مرة أخرى: عن “المثقفين” والثورة
صدر في العدد السابق من جريدة المناضل–ة مقال يتناول دور وموقف “المثقفين” من الانتفاضة الريفية، ولخصنا ذلك في كونهم يعبرون بلسانهم عن رعب الطبقات الحاكمة من حركات النضال الطبقي الساعدة من أسفل. ويحاولون تقديم نصائح للدولة وللبرجوازية كي تتفادى الاحتقان الذي يؤدي إلى زعزعة الاستقرار. خصصنا هذا الموقف لأولئك المثقفين الذين يدعون أنهم “ضمير الوطن” وبالتالي لا مصالح ضيقة تدفعهم لإبداء مواقفهم، فهم غيورون على الوطن بكل مكوناته.
قام عدد من المثقفين المغاربة بإرسال رسالة مفتوحة بعنوان “رؤية مثقفين مغاربة حول حرية الرأي والإنصاف”، تتناول الرسالة انتقادا للدولة والأحزاب التي غيبت دور النخبة في ما يخص حراك الريف بالدرجة الأولى.
قام هؤلاء، على غرار أي “مثقف برجوازي محترم” إلى افتتاح الرسالة بإبداء فروض الطاعة لدستور الاستبداد: “وفقا للدستور – نحن الموقعين – أدناه”، وهو تقليد سياسي قديم رسخته أحزاب النضال الليبرالي العاجز منذ الحركة الوطنية البرجوازية مرورا بالمدرسة الاتحادية انتهاء بيسار غير الحكومي حاليا.
يضع الموقعون أنفسهم بهذه العبارة في موقع ناصحي السلطان، لذلك لا يدخلون في اهتمامهم النضال ضده، بل يسعون فقط إلى “الانتصار على نوازع السلطة”، أي تلك النوزاع التي تهدد من وجهتهم نظرهم استقرار البلاد.
ثمنت هذه النخبة المبادرات التي قام بها النظام لتلميع وجه استبداده، من “إنصاف ومصالحة” وخطاب أجدير وفتح هامش ضيق ومراقب لحرية التعبير، واعتبرت ذلك “تجاوبا من الملك محمد السادس مع طموح المغاربة إلى تجاوز سنوات الجمروالرصاص”.
أما يقع في قمع فليس إلا “تعثرا” في سير المغرب الحتمي نحو الديمقراطية الذي لا يعيقه إلا “عدم استعداد الجهات المتنفذة في الدولة للتنازل عما تعودت عليه من نفوذ وسلطة فوق المحاسبة”، وبالتالي فالمهمة المطروحة هي مساعدة الجهات غير المتنفذة في الدولة للتغلب على الأولى.
يعبر الموقعون عن موقفهم “مما يحدث في بلاد(نا)”، بطريقة تظهر كنههم الطبقي، فحراك الريف حسبهم ليس إلا “ تبادل المؤاخذات غير المجدية بين شركاء الوطن”. وفق هذا التحليل العميق يعتبر الاستبداد ومناهضوه، العمال وأرباب العمال، الطبقات الظالمة والمظلومة، كلهم شركاء وطن، يجب عليهم أن ينصتوا “لضميره”، أي النخبة التي يشكل الموقعون جزء منها. كل ذلك لإنقاذ هذا “الوطن” من الفتن وانعدام الاستقرار، التي قد يستثيره قمع “مفرط” أو خطأ في عدم التجاوب السليم مع أحداث الحراك.
جاءت هذه الرسالة ردا على التقريضات التي وجهها الاستبداد وأحزابه لهذه النخبة المثقفة، لأنها كانت غائبة عن الصراع في الريف، ويدعي الموقعون على أن موقفهم لا ينتصر لجهة دون الأخرى، فهم “الأنا الأعلى” للمجتمع الطبقي حيث تتصارع الطبقات (كما يتصارع الوعي مع اللاوعي)، وتتدخل النخبة المثقفة لإعادة التوزان الاجتماعي.
لكن مضمون الرسالة تظهر جهة انحياز أصحاب الرسالة، فهم يردون بحجة أنهم ليسوا بساكتين، ولكن المجتمع “الرسمي”، أي الدولة والأحزاب، هو الذي صم أذنيه عن سماع آرائهم: “السؤال الموجه إلى تلك الأحزاب، هو: هل اتصلتم وتواصلتم مع المثقفين غير الخاضعين لتعليمات ورؤى جاهزة، بهدف عقد جلسات حوارية فعالة تخص الشؤون الوطنية، أو المحلية؟”.
تلقي النخبة المثقفة نظرتها العالمة على “مجتمع مضطرب” وتتحسر عن تقاتل “الإخوة” الذي يضر بـ”الوطن”. لكن هذه النخبة وهي تقدم مقترحاتها توجه النداء لأعلى وليس لأسفل، تخاطب جهاز الدولة وتمحضه نصائح التعامل مع النضال الشعبي. أما تطوير النضال الشعبي وحفزه وتنظيمه، فيعتبر خطيئة تستحق العقاب، لأن ذلك يزيد من منسوب الاحتقان ويضر مصالح المجتمع (أي مصالح البرجوازية ودوام دولتها)، ولا ينجم عنه، حسب السالة “سوى المزيد من الاحتقان، وتخلف المجتمع ومؤسساته”.
وما يسهل مهمة النخبة المثقفة هو أنها “متعالية عن انفعالات المتصارعين”. هكذا ليس الصراع الطبقي إلا مغالاة في الانفعال النفسي، ولا يمد جذوره في الظلم والاستغلال الطبقيين. لذلك تقترح هذه النخبة جلسات علاج نفسية تقدمها للدولة، وعبرت عن ذلك الرسالة بأسلوب وردي يليق بحالمين صغار: “استماع بيني جيد للمتحاورين في جو من الحرية، وتحقيق الكرامة والعيش الكريم، والازدهار لكل أبناء الوطن”.
يعتبر موقعو الرسالة النضال الشعبي ناتجا عن عدم استشارتهم بسبب قلة خبرة المحتجين في “الاستعانة بآراء النخب المحايدة، قصد تجنب ارتكاب أخطاء تعبيرية، أو الانسياق وراء انفعالات ظرفية”، والمنطقي هو عودة المحتجين إلى حظائر الطاعة وترك الحلبة للنخبة المثقفة كي تجلس بهدوء إلى جانب الدولة والأحزاب لبحث الحلول العقلانية، حلول عقلانية لمجتمع يسير بطريقة غير عقلانية.
يعد هؤلاء الدولة بتقديم خبرتهم و”إعداد دراسات تقييمية لموضوعات معينة واقتراح حلول لها”
تقول الرسالة أن مسؤولية المثقف “تكمن في تجنيب الوطن كل ما من شأنه أن يحول دون احترام قيم الإنصاف والعدالة”. إنه أسلوب قطاعات البرجوازية عندما تكون متضررة، تغلف مصالحها الطبقية الأنانية بعبارات فضفاضة حتى ينخدع بها الكادحون. إن البرجوازي المحروم من صفقة عمومية سيمتعض من عدم “احترام قيم الإنصاف والعدالة”، وسينادي باحترام قانون التنافس الرأسمالي.
هل سيستفيد كل “شركاء الوطن” لو استجيب لمطلبه؟ ماذا سيستفيد العمال لو قامت قطاعات البرجوازية بإعادة تقسيم فائض القيمة المعتصر من كدحهم وعرقهم؟ العمل الماجور لا يخلق إلا عملا ماجورا، بينما ينتفخ الرأسمال جراء اعتصار فائض القيمة، ذاك الجزء الذي يتنازل عنه العمال من وقت عملهم لأرباب الأعمال.
تسعى النخبة المثقفة إلى استعادة الدور التقليدي لـ”أهل الحل والعقد”، أي العلماء الذين كانوا يلعبون دور الوساطة بين السلطان والرعية، ويطالب موقعو الرسالة من الدولة أن توليهم هذه الوظيفة كما هو شأن كل دول العالم: “النخب المثقفة، في جميع أمم العالم، هي بمثابة قادة الرأي فيها”. أي وظيفة صنع رأي عام لا يخرج عن مقدسات المجتمع: الملكية الخاصة ومؤسسات الاستبداد.
قد تنخدع طلائع النضال الشابة بالمناصب العلمية لهؤلاء “المثقفين” الذين وقعوا الرسالة، وبأشباههم مستقبلا، وتغريهم مفاهيم “حرية الرأي” و”الإنصاف” و”مصالح الوطن”. ويفرض هذا على المثقفين الثوريين أن يواجهوا هذا القصف الإعلامي بقصف مضاد يعري الحقيقة الطبقية لهؤلاء المثقفين ناصحي السلطان.
ينطق عامل مكافح وسط إضراب بدروس في السياسة والنضال أغنى بكثير من درر الحكمة الليبرالية الجبانة التي نطقت بها هذه الرسالة المفتوحة.
توجه هذه النخبة أنظارها إلى الأعلى وتستجدي الاستبداد وتقدم له خدمات ونصائح، بينما على المثقف الثوري أن يوجه أنظاره نحو الحركات الصاعدة من أسفل، ويسعى إلى تنظيمها وفتح الآفاق أمامها لتطوير النضال حتى التخلص من الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي، ومن أجل بناء وطن الكادحين الذي لا يمت بصلة لـ”لوطن المشتركة” الذي يتحدث عنه مثقفو البرجوازية.
وائل المراكشي
اقرأ أيضا