ردود الفعل على أحكام الاستبداد في حق معتقلي الريف: الدلالة وما العمل؟
أثارت أحكام قضاء الاستبداد ردود فعل كثيرة من قبل قوى سياسية ونقابية وحقوقية ومثقفين وسياسيين أفراد. تشير كثرة المواقف إلى الأهمية السياسية لهذا الحدث، القائم على أهمية حراك الريف في الحياة السياسية بالمغرب. هذه الحياة التي كانت غارقة في روتين التدبير اليومي العادي لجهاز الدولة بعد أن طمأنه تراجع موجة النضالات التي حفزتها سيرورة 2011 الثورية.
تباينت ردود الفعل حسب موقع كل طرف، لكنها متفقة على “قساوة هذه الأحكام وإجحافها”، كأنها هذه القوى كانت تنتظر من القضاء أن يكون منصفا، عكس جهاز قمع الدولة، الذي لا يكون القضاء إلا تتمته “القانونية” التي تضفي الشرعية على عملية القمع برمتها.
اعتبرت أغلب المواقف هذه الأحكام ردة حقوقية، وعودة إلى “سنوات الرصاص”. ويدل هذا على مدى نجاح عملية التضليل المسماة “إنصافا ومصالحة” في تبرئة النظام من جرائم القمع السياسي للفترة المعنية.
كما عبر آخرون عن كون المحاكمة سياسية وليست قانونية، كأن القانون لا يوضع لخدمة السياسة. ليست كل أشكال القانون (الجنائية والمدنية والتجارية… الخ)، إلا أداة لحماية المصلحة الاقتصادية للطبقة الحاكمة، وإدامة حكمها السياسي.
الأحزاب الحكومية
حرص زعماء الأحزاب الحكومية على إصدار مواقف شخصية تثمن استقلال القضاء. وتناولوا الأحكام ليس من منظور الدفاع عن براءة المعتقلين، بل من منظور إضرارها بسمعة الدولة وتهدديها للاستقرار السياسي.
تأسف نبيل بن عبد الله (التقدم والاشتراكية) لأن الأحكام “لن تسهم في إذكاء جو الانفراج. بينما اعتبرها بنشماس (الأصالة والمعاصرة) “غير متماشية مع ما راكمه المغرب في المجال الحقوقي (!!)”، ولم يكلف نفسه “كمواطن خبر السجون وذاق عذاباتها” إلا أن يسأل “الله أن يلهم عائلات المحكوم عليهم الصغيرة والكبيرة الصبر الجميل”
أصدرت أحزاب الأغلبية الحكومية بلاغا يوم 29 يونيو2018، أعادت فيه التأكيد على احترام استقلال القضاء، وقدمت شهادتها على عدالة المحاكمة. إنها نفس الأحزاب التي أصدرت بيانا بطلب من وزير الداخلية يخون نضالات الريف ويكيل اتهامات العمالة للخارج والانفصالية لمناضلي الحراك.
أحزاب اليسار
إلى جانب تندديها بالأحكام “القاسية”، واصلت أحزاب اليسار ناقص النزعة الديمقراطية (فيدرالية اليسار الديمقراطي) منظور تنبيه النظام إلى مغبة تشدده القمعي الذي يزيد الاحتقان ويهدد استقرار البلد.
علقت نبيلة منيب (الاشتراكي الموحد) على الأحكام بقول: “الأحكام… تظهر غيابا للتبصر بالأخطار التي تحدق ببلادنا اليوم”. وهو نفس ما ذهب إليه نجيب أقصبي عن نفس الحزب في تعليقه على الأحكام: “هذا الـتأزم لا ينبئ بخير”.
تفسر أحزاب اليسار ناقص النزعة الديمقراطية الأحكام بغياب الحكمة، لا بجوهر وظيفة جهاز الدولة كأداة إكراه في يد الطبقة الحاكمة لقمع نضال الكادحين السياسي والاجتماعي.
تعول هذه الأحزاب على مؤسسات الدولة، كما في غيرها من القضايا. وفي هذا السياق تقدم برلمانيا فيدرالية اليسار بتوصية إلى البرلمان لإصدار عفو عام على المعتقلين. ولم يخرج الملتمس عن روح الاستجداء الليبرالي الحريص على الاستقرار السياسي: “الرغبة في تدشين مرحلة جديدة وتخفيف الاحتقان القائم واستعادة الثقة في المؤسسات…”.
برر البرلمانيان هذه الخطوة باستغلال هامش الصلاحيات المؤسساتية في إطار ما يكفله الدستور (الفصل 71) من مكتسبات لهذه المؤسسة. لكن يجب ألا نتناسى أن هذه “المكاسب المؤسساتية” لم تأت بنضال “مؤسساتي”، بل فرضه نضال خارجها: حراك 20 فبراير وهلع الملكية من مصير بن علي ومبارك. وأكيد ان تفعيل هذا الفصل لن يكون إلا نتيجة لنضال جماهيري خارج هذه المؤسسات.
أكد حزب النهج الديمقراطي، في كلمة كاتبه الوطني مصطفى البراهمة، رفض الأحكام “القاسية والمفاجئة”، واستنتج من ذلك أن “القضاء في خدمة الدولة، لتصفية حسابها مع حراك الريف بشكل انتقامي”، لكنه سقط في نفس منطق أحزاب الفيدرالية بتنبيهه إلى أن الأحكام تزيد من “خطورة استمرار وإذكاء الحركات الاجتماعية التي ستخرج من جديد في الشارع”، وحذر الدولة قائلا: “كفى من اللعب بالنار… فالحركات… قابلة للاندلاع في أية لحظة، ولتتحمل الدولة مسؤوليتها كاملة عما ستؤول إليها الأوضاع في المغرب”.
تؤكد هذه الأحزاب رفضها للأحكام وإصرارها على النضال من أجل إطلاق سراح المعتقلين. ويستوجب هذا، السير على خطى نضال كادحي الريف. ترجمت نيتها هذه بالدعوة للمشاركة في مسيرة ممركزة بالدار البيضاء يوم 8 يوليوز. على هذه الأحزاب أن تبرهن على نية الاستمرار في النضال من أجل إطلاق السراح، بجعل هذه المسيرة نقطة انطلاق هذا النضال وليس نهايته، كما هو شأن جميع المسيرات الممركزة السابقة.
أحزاب الإسلام السياسي
أصدرت الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان بيانا حول الأحكام اعتبرت فيه بدورها الأحكام قاسية تلقتها “بألم واستياء عميق”.
ثمن البيان مجهودات الدولة بالريف: “الشروع في إنجاز بعض المشاريع، ومساءلة الإدارات المعنية بالتأخر في الإنجاز”، واعتبرتها “خطوات إيجابية كان من اللازم أن تتواصل في سياق تفاعل إيجابي يبني الثقة بين الدولة والمواطنين”.
كما كررت نفس موقف تنبيه الدولة إلى خطورة “المقاربة القمعية” على الاستقرار السياسي، وأنها “تعمق الجراح ولا تداويها، وتؤجج الغضب ولا تطفأه”.
لا تدعو الجماعة إلى النضال من أجل إطلاق السراح، بل تراهن على الدولة ذاتها: “ندعو الجهات المعنية في بلدنا العزيز إلى قرار شجاع يقضي بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين”.
مواقف البيروقراطيات النقابية
لم يخرج موقف قيادات النقابات عن نفس المنظور المؤكد على خطورة الأحكام على “الاستقرار السياسي” و”السلم الاجتماعي” العزيز على قلوب هذه البيروقراطيات:
“إن المرحلة التي تمر منها بلادنا لا تحتمل هذا النوع من الخيارات النكوصية التي لن تزيد الوضع إلا تعقيدا” (الفيدرالية الديمقراطية للشغل).
“الأحكام… تقدم صورة سيئة على البلاد”. (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل)
لم تتضمن هذه البيانات أي دعوة إلى خرط النقابة في النضال من أجل إطلاق سراح المظلومين، بل تنبيها إلى “خطورة الوضع” والدعوة إلى “تصفية المناخ السياسي والاجتماعي”. (الكونفدرالية)، إلى “تحكيم العقل” (الفيدرالية).
أما الاتحاد المغربي للشغل فلم يكلف نفسه عناء إصدار بيان، بينما يندد بيان عن المكتب الإقليمي للجامعة الوطنية للتعليم/ الاتحاد المغربي للشغل، يندد بالأحكام ويطالب بإطلاق السراح، ودعوة “الضمائر الحية لتجسيد أشكال نضالية… ردا على التوجه القمعي والترهيبي للدولة”.
نجحت البيروقراطيات الحريصة على السلم الاجتماعي والموالية للنظام أو لأحزاب معارضة برجوازية، في تحويل النقابات من أدوات للنضال إلى أجهزة لتنبيه الحاكمين وشل قدرة النضال العمالي، وعزله عن النضال الشعبي.
الجمعيات الحقوقية
عبرت بدورها عن تفاجئها بالأحكام واعتبرتها قاسية ومجحفة، وطعنت في المساطر القانونية وفي عدالة المحاكمة.
= المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف:
كرر أسطوانة الحرص على استقرار البلاد، باستحضاره “دواعي انفجار الأوضاع بمناطق مختلفة من البلاد”، ولم يدع إلى لنضال من أجل إطلاق السراح بل عول على “تصفية البيئة الحقوقية حقنا للتوتر”.
لا يجب أن ننسى أن أطرافا في المنتدى كانت وراء قبول صفقة سياسية مع الملكية، لتصفية ملف ضحايا القمع السياسي، بتأسيس “هيأة الإنصاف والمصالحة”، واستمر المنتدى هيئة لمعالجة ملفات ضحايا “سنوات الرصاص” مصرا على حصرها في ما قبل 1999.
= الجمعية المغربية لحقوق الإنسان:
تفردت الجمعية بالدعوة لـ”فرض إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي”، وتعتبر فروع الجمعية أطرافا فاعلة وداعية للاحتجاج محليا (لجان وتنسيقيات التضامن)، ووطنيا.
مواقف شخصيات
قام مثقفو الملكية، بالتنبيه إلى خطورة الأحكام على هيبة الدولة. عبر عن هذا الموقف بمقال مطول حسن أوريد، ناطق رسمي سابق باسم القصر الملكي، الذي استشعر خطر الأحكام على ما سماه “ميثاق” الملكية في شخص محمد السادس في إطار المصالحة مع الريف، ونبه إلى أن الأحكام ستؤدي إلى “شرخ في جسم الأمة”، كأن الأمة أصلا منسجمة.
وفي الجانب الآخر صرحت شخصيات “معارضة” من مواقع تدعي الديمقراطية، برفض أحكام القضاء، لكن من منظور الحرص مرة أخرى على الاستقرار السياسي. عبر عن هذا محمد بن سعيد آيت إيدر (الحزب الاشتراكي الموحد) بقول: “هذا ليس في صالح استقرار المغرب… ننظر بقلق بالغ لهذه التطورات”، ونبه الدولة قائلا: “إننا كسياسيين لم نعد ضامنين للاستقرار في البلاد، لأن المواطنين أصبحوا يواجهون مشاكلهم بشكل مباشر… هذه رسائل مهمة تتوجه إلى أصحاب القرار الذين يتحملون مسؤولية كبيرة في القضايا التي تقع”.
يعبر تصريح بن سعيد عن مدى امتعاض أدعياء الديمقراطية من تطرف تعسفات الاستبداد: “لم يعد للقضاة عندي أي احترام، لأن القضاء لم يعد يخضع ويحترم القانون والضمير”، وعن يأس من “وجود إرادة سياسية لدى الدولة: “كنا نتمنى من الملك أن يعلن التصالح مع الريف”، وأشار إلى عمق الأزمة، التي لا يمكن أن تحلها “المصالحة” في أشكالها التقليدية، بل “تقوية الاتجاه الديمقراطي، وتكريس إرادة الشعب المغربي لفرض حقوقه، وفرض الحريات والديمقراطية ومحاربة كل من هو ضدها وضد حقوق الإنسان”.
لكن الحرص على الاستقرار السياسي، يمنع هؤلاء المثقفين بلبوس معارض، من اللعب بنار النضال الشعبي، ويفضلون دائما انتظار فرص التوافق التاريخية، التي يعودون للحسرة على تفويتها كل مرة.
موقف الثوريين
إن قمع حراك الريف وأحكام قضاء الاستبداد ليس صادرا عن مقاربة أمنية أو “غياب تبصر” و”قلة حكمة”.
القمع لازمة المجتمع الطبقي، المخترق بتناقضات عميقة تمد جذورها في بنيته الاقتصادية-الاجتماعية. وما دام هذا قائما فإن القضاء ليس إلا واجهة من واجهات القمع الطبقي الذي تسلطه دولة الرأسمال لقمع النضال واجتثاث طلائعه من حاضنتها الشعبية.
ليست هذه الأحكام، ومجمل القمع المسلط على حراك الريف، انتكاسة المسيرة نحو جنة الديمقراطية الموعودة، بل استئنافا لقمع همجي توارى إثر وأد اليسار الثوري في سنوات 1960-1970 ، وخفوت المناوشة السياسية لأدعياء الديمقراطية بعد استسلام أحزابهم أمام الملكية نهاية التسعينات (حكومة التناوب).
إن الذين يبدون الاستغراب إزاء أحكام القضاء في حق معتقلي الريف ، يموهون حقيقة الدولة كجهاز قمع طبقي. النظام مستعد لقسوة أشد، إن تجاوز النضال حدود التحرك من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية.
نظام الاستبداد لا يخفي حقيقته، التي يحاول هؤلاء تمويهها. النظام يهدد دائما بتحويل المغرب إلى سوريا، ولا يمكن منعه من ذلك إلا بتنظيم الكادحين وتسليحهم بنقابات كفاحية، ومنظمات نضال شعبي تلف فقراء القرى والمدن، وبقيادة سياسية منفصلة عن مصالح المجتمع الطبقي ومؤسساته واستقراره: حزب العمال الاشتراكي الثوري.
مجيد الأحمر
اقرأ أيضا