أذواقهم الخاصة، وبالتالي لابد أن يرسموا الصور المثالية التي يتخيَّلونها هم”.
لكن دفاع تروتسكي في هذا الكتاب عن علاقته بلينين، منذ التقى به للمرة الأولى في لندن عام 1900 حتى وفاته عام 1924، لم يأتِ على سبيل فضِّ التشويهات التي لحقت بالمؤلف بأنه كان ندًّا معاديًا للينينية بقدر ما كان دفاعًا عن لينين نفسه وعن إرثه الثوري.
في كافة القضايا الإستراتيجية الكبرى، في الحرب والنضال والثورة، كان لينين وتروتسكي على وفاقٍ كامل، على عكس الهوة الكبرى التي فصلت لينين عن “رجال الصف الثاني” في هذه القضايا. لنا أن نُعدِّد هنا قائمة طويلة من هذه القضايا، حيث المواقف الإستراتيجية الكبرى (الموقف من مشاركة القيصرية في الحرب العالمية الأولى 1914، والموقف من المناشفة والثوريين الاشتراكيين عام 1917، وقضية الانتفاضة المُسلَّحة عام 1917، والسياسات الاقتصادية الجديدة 1921، والقوميات المُضطهدة التابعة لروسيا سابقًا، وقضايا الأممية الشيوعية)، وصولًا إلى القضايا التكتيكية التي ربما تبدو أقل شأنًا (البناء الاقتصادي لروسيا السوفييتية، ومناورات الحرب الأهلية، وغير ذلك). لكن رغم إجلال المؤلف الفائق للينين وعزيمته الهائلة وصوابيته الإستراتيجية، لم يجعل منه فردًا فوق التاريخ أو استثناءً فريدًا فيه.
سيرة “موضوعية”
نظرًا لارتباط شخص المؤلف هذا الارتباط الوثيق بالثورة الروسية، وبالهدف الذي مَنَحَ حياته اللاحقة له، ألا وهو الإبقاء على الماركسية الثورية حيةً في مواجهة الانحرافات والتزييفات، فقد جاء توضيحه الحقائق عن نفسه في هذه السيرة ليس كدفاعٍ شخصي بقدر ما كان دفاعًا عن حقائق التاريخ. ولعلَّ هذا ما يُمثِّل أهم ملامح الموضوعية في هذا الكتاب “الذاتي”، إذ يتناول المؤلف شخصه في إطار “الموضوع”، ولا يعلو بنفسه فوق سياق التاريخ في صورةٍ مُجرَّدة مُعلَّقة في الفراغ، بل يُبرِّر ذاته ويعزوها إلى عوامل التاريخ ودوافعه.
يكتب المؤلف: “ماذا عن مصيرك الشخصي؟ هذا سؤالٌ آخر يتردَّد على مسامعي، سؤالٌ يمتزج فيه الفضولُ بالسخرية … ليس بوسعي أن أحدِّد مسار العملية التاريخية بمقياس مصيري الشخصي. بل على العكس؛ إنني أقدِّر قدري موضوعيًا، وأعيشه ذاتيًا، تمامًا كما هو مرتبطٌ بصورةٍ متشابكة ومُعقَّدة بمسار التطوِّرِ الاجتماعي”.
وبصدد الدفاع عن التاريخ، لم يكن هذا الكتاب هو الوحيد الذي تضمَّن هذا الغرض، بل أن أغلب ما كَتَبَه المؤلف منذ منتصف العشرينيات حتى وفاته قد وَضَعَ ذلك هدفًا مركزيًا فيه، وبوصلةً يسترشد بها في الاشتباك مع مجريات النضال والثورة في العالم (الصين 27 – 1925، ومكافحة الفاشية في أوروبا العشرينيات، وإسبانيا 1936، وغير ذلك). تأتي مؤلَّفاتٌ مثل “تاريخ الثورة الروسية” و”دروس ثورة أكتوبر” في مقدمة هذه الأعمال. لكن ما يُبرِز هذا الكتاب بالذات في هذا الشأن بالتحديد هو أنه يشتمل في معظمه على ما لا يُتاح له مجالٌ في كتب التاريخ والتحليل السياسي وكذلك في الأعمال النظرية: ما وراء الكواليس، والمواقف الشخصية، والذكريات المشتركة مع آخرين، والحكي الذاتي، والانطباعات النفسية في خضم كل ذلك. لم يكن من الممكن، على سبيل المثال في كلاسيكية “تاريخ الثورة الروسية”، أن يصف الكاتب انطباعه وشعوره الشخصي تجاه كرينسكي، الذي تولَّى حكومةً مؤقتة بعد إسقاط قيصر روسيا، وقتما شنَّ الجنرال القيصري كورنيلوف عصيانًا محاولًا الإطاحة به واستعادة أركان النظام. لا مجال في كتابٍ كهذا يسمح بالتعبير عمَّا اختَلَجَ في صدر المؤلف من ضغينةٍ تجاه كرينسكي، حتى حينما كان يُوجِّه فيه البحَّارة الثوريين (من محبسه الذي زُجَّ فيه بأمرٍ من كرينسكي نفسه) بالدفاع عن كرينسكي ضد كورنيلوف.
قد يُفاجَأ المُطَّلِع على مؤلَّفات تروتسكي بكمٍّ هائلٍ من التفاصيل الدقيقة التي ذكرها المؤلف لأول مرة فقط في هذا الكتاب، إلى درجةٍ قد تبدو فيها أعماله الأخرى –من حيث تفصيلها السردي- قمةَ جبلٍ ترسخ قاعدته على امتدادٍ واسع تحت الماء. لكن، بالإضافة إلى أن لكلِّ مقامٍ مقال، وأن أعماله الأخرى لم تكن تسمح بورود تفاصيل ذات طابع شخصي فيها، يبدو أن المؤلف كان حريصًا بشكلٍ عام على فصلِ ما هو سياسي عمَّا هو شخصي وذاتي، رغم اعتقاد البعض أن الكثير من الكواليس الشخصية كانت لتدعم موقفه السياسي حال تناولها بالذكر، ورغم أنه تعرَّض –فضلًا عن القمع السياسي المباشر- للكثير من التنكيل الشخصي والمكائد والمؤامرات على يد خصومه، بما يتضمَّن اغتيال ابنه وحرمان ابنته من العلاج إثر إصابتها بالسُل، وغير ذلك. هذا ملمحٌ آخر لـ”موضوعية” الحكي الذاتي في هذا الكتاب.
لعلَّ المُطَّلِع على مسار حياة تروتسكي ونضاله، مِمَّا كتبه آخرون عنه ولو عارضًا، يلاحظ هذه السمة لدى المؤلف. فالكثير من خصومه سابقًا صاروا بعد ذلك حلفاءً له دون ضغينةٍ أو رفضٍ مُسبَّق على أساس شخصي (زينوفيف مثلًا في منتصف العشرينيات في المعارضة ضد الستالينية). ولوقتٍ طويل لم تمنعه مصاهرة كامينيف له من شنِّ حربٍ نظرية ضد الخط السياسي الذي انتهجه مُتذيِّلًا ستالين، كما لم تكن لصداقته الوطيدة بفتى البلشفية الذهبي، بوخارين، علاقةٌ تُذكَر بالنديَّة السياسية. والاحترام البالغ الذي كنَّه للكثير من خصومه السياسيين (مارتوف وبليخانوف مثلًا) لهو خير دليل على الفصل الحاد لتروتسكي بين السياسي والشخصي.
نجده في هذا الكتاب يقول: “أعتقد أن بإمكاني حقًا أن أقول إنني، في كل المواقف السياسية، لم أولي الاعتبارات الشخصية أي دورٍ على الإطلاق. وعلاوة على ذلك، كانت جسامة المهام أكبر بكثيرٍ من أن تسمح لي بوضع مثل هذه الأمور الهامشية في الاعتبار. وبناءً عليه، كنت كثيرًا ما أدهس أصابع التحيُّزات الشخصية، والمفاخرات التافهة، والمحسوبيات الودية. أما ستالين، فقد اختار بعنايةٍ أولئك المدهوسة أصابعهم، وكان لديه الوقت والمصلحة الشخصية لفعلِ ذلك”.
لا يرسم المؤلف لنفسه في هذا الكتاب صورة الثوري المُنزَّه عن الأخطاء، بل يعترف في بعض المواضع بأخطاءٍ وقع فيها –أغلبها ذت طابع تكتيكي في ما يتعلَّق بالسياسة.
أملٌ في المستقبل
على مدار سنواتٍ طوال في ظلِّ الحكم القيصري لروسيا، كان تروتسكي من ضمن المُستَهدَفين بالقمع والملاحقة. اعتُقِل وحُوكِم ونُفِيَ مرتين، ثم عاد ليعتلي السلطة على رأس ثورةٍ جماهيرية أطلق عليها أعداؤها في الداخل والخارج، على سبيل السخرية، “ثورة لينين وتروتسكي”، لكنهم كانوا صائبين في جانبٍ كبير من هذه التسمية ، فبينما كان لينين هو المُنظِّر الأيديولوجي والقائد الحزبي للثورة، كان تروتسكي مُحرِّضها العملي وقائدها السياسي والعسكري جنبًا إلى جنبٍ معه.
مرةً أخرى يتعرَّض تروتسكي بعد سنوات الثورة والسلطة للنبذ والطرد والنفي، والملاحقة الستالينية عبر أوروبا، ثم المحاكمة الغيابية والحكم بالإعدام ضمن قائمةٍ حَجَزَ مكانه فيها على رأسها، في سلسلة الإعدامات التي شنَّها ستالين على رفاقه السابقين، أواخر الثلاثينيات، ليُخلي الساحة من أيِّ معارضةٍ تُذكَر. مستوياتُ قمعٍ أعنف وأبشع من تلك التي طارده بها زبانية القيصر، وصلت في نهاية المطاف إلى اغتياله.
في مواجهة الهزائم، والتنكيل والانتقام، ظلَّت إرادة تروتسكي صلبةً، بل وأصقلها كلُّ ذلك بمزيدٍ من القوة. ظلَّ متمسِّكًا بأملٍ لا يخبو في مستقبل التغيير، وثقةٍ لا تحيد في قدرة الجماهير على ذلك، مهما طال أمدُ التراجع والركود وهيمنة الاستبداد والرجعية. لم يكن ذلك أملًا مُجرَّدًا أو تفاؤلًا مُعلَّقًا في الفراغ، بل كان أملًا مبنيًا على أساس فهمٍ عميق لمُحرِّكات التاريخ وديناميته وتناقضاته التي من المُحال أن تجعله ثابتًا. كان أمله مبنيًا على أساس التحليل والفهم وقبول الحقائق، لا تجاهلها أو إنكارها. في فترات الصعود الجماهيري كانت تكتيكات القيادة والتصعيد نصب عينيه، وفي فترات التراجع لم يتردَّد في شنِّ النضال مرةً بعد أخرى من أجل إحياء الحركة الجماهيرية شيئًا فشيئًا ضد الظلم والإفقار والاستبداد.
كان استثنائيًا في فِكره ونضاله وإرادته، وتركَّزَت فرادته في إدراك الأخطاء وتصويبها وتعميم خبرة التجارب الثورية واستخلاص أسسها النظرية. لكن ذلك لم يضعه فوق التاريخ، بل في خضم مجرياته، ناهضًا بدورٍ مهم سعيًا لتوجيهها نحو تطهير مستقبل البشرية من مظاهر الاضطهاد والقهر.
أشرف عمر
سبتمبر 2018
اقرأ أيضا