التوظيف بعقود في التعليم: السياق والمسار والدلالات والنتائج
يندرج التوظيف بعقود في التعليم ضمن سيرورة مديدة من إصلاحات مضادة تستهدف إعادة هيكلة الوظيفة العمومية بشكل شامل، بدءا بالتكوين مرورا بالتوظيف والتأجير والترقية وأنظمة التسيير والرقابة والتكوين المستمر والانتظام النقابي والتعاضد، ضمن مخطط إعادة هيكلة عالم الشغل برمته في اتجاه يطلق أيدي المشغلين، دولة وقطاع خاص، لرفع وتيرة استغلال الأجراء.
يأتي شغيلة التعليم على رأس المستهدفين بإصلاحات الوظيفة العمومية المضادة، نظرا لوزنهم البشري الهام، إذ يمثلون أكثر من ثلث أجراء الوظيفة العمومية. ونجاح الإجراءات في التعليم، يعني مرورها بسلاسة بالغة في باقي القطاعات.
انطلقت سياسات التراجع عن مكاسب الأجراء عالميا عقب دخول الرأسمالية أزمتها الطويلة منتصف سبعينات القرن الماضي. وتعمقت بعد أزمة مديونية دول العالم الثالث بداية الثمانينات، وتم التعبير عنها بشكل واضح فيما عرف “بتوافقات واشنطن”، سنة 1989، بين البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والخزانة الأمريكية. وتتضمن الوصايا العشر الواجبة على الجميع، ومنها ما يتعلق بتقليص النفقات ووقف الإنفاق العام على القطاعات الاجتماعية (تعليم وصحة وسكن ونقل وماء وكهرباء…) وتوجيهه إلى الاستثمار في البنية التحتية، ووجوب خصخصة مؤسسات الدولة…
شكلت هذه الوصايا/ الاملاءات أساس برنامج مختلف الحكومات ببلدنا، من سياسات العمومية وخطط قطاعية، ومنها التعليم الذي يؤطره “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”.
وقد كان ثمرة واستمرارا لروح اتفاقات فاتح غشت 1996 المرسية لقواعد استسلام الحركة النقابية المغربية. وتم تقديمه كنتاج إجماع “وطني”، غايته تحويل التعليم الى مشتل ليد عاملة نصف مؤهلة او مؤهلة ومرنة وخانعة، كما اسس لإعادة هيكلة العلاقات الشغلية والتدبيرية داخله مبنية على المنطق المقاولاتي وتستلهم منظورات ما يعرف بالتدبير العمومي الحديث New public management.
تفصح المادة 135 من الميثاق عن كل فلسفة تصوره ” لتدبير الموارد البشرية”، تقول المادة: “… ويتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا، بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد” وتزيد المادة 137: “يعتمد في ترقية أعضاء هيئة التربية والتكوين ومكافأتهم على مبدأ المردودية التربوية…”.
وجاء البرنامج الاستعجالي ليوضح التوجه أكثر، ففي المشروع 15 نجد: “وسوف تتم مراجعة أشكال التوظيف، إذ ستجري على مستوى كل أكاديمية على حدة، وفق نظام تعاقدي على صعيد الجهة” ، واسترسل المشروع 17، تحت عنوان التحقيق الفعلي للامركزية: “يتمثل التدبير الأولي الذي سيتم اعتماده في إتاحة استقلال للأكاديميات في تدبير الموارد البشرية على أساس تحديد الاعتماد الإجمالي من المناصب المالية المخصصة للجهة. وهكذا، فإن توظيف الأطر التربوية سيتم على الصعيد الجهوي، على أساس التعاقد بناء على أنظمة وقوانين خاصة بالأكاديميات.” .
وأكدت المادة 35 من مشروع القانون الإطار ذات التوجه: “…. تنويع طرق التوظيف والتشغيل لولوج مختلف الفئات المهنية، بما فيها الية التعاقد”.
من الواضح أنه:
– لا يتعلق الأمر بسياسة أعدتها حكومة ما، بل هو ذات المنطق الذي حكم مختلف الحكومات: من اليوسفي إلى جطو إلى الفاسي إلى بن كيران إلى العثماني، كل الأحزاب السياسية المؤسساتية متورطة في الإجهاز على التوظيف العمومي في التعليم (هو ذا مضمون الإجماع).
– سياسة الدولة هذه هي سياسة معلنة، وشارك في نقاشها قيادات نقابات التعليم، ولم يتم تسجيل أية محاولة جدية من طرفها لشرح مخاطر الهجوم الذي تتعرض له مكاسب الشغيلة، إذا ما استثنينا محاولات خجولة كالقراءة النقدية التي قدمتها الكدش للبرنامج الاستعجالي. لكن حين لاحت فرصة حقيقية للنضال الميداني ضد منظورات الدولة في أثناء معركة الأساتذة المتدربين، فضلت القيادات دور الوسيط مع الدولة عوض استنهاض النضال الموحد ضد تلك السياسات.
– لم يأت نظام التعاقد في التعليم بشكل فجائي، بل هو منظور متكامل يجري تنزيله، بإعداد تنظيمي وقانوني وسياسي محسوب.
يتم تأطير أعمال التوظيف بالتعاقد، بالقانون 00/07 المنشئ للأكاديميات الجهوية كمؤسسات عمومية، والصادر على عهد حكومة اليوسفي، والذي ينص مادته الحادية عشر :”تتكون هيئة المستخدمين الخاصة بالأكاديمية من:
– أعوان يتم توظيفهم من لدن الأكاديمية طبقا لنظام أساسي خاص يحدد بمرسوم
– موظفين وأعوان في وضعية إلحاق.”
هكذا بعد البدء بالتوظيف بالتعاقد، يمكن اعتبار المعنيين بوضع الإلحاق هم الموظفون الرسميون الحاليون. وفي انتظار إعداد ” مرسوم النظام الأساسي لموظفي الأكاديميات” الذي ينص عليه القانون 00-07، عملت الدولة على البدء بعملية التعاقد عبر مقرر وزيري مشترك بين وزير التربية الوطنية ( وهو رئيس المجلس الإداري لكل الاكاديميات حاليا) ووزير المالية، ينص هذا المقرر، المكتوب باللغة الفرنسية حصرا في دلالة على نوع احترام الحاكمين الكبير لدستورهم حينما يتعلق الأمر بتمرير تعديات، على كل مسار الأساتذة المتعاقدين، من نوعية الشهادات المطلوبة إلى طبيعة المباراة إلى نوعية العقود ومددها إلى كيفيات الترقي إلى طبيعة النظام التقاعدي إلى الأجور….، ولا ينقص سوى تسميته بنظام أساسي.
يستند المقرر المشترك، على الظهير 01-03-195 الصادر في 11 نونبر 2003 القاضي بتنفيذ القانون 00-69 المتعلق بالمراقبة المالية للدولة على الشركات والمؤسسات العمومية، وهو ما يوضح بشكل لا مجال للشك فيه أننا الآن أمام عملية خلق أمر واقع على الأرض، بحيث يصبح إصدار قوانين وأنظمة أساسية من باب تحصيل الحاصل.
يمثل نظام التعاقد الفردي، ردة كبيرة في الوضع القانوني لأي أجير، ليس فقط عن أنظمة الوظيفة العمومية، بل حتى عن الاتفاقيات الجماعية.
يفتح القرار المشترك وضع الأساتذة المتعاقدين على الهشاشة التامة. تنص المادة الخامسة منه، على أن الراسبين في امتحان الكفاءة المهنية، الذي سيتم اجتيازه في السنة الثانية من العقد، سيتم فصلهم دون إخطار أو تعويض، بينما سيخضع الناجحون منهم لتقويم كل ثمان سنوات. وتؤكد ذات المادة أن العقود يمكن فسخها في كل لحظة يتم فيها تقويم يكشف أن المتعاقد غير قادر على متابعة عمله، وذلك دون تعويض أو إخطار. لتأتي المادة السادسة لتغلق باب الترسيم لدى وزارة التربية الوطنية أو كل المؤسسات الهيئات التابعة لها أو المستقلة عنها.
لم تحرك القيادات النقابية ساكنا عند ” إخبارها” بعزم الحكومة على التوظيف بالتعاقد، بما هو خيار أعلى سلطة بالبلد لتجاوز واقع الخصاص الكبير في أطر التعليم، ومن يجرؤ في عرفهم على تحدي أعلى سلطة بالبلد؟ لكن، إن كانت القيادات النقابية اعتبرت آنئذ أن الإجراء استثنائي، فهي إما غارقة في الجهل، وهذا مستبعد، أم غارقة في التواطؤ، وهو مرجح.
ينظر البيروقراطيون الصغار، في المحليات والجهات، للتوظيف بالتعاقد فرصة لا تعوض لمضاعفة الامتيازات أو للوصول إليها. وهو ما يفسر الطريقة التي تتعامل بها البيروقراطيات المحلية مع الأساتذة المتعاقدين، فعوض العمل على تنظيمهم نقابيا وشحذ همتهم للنضال، يتم استدعائهم للمقرات الباردة لإخبارهم بقدرتهم العجيبة على التدخل هنا وهناك، بالوسائل المألوفة، لحل مشكل هذا الأستاذ أو ذاك، تحت غطاء تكوينهم… وذاك آخر ما يحتاجه الأساتذة المتعاقدون.
لن يبق المتعاقدون/ات، بفعل وضعهم/هن الهش، مكتوفي/ات الأيدي، وستدفعهم/هن التعديات الى رص الصفوف والنضال، مسؤولية من تبقى في النقابات من مخلصين/ات هو دعمهم/هن وتهييئ شروط دمجهم /هن الكفاحي في بنيات النقابات القاعدية، وتحييد المفعول الضار الذي تمثله السياسة المتواطئة التي تنهجها القيادات النقابية حاليا. على أن الارتكاز على نقط قوتهم، الممثلة في تزايد أعدادهم مستقبلا وكون معظمهم شبابا/شابات، والامكانات التي تتيحها وسائط الاتصال لتنظيم النقاش والإعداد لبعض المعارك….، يجب أن يسير بالتوازي مع النضال ضد الأفكار الانهزامية لدى بعضهم، وتوضيح أن طريق الانعتاق من الهشاشة، ليس هو طريق الحل الفردي، الذي يغذيه مع الأسف بيروقراطيو النقابات، بل هو طريق النضال الجماعي المنظم والواعي، مع توعيتهم بضرورة الفصل بين قيادة النقابات وبين النقابة كأداة نضال لا محيد عنها (بما فيها إمكان تنظيمهم المستقل ولكن الديموقراطي والموحد).
ستلتحق بمتعاقدي/ات التعليم، فئات أخرى بمختلف القطاعات، وسيلتحق بهم، بصيغة من الصيغ، حتى الموظفون/ات الحاليون، وسيصبح النضال ضد هشاشة التشغيل في القطاعات العمومية وضد الإجهاز الجديد الذي يخططون له على ما تبقى من مكسب التقاعد بعد إصلاحاتهم المقياسية، أحد الأولويات في مدى منظور، على كل المخلصين/ات للطبقة العاملة، نقابيين/ات وغيرهم، أن يستعدوا أدبيا وتنظيميا لذلك، ولم لا قد تكون تلك النضالات إيذانا بفرز جديد داخل الحركة النقابية المغربية بما يتيح فتح كوة في جدار التراجع المديد.
فاتح رضوان
اقرأ أيضا