جرادة تنتفض ضد الغلاء والبطالة والتهميش
خلفت عقود من التهميش أوضاع اجتماعية مزرية بمدينة جرادة؛ سمتها البارزة تفشي البطالة وتردي الخدمات الصحية، واستفحال الأزمة البيئية، وانعدام مصادر دخل يضمن الحد الأدنى من شروط العيش الكريم. زادها استفحالا الكساد الذي تعاني منه المدينة منذ إغلاق مناجم الفحم بصفة فعلية في سنة 2001 على إثر الاتفاق المشؤوم الذي وقعته البيروقراطيات النقابية مع الدولة في أواخر تسعينيات القرن الفائت، والذي تضمن إنجاز “مشاريع تنموية بديلة” لفائدة المدينة لم تر النور إلى يومنا هذا. وظلت حبرا على ورق كباقي التعهدات والاتفاقات الاجتماعية المبرمة بين دولة الباطرونا والقيادات النقابية بهدف نزع فتيل الاحتجاج العمالي والشعبي. وقد زاد تفاقم الوضع الاجتماعي بجرادة الكساد التجاري بالجهة الشرقية بسبب منع مرور السلع القادمة من الجزائر في سياق استمرار التوتر السياسي بين النظامين المغربي والجزائري على خلفية النزاع الذي تعرفه الصحراء الغربية.
هذه المرة، انطلقت شرارة الاحتجاج ضد غلاء فواتير الماء والكهرباء، “خاصة في حي المسيرة، وقوبلت باعتقال ثلاثة شبان، وتوصل البعض باستدعاءات من أجل الاستماع إليهم، ونظمت مساء يوم الخميس 21 ـ 12ـ 2017 مسيرة توجهت نحو العمالة، توجت بوقفة احتجاجية، أمام المنطقة الأمنية بجرادة، للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين امتدت إلى الساعة التاسعة ليلا رغم تهاطل الأمطار وقساوة البرد، وتمت إحاطة الوقفة بإنزال أمني مكثف، وأطلق سراح المعتقلين صباح يوم الجمعة 22 ديسمبر “من بيان فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بجرادة”، لتتوسع يوم الأحد 24 ديسمبر بعد مشاركة عشرات الآلاف من المحتجين على إثر سقوط شابين شقيقين في بئر (حسين البالغ من العمر 23 سنة، وجدوان البالغ من العمر 30 سنة) وهما بصدد استخراج الفحم الحجري بعد أن غمرته المياه الجوفية، وذلك بعد أن تصدت الجماهير الشعبية بالمدينة بإرادتها التي لن تقهر لمحاولة السلطات دفن الجثتين في جنح الظلام ليلة السبت 23 دجنبر الجاري. هكذا يتضح مرة أخرى أن جحيم البطالة أضحى رديفا للموت، وما حدث في جرادة يعيد إلى الأذهان صورة طحن محسن فكري في 28 اكتوبر من السنة الماضية في حاوية أزبال انفجرت على إثره انتفاضة قوية في الريف المغربي.
وقد اتخذت الحركة الشعبية المندلعة في مدينة جرادة لحدود الآن أشكال مختلفة ومتنوعة من ضمنها حلقات نقاش وتواصل بين الجماهير في ساحات المدينة وحاراتها، ومظاهرات ووقفات ومسيرات، معظمها توج باعتصامات جزئية أمام مبنى العمالة او المجلس البلدي، وقد ساهمت طبيعة المطالب الاجتماعية التي تهم فئات عريضة من الساكنة في ضمان التفاف جماهيري واسع، حيث سجلت مشاركة نوعية للشباب والنساء في تأطير الأشكال الاحتجاجية وفي شرح الأسباب الاقتصادية والسياسية القائمة وراء تدهور الاوضاع الاجتماعية بالمدينة، وهي لازالت مستمرة بسبب تعنت ممثلي الدولة في الاستجابة للمطالب المرفوعة (تخفيض فواتير الكهرباء، وإيجاد فرص شغل للمعطلين، وخلق مشاريع اقتصادية…).
طبعا، كعادتها في ترهيب كل احتجاج شعبي والسعي إلى تكسيره في المهد، لجأت الدولة إلى الرد على مطالب المحتجين بالقمع، حيث تم اعتقال ثلاثة شباب قبل أن يتم إطلاق سراحهم جراء استمرار الحركة الاحتجاجية، وتم استقدام قوات البوليس وفرق التدخل السريع من مدينة وجدة ومناطق أخرى، لفرض إخلاء الساحات والميادين.
لا تزال نفس الأسباب التي أدت إلى اندلاع حركة العشرين من فبراير وانتفاضة الريف وغيرها من الهبات والاحتجاجات قائمة، وستزداد تفاقما بسبب إمعان الحاكمين في فرض سياسات التقشف والخوصصة وتحرير الأسعار وتفكيك الخدمات العمومية والتراجع عن التشغيل العمومي وتعميق هشاشة أوضاع الشغل، وفشل المقاربات السياسية-القمعية التي اعتمدت لتخفيف حدة الأزمة الاجتماعية، من قبيل ما يدعى “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” التي أدت إلى تغلغل الدولة في الأحياء الشعبية الفقيرة في المدن والقرى عبر تشكيل نسيج جمعوي موالي لها، يضم عشرات الآلاف من الجمعيات المستفيدة من الدعم ومن البرامج الممولة في إطار العملية المذكورة. كما لا تزال أهداف النضال الشعبي العارم ومطالبه الثابتة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية راسخة في الذاكرة، رغم الإحباطات الهائلة الناجمة عن غياب حركة شعبية ديمقراطية منظمة موحدة وقادرة على التعبير عن المطالب الشعبية في نضال سياسي تحرري يروم فرض الإرادة الشعبية من خلال برنامج- مطالب يمزج بين النضال لأجل الديمقراطية السياسية الفعلية وبين تحقيق المطالب الاجتماعية الملحة والأساسية للعمال والشباب وباقي الفئات المتضررة من السياسات الرأسمالية، وقد زادت من قتامة الوضع الهزائم الساحقة التي منيت بها الشعوب في المنطقة العربية والمغاربية بسبب الدعم السياسي والعسكري الذي حظيت به انظمة الثورة المضادة، ووقوف أقسام عريضة من الليبراليين واليساريين إلى جانب الأنظمة الاستبدادية بدعوى محاربة الخطر الظلامي وصون مكسب “الدولة المدنية” و”الحريات الفردية والجماعية” التي ينعم بها نظامي السيسي وبشار وغيرهما، أو بدعوى مساندة ودعم محور الممانعة الكاذبة والمفترى عليها الذي يتفنن في سفك دماء الشعوب وذبحها باسم محاربة الإرهاب.
كل هذه الوقائع والمؤشرات تحيلنا إلى أن المسألة الاجتماعية توجد في صميم الأزمة البنيوية لنظام الرأسمالية التابعة في بلادنا وأن لا حل لها، ولو على صعيد تحقيق إصلاحات ظرفية أو انتزاع مكاسب اجتماعية طفيفة، دون حل معضلة الوعي والتنظيم الاجتماعيين، ما يفرض على كل المناضلين والقوى السياسية المنتسبة لقضية التحرر السياسي والاجتماعي إيلاء أهمية قصوى لإعادة بناء منظمات النضال العمالي والشعبي والشبيبي والطلابي، التي لا سبيل لتحقيق أي تقدم دون حلها على أساس جماهيري ديمقراطي وكفاحي.
كما ينبغي على قوى اليسار الجذري الانخراط في المعارك الاجتماعية والشعبية الجارية بروح وحدوية تراعي حجم الاستعدادات النضالية ومستوى الوعي الشعبي والانطلاق منها لبلورة المطالب وحفز التنظيم الذاتي للجماهير واتخاذ أشكال النضال الكفيلة بضمان مشاركة شعبية واسعة، مع الحرص على الابتعاد عن أي نزوع نحو فرض شعارات سياسية أو إيديولوجية مجردة كشفت التجربة النضالية الملموسة أضرارها البليغة. دون أن يعني ذلك مناهضة أي شكل من أشكال تسيس الاحتجاجات أو رفع مطالب ديمقراطية، بدعوى الحفاظ على الجوهر الاجتماعي للحراك كما عشنا ذلك في انتفاضة الريف وغيرها، قبل ان يتضح للنشطاء أن العائق الرئيس أمام تحقيق أدنى مطلب اجتماعي يتمثل في طبيعة النظام الاستبدادي المعادي ليس فقط لمطالب العدالة الاجتماعية والتشغيل وتوفير الخدمات الضرورية، بل عدائه لأبسط أشكال الاحتجاج والتنظيم الذاتي للجماهير وحرصه على وأدها في المهد بكل ما أوتي من قوة.
طبعا لا يمكن للجماهير أن تدرك بين عشية وضحاها أن تحقيق مطالبها لا يمكن أن يتم إلا بدك نظام الرأسمالية التابعة ونظامها المستبد التي تستند إليه في تأبيد الاستغلال والقمع والاضطهاد والجوع، ما يفرض على المناضلين الانطلاق من مطالبها الملموسة ودفعها بشكل تدريجي عبر عمل دعاوي وتحريضي صبور ومنظم إلى إدراك أهمية وحدتها وتضامنها لفرض حقوقها وحرياتها.
لنشرح بصبر الأسباب الحقيقية الكامنة وراء غلاء فواتير الماء والكهرباء وتفشي البطالة وانعدام البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية الضرورية، ولنتفادى الانطلاق من مطالب وشعارات قصوية لن تفهمها سوى مجموعة قليلة من المناضلين ولن يؤدي فرضها، في نهاية المطاف، على الحراك الشعبي سوى إلى مساعدة الطبقة الحاكمة في سعيها إلى تشويه الحراك الاجتماعي وتخويف الجماهير بانتشار الفوضى والانفلاتات الأمنية، وبوجود مجموعات متطرفة تسعى لتوظيف مطالب الناس الاجتماعية لخدمة أغراضها الخاصة.
لقد سلطت التحركات الشعبية الواسعة التي تشهدها مدينة جرادة الضوء مجددًا على معاناة الكادحين والعمال والشباب أمام فشل الدولة في تحقيق أي نمو اقتصادي كفيل بامتصاص الغضب الشعبي والحد من تفاقم البطالة الجماهيرية، إنها في العمق محاكمة شعبية حقيقية لسياسات النظام التي اعاد تكريسها قانون المالية المسخر لنهب الثروة الوطنية عبر المديونية الخارجية والإعفاءات الضريبية لأصحاب الشركات وتقليص النفقات الاجتماعية (13 مليار درهم لصندوق المقاصة بدل 57 مليار في سنة 2012).
إن احتجاجات الجماهير والشباب في جرادة تدحض بما لا يدع مجالا للشك فكرة نجاح الدولة في فرض السلم الاجتماعي في الريف وفرض عودة أهاليه لبيوتهم دون تحقيق مطالبهم التي كافحوا لأجلها لأزيد من سنة، ما يثبت أن لا مجال للتهدئة دون تحقيق مطالب الجماهير المنتفضة في الحسيمة وزاكورة وجرادة وغيرها.
ونحن نعيش انتفاضة الرغيف الأسود في مدينة جرادة الصامدة ببناتها وأبنائها المتحدين لرد الاعتبار لوجودهم كبشر من حقهم ان يحظوا بحد أدنى من شروط العيش التي تصون كرامتهم الإنسانية، علينا أن نتعلم من أخطائنا السابقة، فلا نضال شعبي دون مطالب واضحة ودون حفز التنظيم الذاتي للجماهير ومساعدتها على تولي زمام أمورها بيدها دون وصاية من أحد، ودون دعاية إعلامية مضادة للوقوف في وجه أية محاولة لتشويه الحراك وزرع البلبلة في صفوف المنتفضين، لذا ينبغي الانطلاق من المكاسب التي حققها الحراك الشعبي في جرادة، والمتمثلة لحدود الآن في وجود التفاف شعبي واسع ومشاركة جذرية من قبل الشباب والنساء، وتبلور إرهاصات قوية لتشكل ملف مطلبي محلي يقوم على رفض سياسة البطالة والغلاء والتهميش ويطالب بتخصيص ميزانية كفيلة برفع الحيف الذي يطال المدينة منذ عقود، بالإضافة إلى رفع أشكال الحصار البوليسي والترهيب طبعا.
طبعا، استمرار الحراك الشعبي في جرادة المنتفضة رهين بصياغة مطالب تحظى بتأييد القطاعات الشعبية الواسعة في المدينة، وتعبر عن آمالها في العيش الكريم، وتفادي الإغراق في مطالب عامة مبهمة من قبيل البديل الاقتصادي وإنجاز مشاريع تنموية للتخفيف من حدة البطالة والتي ستتيح للدولة هامش أوسع للمناورة وللتنصل من مسؤوليتها المباشرة في حل بعض المشاكل العالقة بشكل آني.
المطروح طبعا هو التركيز اليوم على مطالب استعجالية تهم مراجعة تسعيرة فواتير الكهرباء باعتبارها شرارة اندلاع الحراك الحالي، وتشغيل الشباب المعطل ووقف المشاريع الملوثة (مشروع توليد الطاقة الكهربائية…)، مع مواصلة حفز تشكيل لجان الأحياء عبر الانطلاق من اللجان الحالية التي تشكلت في أحياء المسيرة (F1)، ودوار ولاد سيدي علي، ودوار ولاد عمر، ودوار ولاد مزيان، وفيلاج يوسف…والعمل على توحيدها في لجنة محلية منتدبة لفترة محددة وقابلة للمحاسبة والعزل أمام أنظار جمع عام موسع، تشارك فيها اللجان الممثلة للأحياء.
كما ينبغي تدقيق مهام هذه اللجنة منذ البداية لتفادي كل ما من شانه أن يثير خلافات ضارة وصراعات قد تعصف بالحراك برمته، وفي اعتقادنا فإن عمل اللجنة ينبغي أن ينصب على تنسيق النضالات وتوحيد المطالب والمعارك وإدارة المفاوضات على أرضية المطالب المطروحة: مطالب موحدة لأجل معركة موحدة على صعيد المدينة برمتها منبثقة من إرادة الجماهير ومسيرة من قبلها عبر جموعات عامة مفتوحة للتداول الجماهيري الواسع وللتقرير في كل ما يتصل بالحراك الشعبي، مع الحفاظ للجان الأحياء على حقها في اتخاذ مبادرات نضالية على صعيد كل حي لضمان الحفاظ على استمرار التظاهر والاحتجاج في حالة لجوء الدولة إلى فرض العسكرة والحصار، وهو ما يستشف من التدخلات البوليسية الراهنة ضد المسيرات المنظمة.
وطبعا تظل مسؤولية النقابيين الكفاحيين قائمة في إنجاح المعارك الشعبية عبر حفز تضامن قطاعاتهم والعمل على الارتباط بالحركة الشعبية عبر مساندة فعلية لقرار الإضراب العام ليشمل أماكن العمل في الإدارات والمؤسسات التعليمية وغيرها، وفي هذا الصدد تكتسي الدعوة لإضراب عام إقليمي، يوم الجمعة 29 ديسمبر، من قبل المنظمات النقابية والسياسية العاملة بمدينة جرادة أهمية بالغة، ينبغي تدعيمها بطرح المطالب الاجتماعية والديمقراطية الخاصة بالشغيلة (الهشاشة، الحماية الاجتماعية، التعويض عن حوادث الشغل والأمراض المهنية، حق الإضراب…). كما يمنح صمود الجماهير في مدينة جرادة ضد التقشف والتهميش والقمع فرصة تاريخية لمناضلي الحركة الطلابية بجامعة محمد الأول بوجدة لحفز تضامن طلابي واسع مع الحراك الشعبي في جرادة تجسيدا لشعار منظمتهم الطلابية الخالد: لكل معركة جماهيرية صداها في الجامعة، وتفادي كل ما يمكن أن يؤدي إلى تهمشي الساحة الجامعية وعزلها عن محيطها الجماهيري المنتفض.
وانطلاقا من تجارب المعارك الشعبية السابقة، علينا أن نضع نصب أعيننا تكتيكات النظام وأساليبه المعهودة في تفجير الصفوف وفي زرع التوتر والبلبلة. كما علينا أن ندرك أن سياسته في التعامل مع أي معركة جماهيرية نابعة من أسفل يقوم على التهميش والمماطلة، فالقمع ثم المزيد من الوعود الزائفة وتشديد القمع، مع سعيه إلى عزلها على محيطها النضالي (جمعيات مناضلة وقوى يسارية جذرية وتيارات مناهضة للاستبداد وفروع نقابية مكافحة…)، لذلك يتعين على المناضلين توطيد التعاون والتضامن النضاليين بين الحركة الشعبية والمعطلين والعمال والطلاب، فبتلاحم الجماهير ووحدتها، فقط، يمكن الوقوف في وجه القمع.
ففي غضون أسبوع من الاحتجاجات المتواصلة والمنظمة وصل صدى مدينة الصمود المنجمي إلى مختلف ربوع المغرب وتعداه إلى الخارج، وهذا يستدعي بوضوح تضامن القوى المناضلة بالمدينة بصرف النظر عن اختلاف وجهات نظرها حول هذه القضية السياسية أو تلك، وتعاضدها لخدمة أهداف الحراك الشعبي، هذا إذا أردنا أن نقف في وجه الاستبداد والقمع كتلة متراصة، لتطوير الحراك الشعبي وضمان تمدده والحفاظ على قوته وصلابته.
ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا، مطلقا، أن حراك جرادة الجديد جاء في أحلك الظروف، سمتها البارزة أجواء استبدادية تسيطر على الشارع، فنشطاء الحراك الشعبي في الريف محكومون بعشرات السنين ومجموعة الزفزافي ومن معه صامدة في وجه كل محاولات التركيع والإخضاع، وسعار القمع يطال أطفال دون سن الخامسة عشر في الريف، هذا في ظل تواطؤ مكشوف للقيادات النقابية واستنكافها عن تنظيم المعارك العمالية ضد الاقتطاع من الأجور وتعميم الهشاشة وعدم تحرها العملي أمام سعي الدولة لنزع سلاح الإضراب، وعجز وتردد المعارضة السياسية بشقيها الليبرالي والإسلامي على مواكبة نبض الشارع، كل ذلك في ظل عجز غير مسبوق لقوى اليسار الراديكالي العاجز عن إصدار بيان موحد حول قضية واحدة، فما بالك قدرته على حفز المعارك الشعبية أو قيادتها وتوجيهها لتحقيق أهدافها ومطالبها، مما يحكم عليه بالعزلة والتهميش ويبقي على جزء منه سجينا لأوهام ورهانات سياسية خاطئة نابعة من عجزه عن التقدم في إنجاز المهام المطروحة عليه سياسيا ونضاليا في حركة النقابات والطلاب والمعطلين عن العمل وغيرها.
لكل هذه الاعتبارات تعتبر الموجة النضالية الجديدة التي تعرفها مدينة جرادة منذ الأسبوع الثاني على التوالي في غاية الأهمية، لا من حيث توقيتها ولا من حيث اتساع حجم المشاركة الشعبية فيها، فقد جاءت في ظروف صعبة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكل المتطلعين لمغرب حر وديمقراطي يراهنون على صمودها لتحقيق مطالبها الخاصة، وفي فك الحصار البوليسي المضروب على الريف، وبالتالي لا يمكن أن ننظر إليها إلا بهذا المعنى: فرصة تاريخية لإعطاء دفعةٌ قويةٌ للجماهير الشعبية لإعادة تحرير الميادين والساحات ولفرض صوت الشعب ضد كل أشكال القمع والحصار.
طبعا لا يخامرنا أدنى شك أن الدولة ستلجأ لكل الوسائل والحيل للتقليل من تأثير الحراك الشعبي في جرادة وستبذل قصارى جهدها لحمل الجماهير على التراجع. للحد من انتشاره في بقية بؤر الفقر والتهميش بالمنطقة الشرقية، لاسيما في بلدات وقرى الجنوب الشرقي التي تعد من أكثر المناطق فقرا وتهميشا في المغرب، ولن يحمي هذا الأمل الجديد سوى حرص قوى النضال وعملها الوحدوي على حفز أكبر تضامن شعبي مع جرادة الصامدة، وحرصها العملي على انتشار الحراك في كل مكان لأجل حق الشعب في العيش الكريم والكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية. والعمل الدؤوب للجمع بين الجموع في الشوارع واحتلال الساحات العامة مع الإضرابات المنتشرة واحتلال أماكن العمل باعتباره الأسلوب الحاسم في فرض الإصلاحات الاجتماعية والديمقراطية المنشودة، والبناء عليها لتطوير دينامية التغيير الثوري.
لقد شقت جرادة من جديد طريق المقاومة الشعبية باعتصاماتها ومسيراتها الاحتجاجية الضخمة المستمرة بشكل يومي تقريبا، وبنجاح الإضراب العام الذي دعت له لجان الحراك يوم الاثنين 25 ديسمبر الجاري، في ظل ظروف نضالية بالغة السوء، وهي صرخة شعبية لكل المكتوين بنار الغلاء والتفقير والبطالة والقمع إلى الاحتجاج الواعي والمنظم باعتباره السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق.
علينا أن نكون واضحين، فنحن نعلم أن الحكام لا يمكن لهم أن يقنعوا الناس بأن كل شيء على ما يرام، وبالتالي سنتوقع تحرك الناس في أي لحظة جراء أوضاعهم الاجتماعية البئيسة، كما نعلم في نفس الوقت أن تفادي هزيمة هذه التحركات الجماهيرية، من جديد، يظل رهينا بوعي الكادحين بقضيتهم واتحادهم وتضامنهم، وبنشاطهم الذاتي المنظم لتحقيقها وللدفاع عنها حتى آخر رمق، وهنا تكمن مهمة كل مناضل جدير بالانتماء لقضية التحرر: مساعدة الجماهير الكادحة والمضطهدة على بلوغ هذه الأهداف وإقناعها أن تحسين شروط عيشها أمر ممكن بل وضروري، لنرسخ في الأذهان، من جديد، أن الميادين ترمز للأمل وللنصر، وليس للصمود المقرون بالهزيمة فحسب (تيان آنمين، التحرير، بويرتو ديلسول، تقسيم، مايدان، ساحة الحرية في الحسيمة…إلخ)، كما تروج لذلك الأقلام المعادية للحرية.
ليستند الجميع على نجاح الفعاليات النضالية المنجزة لحدود الآن (المسيرات الجماهيرية الضخمة، والإضراب العام والاعتصامات وأشكال التواصل الجماهيري في الساحات والميادين…) والبناء عليها لتقوية الاحتجاج الجماهيري وتطويره على صعيد المطالب والأهداف والشعارات وأساليب التعبئة والتنظيم، وعلى المناضلات والمناضلين المتطلعين لتغيير الأوضاع في المغرب التفاعل بكل ما تستوجبه اللحظة الراهنة من تغليب روح التضامن والوحدة والتعاون النضالي على أساس أهداف عملية يقتضيها نمو الحركة الجماهيرية واتساع نطاقها الجغرافي والطبقي لتشمل الطبقة العاملة والشباب الجامعي والمعطل عن العمل، واعتبارها مناسبة للحشد والتعبئة ضد القمع والتقشف والبطالة والغلاء.
في الأخير، على المنتفضين أن يهتموا أيضا بمسألة الرموز المستعملة أقصد رفع صور شهيدي لقمة العيش ورفع أعلام تعبر عن مضمون الانتفاضة الجارية، أعلام مكتوب عليها، على سبيل المثال (عاش الحراك الشعبي في جرادة وفي كل مكان، عاشت انتفاضة الرغيف الأسود،) لترسيخ الوعي بمضمون الحراك وأهدافه ومراميه في الأذهان.
لنجعل من قضية انتفاض الجماهير الشعبية في جرادة وفاء لأبنائها الذين ردمتهم البطالة والقمع تحت الأرض، فرصة تاريخية لفك الحصار المضروب على النضال الشعبي من طرف كل القوى المعادية للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
عاش الحراك الشعبي في جرادة والحسيمة وزاكورة وفي كل مكان…
عاشت وحدة الجماهير المنتفضة والمتضامنة والمنظمة لفرض الإرادة الشعبية ضد معسكر الاستبداد والاستغلال والتبعية والفساد…
بقلم، مهدي رفيق
26 ديسمبر 2017
اقرأ أيضا