اللغة الأمازيغية في الجزائر : بين مماطلة السلطات ولا مبالاة النخب
لم تعد أحوالُ المنطقة القبائلية الناطقة بالأمازيغية (1) على ما كانت عليه خلال “انتفاضة الربيع الأسود” (2) التي اندلعت في أبريل 2001 إثرَ مقتل شابّ في مقرّ الدرك في مدينة آيت دوالة. التعبئةُ الشعبية الواسعة التي شهدتها آنذاك، والتي اتّخذت شكلَ احتجاجات اجتماعية انتقلت عدواها إلى كلّ ربوع الجزائر، أصبحت مجرّدَ ذكرى. قوّات الدرك استغلت خوفَ المواطنين من انتشار رقعة اللاأمن بعد تزايد عمليّات المجموعات الإسلاميّة المسلّحة (والاختطافات التي تستهدف الحصول على فدية)، فأعادت فتحَ ثكناتها في قرى ومدن كانت قد طردت منها شرّ طردة. لا أحدَ من أعضاء المصالح الأمنيّة المسؤولين عن قتل ما لا يقلّ على 123 متظاهرا عوقب على جريمته، ولا أحد من رؤسائهم بطبيعة الحال. أخيراً وليس آخراً، النّخبُ السياسيّة التي تزعمت هذه الانتفاضةَ العفويّة انفرط عقدها وتبيّن عجزها عن منافسة الأحزاب التقليديّة لهذا الإقليم (جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية)، التي هي بدورها في حالة يُرثى لها…
نتساءَل ونحن نرى هذه الوضعيّة : أليس أهمُّ مكاسب هذا التحرّك الراديكالي، رفعُ الأمازيغية إلى مصفّ لغة وطنية في 8 أبريل 2002، مجرَّد مكسب صوريّ ؟ السؤالُ مشروعٌ، فـبعد مرور ثمان سنوات على المأتم الرسمي لإيديولوجية “الوحدانية اللغوية”، لا يزال مشروعُ التكفّل بلغة أكثر من عشرين بالمائة من الجزائريين يُراوح مكانَه، ما يثير التعجّب في بلد تُقرُّ كل تياراته الإيديولوجية بحقّها في الوجود، بما فيها الإخوان المسلمون (3).
لقد تراجع تدريسُ الأمازيغيّة بصورة ملحوظة منذ أن شُرع فيه سنة 1995 (4). لنقرأ حصيلتَه على لسان يوسف مراحي، الأمين العام للمفوضيّة العليا للأمازيغية، وهي هيئة تابعةٌ لرئاسة الجمهورية (يوميّة “الوطن” الناطقة بالفرنسية، 16 أبريل 2010) : “الكتب المدرسيّة، فضلا عن غلاء أسعارها، على نقيض ما تمليه مبادئ البيداغوجيا العلمية (…). أضف إلى ذلك جهل َ التلاميذ بإمكانية التسجيل في دروس هذه اللغة، ومشاكلَ أخرى عديدة، كصعوبة تخصيص ساعات لها نظرا إلى الأفضلية المولاة للمواد المسماة بالأساسية في توزيع الزمن الدراسي.”
يلحّ أعضاء المفوضيّة المذكورة كثيراً على ما يسمونه “مكاسبَ” تدريس الأمازيغية، وقد لخّصها أحدُهم، وهو علي مقراني (“الوطن”، 31 مايو 2010) في ارتفاع عدد الأساتذة من 245 في 1995 إلى 1200 في 2010 وارتفاع عدد الطلبة المسجّلين في قسم الأمازيغية بجامعة تيزي أوزو من 11، عند افتتاحه في 1990، إلى 800 حاليا. من الصعب نفيُ حقيقة هذه “المكاسب”، لكن من الصعب أيضا تجاهلُ انخفاض عدد الولايات التي تُعلَّم فيها هذه اللغة من 16 في 1995 إلى 10 اليومَ (“الوطن”، 16 أبريل 2010) وتعمُّد الإدارة عسفاً، في بعض الجهات، مطالبةَ الراغبين في دراستها بإذن كتابي من أوليائهم، وهو ما اعترف بحدوثه أمينُ المفوضية، يوسف مراحي (“الوطن”، نفس التاريخ).
في 20 يونيو 2007، أي أكثر من خمس سنوات بعد الاعتراف دستوريا بالأمازيغية، قرّر مجلس الحكومة الموافقةَ على نصّي مرسومين يتعلق أحدُهما بإنشاء أكاديمية لهذه اللغة والآخر بإنشاء مجلس أعلى لها. مرّت ثلاث سنوات على هذا القرار دون أن يُصدر الوزير الأوّل أيا من هذين المرسومين. بالنظر إلى كل هذا، لن نبالغَ إن قلنا إنَّ مكسبَ الأمازيغ الملموسَ الوحيد منذ 2002 هو افتتاحُ قناة تلفزيونية (حكومية) في 18 مارس 2009 تبثّ مجملَ برامجها باللهجات الأمازيغية الجزائرية الخمسة.
وليسَ عدمُ اكتراث السلطة بترقية وتطوير لغة الجزائر الثانية بأقلَّ إثارةً للمخاوف من صمت النخب السياسية الأمازيغية عنه، خصوصا في المنطقة القبائلية، رأس حربة الحركة التي ترفع هذه المطالب. بعضُ هذه النخب، بدلَ التفكير في أنجع طريقة لمواجهة هذا الوضع، تفضّل التجادل حول الحروف التي يجب أن تكتبَ بها الأمازيغية، أهي العربية أم اللاتينية أم حروف التيفيناغ الأصيلة. لا شكّ في أنَّ نقاشا كهذا من الأهميّة بمكان لو حصل في سياق تجنّد المواطنين والحكومة للحفاظ على لغة البلاد التاريخية، لكنه بالغُ السريالية أمام تقاعس الدولة عن التكفل بها بما يسدّ طريقَ استغلال المطلب الأمازيغي من قبل أطراف خارجية لا تضمر الخيرَ لا للعرب ولا للأمازيغ.
ويجب هنا التنويهُ بأن السلطة، وهي تأمر أغلبيتَها البرلمانية في 2002 بالموافقة على جعل الأمازيغية لغةً وطنيّةً كانت تستهدفُ وقفَ التعبئة الشعبية في المدن والقرى القبائلية أكثر مما كانت ترمي إلى إرساء دعائم ازدواجية لغويّة حقّة (في الإدارة ومؤسسات القضاء، الخ). أما قادةُ انتفاضة “الربيع الأسود”، فيبدو أن كثيرا منهم رأى هذا التعديلَ الدستوري اعترافا بخصوصية المنطقة القبائلية (وبدورهم هم كممثلين سياسيين جُدد لها) لا بدايةَ مسيرة مضنية للقضاء على العسف اللغوي الذي قاساه الأمازيغُ طيلة عقود.
ما سببُ لامبالاة النّخب الأمازيغية بتدهور وضع لغتها ؟ هل هو تضعضعُ الحركة الثقافية الأمازيغية (5) بعد دخول الجزائر مرحلةَ التعددية الحزبية في أواخر الثمانينيّات واحتلال الأحزاب الميدانَ الذي كانت تنشطُ هي عليه ؟ هل هو تراجعُ “الهمّ اللغوي” (والثقافي بصورة أعم) لدى مناضلي الأمازيغية بعد دخولها المدارس الحكومية سنة 1995 ؟ الإجابتان، على تكاملهما، غير شافيتين. هذه اللامبالاة هي بالتأكيد نتيجةٌ لتعمق الطابع الاجتماعي للتحركات الجماهيرية في المنطقة القبائلية منذ المظاهرات التي تلت مقتل الفنان معتوب الوناس في 1998، لكنّه أيضا إحدى عواقب انغلاق المطلب الأمازيغي في هذه المنطقة دون غيرها من المناطق الأمازيغية.
ويُذكر أن تواصل هذا الانغلاق (رغم جهود بعض المناضلين الأمازيغ) وكذلك إخفاقَ الدولة، بعد قرابة خمسين سنة من الاستقلال، في تمثيل كل مكوّنات الشعب الجزائري، كانا السببين الرئيسين لبروز حركة الاستقلال الذاتيّ للمنطقة القبائلية (بزعامة فرحات مهني). ويعمل هذا التنظيمُ منذ ميلاده في أغسطس 2001 على تعميق قطيعته مع ميراث الحركة الثقافية الأمازيغية، التي لم تناضل يوماً لنيل “الحقوق القبائلية” ولكن من أجل حقوق مجمل الأمازيغ. لذا نراه يسعى إلى إحلال مطالب خصوصية (القبائلية لغةً إقليمية) محلَّ المطالب الأمازيغية التقليدية ذات البعد الوطني (الأمازيغية لغةً رسمية للمناطق الناطقة بها).
ولا يجب أن يُلهينا استمرارُ مطالبة المنطقة القبائلية باللغة الأمازيغية عن إمكانية مطالبة قطاعات أوسع مستقبلا، تحت تأثير تنظيم فرحات مهني، بالاعتراف بالقبائلية لغةً رسمية للقبائليين. ليس هذا السيناريو مستبعداً، خصوصا وأن عدم تجسّد مشروع توحيد اللهجات الأمازيغية بعد 15 سنة من إنشاء المفوضيّة العليا، أقنع بعض الألسنيين، ممن لا شك في نزاهتهم، بضرورة تدريس هذه اللهجات، كل واحدة منها في الجهة التي تتكلمها.
وينطلق مقترحُ هؤلاء اللغويين من فرضية استحالة تشكُّل لغة أمازيغية موحدّة لسبب بسيط هو أنّ “العربية تلعب دور اللغة المشتركة في الجزائر بل والبلدان المغاربية كلها” (عبد الرزاق دوراري،”الوطن”، 16 أبريل 2010). ليست فكرةُ تدريس القبائلية في حد ذاتها إذاً سخيفةً أو غيرَ علميّة، لكن انتشارَها في الظرف الراهن لن يكون – للأسف – دليلا على تحسن المعارف الألسنية للجماهير بقدر ما سيكون دليلا على تعاظم تأثير أفكار فرحات مهني شبه الانفصالية.
ياسين تملالي
(“الأخبار”، بيروت، 29 نوفمبر 2010)
——
هوامش
1) يمثّل الأمازيغ حوالي 20% من مجموع 35 مليون جزائري (مقابل 40% من سكان المغرب) حسب تقديرات بعض الباحثين، ويسكنون مناطق أخرى غير المنطقة القبائلية تتكلم لهجات أمازيغية مختلفة، منها جبال الأوراس (الشرق) ووادي ميزاب وجبال الهقار والتاسيلي (الجنوب) وجبال شنوة (غرب العاصمة)، الخ.
تقع المنطقة القبائلية شرق الجزائر العاصمة وتشمل ولايتي بجاية وتيزي أوزو وأجزاءَ من ولايتي سطيف والبويرة، وتعرف حركة شعبية واسعة تطالب بترقية هذه اللغة نشأت نواتها داخل الحركة الاستقلالية (حزب الشعب الجزائري) في منتصف الأربعينيات. كلمة “قبائلي” مشتقة من “قبائل”، وهو الاسم الذي كان الأتراك العثمانيون يطلقونه على مناطق جبلية كثيرة في الشرق الجزائري، لكن هذا الاسم لا يعني أن التنظيم الاجتماعي في المنطقة تنظيم “قبلي”.
2) سُميَّت هذه الانتفاضة “الربيع الأسود” تلميحا إلى انتفاضة أخرى حدثت في نفس المنطقة قبلها بواحد وعشرين سنة، هي انتفاضة “الربيع الأمازيغي” (أبريل 1980)، التي اندلعت إثر منع محاضرة للكاتب مولود معمري حول الشعر الأمازيغي القديم، وشملت ولايتي تيزي أوزو وبجاية في المنطقة القبائلية، بالإضافة إلى بعض جامعات الجزائر العاصمة.
3) في 2002 صوَّت نواب حركة مجتمع السلم (الإخوان المسلمون) على تعديل الدستور بما يجعل الأمازيغية لغة وطنية إلى جانب العربية.
4) شُرع في تدريس الأمازيغية في بعد مقاطعة للمدارس والجامعات في المنطقة القبائلية دامت سنة كاملة.
5) كانت الحركة الثقافية الأمازيغية، قبل اندثارها، تضم مئات الجمعيات الثقافية، وكان قادتها من مناضلي الأحزاب السياسية (جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وحزب العمال الاشتراكي) أو من المستقلين.
اقرأ أيضا