بيروقراطيات النقابات: استجداء “الحوار”، سلوك مدان
يشهد قطاع التعليم في الآونة الأخيرة موجة نضالات، لا تتوقف عن التضخم مثل كرة ثلج. نضالات تواجه جوهر سياسة الدولة القائمة على تفكيك الوظيفة العمومية والقضاء على الطابع العمومي والمجاني للمدرسة العمومية.
انبعثت هذه الموجة من الأعماق، وحملها على عاتقه جيل شاب من شغيلة التعليم، فرض عليه كل أشكال الهشاشة وضرب طفيف مكاسب موروثة عن حقبة ما بعد النضال ضد الاستعمار (الحرمان من الترقية). ويعتبر فرض مخطط التعاقد أشد هذه الهجمات شراسة، بضربها العمل القار وفتح الباب للتضحية بكل المكاسب المذكورة.
مرت فترة كانت فيها تنسيقيات شغيلة التعليم تناضل بشكل مشتت، لكن حدة الهجوم ، فرض عليها الانخراط في مبادرات وحدوية كان أهمها الإضراب الوحدوي لـ 03 يناير.
البيروقراطيات النقابية: التحاق لغايات كبح النضال
فرضت هذه الدينامية على البيروقراطيات النقابية ادعاء الالتحاق بإضراب 03 يناير الوحدوي، دون القيام بواجب تعبئة القسم المنظم من الشغيلة في صفوفها، واكتفت بصياغة بيانات داعية للمشاركة في الإضراب، لغاية رفع الحرج والتنصل من مسؤولية التعبئة النضالية.
استنكفت البيروقراطيات منذ عقود عن النضال، بل لعبت أدوارا في إطفاء تعبئات نضالية كبرى (ما تسميه فش الاحتقان) أو منع الطبقة العاملة من الالتحاق بحراك 20 فبراير أو التضامن مع نضالات شعبية جبارة (نضال الريف وجرادة).
تبرر البيروقراطيات هذا الاستنكاف بالحرص على الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، لذلك تتفادى أي تصعيد نضالي وأي مناوشة يهدد هذا الاستقرار، استقرار الظلم الطبقي. لهذا تستغل هذه النقابات أي بادرة “حوار” تلوح بها الدولة لهجر إِدِعَاءِ النضال والعودة إلى سياسة الاستنكاف.
هذا ما وقع مباشرة بعد إضراب 03 يناير الوحدوي، الذي استشفت الدولة احتمالات تطوره. إضراب منبعث من أسفل ومنفلت من ضبط البيروقراطيات النقابية، قد يكون بداية نضال حقيقي يلف كل شغيلة التعليم، وتنتقل عدواه إلى باقي شغيلة الوظيفة العمومية، وحتى إلى القطاع الخاص الاشد عرضة لابشع صنوف الاستغلال والقهر.
لم تقم البيروقراطيات إلا بمعهود سلوكها حين تواجه الدولة تحديا نضاليا جماهيريا، فتهرع هي لإنقاذها. فإثر انطلاق موجة نضالات 20 فبراير 2011، كانت أولى خطوات النظام، خشية مصير أقرانه بتونس ومصر، الاستعانة بالبيروقراطيات النقابية بقصد استبعاد القوى العمالية المنظمة عن الدينامية النضالية الجارية. هكذا كان لقاء محمد معتصم، مستشار الملك، مع ممثلي القيادات النقابية أسبوعا بعد مظاهرات يوم 20 فبراير 2011، وما خيم عليه من خوف الظالمين الشديد هو ما أنتج اتفاق 26 أبريل الذي تتباكى البيروقراطيات حاليا على عدم استكمال تنفيذ بنوده.
وجه وزير الداخلية دعوة للبيروقراطيات النقابية لاستئناف جلسات “الحوار الاجتماعي”، يوم الأربعاء 9 يناير 2019 بعد توقفها منذ أزيد من شهر، ورفض الحكومة الاستجابة لما تسميه هذه البيروقراطيات “الملف المطلبي للطبقة العاملة”.
هرولت القيادات النقابية صاغرة لدعوة وزير الداخلية الذي خلا من أي تفاوض بشأن عرض حكومي جديد، وإنما خصص لإعادة الاستماع لمطالب النقابات وللوقوف على أسباب رفضها العرض الحكومي (زيادة 400 درهم)، واعتبرت الداخلية مطلب الزيادة في الاجور مغاليا داعية القيادات النقابية لقبول عرض المحكومة..
ولم يتعد هذا الملف المطلبي مطالبات بزيادات خجولة جدا في الأجور لا تساير ضرب القدرة الشرائية للشغيلة، ومطلب تنفيذ ما تبقى من اتفاق 26 أبريل 2011. وطالبت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل من جانبها بـ”ضرورة تدخل الولاة والعمال في النزاعات الاجتماعية” بصفتهم رؤساء اللجن الإقليمية للبحث والمصالحة وفق مقتضيات قانون الشغل، ووقف كل أشكال المتابعات القضائية في حق الكونفدراليين (!!).
وفي عز التعبئة لمعركة شهر فبراير (إضرابات ومسيرة 20 فبراير بالرباط) التقى الكتاب العامون للنقابات التعليمية الست الأكثر تمثيلية (وضمنهم عبد الرزاق الإدريسي الكاتب العام للجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي)، في فاتح فبراير 2019 الكاتب العام لقطاع التربية الوطنية يوسف بلقاسمي في لقاء دام أربع ساعات إثر طلب كتابي تقدمت به ثلاث نقابات تعليمية مركزية للوزير، لمناقشة مشروع مواد القانون الإطار!!
يقع هذا الاستجداء المهين لكرامة الطبقة العاملة وأدوات نضالها، في نفس الوقت الذي هبت فيه فئات عديدة من موظفي التعليم العمومي للنضال ضد مجمل سياسة الدولة المدمرة للمدرسة العمومية ولشروط العمل القار داخل القطاع.
تختصر البيروقراطيات النضال في استجداء “الحوار” لذلك تطالب دائمها بـ”مأسسته”، وتوهم الشغيلة أنه وسيلة تحقيق المطالب الوحيدة، ملوحة بخطر “الاحتقان الاجتماعي” و”فزاعة صعود القوى الرجعية” لكبح الاندفاعات النضالية النابعة من أعماق الأوساط الشعبية ضحية الظلم والاضطهاد.
طبعا لا يقتصر هذا على البيروقراطيات النقابية، فثقافة “الحوار” والتماس التدخل تجرعها الوعي العمالي وتشبع بها بسبب امتداد سيطرة الأيديولوجية البرجوازية على تنظيماتها، حتى أصبحت من البديهيات التي تستوجب نضالا شاقا لاقتلاعها. تحدث بيان التنسيقية الوطنية لحاملي الشهادات بوزارة التربية الوطنية الداعي لبرنامج نضالي في شهر مارس بنفس المفاهيم الواردة أعلاه: “تجنيب القطاع أي احتقان”، “دعوة وزارة التربية إلى التجاوب الإيجابي… بفتح حوار جدي ومعقول”.
من أجل تفاوض ناتج عن نضال
رسخت البيروقراطية ثقافة أن الشغيلة والبرجوازية ودولتها في سفينة واحدة على الجميع الحرص عليها، وروجت لمفاهيم “النقابة الاقتراحية” وضرورة “الحوار بين شركاء الوطن”.
يخفي بريق هذه الشعارات المصالح المشتركة بين الدولة البرجوازية والبيروقراطية المسيطرة على نقابات العمال. وأغلبها بيروقراطيات موالية لأحزاب برجوازية تستعمل النقابات كأذرع جماهيرية لما تسميه “تحريك الساحة الاجتماعية” في حدود لا تهدد استقرار المجتمع البرجوازي، أو بيروقراطية موالية بشكل صريح للاستبداد، تعيش من بؤر الفساد والعفونة تحت أنظار الدولة.
لا يجري حوار بين أعداء طبقيين. الرأسماليون ودولتهم يشنون منذ عقود حربا شعواء على الطبقة العاملة، مدمرة شروط عيشها (تخريب الخدمات العمومية، ضرب القدرة الشرائية، تكثيف الاستغلال). لذلك لا يعني الحديث عن “حوار اجتماعي” إلا شلا لطاقة النضال العمالي وتواطؤا مكشوفا مع الرأسماليين ودولتهم.
ليس العامل- ة والرأسمالي- ة شركاء وطن عليهما التحاور للوصول إلى حلول. الرأسمالي- ة عدو- ة طبقي- ة للعامل- ة، والقائم بينهما صراع لا هوادة فيه. وواقع الحال بالمغرب أن الرأسماليين يشنون حربهم وهم مطمئنون أن البيروقراطيات النقابية تكبل أيدي الشغيلة وتكبح نضاليتها بتجميد أدوات نضالها: النقابة، إلى جانب نشر أوهام انتظار الاستجابة للمطالب بواسطة “الحوار الاجتماعي”.
إن الرأسماليين وممثليهم دهاة سياسة. ولا يمكن خداعهم بالتلويح بشعارات “تهديد السلم الاجتماعي” وأن “الاحتقان وصل حدا يهدد استقرار المجتمع”، فدولتهم أدرى بأن سياستها ستؤدي لا محالة- وقد أدت- إلى اندلاع نضالات. وهي لذلك تستعد لمواجهة القادم من نضالات بتقوية ترسانتها القمعية والقانونية المجرمة للنضال الاجتماعي.
لا بديل إذن إلا النضال والكفاح النابعين من أسفل. وكان من الحكمة أن تعمل القيادات النقابية على خرط القسم المنظم من الطبقة العاملة (سواء في القطاع العام أو الخاص) في هذه الدينامية الجارية حاليا داخل قطاع التعليم العمومي.
إن التعبئة النضالية الجماهيرية مجدية، فقد أجبرت نضالات شعبية كبرى الدولة على التفاوض، حين اضطرت لإرسال وفود حكومية للتفاوض إثر نضال الريف وجرادة الشعبيين، وقبلهما في طنجة ضد أمانديس وغلاء فواتير الماء والكهرباء، وأجبرتها نضالات طلبة وطالبات الطب كما نضال الأساتذة/آت المتدربين على التفاوض والتنازل، وعلق إضراب قطاع النقل بعد إجبارها أيضا على التفاوض. إنها النضالات الكفاحية والبطولية طويلة النفس التي وجب على نضالات شغيلة التعليم الحالية الإفادة من دروسها والسير على طريقها.
كل المكاسب العمالية (وأهمها هنا مكاسب نضال 20 فبراير) نتاج كفاح شعبي الذي لا يقف في حدود استجداء تنازلات، بل يتوجه نحو جوهر السلطة الاقتصادية والسياسية للبرجوازية. وما أن يخبو هذا الكفاح حتى تعود البرجوازية ودولتها لاسترجاع ما أرغمت على التنازل عنه. وما رفضها تنفيذ اتفاق 26 أبريل إلا دليلا ساطعا على هذه الحقيقة.
يؤدي استسلام القيادات النقابية واستجدائها الحوار إلى نزع فتيل الاحتجاج وتبليل بارود النضال العمالي، وتكون الدولة هي المستفيدة الوحيدة من جولات “الحوار” هذه، فاتحة الباب أمام الهزائم والأهوال.
آن الأوان ليحمل النقابيون الكفاحيون لواء النضال النقابي الطبقي الديمقراطي والكفاحي الضروري مطلقا لإجبار الدولة على التفاوض والتنازل المفضي لتحسين فعلي لظروف حياة وعمل جماهير العمال والعاملات على درب تحرر شامل وعميق من براثن الاضطهاد والاستغلال. وأولى الواجبات هي استنهاض القاعدة العمالية لتملك مصير نقاباتها، وتعتبر الدينامية النضالية المنبعثة من أسفل في قطاع التعليم فرصة ذهبية. علينا ألا نفوتها.
بقلم، أزنزار
اقرأ أيضا