نشوء الحزب الاشتراكي الموحد وسياق مؤتمره الوطني الرابع [2018]
بقلم، أزنزار
سنة 2002 تأسس اليسار الاشتراكي الموحد بتجميع منظمة العمل (جناح منظمة 23 مارس الإصلاحي)، وحركة الديمقراطيين المستقلين (متحدرين من تجارب طلابية قاعدية) و”الحركة من أجل الديمقراطية” و”فعاليات يسارية”، وكلا الأخيرين من بقايا تفكك اليسار “الماركسي اللينيني”. أصبح عام 2005 يسمى الحزب الاشتراكي الموحد بانضمام تيار “الوفاء للديمقراطية” المنسلخ عن الاتحاد الاشتراكي.
كانت منظمة العمل يسارا داخل “الكتلة الديمقراطية”[*]، برفضها الموافقة على دستور 1996، وبالطابع النقدي لمساندتها لــ”حكومة التناوب”. كما مثل تيار “الوفاء للديمقراطية” ما تبقى من ناقدي خط قيادة الاتحاد الاشتراكي. باقي مكونات الحزب “ماركسيون” سابقون تدحرجوا إلى تبني ما يسمى “خط النضال الديمقراطي”، أي وهم تحقيق الديمقراطية بالعمل في مؤسسات تمويه الحكم المطلق وبرضاه.
استسلام الأحزاب الكبرى بـ”الكتلة الديمقراطية”، وتخليها عن أمنية توافق يتيح تقاسم الحكم مع الملكية بتحجيم سلطات الملك المطلقة، وضع مشعل برنامجها التاريخي في يد الحزب الاشتراكي الموحد. وفيما كانت للاتحاد الاشتراكي قوة جماهيرية ناتجة عن خداعه طيلة عقود لكادحي المغرب، (وعجز اليسار الجذري عن إتيان بديل)، يسعى المتمسكون ببرنامجه التاريخي إلى بناء قوة وازنة بتوحيد صفوفهم: فكان الاشتراكي الموحد، وفي الأفق حزب يوحد مكونات فيدرالية اليسار الديمقراطي.
يجمع هذه الأحزاب مطلب ملكية برلمانية يعتبرها “صيغة وحيدة ممكنة” للتوفيق بين الملكية والسيادة الشعبية، وشاركت في كل استحقاقات النظام الانتخابية وجارت سياسته الخارجية، وحصرت نقدها لسياسته الاقتصادية في تنبيه إلى تهديدها الاستقرار وانتقاد جزئي لتطبيق سياسات المؤسسات الدولية الليبرالية.
عند انطلاق سيرورة ثورية بالمنطقة، وامتدادها المحلي (حراك 20 فبراير…)، سعى الحزب الاشتراكي الموحد إلى توجيه النضال الشعبي وفق مطلبه العام: الملكية البرلمانية. وقاطع دستور 2011 مجاراة للسائد في حركة 20 فبراير، ثم شارك في انتخابات المجالس الجماعية والبرلمان. وقد برزت بجلاء حدود انخراط الحزب الاشتراكي الموحد، ورفاقه في الفيدرالية، في دينامية عام 2011 النضالية، بالتزام نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، حيث يهيمنون، تفادي انضمام الشغيلة إلى حراك 20 فبراير، انصياعا للنظام الذي بدأ خطوات احتواء الحراك باجتماع المعتصم مستشار الملك بقيادات النقابات العمالية ستة أيام بعد انطلاق الحراك.
عند تدفق موجة نضال جديدة من الأعماق، بلغت ذروة في حراك الريف، سانده الحزب، لكن من موقع تقديم نصائح للنظام كي يستجيب للمطالب مخافة تهديد الاستقرار، متبنيا منظور الملكية لدور الأحزاب، أي تأطير المواطنين والوساطة بين الدولة والشعب.
تحكم الملكية في الوضع، وتبدد أوهام الانفتاح والاستثناء المغربي في محيط الاستبداد العربي. وفي الجهة الأخرى تشتت النضالات وعزلتها وضمور اليسار الثوري، وعجز التيارات الإصلاحية الليبرالية أن تكون تشغل مكانة الاتحاد الاشتراكي سابقا. هذا سياق انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الموحد الرابع.
=========================
مؤتمر الحزب الاشتراكي الموحد الرابع: سعي الى بعث المشروع الاتحادي القديم
بقلم ازنزار
عقد الحزب الاشتراكي الموحد مؤتمره الوطني الرابع أيام 19، 20 و21 يناير 2018. بات هذا الحزب يشغل مساحة المعارضة التاريخية بعد استسلام مكونات منها، لاسيما الاتحاد الاشتراكي. وذلك بفعل تمسكه بهدفها التاريخي، الملكية البرلمانية [مطلب مؤتمر الاتحاد الثالث في 1978]، وتمنعه عن انجرار تام وراء النظام. أعاد المؤتمر تأكيد خط الحزب الإصلاحي التدرجي التوافقي، محافظا على نفَـس معارض جلي في بيان المؤتمر الختامي.
كل اختمار نضالي يدفع جماهير إلى التطلع إلى الإصلاح، قبل الاقتناع بضرورة الثورة. ما يجعل القوى الإصلاحية تستقطب تلك الجماهير عند انطلاقها قبل تجذرها في غمار المعارك. مثال ذلك أن مطالب حراك 20 فبراير كانت أقرب إلى خط هذا الحزب. من هنا يترتب واجب فهم طبيعة الحزب، وميوله، لتنوير قوى النضال الفتية، وفي الآن ذاته التعاون مع مناضليه من أجل مطالب ديمقراطية واجتماعية.
تيارات متعددة... ومنظور واحد
برزت تحضيرا للمؤتمر ثلاث تيارات، مجمعة على استراتيجية الحزب ومطلبه العام (الملكية البرلمانية). واقتصرت “أرضية التغيير الديمقراطي” على انتقاد حالة الحزب التنظيمية، محملة المسؤولية للمكتب السياسي. نفس ما فعلت “أرضية “اليسار المواطن والمناصفة” في يمين الحزب، منتقدة عدم مجاراته الملكية سنة 2011 حين رفض الحزب المشاركة في لجنة صياغة الدستور وقاطعه.
كررت أرضية “الأفق الجديد” المعبرة عن أغلبية المكتب السياسي والمؤتمر، نفس الانتقادات المنصبة على أوجه الخلل التنظيمي. هذا كله فيما المشكل ليس تنظيميا بقدر ما هو معضلة تاريخية لخط سياسي ليبرالي يروم نوعا من الديمقراطية بتوافق مع المستبدين.
تشترك التيارات الثلاثة في استلهام تجربة “النضال الاتحادي” سبيلا لدمقرطة الدولة عبر تعاقد على ملكية برلمانية.
لا جديد في أرضيات المؤتمر فيما يخص تشخيص الوضع السياسي. المشكل قائم بنظر الحزب في احتكار ملكية تنفيذية للحكم، واستغلالها مكانتها السياسية لتنمية مصالحها مع بطانتها الاقتصادية. وانتقدت الأرضيات تحكم “منطق الريع” و”منطق الإنتاج الطفيلي” والفساد والرشوة... الخ.
أما عن العلاقة مع الإمبريالية، فالحزب مقتنع بضرورة الاندماج التنافسي في العولمة المحتومة، منتقدا الخضوع الأعمى لسياسة المؤسسات الدولية. ويسدي النصح بمصاحبة تنفيذ تلك السياسة بإجراءات اجتماعية تلطف آثارها، مطالبا بـ”إقرار الديمقراطية في المنظمات والمؤسسات الدولية”. [“الأفق الجديد”].
يترتب عن هذا التحليل أن العدو ليس النظام الرأسمالي والإمبريالي بمجمله، بل قسم من الطبقة البرجوازية المحلية محتكر للسلطة ولفرص الاغتناء. وينتج عن هذه المقدمة نتيجة سياسية تقضي بوجوب تحالف الطبقات الشعبية مع متوسطي الرأسماليين وحتى مع قسم من كبارهم ضد الرأسمال الاحتكاري المرتبط بالقصر لإجباره على احترام قواعد اللعب بين الرأسماليين.
نزعة ديمقراطية ضعيفة
تعلن أرضية “الأفق الجديد”: “نحن قوة تناضل من أجل الديمقراطية الحق”، مضيفة أن هذه الديمقراطية تقوم على قواعد لا استغناء عنها، أهمها “السيادة الشعبية”.
لكن نظرة دقيقة تبرز التناقض مع السيادة الشعبية. فالديمقراطية المنسجمة مع ذاتها حتى النهاية تعتبر الشعب صاحب الحق، دون سواه، في اختيار النظام السياسي. فيما الحزب مصر على أن الملكية البرلمانية “صيغة التوفيق الوحيدة بين الطابع الوراثي للملكية وقواعد الديمقراطية”.
ما الذي يجبر شعب المغرب على اختيار أحد اثنين لا ثالث لهما: ملكية تنفيذية وأخرى برلمانية؟ تصور هذا الخيار دون غيره تعبير عن عجز المعارضة البرجوازية وخوفها من دينامية النضال الشعبي ومن تفجرية المطلب الديمقراطي في بلد يسد الاستبداد السياسي كل مسامه. أين مطلب المجلس التأسيسي المنتخب المتيح للشعب إمكانا حقيقيا لبلوغ سيادته؟
تعترض أرضية “الأفق الجديد” على مطلب “المجلس التأسيسي” بمبرر أنه لو تشكل “لما حصل اتفاق حول طبيعة النظام السياسي الذي سينص عليه دستور ما بعد التغيير، ولجنح الطرف الغالب إلى فرض تصوره للأشياء باسم السيادة الشعبية”. إن المثاليات سلمية، أما التاريخ فعنيف، يحلم الاشتراكي الموحد ببلوغ الديمقراطية عبر توافق وتعاقد، وهو ما لم يعط التاريخ لحد الآن مثالا واحدا عن نجاحه.
لم ينتج هذا المنظور عن جهل التجارب التاريخية، بل عن طبيعة الحزب الطبقية؛ حزب ناقص النزعة الديمقراطية، وككل حزب برجوازي يمثل الاستقرار أساس المجتمع: “الانتقال هو ضرورة مجتمعية من أجل توفير مقومات الاستقرار”. [“الأفق الجديد”].
هذا الاستقرار يهدده الصراع الاجتماعي والثورة. صراع لا تنفيه أرضية “الأفق الجديد” بل “ترمي إلى تهذيبه وإخضاعه لأسس سلمية، مدنية، وحضارية وأخلاقية”
لذلك بدل حفز هذا النضال، تعد أرضية “الأفق الجديد” بـ”دفع النظام ليحل مشكلته مع الديمقراطية”، وتعول على “إرادة سياسية” تبديها الملكية وتقبل بـ”بشرعية التداول” وتعاقد فعلي على وثيقة دستورية ليست وثيقة غالب على مغلوب...”.
لكن ما الذي سيفرض على الملكية قبول هكذا منطق يجردها من سلطة ظفرت بها بالصراع لا بالتوافق؟ جواب الأرضية الجديد هو “بناء جبهة ضاغطة قادرة على تعبئة الشعب وتجنيده في معركة الانتقال”. إنه ظل بوعبيد لا زال يتحكم في صياغة التكتيكات الحزبية لليبرالية القرن الواحد والعشرين.
هذا المنظور يحكمه ارتعاب المعارضة البرجوازية من النضال الجماهيري، ارتعاب يدفعها إلى مد الاستبداد بأطواق النجاة، كما حدث إبان 20 فبراير.
اشتراكية الحزب الاشتراكي الموحد؟
تدعي الأرضيات امتلاك منظور نقدي للتجارب الاشتراكية المنهارة. وتعبر عن رغبة الانخراط في مشروع “اشتراكية القرن الواحد والعشرين”، المغايرة جوهريا لسابقتها.
ولكن تفحص أرضيات الحزب- خاصة “اليسار المواطن والمناصفة” و”الأفق الجديد”- يبرز أنها نسخة من منظور الاتحاد الاشتراكي لهذه الاشتراكية: تخطيط، وإعادة اعتبار لدور الدولة في الاقتصاد، بلا مساس بملكية وسائل الإنتاج الخاصة. أي نفس اشتراكية التيار الإصلاحي العالمي المعروف بـ”الاشتراكية الديمقراطية”، المفلسة نهائيا مثل “اشتراكية البيروقراطية” الستالينية.
أما عن كيفية بلوغ هذه “الاشتراكية”، فقد ادعت الأرضيات أنها قامت باجتهاد، أوصلها إلى أن الطرق السلمية قد أثبت انتصارها على صعيد عالمي، وأن الطرق الثورية لا جدوى منها، لذلك تسعى لبناء اشتراكيتها عبر صناديق الاقتراع. دروس التاريخ، ومنها درس الشيلي مطلع سنوات 1970، باتت نسيا منسيا.
طبيعة الحزب، وأي حزب يقتضيه النضال من أجل المطالب الديمقراطية والاشتراكية
تتوخى الأرضيات، لاسيما “الأفق الجديد”، بناء حزب جديد يقطع مع القائم من أنماط حزبية. لكن جوهر هذا “الجديد الحزبي” لا يختلف عن الحزب الاتحادي منذ بن بركة إلى بوعبيد. فتقييم الاشتراكي الموحد له لا يتعدى نقد فساد الأخلاقيات وقبول مشاركة في حكومة دون “تعاقد سياسي“ واضح.
تزعم وثيقة “الأفق الجديد” أن إعلانها حزبا جديدا يروم “خلق... رجة سياسية في البلاد”، لكن هذه الرجة لا تتعدى دفع ” فئات من الشباب والمواطنين إلى القطع مع اختيار العزوف الانتخابي والوعي بأهمية الإدلاء بالصوت الانتخابي في المسار الطويل للتغيير…”. أما أرضية “اليسار المواطن والمناصفة” فتعيد، بحديثها عن خلق قوة اعتراضية (منظمات النضال) وقوة اقتراحية (الحزب)، المعهود من تكتيك الأحزاب البرجوازية المستعمل طاقة النضال الجماهيري لبلوغ غاياتها الطبقية.
يؤدي الاستبداد السياسي والاضطهاد الاقتصادي إلى تفجر نضالات شعبية وعمالية، تنبثق منها طلائع تواقة إلى بدائل سياسية، ويسعى الاشتراكي الموحد (ومجمل فيدرالية اليسار) إلى توجيه هذا التوق نحو قنوات الليبرالية والسياسة البرجوازية.
إن قانون المجتمعات الطبقية الذي لم يستجد بعد ما ينفيه، هو الصراع. ولا يمكن الوصول إلى ديمقراطية حقيقية وإلى الاشتراكية، إلا بخوض هذا الصراع بكفاحية لا ترتضي تحجيم أهدافه بحصرها في تنازلات جزئية سياسية واقتصادية.
دلت التجربة التاريخية عجز الأحزاب البرجوازية العضوي عن النهوض بمهام التحرر من الامبريالية، وبناء ديمقراطية وحل المسألة الاجتماعية، وأن حزب شغيلة ثوري يقود الأمة الكادحة هو القادر على الاضطلاع بتلك المهام. وقد أدت شعوب مقهورة عديدة ثمن غياب هكذا حزب، بهزائم نكراء، منها مآلنا بالمغرب الناتج عن السياسة الليبرالية لأشباه الاشتراكيين وناقصي النزعة الديمقراطية منذ الاستقلال الشكلي.
مع مناضلي الحزب الاشتراكي الموحد في الكفاح
نقد الاشتراكيين الثوريين لقوى الإصلاحية، ولنقص النزعة الديمقراطية، لا يعني بأي وجه استبعادهم أي نضال مشترك إلى جانب قوى من هذا الصنف. يناضل الثوريون من اجل الإصلاحات لتطوير وتوسيع النضال الطبقي، وذلك ضمن منظور تقوية الحركة العمالية تنظيما ووعيا وتعزيز استقلالها. ويخوض الثوريون النضال المشترك بمنطق “ضربٌ معا وسيرٌ على حدة”.
لا شك ان الحزب الاشتراكي الموحد يضم قوى نضال بنوايا تحقيق ديمقراطية وعدالة اجتماعية نلتقي معها حول أهداف جزئية، من قبيل ما طالب به بيان المؤتمر الرابع:
- حرية معتقلي الحراك الشعبي، بالريف وغيره، ووقف محاكمة نشطاء متضامين
- التعبئة والانخراط من أجل الحفاظ على الخدمات العمومية
- دعم النضالات الشعبية لمواجهة الاستبداد والفساد
- النضال الوحدوي وإحياء التنسيق النقابي للتصدي لمشروع القانون المجهز على الحق في الإضراب، وكافة خطط المس بالمكتسبات وضرب الحقوق والحريات
وهذا، وغيره كثير، نقاط التقاء يجب ان تجد سبلا إلى التطبيق الميداني.
هامش:
[*] الكتلة الديمقراطية: تحالف أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، تأسس عام 1992.
اقرأ أيضا