الحراك التلاميذي: دروس ومنظورات
“لقد رجع التلامذة إلى أقسامهم، لكنهم لن يعودوا قط كما كانوا قبل نضالهم الأخير. لقد غيرهم الاحتجاج، وأصبحوا أكثر وعيا بمطالبهم وبضرورة النضال من أجلها”.
دأب الانطباعيون الذين ينظرون دائما إلى الجانب السكوني في الجماهير، على بث اليأس من الجيل الجديد للتلاميذ. وجارته في ذلك صحافة السوق الباحثة عن التشويق والإثارة بنشر صور الانحراف وفيديوهات العنف، جاهدة على تصوير ذلك حالة عامة تبث الرعب في قلوب شغيلة التعليم وأسر التلاميذ.
يجهل هؤلاء الانطباعيون وتلك الصحافة ما يعتمل في أحشاء المجتمع، وحين ينفجر النضال يستمرون في البحث عما يرسخ نفس الصورة التي روجوها سابقا. وهو ما قاموا به بنجاح منقطع النظير، حين هاجمت الصحافة البرجوازية نضال التلاميذ بمبررات أخلاقية داعية الدولة لقمع “المخربين” ولائمة الآباء على قلة تربية أبنائهم داعية إياهم للتدخل من أجل ردهم إلى جادة الصواب. وجادة الصواب بالنسبة لصحفي برجوازي موال للاستبداد هي العودة إلى القسم أي وقف الاحتجاج.
تحمل الهبة التلاميذية الأخيرة ضد فرض التوقيت الصيفي دلالات قيمة يجب التأكيد عليها، ودروسا علينا ترسيخها من أجل نضالات المستقبل.
السكون لا يعني الرضا بالواقع
قضى الاستبداد على تنظيمات التلاميذ (الوداديات) بالقمع منذ مطلع سنوات 1970، وانقطع الاتصال بينهم وبين الحركة الطلابية. ومذاك اقتصر احتجاج التلاميذ على خضات عفوية تخفت بنفس السرعة التي تندلع بها: التضامن مع فلسطين، الاحتجاج على الحرب ضد العراق.
تطور الأمر مع ما رسخه حراك 20 فبراير، تعلم الكادحون/ ات الالتجاء للشارع للاحتجاج ضد ما يمس شروط حياتهم/ هن اليومية. انطلقت هبة تلاميذية مطلع يناير 2014 ضد فرض منظومة مسار، وعمت التظاهرات الشوارع بعد أن ضاقت أسوار المدارس بغضب التلاميذ.
بعد هذه الهبة الاستثنائية عاد “الهدوء” إلى ساحات المدارس، لكن التعبير عن الاستياء من تردي خدمات التعليم وفراغ محتواه اتخذ أشكالا أخرى (شعارات الألتراس، الغرافيتي، السخرية من واقع التعليم على الفايس…).
لم يكن هذا الهدوء رضا بالواقع، بل يعبر عن نفس لحظات العجز الذي تعاني منه الجماهير، حين تدرك ما لا تريد لكنها لا تدرك كيف ستناضل ضده. لكن الاستبداد كعادته يعتبر سكون الجماهير قبول سياسته، فيمعن في احتقارها واضطهادها مهيئا الشروط لجولات أخرى من النضال.
مطلب بسيط يفجر الوضع
جرى انتقاد التلاميذ المحتجين ضد مسار، بمبرر جهلهم بالمنظومة وتخوفهم غير المبرر من محض “تقنية” تدبير إداري لتتبع مسار التلاميذ الدراسي وتقييمه وتقويمه.
استمر نفس المنظور مع الحراك التلاميذي الأخير: “إنهم محض أطفال يلتقطون أي حجة للغياب بمبرر الاحتجاج ضد شيء بسيط: التوقيت”. نعم إنهم محض أطفال، لكنهم هبوا نيابة عن الكبار للاحتجاج ضد تغيير وثيرة حياة الكادحين خدمة لمصالح اقتصادية مزعومة. هبوا نيابة عن الكبار، لأن تنظيمات هؤلاء (خاصة النقابات) تسيطر عليها بيروقراطيات موالية للاستبداد، ولولا ذلك لالتحم الصغار والكبار ضد قرار الاستبداد.
اقتحم هؤلاء “الأطفال” الشوارع بصدورهم العارية متحدين جحافل القمع وفصائل الاستبداد المسلحة. بدءوا برفع شعارات ضد فرض التوقيت الصيفي، ولأنهم ليسوا “منظومة معزولة عن باقي المجتمع” ومتأثرين بما يعتمل داخله، انتقلوا إلى شعارات أكثر وأكثر شمولا: ضد التجنيد الإجباري، شعارات ضد حكومة الواجهة تضمنت تقييمات لشخصية بعض أعضائها، شعارات انتشار المخدرات والعنف في صفوف الشباب… الخ.
إنه نفس المسار الذي تمر منه كل النضالات الجماهيرية: يتحول مطلب بسيط في سياق سياسي واجتماعي ملائم إلى مفجر نضال اجتماعي أوسع نطاقا وأكثر تجذرا.
حراك على المستوى الوطني
مر زمن طويل كان فيه الطابع المحلي للنضالات وتجزؤها عقب أخيل هذه الأخيرة ونقطة قوة الدولة التي تستغل هذه العزلة لهزم النضالات. من حسنات حراك 20 فبراير أن توارى الطابع المحلي للنضالات، وأصبح انتشارها وطنيا يتغلب شيئا فشيئا.
انتشر الحراك التلاميذي الأخير كالنار في الهشيم، ولم يقتصر على منطقة واحدة بل عم كل البلاد: مدنا وقرى. لكن الهشيم لم يكن كافيا كي يتحول الحراك التلاميذي إلى حريق شامل يدمر مجمل النظام القائم على الاستغلال الاقتصادي والاضطهاد السياسي.
حراك تلاميذي محض
اقتصر الاحتجاج على فرض التوقيت الصيفي على التلاميذ، بينما غاب أقرب أقربائهم عن هذا الاحتجاج: الطلاب. يفسر ذلك جزئيا بكون توقيت الكليات ليس بالصرامة الموجودة في المدارس، لكن هذا لا يعفي الطلاب وطلائعهم من مسؤولية نقص التضامن مع الاحتجاج التلاميذي.
استطاعت الدولة فرض الحياد على شغيلة التعليم بل حولت بعضهم إلى أدوات لفرض الامتثال على التلاميذ المحتجين. وتتحمل القيادات النقابية مسؤولية كبيرة في تجميد طاقة النضال العمالي ومنعه من الالتحاق باحتجاجات التلاميذ. اقتصر رد فعل هذه القيادات على بيانات رافضة ومطالبة: مجرد أقوال لرفع الحرج، ولا أفعال لفرض التراجع على دولة الاستبداد.
رغم هذا، افتخر الجميع بـ”الجيل الشاب” الذي اندفع بكل عفوية للقيام بما عجز عنه “الكبار”: النضال ضد إجراء حكومي، لكن هذا العجز ظرفي مهما طال. وغدا ستلتحم كل أجيال الكادحين وأجناسهم وثقافاتهم ضد نظام الاستبداد وتكنسهم مرة إلى الأبد.
دور وسائل التواصل الاجتماعي
لعبت وسائل التواصل الجماهير (فايس، واتساب) دورا مهما في تفجير وتنسيق نضالات فئات اجتماعية عدة، في غياب أو تقاعس تنظيمات النضال القائمة عن القيام بأدوار تمثل علة وجودها.
انطلقت الدعوة إلى إضراب التلاميذ ضد فرض التوقيت الصيفي من صفحات الفايس، وكانت الاستجابة سريعة ومدهشة. استجابة فاقت توقعات أكثر المتفائلين ومخيبة آمال المحافظين الراغبين في بقاء الوضع دائما كما هو عليه.
لعبت هذه الوسائل دورا كبيرا في التعبئة لأشكال النضال، وكسر العزلة الإعلامية عنها، وفي نفس الوقت فضح تهجمات الدولة وأبواقها الإعلامية: أظهرت أشرطة الفيديو مسيرات تلاميذية حاشدة على مسافة كيلومترات ممتدة، وتجمعات ضخمة أمام مؤسسات الدولة دون مشاهد “التخريب” التي تسعى الدولة وإعلامها لترويجه.
تسلل التلاميذ/ات بين صفوف رجال القمع دون أدنى حادث عنيف. هكذا تنبث الثورة بين أحذية رجال القمع الثقيلة وتسلل كطفلة انتهت لتوها من اكتشاف جسدها وتصر على اكتشاف العالم. أعادت سلمية احتجاج التلاميذ إلى الأذهان، طالما أكدتها نضالات الكبار: الاستبداد هو الذي يسعى لاستثارة أعمال العنف قصد تبرير عنفه (القمع).
سيكون تحسين استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط من أجل الدعوة للنضالات ولكن من أجل تنظيم التلاميذ أنفسهم بأنفسهم، أم مهام الجيل التلاميذي المندفع لاقتحام ساحة النضال.
غياب تنظيم تلاميذي: نقطة ضعف كبرى
لا وجود للجماهير خارج تنظيماتها: هذا درس رئيسي لكل النضالات الجماهيرية منذ القرن التاسع عشر. دون تنظيم تتحول الجماهير إلى حشود تنفس جام غضبها واستيائها وتعود بسرعة إلى حظيرة الطاعة.
وقع هذا أكثر من مرة في تاريخ النضال بالمغرب، وقد وسم النضال التلاميذي بشكل خاص: جموع التلاميذ تقتحم الشارع للتعبير عن استيائها وتعود إلى فصول الدراسة بنفس السرعة التي هبت بها للاحتجاج.
ينتهي الاحتجاج ولا يخلف إلا ذكريات مبهمة في عقول المشاركين فيه، لا تراكم ولا رسملة للخبرة المتولدة عن هذا الاحتجاج قصد نقلها إلى الأجيال المقبلة.
لكن الاحتجاج يربي الكادحين، وغياب التنظيم له محتوى نسبي. غياب التنظيم في بداية 2000 (تظاهرات التضامن مع فلسطين والعراق) لا يحمل نفس معنى غيابه مع الاحتجاج على منظومة مسار، وقد تطور الأمر نسبيا مع الهبة التلاميذية الأخيرة.
أظهر الحراك التلاميذي الأخير تلمسا لطرق التنظيم، ولكن بشكل عفوي وليس بشكل منهجي مفكر فيها مسبقا. وأنى لتلاميذ محرومين من تنظيم مسبق أن يكون لديهم تدخل منهجي معد سلفا.
يعتبر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي وصياغة شعارات ملائمة للمطلب والسياق وتنظيم المسيرات والاتفاق على توقيت الاحتشادات أمام مؤسسات الدولة بداية متواضعة لتنظيم تلاميذي أكثر صلابة مستقبلا.
تلميذات وتلاميذ: في النضال سواء
تصر صحافة السوق على تصوير التلاميذ المحتجين محض مراهقين يبحثون عن “البوز/ الشهرة” للظهور أمام زميلاتهم بمظهر الفحولة وتصيد نظرات الإعجاب.
لا يعبر هذا إلا على حقيقة يحاول الاستبداد وإعلامه إخفاءها: المجتمع الرأسمالي والاستبداد يسحق شخصية الشباب ولا يترك لها مجال التطور والانفتاح، ودائما ما يكون الاحتجاج الميدان الأسلم لتفتق مواهب الشباب/ ات وتفتح شخصياتهم/ هن حد الانتشاء.
اختلطت التلميذات بزملائهن التلاميذ، ولم يكن الشيطان ثالثهما كما تروج الدعاية الدينية الرجعية. لم تسجل أشرطة الفيديو المبثوثة على الانترنت أي حادثة تحرش “رغم أن الحلوى لم تكن مغطاة”. حتى صحافة السوق الباحثة على الإثارة لم تستطع تصيد مشهد مثل هذا لترويجه على نطاق واسع. نعم إن الاحتجاج في الشارع من أجل الحقوق، أجدر بكثير بتوفير “تربية وتكوين” للتلاميذ أكثر من برامج مفروضة ومقررة من طرف لجان لا علاقة لها بالحياة اليومية لأبناء وبنات الكادحين.
هل انتصر التلاميذ/ات؟
ستندفع صحافة كارهي الجماهير والرجعيين إلى الاستهزاء بالحراك التلاميذي: وأخيرا عاد “الأطفال” إلى أقسامهم بعد أيام قليلة من الاحتجاج، ولم يستطيعوا إلغاء التوقيت الصيفي، وهو نفس ما قامت هذه الصحافة حين بخست مكاسب مقاطعة السلع.
سيظل الرجعيون يبخسون نضالات الجماهير، محرفين أنظار هذه الأخيرة عن المكاسب الحقيقية لنضالاتها: كل هذه النضالات خطوات في الطريق العظيم للإطاحة بالاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي.
أربكت الاحتجاجات التلاميذية حكومة الواجهة، فصرحت بداية أنها لن ترضخ، ثم صرحت أن الزمن الدراسي سيستثنى من التوقيت القانوني، وفي الأخير فوضت الأمر للأكاديميات الجهوية لاختيار التوقيت الملائم لكل جهة.
استطاع “الصغار” أن يفرضوا على حكومة الواجهة ملاءمة توقيتهم الدراسي مع ظروفهم، وتبقى الكرة الآن في ملعب “الكبار” كي يناضلوا بدورهم من أجل إلغاء هذا التوقيت الضار.
نعم لقد رجع التلاميذ إلى مؤسساتهم. لكنهم ليسوا نفس التلاميذ الذين خرجوا للاحتجاج. لقد غيرهم هذا الأخير أيما تغيير، سيظل هذا الاحتجاج عالقا في أذهان التلاميذ/ات إلى الأبد. وفي فرن هذا النضال سينبع مناضلو ومناضلات المستقبل. ويا له من انتصار لذيذ ومدهش!
المستقبل للنضال التلاميذي الملتحم بالنضال العمال والشعبي
خفوت النضال التلاميذي ظرفي، وسينبعث مستقبلا بأشكال ومطالب أكثر تقدما. لا يشكل النضال ضد التوقيت الصيفي إلا مفجر الاستياء التلاميذي المتراكم منذ عقود ضد تخريب منظومة التعليم بإصلاحات أمليت من طرف مؤسسات الرأسمال الدولي (البنك العالمي، ومنظمة التجارة العالمية، والاتحاد الأوروبي).
عاجلا أم آجلا، سيقوم التلاميذ/ات للنضال ضد تردي شروط التعليم: غياب البنيات الملائمة، ونقص الأطر، والاكتظاظ، وفراغ محتوى البرامج التعليمية، وانسداد الآفاق، وثنائية منظومة التعليم بين تعليم خاص جيد ومدعوم من طرف الدولة وتعليم عمومي يتردى بشكل مستمر بسياسة متعمدة.
أفرز الحراك الأخير طلائعا أكثر تقدما. تنظيم هذه الطلائع والاتصال بها وفتح عيونها على الأسباب الحقيقية لتردي المدرسة العمومية وخرابها، كلها من مهام اليسار والنقابيين الكفاحيين.
إن تقاعس اليسار عن هذه المهمة ستسقط هذه الطلائع في شبكة التنظيمات الدينية الرجعية التي تشوه وعيها ولا توجه نضالها نحو الأسباب الحقيقية بل الخرافية لما تعانيه الشبيبة من مآسي مجتمع الاضطهاد الطبقي والأبوي.
المزيد من تدخل “عناصر لا علاقة لهم بالمنظومة التعليمية” هي أم المهام الحالية من أجل الاستعداد لجولات النضال التلاميذي التي تلوح في الأفق.
بقلم، أزنزار
اقرأ أيضا