مشرُوع قانون التجنيد الإجباري: عقابُ طلائع النّضالْ
صادق المجلس الوزاري على مشروع قانون 44.18 بشأن إعادة العمل بالخدمة العسكرية، بعد أن جرى تجميده سنة 2007.
جرى استدعاء مبررات عديدة لحمل الشعب على قبول التجنيد الإجباري. لا يهم هنا التماسك المنطقي لهذه المبررات، ما دامت تؤدي وظيفتها السياسية بفعالية: إسكات معارضي الخدمة العسكرية وإخفاء غاياتها وراء حجج الدفاع عن الوطن ومحاربة الجريمة… إلى آخره.
عود إلى ماضي التجنيد الإجباري
انتفض الشعب في مارس 1965 ضد النتائج الاقتصادية والاجتماعية لدولة ما بعد الاستقلال الشكلي التي فرضها الحاكم بسياسة الحديد والنار. انطلق شبان الأحياء الشعبية مرددين شعارات ضد الملكية، وتدخل االجيش الملكيب مستعملا الرصاص الحي. أشرف على هذا القمع سليل المؤسسة العسكرية الفرنسية الجنرال أوفقير.
كانت تلك أول مرة تواجه فيه الملكية برفض شعبي صريح، منذ أن أعادت الحركة الوطنية بناء شرعيتها. التجأ القصر إلى مألوف العقلية الأبوية الاستبدادية: إعادة تربية الشعبب. وأقر التجنيد الإجباري بتاريخ 9 يونيو 1966، وذلك لحرمان الشعب من طلائعه المناضلة بزجها في ثكنات الجيش مدة 18 شهرا وكان هدف التجنيد كما ورد في نص القانون: ابث قيم الإخلاص والإيثار والتضحية وحب الوطن، وجعل المواطن متشبعا بروح المسؤولية ومستعدا للدفاع عن حوزة الوطن ووحدته الترابية، ومؤهلا للمساهمة في النمو الاقتصادي للبلادب. أي إجبار الشعب على الإخلاص للملكية من جديد.
جرى تخفيض مدة التجنيد سنة 1999 إلى 12 شهرا، وسنة 2007 جرى إلغاء هذا القانون بمبرر التخوف من استغلال الحركات الجهادية مهارات المستفيدين من التجنيد الإجباري في أعمال إرهابية.
عمل الجيش منذ بنائه مباشرة بعد الاستقلال كأداة للقمع الطبقي وفي نفس الوقت لتنفيذ الأجندات الإمبريالية بالمنطقة (التدخل في الكونغو الديمقراطية دعما للديكتاتور اموبوتوب حرب الخليج الأولى والحرب المجنونة على اليمن اليوم، حماية ظهر أوربا من فقراء الجنوب…)، ولا زال وفيا لهذه الوظيفة لحدود الآن. هذا هو المنظور السليم لمناقشة اقانون التجنيد الإجباريب في صيغته الجديدة.
التجنيد الإجباري رد على تنامي الاحتجاج الشعبي
بدأ منحنى النضال الشعبي في التصاعد منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وتطور مع انتفاضة إفني ونضال طاطا وبوعرفة المديد وبلغ ذراه مع حركة 20 فبراير وبعدها حراكي الريف وجرادة.
تدرك الملكية أن الكارثة الاجتماعية الناتجة عن السياسات النيوليبرالية التي ترعى تنفيذها، برميل بارود قد ينسف نظام السيطرة الطبقي. لذلك يحرص رئيس الدولة دائما على لفت الانتباه إلى ااهتمامه بالشأن الاجتماعيب والتحذير من ادعاة العدمية والسلبيةب مستغلي ابعض الاختلالات… لتبخيس مكاسبه ومنجزاتهب.
جرى تفصيل مشروع قانون يستهدف بالدرجة الأولى ما أطلق عليهم ادعاة العدمية والسلبيةب، أي طلائع النضال.
هذه هي الخلفية الحقيقية لمشروع القانون، وما دون ذلك محض ذرائع لا تصمد أمام النقد، والنظام لا يعير لذلك أدنى أهمية ما دام يملك في يديه وسيلة فرض سياساته: جهاز قمع وأحزاب وجمعيات ونخب مثقفة موالية ووسائل ترويض جماهيري وبيروقراطيات نقابية مجندة دوما لإضفاء الشرعية على ذلك.
يشير المدافعون عن التجنيد الإجباري إلى دوره في تعزيز اقيم المواطنة، والتربية على الانضباطب، ويعني هذا الامتثال السياسي والقبول بالأمر الواقع وعدم النضال من أجل تغييره.
الجيش: حقل الاستبداد الحصري
منذ تأسيس الجيش الملكي بتاريخ 15 ماي 1956، حرصت الملكية على التحكم فيه. لذلك فإن إقرار التجنيد الإجباري وإلغاءه وإعادة إقراره كلها أمور يحرص القصر على احتكارها. ويلجأ إلى ملحقاته الحكومية والبرلمانية لإضفاء الشرعية على قراراته هذه. لا محل للشعب ورأيه في هذه الأمور، رغم أنه هو المعني بالأمر.
مبررات مغلوطة
أ. محاربة البطالة:
يقول المدافعون عن التجنيد الإجباري، أن من شأنه أن يساعد المجندين على ولوج سوق الشغل مباشرة بعد نهاية فترة الخدمة العسكرية. ولكن ما المانع من ولوج الشباب سوق الشغل قبل أداء الخدمة الإجبارية؟ إنه سياسات الدولة في ميدان التشغيل وخياراتها الاقتصادية منذ بداية الثمانينيات.
إن المستهدفين بقانون التجنيد الإجباري ليسوا هم المحرومين من حق الشغل، بل شباب سواء كانوا يعملون أو لا. وإلا لماذا تتحدث المادة 8 من مشروع القانون عن تجنيد افئات الموظفين وأفراد الإدارة العموميةب.
يسعى آلاف الشباب بشق الأنفس للالتحاق بسلك الجندية، ويحرمون من ذلك بسبب عدم تناسب عروض المناصب مع حجم الطلبات المقدمة.
يظهر إذن أن المستهدف بقانون التجنيد الإجباري ليس المعطلين الذين تدعي الدولة امساعدتهمب لولوج سوق الشغل، بل المستهدف هم طلائع النضال. لذلك أسندت مهمة استدعاء المجندين لوزارة الداخلية فهي الأدرى بهذا الأمر دون بقية أجهزة الدولة.
ستستعمل الدولة فزاعة االتجنيد الإجباريب لابتزاز الشباب الذي يشكل عصب النضالات الشعبية وسيكون أداة تهديد بيد الأجهزة الأمنية لمساومة الشباب بين الخضوع أو االتجنيد الإجباريب.
ومن المرجح استعمال بنود القانون ضد المناضلين حتى بعد تخرجهم، إذ تقول المادة 8: اواجب التحفظ وحماية أسرار الدفاع وخاصة كل ما يتعلق بالوقائع، والمعلومات والوثائق التي اطلعوا عليها بمناسبة الخدمة العسكرية، وهم معرضون، بهذا الخصوص، للعقوبات المنصوص عليها في التشريعات الجاري بهاب.
ب. محاربة العنف والجريمة:
تناولت الصحافة المدافعة عن التجنيد الإجباري فوائده من زاوية الحد من مظاهر االعنف والجريمة المتفشية في المجتمعب.
دأبت الدولة منذ انطلاق السيرورة الثورية نهاية عام 2010 على تهديد الشعب وتخييره بين االاستقرارب وبالفوضىب مستعملة فزاعة سوريا. وتسامحت الدولة مع مظاهر تهديد السلامة البدنية للمناضلين وغضت الطرف عن ممارسات االبلطجيةب الذين يعتدون على المسيرات باسم الولاء للملكية والوطن. وماذا عن أفراد أجهزة القمع الذين يتورطون في تعذيب المواطنين في المخافر؟ أليس ذلك عنفا وجريمة؟
إن حدا أدنى من الجريمة مقبول دائما في المجتمع الطبقي والحكم الاستبدادي، فهو يشعر الشعب بالحاجة الدائمة إلى االأمنب، كما أن الإقصاء الاجتماعي الناتج عن هذا المجتمع (الحرمان من حقي التعليم والشغل) يرمي بآلاف الشباب بشكل دائم في دائرة العنف والجريمة، حينما تنعدم البدائل الجماعية.
تتناول الدولة االعنف والجريمةب بعقلية الاستبداد التي تعالج الظواهر الاجتماعية بمطرقة القمع، ولكن فقط حين تتعدى الجريمة الحدود المسموح لها. إنه ابتزاز للشعب بقبول إرسال أبنائه إلى الثكنات، باللعب على حاجته المستمرة إلى االأمنب.
طبعا الشعب في حاجة إلى االأمنب وليس إلى االقمعب. لكن الشعب في حاجة إلى الأمن الوظيفي والتأمين الصحي والتأمين عن حوادث الشغل والأمراض المهنية وعن حياة ما بعد التقاعد. هذا هو الأمن الذي يريده الشعب وليس زيادة في حجم وفعالية أجهزة قمع تحمي من يحرمه من حقوقه.
ج. محاربة الإرهاب
يستعمل إعلام الدولة حجة الإرهاب تماما كما يستعمل حجة العنف والجريمة، لإشعار الناس بضرورة الالتفاف حول النظام في سياسته الداخلية والخارجية.
لكن، كيف يخدم إجراءان متناقضان نفس الهدف؟ ففي سنة 2007 ألغي التجنيد الإجباري بمبرر التخوف من استغلال الجماعات الإرهابية لمهارات المجندين، وفي 2018 أعيد إحياؤه بمبرر محاربة الإرهاب.
يمد الإرهاب- تماما مثل الجريمة والعنف- جذوره في تربة المجتمع الطبقي وفي سياسة الدولة الخارجية. فما دام جيش الدولة المغربية عنصر قطعة شطرنج في سياسات أمريكا العالمية لمحاربة الإرهاب، فسيبقى المغرب مرشحا بشكل دائم لانتشار هذه الحركات: إما لاستقطاب العناصر وإرسالها إلى المناطق الساخنة، أو لتأسيس خلايا نائمة يجري إيقاظها في وقتها المناسب.
لا يمكن القضاء على الإرهاب دون تجفيف منابعه هذه: الانسحاب من المناورات العسكرية الأمريكية التي تقام في الصحراء ومن سياسة امحاربة الإرهابب بالصحراء الكبرى، والانسحاب من التحالف العربي وحربه على اليمن، والعمل على بناء الوحدة المغاربية بما يضمن حق شعوب المنطقة في تقرير مصيرها بكل حرية، والتخلي عن السياسات النيوليبرالية المفروضة من طرف مؤسسات الرأسمال العالمي… طبعا، هذه المحاور ليست مطروحة لكي تطبقها دولة الاستبداد الحالية، بل للنضال من أجلها في إطار السعي لإقامة سلطة الشعب.
د. الدفاع عن الوطن:
يبقى االدفاع عن الوطنب من أصلب حجج إعادة العمل بالخدمة العسكرية. تقول أول مادة في مشروع القانون: امن أجل مساهمة الجميع في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية…ب. فمن الذي لا يسعى إلى الدفاع عن اوطنهب حين يتعرض لعدوان أجنبي؟
لكن الوقائع تسفه هذه الحجة تماما. فما هو هذا العدوان الأجنبي الذي يتربص بـ االوطن ووحدته الترابيةب؟ إن النظام الجزائري مشغول بحالة تفكك جيرانه وانتشار الجماعات الإرهابية (شمال مالي، وغرب ليبيا). أما البوليساريو فقد أصبح الخيار العسكري [الذي ليس بيدها] مستبعدا منذ اتفاق وقف إطلاق النار وتعول على االمنتظم الدوليب ومسلسل المفاوضات أكثر من االجيش الشعبيب أو حتى النضال الشعبي في الصحراء.
إن التهديد الخارجي محض وهم يجري المبالغة في تصويره، وذلك لخدمة نفس الغاية السياسية: الحاجة الدائمة إلى جيش ضخم وتبرير النفقات العسكرية المرتفعة. وتستغل الدول الإمبريالية هذا العداء بين النظام المغربي ونظام الجنرالات الجزائري لتحقيق صفقات سلاح مربحة. فقد ا نفقات القوات المسلحة الملكية… بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، شكلت 10.6% من النفقات العامة للدولة سنة 2015ب. [هسبريس، 1 سبتمبر 2016].
ولا تجري الإشارة في خطاب الدولة إلى جزء من أرض االوطنب لا زالت محتلة من طرف دولة أجنبية: سبتة ومليلية والجزر المحتلة.
عادة تستعمل حجة الدفاع عن االوطنب وما تستتبعه من سياسة عسكرية لتبرير الاعتداء على أوطان الآخرين. وتستخدم االوطنيةب لترسيخ حكم الاستبداد السياسي وإرساء مصالح طبقية برجوازية، وتؤدي في نفس الوقت إلى عدم الثقة بين الشعوب وإحياء النعرات الشوفينية.
الوجه الحقيقي للاعتداء على وطن المغاربة هو تدخل مؤسسات الرأسمال العالمي في الاقتصاد المغربي ورهنه بمصالح الشركات متعددة الجنسية والبنوك المقرضة للمغرب. هكذا يجري بيع قطاعات اقتصادية بنيت بعرق ودم الكادحين إلى رأسماليين أجانب وشركائهم المحليين. ويجري استنزاف ثروات البلد وبيعه بأبخس الأثمان للشركات الأجنبية (اتفاقية الصيد البحري مع اتحاد الأوروبي)، ويدمر النسيج الاقتصادي المحلي الضعيف أصلا بفتح الباب على مصراعيه أمام البضائع الأجنبية (اتفاقيات التبادل الحر).
اليس للعمال وطنب… إنه شعار قديم للحركة العمالية. لكنه لا يعني تجاهل النضال العمالي للمسألة الوطنية والنضال ضد الإمبريالية. ولا يعني هذا أيضا كونهم بالضرورة اوطنيينب بالمعنى الذي يروجه الاستبداد. إن اوطنب المستقبل ليس كالوطن الذي يضعه الصحفيون البرجوازيون نصب أعينهم، الوطن الذي يسود تحت ظل حكم الرأسمالية الجائر الآن وراعيها الاستبداد السياسي. ولا يمكن الحديث على االوطنب ما دام النظام السياسي يحافظ على مصالح أقلية برجوازية ويدفع ملايين الكادحين إلى مهاوي الفقر والبؤس أو الهرب منه على زوارق الموت نحو اأوطانب الآخرين، وحين يتعلق الأمر بالنضال ضد الاستعمار والإمبريالية، فسيعني أن العدو سيضم المستعمر والطبقات المالكة على السواء.
دولة متخلفة: جيش متخلف
لا يعكس الجيش إلا المستوى التقني والتقدم الاقتصادي لكل دولة. يعتمد الاقتصاد المغربي على يده العاملة الرخيصة والمفروض عليها الامتثال بقوة أجهزة القمع من أجل الصمود في وجه منافسة اقتصادية عالمية عاتية.
نفس الشيء بالنسبة الجيشهب، فالدول المتقدمة تعتمد على التقنية أكثر من اعتمادها على العنصر البشري، لكن االجيش الملكيب لا زال يعتمد عقيدته العسكرية تعتمد على االلحم البشري الحيب الذي يشكل طعام المدافع وقوات الاقتحام الأمامية. ولما لا، ما دام لحم البشر أرخص من الأسلحة؟
ليس تسليح الجيش مسألة إرادة، بل مسألة قدرة اقتصادية، وما تقوم به الإمبريالية من تسليح الجيوش الموالية لها، فلا يتعدى الحدود الدنيا المسموح بها في إطار أداء الخدمات الموكولة لهذه الجيوش.
إن ثورة شعبية تكنس الاستبداد وتفتح آفاق التطور الحر أمام قوى الإنتاج ستفتح المجال أمام عقيدة عسكرية تقدمية تسعى للحفاظ على حياة البشر وليس التضحية بها، لإقامة اجيش الشعبب وليس المفصول عنه داخل ثكنات، عقيدة عسكرية تسعى لإقامة العلاقات بين الشعوب وليس استثارة عدائها، تخدم مصالح الكادحين وليس مصالح البرجوازية المحلية والرأسمال المحلي.
من أجل إجبار الدولة على التشغيل
بدأ الاستياء الشعبي من قانون يعيد العمل بالتجنيد الإجباري، في وقت يطالب فيه الشباب بحقهم في الشغل والتعليم، ومطلب الصحة للجميع.
شرع الشباب في إبداء رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية وهذا يستوجب بناء حركة شعبية واسعة ضد التجنيد القسري، حركة مناضلة من أجل الشغل وباقي الحقوق الاجتماعية. وفي حالة نجحت الدولة في فرض التجنيد الإجباري فيجب عليها أن تدمج المجندين بشكل تلقائي وتوفر لهم فرص شغل ضامنة للاستقرار والكرامة.
بقلم، الحرش بنعمر
اقرأ أيضا