المغرب: حصيلة يسار القرن العشرين
اسماعيل المنوزي
11.12.17
مقالات
http://www.al-adab.com/article/المغرب-حصيلة-يسار-القرن-العشرين
لا شكّ في أنّ السيطرة الإمبرياليّة المديدة على المغرب مطلعَ القرن العشرين نيْلٌ من السيادة الوطنيّة، وغرسٌ لعلاقة الاستغلال الرأسماليّة. ومن هذه السيطرة نشأتْ مسألتان: التحرّر الوطنيّ، وانعتاقُ الشغّيلة الاجتماعيّ. أمّا الرافدان التاريخيّان لليسار المغربيّ، فهما الحركة الوطنيّة والحزب الشيوعيّ.
الحزب الشيوعيّ المغربيّ
ظهرتْ تنظيماتُ الحركة العمّاليّة في المغرب (نقابيّةً وحزبيّةً) في العقد الثالث من القرن العشرين. فإدخالُ الاستعمار الرأسماليّةَ إلى المغرب أوجدَ النواةَ الأولى للطبقة العاملة، ومعظمُها من أصولٍ أوروبيّة وتشتغل في جهاز الدولة الإداريّ. ومع توسّع الاستثمارات نشأتْ قطاعاتٌ عمّاليّةٌ، خصوصًا في المناجم والأشغال العموميّة والموانئ.
بسبب القمع الاستعماريّ لم يستطع الشيوعيّون ــــ ومعظمُهم من الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ ــــ العملَ علنًا، فانخرطوا في فرع الحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ في المغرب، وتوجّهوا إلى العمل النقابيّ (فرع الكنفدراليّة العامّة س.ج.ت)، ثمّ انغرسوا في صفوف الطبقة العاملة، بقسمها الأوروبيّ في البداية ثمّ المغربيّ لاحقًا، مدافعين عن حقّ العمّال المغاربة في العمل النقابيّ، ومساهمين في إيجاد النقابة في المغرب.
تأسّس الحزبُ الشيوعيّ المغربيّ رسميًّا، في ندوةٍ وطنيّةٍ أولى، يوم 14 نوفمبر 1943 (سنة حلّ ستالين لأمميّة لينين)، وهي المرحلة التي ستنتقل فيه الحركةُ الوطنيّةُ البرجوازيّة من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال. واصطدم هذا الانغراسُ الشيوعيّ في المغرب بعائقيْن رئيسيْن، إلى جانب القمع الاستعماريّ، وهما: موقفُ الشيوعيّين من مطلب الاستقلال، ومعاداةُ “حزب الاستقلال” لكلّ وجودٍ شيوعيّ في المغرب.
عارض الشيوعيّون الأوربيون الأوائل، ومن بعدهم الحزبُ الشيوعيّ المغربيّ، مطلبَ الاستقلال، رضوخًا لإملاءاتِ البيروقراطيّة في موسكو والحزبِ الشيوعيّ الفرنسيّ، التي أخضعتْ نضالَ المستعمَرات لدواعي التحالف مع “الديمقراطيّات الغربيّة” ضدّ الخطر الفاشيّ. وهذا ما أتاح للحركة الوطنيّة البرجوازيّة الاستئثارَ بقيادة النضال من أجل الاستقلال، وعزْلَ الحزب الشيوعيّ سياسيًّا، رغم انغراسه النقابيّ، عن الجماهير الكادحة المغربيّة التي هبّت للنضال ضدّ الحماية. كما سهّل هذا الموقفُ هدفَ حزب الاستقلال في انتزاع قيادة الحركة النقابيّة من يد الشيوعيّين ــــ وهو هدفٌ تُوِّج بتأسيس “الاتّحاد المغربيّ للشغل” في 20 مارس 1955.
بعد أن “مَغْرَبَ” الحزبُ الشيوعيّ المغربيّ قيادتَه، غداة المؤتمر الثاني المنعقد في أبريل 1949، حاول إصلاحَ خطإ معارضة مطلب الاستقلال، ولكنّه أردفه بمطلب إنشاء “جبهة وطنيّة” مع أحزاب الحركة الوطنيّة البرجوازيّة. غير أنّ حزب الاستقلال رفض أيَّ تحالفٍ مع الحزب الشيوعيّ مخافة اتّهامه بـ”موالاة الشيوعيّة” من طرف الولايات المتحدة الأمريكيّة التي كان يعوِّل على موقفها الداعم في الأمم المتحدة.
وعلى غرار أحزاب الحركة الوطنيّة البرجوازيّة ربط الحزبُ الشيوعيّ المغربيّ نضالَه ضدّ الاستعمار بالالتفاف حول “القصر،” مبرِّرًا ذلك بأنّه تعبير عن لُحمة المغاربة ووحدتِهم في وجه الاستعمار.
حصل المغرب على استقلالٍ شكليّ، وانتقل جهازُ دولة نظام الحماية إلى يد الملَكيّة، بمباركة أحزاب الحركة الوطنيّة البرجوازيّة، ومعها الحزبُ الشيوعيّ المغربيّ. وأسهم ذلك في ترسيخ سلطة الملك المطْلقة. بل سيكون الحزبُ الشيوعيّ من ضحايا هذا النظام، الذي منعه من العمل، سنة 1960، بموجب حكمٍ قضائيّ، بسبب تناقض مبادئ الشيوعيّة مع الإسلام.
واصل الحزبُ الشيوعيّ عمليّة تكييف سياسته مع الملَكيّة عبر إعادة التأسيس، تحت اسم “التحرّر والاشتراكيّة” في المؤتمر الثالث (يوليو 1969)، ثمّ “التقدّم والاشتراكيّة” (غشت 1974). واشتُهر شيوعيّو المغرب بـ”الشيوعيّين الملكيّين،” وهو ما دافعوا عنه في الملتقيات الدوليّة للأحزاب الستالينيّة تحت مبرِّر “خصوصيّة المغرب التاريخيّة.”
كما جارى الحزبُ حزبَ الاستقلال، وبعده الاتحادَ الوطنيَّ للقوات الشعبيّة، في صراعهما من أجل تقاسم السلطة مع الملَكيّة. وانتهج سياسةَ التبعيّة لأحزاب البرجوازيّة هذه، متخبِّطًا في انتهازيّةٍ سياسيّةٍ أبعدتْ عنه العناصرَ المتمرِّدةَ في المجتمع. فانشقّ عنه تيّارٌ شبيبيّ، سيكون أحدَ أطراف الحركة الماركسيّة اللينينيّة المغربيّة (منظّمة “إلى الأمام”) في سبعينيّات القرن العشرين.
أمّا داخل “الاتحاد المغربيّ للشغل،” فقد حافظ الحزبُ على كادر نقابيّ، من دون امتلاك سياسة نقابيّة مغايرة لسياسة البيروقراطيّة الموالية للقصر. وانتهى هذا الوجودُ النقابيّ بدايةَ التسعينيّات بعمليّة اجتثاث عنيفة قامت بها هذه البيروقراطيّة.
أصبح الحزب أحدَ ملحقات الأحزاب الليبراليّة “المعارضة” لسلطة الملَكيّة المطْلقة، والساعية إلى إصلاحاتٍ دستوريّةٍ تمنح هذه الأحزابَ جزءًا من صلاحيّات الملَكيّة. فانخرط في “الكتلة الديمقراطيّة،” إلى جانب “الاتحاد الاشتراكيّ للقوات الشعبيّة” و”حزبِ الاستقلال،” مطلعَ التسعينيّات، من أجل المطالبة بإصلاح الدستور. وانتهت تلك “الكتلة” باستسلامٍ صريحٍ للملَكيّة، وذلك بقبولها سنة 1996 تعديلًا دستوريًّا ركّز صلاحيّاتٍ إضافيّةً في يد الملك. وشارك حزبُ التقدّم والاشتراكيّة سنة 1998 في “حكومة التناوب،” بقيادة الاتحاد الاشتراكيّ، وكان الملك الحسن الثاني قد عيّنها بقصد تأمين نقل السلطة إلى ابنه الملك الحاليّ.
ومنذئذٍ أصبح حزب التقدّم والاشتراكيّة جزءًا من الطاقم المسيِّر لجميع “حكومات الواجهة” في المغرب، ومنفِّذًا للسياسات النيوليبراليّة التي فرضتها المؤسّساتُ الماليّة للإمبرياليّة.
سنة 2011 تأثّر المغرب بالسيرورة الثوريّة المنطلقة من تونس، وشهد ديناميّةَ نضالاتٍ سياسيّة عُرفتْ بـ”حَراك 20 فبراير،” وازاها نضالٌ اجتماعيّ. لكنّ الحزب وقف إلى جانب الملَكيّة، وصادق على تنازلاتها الدستوريّة والاقتصاديّة لتفادي مصير بن عليّ ومبارك، معتبرًا دستورَ يوليو 2011 أرقى ما يمكن أن يحصل عليه المغرب. ومذ ذاك وسياستُه تتمحور حول ما يسمّيه “التنزيل الديمقراطيّ” لمضامين هذا الدستور.
زاد اصطفاف هذا الحزب (البرجوازيّ على الرغم من أصوله الشيوعيّة) إلى جانب نظام الاستبداد والاستغلال في انتفاضة منطقة الريف الأخيرة، وزكّى كلَّ خطواته القمعيّة والسياسيّة ــــ وكانت الأخيرة محض مناورات لتنفيس الاحتقان.
اليسار الوطنيّ الشعبويّ
ظهرت الحركة الوطنيّة البرجوازيّة بعد الهزيمة النهائيّة للمقاومة المسلّحة بدايةَ الثلاثينيّات من القرن العشرين، وطالبتْ في البداية بإصلاحات في إطار نظام الحماية الفرنسيّ. لكنّ تطورات الوضع العالميّ والإقليميّ إبّان الحرب العالميّة الثانية دفعتْها إلى المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944.
يُعدّ حزبُ الاستقلال أقوى أحزاب الحركة الوطنيّة البرجوازيّة، وقاد نضالَ المغاربة من أجل الاستقلال، مستفيدًا من تخلّي الحزب الشيوعيّ المغربيّ عن هذا المطلب .وقد ربط حزبُ الاستقلال نضالَه من أجل الاستقلال بالعرش الملكيّ، وقام بإعادة شرعيّة الملكيّة المتآكلة بفعل تواطؤاتها مع الاستعمار.
حصل المغرب على استقلالٍ شكليٍّ بفعل إجهاض المقاومة المسلّحة الحضريّة وجيش التحرير في القرى، وانتقلت السلطة إلى يد الملَكيّة بمباركة حزب الاستقلال ذاته. لكنْ حين تبيّن له أنّ الملكيّة لا تنوي تحقيقَ وعدها بانتخاب مجلسٍ تأسيسيّ لإنشاء ملَكيّة دستوريّة، بدأ الصراعُ بينهما حول تقاسم السلطة. وقد شهد الحزب انشقاقًا في يناير 1959، فظهر إلى الوجود “حزبُ الاتحاد الوطنيّ للقوّات الشعبيّة،” وهو حزبٌ شعبويٌّ يضمّ ثلاثة أقسام: المقاومة المسلّحة، وجهاز نقابة الاتحاد المغربيّ للشغل، والسياسيّين المنشقّين عن حزب الاستقلال.
سعى “حزبُ الاتحاد الوطنيّ للقوات الشعبيّة” إلى التوافق مع الملَكيّة (الملك محمد الخامس) لتحديث البلد اقتصاديًّا ومنحِه مؤسّساتٍ عصريّةً تحت عنوان “الملَكيّة الدستوريّة.” لكنّ إصرار الملَكيّة على الانفراد بالحكم دفع هذا الحزبَ إلى محاولة تطويعها بمقاطعة استفتاءٍ على دستورٍ وضعه الحسنُ الثاني في ديسمبر 1962. وأدّى قمعُ دولة الحسن الثاني الشرس (من اعتقالات واغتيالات ونفي) إلى تفكيك هيكل الحزب. فظهرتْ وسطه أنويةٌ حاولتْ قلبَ سلطة الملَكيّة بالعمل المسلّح، وتبرّأ منها الحزبُ فيما بعد. وانتهى هذا الحزبُ عمليًّا مع القمع الشرس لانتفاضة 23 مارس 1965 واختطاف أهمّ قياديّيه، المهدي بن بركة، في أكتوبر 1965.
انبعث قسمٌ من الحزب تحت قيادة أحد رفاق بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، بعد القطْع مع جناح الحزب المسلّح، وانخرط في “المسلسل الديمقراطيّ” الذي أطلقه الحسنُ الثاني من أجل الإجماع الوطنيّ حول قضية الصحراء الغربيّة.
هيمن الاتحاد الاشتراكيّ على ساحة “المعارضة الشرعيّة،” مستعملًا ذراعَه النقابيّة (“الكونفدراليّة الديمقراطيّة للشغل”). وظلّ يناوش الملَكيّة من أجل إصلاحات دستوريّة تروم “هامشًا ديمقراطيًا” للمشاركة في الحكم إلى جانبها.
ساهم تبدّلُ الوضع العالميّ (الهزيمة النهائيّة لحركات التحرّر الوطنيّ، وانهيار النماذج التنمويّة للعالم الثالث مع تفكّك الكتلة الشرقيّة) والمحلّيّ (ضغط مناخ “الدمقرطة” الذي اجتاح العالمَ نهاية ثمانينيّات القرن العشرين وتسعينيّاته)، في تخلّي الاتحاد الاشتراكيّ عن “أوهام” بناء اقتصادٍ وطنيّ مستقلّ و”أحلام” تقاسم السلطة مع الملَكيّة.
قاد الاتحادُ الاشتراكيّ “حكومةَ التناوب” التوافقيّ، التي نصبها الحسن من أجل تأمين انتقال الحكم إلى خلَفه بسلاسة، ونفّذ توصيات المؤسّسات الماليّة ــــ من لبرلة الاقتصاد، وخوصصةِ القطاع العامّ، والتخلّي عن تمويل القطاعات الاجتماعيّة، من تعليم وصحّة…
بعد أنْ أصبح الاتحاد الاشتراكيّ حزبًا حكوميًّا، تعرّض لهزّاتٍ تنظيميّة كبيرة جعلته كائنًا انتخابيًّا صغيرًا، وراحت دائرةُ تأثيره السياسيّة والانتخابيّة تتضاءل. ثمّ مُني بهزائم ساحقة في الانتخابات الأخيرة.
اليسار “الماركسيّ ــــ اللينينيّ”: فرصة مفوَّتة
أثارت ثمارُ الاستقلال الشكليّ المُرّة (من قبيل استحواذ البرجوازيّة المحلّيّة والاستعمار الجديد على ثروات البلد، مقابل ترسيخ الاستبداد الملكيّ بالحديد والنار) استياءً شعبيًّا عارمًا، تفجّر في مدينة الدار البيضاء في مارس 1965، وكان شبابُ المدارس فتيلَه. جرى ذلك في سياقٍ عالميّ مطبوعٍ بتصاعد مقاومة شعب فيتنام، وانتصارِ حركات تحرّر عديدة في القارّة الإفريقيّة وكوبا. وترافق، على الصعيد الإقليميّ، مع موجة تجذّرٍ تلت هزيمةَ الأنظمة العربيّة في يونيو 1967. فتدفّق شبابُ المدارس والجامعات نحو أحزاب اليسار ــــ الشيوعيّ الستاليني، أو الوطنيّ الشعبويّ.
من هذا الاختمار تبلورتْ منظّماتٌ ثوريّة ماركسيّة: “إلى الإمام” و”23 مارس” و”لنخدم الشعب.” وإذا كانت هذه الأخيرة ماويّةً بالتمام، فإنّ الأخرييْن تأثّرا بالماويّة من ضمن الأزمة العامّة للحركة الستالينيّة العالميّة، المتجلّية في صراع البيروقراطيّتيْن السوفييتيّة والصينيّة.
سعت الحركةُ الماركسيّة اللينينيّة الناشئة إلى تجاوز قصور الحزب الشيوعيّ المغربي وانزلاقِه المطّرد يمينًا. لكنّها لم تبْلغ فهمًا جوهريًّا لطبيعته، مكتفيةً بنعته بـ”التحريفيّة،” وبرفض موقفه المؤيّد لمشروع روجرز، لا بل ورثتْ عنه معظمَ تركته الإيديولوجيّة. كان هذا اليسار الجذريّ ظاهرةً شبيبيّةً أساسًا، امتدادُه الاجتماعيّ العريض كان عبر تنظيميْن فئويّيْن: النقابة الوطنيّة للتلاميذ (وهي سريّة)، والاتحاد الوطنيّ لطلبة المغرب (الذي شهد صعودَ التيّارات الماركسيّة الجذريّة إلى مستوى القيادة الوطنيّة).
أمّا الحركةُ العمّاليّة النقابيّة فكانت تحت هيمنة بيروقراطيّة قريبة من النظام، وفكّت ارتباطَها بيسار الحركة الوطنيّة (الاتحاد الوطنيّ للقوات الشعبيّة). وكان النضال العمّاليّ يشهد بين فينةٍ وأخرى صعودًا، لكنْ دومًا في حدود مطالب مهنيّة لتحسين الوضع. وظلّت طلائعُه المسيّسة تحت هيمنة يسار الحركة الوطنيّة، في سياق اشتداد هجوم النظام لاجتثاث اليسار.
سنواتُ صعود اليسار الشبيبيّ كانت سنوات أزمة عميقة في الحركة النقابيّة. كان الاتحاد المغربيّ للشغل قد سقط في أحضان النظام بفعلٍ من قيادته الفرديّة (المحجوب بن الصديق) ونشوء بيروقراطيّة ذات امتيازات. استمرّ هذا الوضع وشهد تطوّرًا نوعيًّا منذ منتصف سنوات 1970 بإطلاق النظام يدَ البيروقراطيّة النقابيّة في قسمٍ من أموال الضمان الاجتماعيّ، لقاء سلّم اجتماعيّ يقتضيه “الإجماعُ الوطنيّ” على الملَكيّة، المستعملة مسألة “نزع استعمار الصحراء الغربيّة” من أجل توطيد حكمها.
لم تكن تلك “الماركسيّة اللينينيّة” تناسب الحركيّة الفعليّة لصراع الطبقات في البلد، بل كانت مطابقةً لمستوى نقاش اليسار البدائيّ ولعفويّة الشبيبة المدرسيّة.
استعاد ما تبقى من اليسار الشعبويّ (المتّخذ منذ 1975 اسم “الاتحاد الاشتراكيّ”) هيمنةً على قسمٍ من الطبقة العاملة، وذلك ببنائه نقابةَ “الكونفدراليّة الديمقراطيّة للشغل” بعد أن استعمل تبرّمَ القاعدة العمّاليّة من سياسة القيادة البيروقراطيّة الناسفة للنضال الخبزيّ نفسه، بل المتاجِرة به أيضًا. وهذا ما فتح البابَ لنضاليّة الشغّيلة كي تتدفّق، عبر طاحونة الاتحاد الاشتراكيّ السياسيّة، لمناوشة النظام من أجل الظّفر بإشراكٍ في السلطة.
أساء اليسارُ الماركسيّ اللينينيّ، لاسيّما منظّمة “إلى الإمام”، فهمَ التحوّلات العمّاليّة الجارية، فظلّ بعيدًا عنها باسم “الحفاظ على وحدة الطبقة العاملة في الاتحاد المغربيّ للشغل.” كما أنّه بقي حبيسَ فهمٍ مختزل لـ”البروليتاريا،” إذ حصرها في عمّال الصناعة المنتجين.
اشتدّت العزلة عن مجرى نضال الشغّيلة، الابتدائيّ والمطوّق بيروقراطيًّا، بعزلة قيادة الحركة ومعظم قواها في السجون. فقد زجّت جائحةُ القمع بمئات الشباب الماركسيّ، وبقادتهم، في السجون لمدةٍ طويلةٍ [20 و30 سنة وسجن مؤبّد]. ما فاقم أزمة المنظّمات: تفكّك بتقييمات يمينيّة وأخرى موغلة في اليسارويّة الموروثة عن اندفاعة التأسيس من جهة، ومن أخرى أضرار الثقافة التنظيميّة الستالينيّة: تدبير الخلافات بمركزيّة بيروقراطيّة موروثة عن الحزب الشيوعيّ.
العزلة عن واقع النضال العماليّ أدّت إلى انزواء في الوسط الطلابيّ، فتكرّس استقلالُ المحيط الطلّابيّ “الماركسيّ اللينينيّ” عبر ما عُرف بـ”الطلبة القاعديّين.” ومعه نشأ التمادي في نزعة طلّابيّة شبه فوضويّة، تجلّت في رفع شعارات إستراتيجيّة لا صلة لها بواقع نضال الشغّيلة وعامّة الكادحين.
من هدف بناء حزبٍ للطبقة العاملة، باتت التجربة صمودًا في السجون، وتدبيرًا سيّئًا للخلافات، وانزواءً طلّابيًّا قاتلًا. وقد خلّف هذا المسارُ مئاتِ المناضلين ذوي التجربة السلبيّة، وكان لهم تأثير مُحبط على أفواج من المناضلين الشباب.
انهيارُ المعسكر الستالينيّ، في نهاية الثمانينيّات ومطلع التسعينيّات، ألقى ما تبقّى من قوًى مناضلة في متاهة فكريّة سياسيّة. وقد برزت هذه المتاهة إبّان نقاشات ما سُمي “التجميع،” وذلك في منتصف العقد التسعينيّ، إذ برزتْ 3 مجموعات:
ــــ الديمقراطيّون المستقلّون، وهم من أصولٍ طلّابيّة، وقد تطوّروا لاحقًا نحو مواقع إصلاحيّة ليبراليّة. معظمهم حاليًّا في الحزب الاشتراكيّ الموحّد، وهو حزب الملَكيّة البرلمانيّة والاقتصاد الرأسماليّ النقيّ.
ــــ الحركة من أجل الديمقراطيّة، وقد تحوّلتْ إلى اتخاذ مواقف ديمقراطيّة ليبراليّة، ثم تلاشت.
ــــ حزب النهج الديمقراطيّ، الذي واصل الانتساب إلى مشروع الطبقة العاملة التحرريّ، ضمن منظورٍ لا يخلو من رواسب حقبة هيمنة الستالينيّة.
أيّة آفاق؟
بعد سقوط أقسام عريضة من اليسار التاريخيّ إلى مواقع يسار مَلَكيّ إصلاحيّ، لم يبقَ منه إلّا قسم “إلى الأمام،” الذي تطوّر إلى “حزب النهج الديمقراطيّ،” وانضافت إليه أنويةٌ ماركسيّةٌ ثوريّة (أمميّة رابعة). ويواجه هذا اليسارُ وضعًا عمّاليًّا مفكّكًا، إذ تجتاز الحركة النقابيّة طورَ أزمةٍ غير مسبوقة. فقد تمكّنت القيادات من وضع المنظّمات النقابيّة على سكّة التعاون مع البرجوازيّة ودولتها لتدبير المعضلة الاجتماعيّة، في ظلّ التمادي في تطبيق السياسات النيولبيراليّة المدمِّرة لطفيف المكاسب الاجتماعيّة، وفي إطار نظام استبدادٍ سياسيّ مقنّع. وتنيخ الهزائمُ المتتالية بثقلها مع تراجع تسييس الشغّيلة وانطوائهم على مطالب مهنيّة فئويّة. هذا كلّه، طبعًا، ضمن مناخ الموجة الإسلاميّة المتصاعدة منذ أكثر من ثلاثة عقود.
إنّ تفحّص تجارب البناء السياسيّ المنتسب إلى قضيّة تحرّر الشغّيلة، في ضوء دروس التجربة التاريخيّة المنطلقة منذ أكتوبر 1917، والعمل من أجل سياسةٍ ثوريّةٍ فعلًا، انطلاقًا من الواقع الملموس، ومن مستوى وعي الشغّيلة وتنظيمهم: ذلك هو سبيل بناء يسار ذي مقدرة على استئناف المسير لبلوغ أهداف تحرّر الشغيلة، والمضطهَدين عامّةً.
المغرب
مقدمة ملف مجلة الآداب حول الشيوعية العربية، والملف كله على الرابط التالي:
http://www.al-adab.com/desc-file/43238-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D9%88%D8%B9%D9%8A%D9%91%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D9%91%D8%A9%20%28%D9%85%D9%84%D9%81%D9%91%29
اقرأ أيضا