حملة “مقاطعون”: دروس النصر الأخير
يتجاهل إعلام البرجوازية ودولتها نضالات الكادحين، أو على الأقل يغض الطرف عن الأوجه التي قد تشكل نموذجا يقتدي بها الشعب، ويركز على ما يريده أن يشكل الوجه الرئيس للنهوض الشعبي: محض تخريب قد يؤدي بالبلاد إلى مزالق لا تحمد عقباها.
يتصاعد هذا التعامل خصوصا عندما يستطيع الكادحون تحقيق انتصارات، ماحقين الأسطورة القديمة عن عجز الشعب، وقوة الدولة التي لا يمكن إركاعها. ويجري تصوير المكاسب على أنها محض تنازلات كانت مقررة سابقا، ولا دور للنضالات الشعبية في ذلك.
عندما انطلقت حملة “مقاطعون” قبل أربعة أشهر جرى الاستهزاء بها: كيف يمكن لشباب يقضي معظم وقته وراء حاسوب أو هاتف نقال أن يهزم جبابرة رأسماليين مثل “أفريقيا” أخنوش، أو “سيدي علي” بنصالح، فما بالك بشركة متعددة الجنسيات مثل “دانون” فرنسا.
تناسى المستهزئون أن الحاسوب والهاتف محض تقنيات قد تلعب دور المحرض والمفجر، حين يبلغ الاستياء الشعبي مبلغه ويصل السكين العظم. آنذاك يتلقف الشعب الدعوة ويكسيها لحما وجلدا ويجري الدم في عروقها جارفة معها كل من يريد تحديه ومواجهته.
انتشرت المقاطعة كما تنتشر النار في هشيم يابس في عز صيف، وحاولت حكومة الواجهة وقف الموجة بتهديد الداعين للمقاطعة بالسجن بتهم “ترويج أخبار زائفة”. ووقفت الحكومة إلى جانب هذه الشركات مؤكدة لـ”الشعب” أنها حكومة الرأسماليين بامتياز.
تراجعت حكومة الواجهة بسرعة عن تهديدها مفضلة الركون إلى الصمت بدل زيادة الزيت على نار مستعمرة، وتركت للشركات صلاحية التعامل معها. وكانت شراسة وزعيق هذه الأخير يعكس مدى الضرر اللاحق بها. نالت الخسارة شركة “سانطرال- دانون” بحكم سلعتها القابلة للتلف أكثر من الشركتين الأخريين. اتهمت المقاطعين بخيانة الوطن مصرة على أنها لن تتنازل وعازمة على البقاء في السوق المغربية: إنها صلافة رأسمالي ممزوجة مع تكبر استعماري موروث يحميه استبداد سياسي أرساه الاستعمار.
سرعان ما اعترفت الشركة بخسائرها، ووعدت بالاستجابة لمطلب المقاطعين. أعلنت شركة سانطرال- دانون أن شهر سبتمبر سيكون شهر تخفيض الأثمان، مرفقة ذلك بحملة سمتها بتشاور واسع النطاق مع المستهلكين والجمعيات… الخ.
وفي بداية سبتمبر أعلن إيمانويل فابر، الرئيس التنفيذي لمجموعة “دانون” الفرنسية، تخفيض 30 سنتيما في سعر كل نصف لتر من الحليب المستهلك شعبيا، إضافة إلى عروض بتسويق نماذج جديدة بثمن أقل.
لم ترد الشركة فقدان كبريائها الاستعماري/ الرأسمالي، فادعت أن التخفيض نتاج جاء “بفضل حملات التشاور التي نظمتها مع شرائح عديدة من المغاربة”. [إيمانويل فابر].
انطلق إعلام البرجوازية المأجور يمجد فعل هذه الشركة، مصورا إياه منة منها إلى الشعب، حيث أعلن مدير سانطرال أن مبادرة تخفيض الثمن “كان هدفها هو جعل سعر الحليب الطري المبستر في مستوى الطاقة الشرائية للمواطنين”… وهناك آخرون تفهوا هذا التنازل معلنين أن “جبل المقاطعة تمخض فولد فأرا ثمنه 30 سنتيما”.
وفي نفس الوقت يصر هذا الإعلام على أن “إفريقيا” و”سيدي علي” لم ينلهما ضرر، ولا زالا صامدتين. وهذا ليس صحيحا بالمرة، فبغض النظر عن كون الشركتين لديهما امتياز منتوجهما غير القابل للتلف كما الحليب، فقد نالت المقاطعة منهما بأوجه متعددة.
أصبحت ماركة “سيدي علي” ممقوتة شعبيا، واضطرت الشركة إلى سحبها من السوق وتعويضها باسم آخر جرى ترويجه على نطاق واسع، إضافة إلى اضطرارها لتسويق حجم أكبر من “سيدي علي” بثمن أقل. أما محطات التوزيع إفريقيا فتقوم بتوزيع الوقود بأدنى الأثمان الموجودة في السوق: يبلغ الفرق حتى 20 سنتيما مقارنة بالمحطات الأخرى.
يتناسى هؤلاء وأولئك أن الشعب لا يقيم نتائج نضالاته بنفس المعيار الذي تقيم به البرجوازية أعمالها، أي قيمة السنتيمات التي تتراكم عن كل سلعة لتشكل في المحصلة ما يسمى ربحا.
للشعب الكادح معاييره الخاصة التي يريد إعلام البرجوازية طمرها بأطنان من تراب القصف الأيديولوجي والتشويه الإعلامي. إن أكبر نصر حققته هذه المقاطعة هو نصر سياسي بامتياز. ومن حق الشعب أن يصرخ بأعلى صوته: “لقد استطعنا بوحدتنا وصمودنا أن نلحق الهزيمة بأعتى الشركات الرأسمالية الكبرى” المسنودة من الدولة. ومن حق الشعب أن يقول لأشباه الديمقراطيين الذين يريدون هزم الاحتكار بملتمسات مشاريع قوانين مقدمة إلى برلمان الاستبداد: “يكفيكم ترهات، إن قوة الشعب الكادح وحدها تستطيع أن تهزم المحتكرين، ويوم نتقوى أكثر ونتسلح بالتنظيم سندكهم دكا، ونمتلك باسم الشعب تلك الشركات ونسيرها بشكل ديمقراطي”.
إن نصر الشعب لا يقيم بالسنتيمات أو الدراهم، بل بمدى إسهامه في تقوية ثقة الكادحين في قوتهم ووحدتهم وقدرتهم على الكفاح. سيبرهن نجاح حملة المقاطعة على أن الشعب أيضا “يستطيع”، مدمرا هكذا، أيضا، أسطورة قديمة على أن “المخزن” لا يركع ولا يهزم.
نصر الشعب الكادح لا يمكن تقييمه فقط بالعشرين سنتيم التي تشكل الفرق بين محطات أفريقيا وبين باقي المحطات. بل بحجم الضرر السياسي الذي لحق المشروع السياسي الذي عولت عليه الملكية بعد طرد بنكيران شر طردة، رغم كل تنازلاته وصنوف تملقه للملكية.
أصبح زعيم حزب الأحرار خارج ما يطلق عليه في القاموس الليبرالي المغربي “لعبة سياسية”. وليست هذه هي المرة الأولى التي تفشل فيها مخططات الملكية لترتيب واجهتها الحكومية بما تراه مناسبا لها. فقبل 2011 كانت الملكية تعد فؤاد علي الهمة وحزبه لتولي هذه الواجهة، فجاء حراك 2011 وأرغم الملكية على تولية هذه الواجهة لحزب العدالة والتنمية. وبعد ذلك عولت الملكية مرة أخرى على نفس الحزب بزعامة إلياس العماري لكن حراك الريف دفعها للتخلي عنه، والبحث عن بديل شكله عزيز أخنوش زعيم التجمع الوطني للأحرار، لكن حملة المقاطعة دفعت بهذا خارج دائرة الضوء التي دفع إليها دفعا.
وهكذا برهنت الخضات الشعبية القادمة من أسفل، أن الملكية ليست بكلية القدرة كما يصورها دعائيوها وأيضا الليبراليون، كل لأغراضه السياسية الخاصة. هناك مجهول في المعادلة، يسعى كل هؤلاء لتحاشي ذكره في المعادلة، إنه الشعب/ الأسفل. وحين يقوم ويتحد تفقد كل الصفقات والمناورات السياسية التي تجري في القمة/ الأعلى قيمتها، وتضطر هذه القمة إلى مجاراة رد الفعل الشعبي بالتخلي عن جزء من مخططاتها، لأن القمع وحده لا يكفي لإسكات النهوض الشعبي.
طبعا تقوم البرجوازية ودولتها بمجاراة رد الفعل الشعبي، في انتظار تحسن ميزان القوى لصالحها، وآنذاك تشتد القبضة القمعية ويجري استعادة ما جرى التنازل عليه. ولا تنتظر البرجوازية عادة تحسن ميزان القوى لاستعادة ما تنازلت عليه، فهي لا تعدم حيلا لتحقيق ذلك. ويظهر هذا في أن شركات الحليب الأخرى لم تقم بتخفيض أثمان الحليب، لأنها تنتظر أن تتراجع سانطرال- دانون بسرعة عن تنازلها أمام حملة “مقاطعون”.
قد تقوم سانطرا- دانون بحيل لتخفيف تأثير تخفيض ثمن جزء من منتوجاتها: تخفيف كمية ونوعية المنتوج، تشديد استغلال يدها العاملة بفرض وتائر عملية متسارعة أو فرض حجم المبيعات على العاملين في التسويق. ويستدعي هذا رفع مطلب الرقابة العمومية والشعبية على الشركات، ودعهم نضالات عمال هذه الشركات دفاعا عن أجورهم وحقوقهم الاجتماعية ومن أجل تحسين شروط عملهم.
أبانت حملة المقاطعة على أن لا بديل أمام الشعب الكادح إلا وحدته ونضاله، ويجب تعميم هذا الدرس لإيصاله إلى أكثر شرائح الشعب تخلفا من الناحية السياسية. ويستدعي هذا حملة تشهير سياسي كبيرة لتوضيح مغزى هذا الانتصار، ويعني هذا عدم وقف حملة “مقاطعون”… يجب أن تستمر.
لقد استطاع الشعب أن يثقب شباك العدو، وعليه الآن يكون متيقظا لمنعه من القيام بهجمة مضادة يعدل بها كفة الصراع.
وائل المراكشي
اقرأ أيضا