الانتفاضة الريفية وحكم البوليس
سبق أن صرح نابليون أن بالإمكان عمل أي شيء بالحراب عدا الجلوس عليها، إشارة إلى استحالة اقتصار سلطة الطبقة المسيطرة على الإكراه العنيف، وإلى الحاجة إلى الاحتواء الايديولوجي لضحايا نظام الاستغلال. ولكن بقدر ما يضعف هذا الاحتواء (اقتناع الضحايا ان وضعهم عادل) تأتي الحراب لتحتل المقدمة دافعة وراءها كل أشكال الحكم الأخرى.
هذا ما حدث ويحدث لمدة تناهز عشرة أشهر في منطقة الريف التي شهدت انتفاضة استعصت على أي إخماد، وظهر معها أن كل أدوات الحكم، من مؤسسات واجهة حكومية وبرلمانية وملحقاتها الحزبية، عاجزة عن رد كادحي الريف إلى حظيرة الطاعة وتأمين “القبول الشعبي” لنظام الحكم.
تنطوي الانتفاضة الريفية على نفس سياسي معاد لحكم الفرد، حتى ولو لم يتبلور ذلك في مطالب سياسية واضحة. ويتجلى في رفض رفع علم الملكية وانتفاء المظاهرات المؤيدة لها (أو ما جرت عادة جديدة على تسميته ب”العياشة”) والحضور الوازن لإرث الجمهورية الريفية خاصة في رفع علمها وصور زعيمها الخطابي ومقولاته.
لم يعد الأمر يتعلق بمحض نضال فئوي، بحدود مطلبية اقتصادية واجتماعية يسهل احتواؤها بالخداع وبالمناورات، رغم أن النظام قد استعمل منها الكثير. لذلك تراه فاسحا في المجال لحضور دائم وكثيف لقوات القمع البوليسية، سواء بالريف أو في كل مناطق البلد حيث تسجل تململات نضالية ضد أوضاع اجتماعية أو حركات تضامن مع نضال كادحي الريف.
لم يقبل كادحو الريف وكادحاته كل أشكال الوساطة الحزبية والمدنية، ورفضوا التفاوض إلا مع رأس سلطة البلاد لإجبارها على الاستجابة للمطالب، وبهذا أصاب كل فروع نظام الحكم الفردي السياسية فتور كبير، فاسحة المجال لفرعها القمعي وحده- وقد ظهر البوليس الذي يحتل مركز الصدارة بمفرده، ممثلا لعمل الدولة، وقد جعله دافع الحصول على نتائج في ميدانه الخاص نشيطا وقاسيا.
تبخرت كل أساطير الانتقال الديمقراطي، وفلسفة “الانصاف والمصالحة”، والاستثناء المغربي وسط جحيم “الاستبداد العربي”، فمنعت حرية تنقل “المواطنين” من طرف الدرك الملكي، ويجري تشتيت أي تجمع بمدينة الحسيمة مهما بلغ عدد أفراده، ويعتقل مواطنون في شوارعها بمبرر التحقق من الهوية بينما يجري ترهيبهم إن لم يكن تعذيبهم بمخافر الشرطة.
ظهر أن هراوة الشرطة قد حلت محل الكلام المعسول حول الانتقال التدريجي نحو الديمقراطية، وتبين أن “ظهير كل ما من شأنه” لا زال ساري المفعول، دافعا إلى الوراء كل عبارات حرية التعبير (باعتقال صحفيين) والتظاهر (بتفرقة المحتجين باستعمال غاز إسالة الدموع) وحرية التنقل (مراقبة الطرق المؤدية إلى الحسيمة من طرف رجال الدرك).
أظهرت انتفاضة الريف ودور البوليس فيها كذلك نفاق ما روجت له هياة الانصاف والمصالحة من مزج العقلية الأمنية بخطاب حقوق الإنسان، وشهادة زورها حول إرادة الدولة المشروعة “تطبيق المعايير الدولية بخصوص حقوق الإنسان، ومناهضة التعذيب والاختطاف”. ولم تكن شهادات الهيأة إلا غسلا لجرائم قوات القمع القديمة استعداد لارتكاب جرائم جديدة، و”كذلك كان”، فها هي ترتكبها في الريف، دون أن تساهم التداريب حول استدماج معايير حقوق الإنسان في مراكز تكوين الشرطة التي أشرف عليها عضوين من هيأة الإنصاف والمصالحة بعد حلها، في “تلطيف” تدخلات رجال القمع.
لقد أثبتت الانتفاضة الريفية حقيقة طالما أكدها تاريخ النضال الطبقي في العالم؛ “الدولة تجمع من الرجال المسلحين” على حد تعبير انجلز، وهي موجهة لقمع محاولات الطبقات المظلومة الانعتاق من الظلم الطبقي الذي يلحقهم من الطبقات الظالمة.
وليس غريبا أن يأتي خطاب رئيس الدولة مؤنبا يصب جام الغضب على الأحزاب وكل أشكال حكمه السياسية والأيديولوجية، بينما يتوجه بالشكر والتنويه لرجال “الأمن” الذين يقومون بمهمتهم بأمانة؛ أي مهمة الحفاظ على ركائز نظام الحكم الفردي والاستغلال الاقتصادي وصنوف اضطهاد شتى.
إن الحفاظ على معنويات رجال القمع في مواجهة نضال سلمي مصر رغم كل استفزاز على تفادي كل الانجرار إلى العنف، وكذلك حملات التشهير بالتدخلات القمعية التي تسهلها وسائل التواصل الالكتروني، هما الدافعان إلى هذا التنويه والشكر.
و لا تصون الدولة معنويات رجالها المسلحين بالشكر والتنويه وحسب، بل أيضا بواسطة ترسانة قانونية تحميهم من رد الفعل الشعبي تجاه جرائمهم، حيث ينص الفصل 263 من القانون الجنائي على معاقبة من “أهان… رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها، بأقوال أو إشارات أو تهديدات أو إرسال أشياء أو وضعها، أو بكتابة أو رسوم غير علنية وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم”.
وتنحو في نفس الاتجاه محاولات الحكومة وأجهزة إعلام الدولة وصحافة السوق الليبرالية إظهار رجال القمع ضحايا المواجهات في محاولة لمساواة الجلاد بالضحية[ ثمة صحف يومية بقناع “استقلال” بات هذا تخصصها].
إن قوة القمع ضرورية لبقاء الاستبداد السياسي، ولكن كذلك لاستمرار الاستغلال الاقتصادي والمجتمع الطبقي، قد تظهر أحزاب وتختفي وتتغير أشكال الدولة من استبداد سافر إلى أشكال مقنعة بواجهات ديمقراطية، لكن جهاز القمع لا يتغير.
لكن في الاتجاه الآخر، أظهر نضال كادحي الريف المديد حقيقة أخرى لا تقل سطوعا عن الأولى، فالنضال الجماهيري والموحد وطويل النفس هو القادر، دون سواه، على ردع القوة القمعية وجعلها تتوارى. إن المسيرات الجماهيرية الكبرى تجعل جهاز القمع غير قادر على التدخل، عكس النضالات الصغيرة والمجزأة والمحدودة جغرافيا.
لماذا يستطيع فيلق مكون من دزينة من رجال القمع أن يشتت مظاهرة تتكون من مئات؟ لا يتعلق الأمر بخوف الجماهير من القمع. لكن يتعلق بقوة تنظيم جهاز الشرطة وتسلحه من رأسه إلى أخمص قدميه.
دون تنظيم الجماهير سيستطيع دائما جهاز القمع المتواري أمام ضخامة المسيرات الجماهيرية أن يعود للانتقام، وقد حدث هذا بإمزورن يوم 13 غشت 2017، حيث فرضت عليه تظاهرة ضخمة التواري لكنه عاد ليلا ليقتحم البيوت ويختطف المناضلين من عقر دارهم.
إن الدولة جهاز منظم، ولا يمكن لنضال غير منظم أن يهزمها مهما تكاثر عدد المتظاهرين، إن تزايد كم الجماهير يجب أن ينعكس في تغيرات كمية وسطها، أي ارتقاء وعيها السياسي ولكن أيضا في تنظيمها، فلا وجود للجماهير خارج تنظيماتها، ولا وجود لديها بالفعل إلا بوعي مصالحها المستقلة عن الطبقات المالكة والحاكمة.
ستشكل الانتفاضة الريفية درسا آخر من دروس نضال جماهير المغرب، وخبرة ستضاف إلى الخبرات السابقة، وسيكون أهم درس هو أن غياب قوة سياسية ثورية جماهيرية هو العائق الوحيد أمام تحقق شرطي الانتصار؛ “التنظيم والوعي السياسي”.
يجب ألا تضيع الخميرة النضالية التي أفرزها كفاح كادحي الريف، على اليسار الثوري أن يلتحم بطلائع النضال التي تمرست تحت هراوات القمع وتفادت مطبات مناوراته الخادعة، من أجل البدء في القيام بمهمة بناء القوة السياسية الثورية المنشودة.
الثورة قادمة لا محالة فلنعد لها العدة
وائل المراكشي
اقرأ أيضا