الحركة النقابية المغربية والنضال الشعبي عامة، وبالريف خاصة
بقلم: مصطفى البحري
برزت الحركة النقابية بالمغرب قبل 80 سنة لتحسين أجور العمال و ظروف عملهم و مجمل حالتهم الاجتماعية. وقد واجهت على مر تاريخها القضايا العامة المطروحة على الطبقات الشعبية. في البداية، منذ منتصف الثلاثينات، كانت قضية التحرر الوطني من الاستعمار على رأس جدول الأعمال، بارتباط طبعا بالتحرر الاجتماعي، أي الانعتاق من الاستغلال الرأسمالي . وثانيا، منذ الاستقلال الشكلي، قضية الخلاص من الاستعمار الجديد و من الاستبداد الملكي، وتحقيق المجتمع الخلو من الاستغلال. في كلا الحالتين، لم ترق الطبقة العاملة إلى مستوى النهوض بالمهام التي طرحها عليها تطور المجتمع. أصل هذا القصور عدم اكتمال الحركة العمالية بفعل غياب أداة سياسية مطابقة لمصالح طبقة الأجراء الآنية والتاريخية.
إزاء مهمة التحرر الوطني، سارت معظم قوى الشغيلة خلف حزب البرجوازية (حزب الاستقلال) بفعل تخلف الحزب الشيوعي المغربي الناتج عن مهده الستاليني الخائن قضية تحرر شعوب المستعمرات. وهذا ما سهل انتزاع قيادة الحركة النقابية ذاتها من مؤسسيها الشيوعيين، فباتت مذاك بين أيدي قوى غريبة عن الطبقة العاملة.
بعد الاستقلال الشكلي سار تطور الحركة النقابية في اتجاهين:
– نشوء بيروقراطية حظيت منذ البداية برعاية الملكية ، وتحولها إلى أداة بيد النظام لضبط الشغيلة وحرف نضالهم عن استهداف الاستبداد السياسي (حكم الفرد). وتجسد هذا في الاتحاد المغربي للشغل بقيادة محجوب بن الصديق.
– استعادة يسار حزب الاستقلال (الحركة الاتحادية) الهيمنة السياسية على قسم من الطبقة العاملة. وتوجيه هذا القسم وفق سياسة غير عمالية، سياسة برجوازية معارضة للنظام في حدود السعي إلى اقتسام السلطة مع الملكية و ليس تحقيق السيادة الشعبية. وتجسد هذا في تـأسيس عبد الرحيم بوعبيد للكنفدرالية الديمقراطية للشغل.
الاتجاه الأول مستمر، بعد تجديد قواه منذ المؤتمر العاشر (2010) الذي حرره من عبء ارث محجوب بن الصديق، واستكمال هذا التجديد في المؤتمر 11، ويواصل ارتباطه بالنظام بالخضوع لقواعد علاقة بناها بن الصديق طيلة نصف قرن، قوامها النأي بقوى الطبقة العاملة عن أي نضال سياسي ضد الاستبداد، وعن أي نضال جذري ضد أرباب العمل، مقابل حفاظ البيروقراطية على امتيازاتها وثروتها وتنميتهما.
الاتجاه الثاني استكمل دورة بعد عشرين سنة من بروزه، باستعمال النظام لحزب الاتحاد الاشتراكي في حكومة الواجهة. كان ذلك نهاية دور الكونفدرالية كأداة اتحادية لمناوشة النظام وفق خط «النضال الديمقراطي». مذاك أصبحت بيروقراطية ك.د.ش متكيفة صراحة مع الدولة في تدبير المسألة الاجتماعية، أي مسايرة للهجوم النيوليبرالي الكاسح، حريصة على استقرار نظام التبعية والاستغلال الرأسمالي.
الحركة النقابية و صعود النضال الشعبي مطلع سنوات 1990
منذ مطلع سنوات 1990، مع بروز الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين، ومنذ متم تلك السنوات مع تبلور حركة نضال شعبي بالمناطق المهملة: مناطق ازيلال وخنيفرة وشريط الجنوب الشرقي (من زاكورة إلى تنغير إلى نواحي الرشيدية، ثم طاطا)، وما كان من أوج في انتفاضة ايفني ايت باعمران (2005-2008)، باتت الحركة النقابية تعايش تشكل حركة نضال شعبي ذات مطالب اجتماعية تلتقي فيها مع الحركة النقابية: البطالة المستشرية والخدمات العمومية، الدفاع عن القدرة الشرائية.
السياسات النيوليبرالية المدمرة اجتماعيا [خوصصة الخدمات العامة ، سياسة محاربة الفقر،.. ] تضر بالشغيلة وبباقي الفئات الشعبية على حد سواء. وقد كان رد الفعل على الصعيد النقابي متحكما به في شكل إضرابات يوم واحد ومسيرات متباعدة، دون اندراج ضمن خطة موحدة . فيما كان الرد الشعبي نضالات قوية بالشارع، غير متحكم بها لكنها ضئيلة الخبرة التنظيمية ومحدودة الأفق السياسي.
مع انطلاق السيرورات الثورية بالمنطقة متم العام 2011، وجدت الحركة النقابية نفسها إزاء حركة نضال سياسي، تجندت فيها عشرات آلاف الكادحين، في حركة سياسية لم يشهد البلد نظيرها، حركة 20 فبراير من اجل إنهاء الاستبداد، ومن اجل الكرامة والعدالة الاجتماعية.
وخارج كلام البيانات، الرامي إلى التنصل من المسؤولية، والخطوات «التضامنية» الرمزية المتوخية دفع الحرج، لم تسع القيادات النقابية إلى أي تعاون مع حركة النضال الشعبي، ولا مع حركة 20 فبراير. كان الموقف العملي تجاهلا مغلفا بكلام «نضالي»، أي عمليا مساعدة النظام على تدبير الوضع بما يضمن مصالح الطبقة السائدة واستقرار نظامها السياسي.
طيلة عقود، واجهت حركة المعطلين القمع، ودعت إلى نضال مشترك ضد سياسة «التشغيل» المفاقمة للبطالة والمعممة للهشاشة، وظلت القيادات النقابية متغاضية. وقلما تجاوز الدعم النقابي للمعطلين تمكينهم من المقرات. ورغم موقف القيادات المتوجس من المعطلين، كان لهؤلاء وقع عظيم على قاعدة النقابات، حيث تعلمت منهم أساليب النضال بالشارع، من مسيرات واعتصامات.
كذلك الكفاحات الشعبية بالمناطق المهملة، لم تحظ من القيادات النقابية بأي مساندة ميدانية من اجل مطالب مشتركة، ولا حتى خطوات تضامنية فعلية كالقوافل وحملات الدعم المادي. وإن كان لمناضلي بعض الفروع النقابية أدوار فعالة ضمن حركة النضال الشعبي، فبصفتهم الفردية معظم الحالات.
و إبان انطلاق موجة نضالات 20 فبراير 2011، كانت أولى خطوات النظام، خشية مصير أقرانه بتونس ومصر، الاستعانة بالبيروقراطيات النقابية بقصد استبعاد القوى العمالية المنظمة عن الدينامية النضالية الجارية. هكذا كان لقاء محمد معتصم، مستشار الملك، مع ممثلي القيادات النقابية أسبوعا بعد مظاهرات يوم 20 فبراير 2011. وترتبت تسوية ملفات نقابية عالقة منذ أمد طويل، وزيادة أجور موظفي الدولة (أقوى فيالق الحركة النقابية) ورفع الحد الأدنى للأجر بالقطاع الخاص ومكاسب أخرى. وكان الوجه الآخر لهذه الصفقة اقتصار دعم النقابات لحركة 20 فبراير على كلام البيانات. وبلغ الدعم البيروقراطي مداه الوقح بمساندة جهاز الاتحاد المغربي للشغل لدستور العبيد في 2011. ولا شك أن خدمة البيروقراطية النقابية هذه للنظام هي أعظم ما حظي به، حيث بقيت آلة الإنتاج والمواصلات والإدارة بعيدة عن الهزة السياسية التي أخافت النظام بشوارع المدن والبلدات.
وبعد العام 2011 بدأت بالظهور بمدن كبيرة، مثل مراكش وطنجة، تعبئات شعبية قوية غير مسبوقة ضد غلاء الكهرباء، لكنها بقيت خارج اهتمام الحركة النقابية، مع أنها دفاع عن القدرة الشرائية الشعبية، ومنها العمالية.
الخسارة التي مني بها نضال مقهوري المغرب من جراء عدم تلاقي الحركة النقابية وحركة النضال الشعبي جسيمة: فمن جهة حُرمت حركة النضال الشعبي من المقدرة التنظيمية للمنظمات العمالية، وطابعها المهيكل وطنيا. وكان هذا التهيكل على صعيد وطني إحدى مكامن ضعف النضال الشعبي الذي ظل بحكم طابعه الابتدائي محليا، ينهض هنا ويخبو، لينهض بمنطقة أخرى دون سعي إلى بناء أواصر تعاون نضالي على صعيد جغرافي أوسع. ومن جهة ثانية حُرم النضال الشعبي من المقدرة الكفاحية النوعية التي تنطوي عليها حركة الشغيلة، أي مقدرة الضغط الشديد والفعال عبر شل الإنتاج والادارة والمواصلات.
ومن جانبها تضررت الحركة النقابية من عدم تضافر نضالها مع حركة النضال الشعبي بتضييع إمكانات امتداد التنظيم النقابي جغرافيا وقطاعيا، واستقطابه لعشرات آلاف المعطلين الذي مروا من تجربة الجمعية الوطنية للمعطلين و انضموا إلى العاملين. وبعضهم يمثل حاليا إحدى معاقل النضال النقابي بقطاعات مثل الجماعات المحلية. كان بالوسع أعظم من هذا لو انفتحت النقابات على نحو حقيقي وكامل على حركة المعطلين، وعلى موجات الاحتجاج الاجتماعي المتتالية.
حالة الحركة النقابية عشية انطلاق حراك الريف
بعد تراجع موجة 20 فبراير2011، انضوت القيادات النقابية تحت راية النظام، مهللة لدستوره الجديد، منادية بما سمته «تنزيله»، ضمن جوقة أنصار الاستبداد المقنع. ومع تصاعد الثورة المضادة بالمنطقة، باتت البيروقراطيات النقابية تبدي أشد الحرص على كبح نضالية الشغيلة، نافرة من اندفاعات النضال الشعبي المنبثقة هنا وهناك ( مراكش ضد غلاء سعر الكهرباء، بلدات مهملة عدة، ثم لاحقا طنجة ضد أمانديس،…). اعتبرت تلك البيروقراطية دورها في تنبيه المستبدين و إبداء الاستعداد لمعاونتهم في تدبير الوضع المحتقن اجتماعيا. هذا ما لخصه قائد ك.د.ش بعد مسيرة 2012 النقابية بالبيضاء بقول:» “المجتمع المغربي بدأ يفقد توازنه، وأصبح يعيش اختلالات تهدد الاستقرار”. وأضاف:”المسيرة إثارة انتباه إلى خطورة الوضع وما يتطلب من معالجة حقيقية، ضمانا للتماسك المجتمعي وحفاظا على الاستقرار من اجل التنمية والبناء الديمقراطي..»
ومع تصعيد الهجوم البرجوازي على الطبقة العاملة، وعامة المقهورين، بنيل إضافي من صندوق دعم بعض الأسعار، وتجميد الأجور، ومواصلة تكريس مستويات بطالة فائقة، وتعميم الهشاشة، وفرط الاستغلال، والتنكيل بالعمل النقابي بالقطاع الخاص، واقتطاع أجور المضربين من شغيلة الدولة، والتقشف في الإنفاق الاجتماعي، سارت البيروقراطية النقابية وفق تكتيك تفادي تطور الغضب العمالي إلى فعل جماعي موحد: ترك نضالات القطاعات تختنق، وامتناع عن أي تضامن فعلي، وإطلاق تحركات مضبوطة متحكم بها بشدة: إضرابات عامة بلا نفس و مفرغة من محتواها، لدرجة مطالبة الشغلية بتعويض يوم الإضراب لأرباب العمل، ومسيرات بلا أفق. بلغ التلاعب بأشكال التعبئة والنضال العماليين درك إقدام البيروقراطيات النقابية على سابقة عالمية تمثلت في «مقاطعة» فاتح مايو العام 2015 معتبرة الأمر احتجاجا (الاحتجاج بالامتناع عن الاحتجاج).
أدت سياسة البيروقراطية هذه إلى مزيد من إضعاف الحركة النقابية، فباتت مفككة الى قطاعات، وفروع قطاعات، وفئات، وأقسام فئات، تهدر قواها في مناوشات جزئية. وتكبد الشغيلة هزائم نكراء، لعل أخطرها اقتلاع النقابية وتشريد زهاء 700 عامل وعاملة بمصبرات ضحى باكادير في مارس 2015. كما ظلت قطاعات مناضلة تقاتل في عزلة مهددة بنفس المصير، من أهمها معركة شغلية اتوروت المستأنفة بعد نزال العام 2012.
مهدت حالة الضعف لتقدم الهجوم البرجوازي: نيل من مكاسب تقاعد الموظفين، قانون الإضراب، تحطيم نظام الوظيفة العمومية، اقتطاع أجور المضربين، إلغاء تدريجي لدعم مواد استهلاك أساسية، تعميم الهشاشة ، مواصلة البرنامج النيوليبرالي: شراكة القطاع العام و الخاص، الديون، السياسة الصحية الطبقية، مواصلة تخريب التعليم العمومي، مع ما يعنيه هذا كله من إضرار بمعنويات النقابيين واستعدادهم النضالي.
الحركة النقابية وكفاح كادحي الريف
1- موقف الخط البيروقراطي السائد
أكتوبر شهر قتل محسن فكري، وما تلا من تضامن على صعيد وطني، بوقفات حاشدة بجل المدن والبلدات،وشهر انطلاق حراك الريف، كان أيضا شهر انتخابات مجلس النواب وما تلا من ألاعيب النظام لتشكيل حكومة واجهة جديدة. انساقت قيادات النقابات مع لعبة النظام منتظرة «تشكيل الحكومة». وفيما كفاح كادحي الريف ينمو ويشتد عوده، ظلت قيادات النقابات تنتظر ميلاد «الحكومة» لتلتمس منها «الحوار الاجتماعي»، وشهدت فترة «الحيوية» النقابية المعهودة (من سبتمبر الى مايو) فراغا غير مسبوق.وانعكس ذلك كله في مسيرات فاتح مايو وفي الخطابات النقابية الرسمية. كانت كلمة موخاريق ذلك اليوم خلوا من أية إشارة إلى كفاح كادحي الريف، حتى من قبيل المألوف من كلام «نضالي» غير ملتزم بأي عمل. كذلك شأن كلمة المكتب التنفيذي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل. وبفعل ضعف الحس النقدي وانعدام خط نضال طبقي مستقل عن القيادات المندمجة في الدولة، سارت القواعد النقابية على النهج عينه، فغابت عن مسيرات فاتح مايو شعارات ولافتات التضامن مع الريف. شيئا فشيئا أصبح حراك الريف يفرض نفسه بقوة على الساحة الوطنية، فلم يترك لأدعياء النضال، من بيروقراطيين ويسار زائف، فرصة مواصلة الصمت. فكان الاضطرار إلى إبداء عواطف التضامن غير المتبوعة بأي خطوة عملية. وهذه حيلة عادة ما يلجأ إليها أدعياء النضال لدفع الإحراج وللتنصل من مسؤولية الإقدام على خطوات عملية للدعم و المشاركة الفعلية في إنماء حركة النضال. والكارثة أن القاعدة النقابية مشلولة، حتى الأقرب إلى الحراك ميدانيا. مثال ذلك الأبرز، و الباعث على أسى كبير، الاتحاد المحلي للاتحاد المغربي للشغل بالحسيمة. ففي بيانه يوم 15 مايو تهرب من أي دعوة إلى إي خطوة نضالية مهما كانت، داعيا إلى «تضامن وطني واسع». فيما أدنى مطلوب من منظمة نقابية حقيقية المشاركة في التعبئة الشعبية لتطوير الحراك، تنظيما ومطالب وأشكال نضال، مع تخصيبه بتقاليد النضال العمالي، من لجان تنظم مختلف مناحي نضال الكادحين وحياتهم. وبعد شهر لم يجد المجلس النقابي للاتحاد المغربي للشغل بالحسيمة (17 يونيو 2017) من سبيل للنهوض بواجبه النضالي غير « تفويض الاتحاد المحلي اتخاذ الخطوات النضالية المناسبة تنديدا بالتعامل القمعي مع الاحتجاجات وللمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، واستنكارا للتعامل اللامسؤول للسلطات الٌإقليمية مع المطالب العادلة والمشروعة للمكاتب والقطاعات النقابية». انه تفويض للاتحاد المحلي أن يواصل موقفه: موقف الامتناع عن النضال المباشر في خضم الحراك كنقابة عمالية (مع أن نقابيين أفراد انخرطوا بكل قواهم تحت أنظار جهاز نقابي متكلس).
وبعد صمت الشهور الطوال التي دامها الحراك، وبعد أن بات فضيحة، بحكم حملة الاعتقالات والتنكيل بالمتظاهرين، وحملة التضامن الفعالة بدول المهجر، ومبادرات التضامن باحتجاجات بعديد من المدن، ومسيرة الرباط الحاشدة (زهاء 150 ألف متظاهر) ، جاء بيان الأمانة الوطنية للاتحاد (24 يونيو2017) خاليا من أي نزوع إلى انخراط فعلي في الدينامية النضالية، ومفعما بمنطق وجوب نزع فتيل حراك الريف (التهدئة)، حتى بخرافة ما سماه» تسريع وثيرة الإنجاز في المشاريع المبرمجة، وتحديد سقف زمني لإنجازها، وإعطائها بعدا تشاركيا». ولأن سلوك الاتحاد المحلي كان مطابقا لسياسة القيادة الممتنعة عن النضال الفعلي، بتحرك القوى النقابية وطنيا، إلى جانب كادحي الريف، فقلد لقي استحسان القيادة الموخاريقية. ولرفع أي إحراج دعت القيادة الوطنية ما سمته « القوى المؤمنة بقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية» إلى « الالتفاف حول مبادرات موحدة لإعطاء إشارة قوية بان طريق الإصلاح مازال مفتوحا وممكنا من أجل:مغرب الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية». يا لها صيغة، ستدخل تاريخ الخذلان نموذجا عن الكلام الفارغ المتهرب من المسؤولية النضالية. وهذا ما برعت فيه بيرقراطية إ.م.ش طيلة عقود.
على المنوال ذاته سارت قيادة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، مكتفية بالتنديد وتضامن الكلام غير الملزم بأي فعل.ولم تجد هي أيضا غير مناداة الحكومة بـ» تفعيل توصية جبر الضرر لهيأة الإنصاف والمصالحة» ( بيان 17 مايو 2017) مضفية مصداقية على مناورة للنظام مفضوحة. و ما معنى دعوة مناضلي الكدش لـ»الانخراط في الاحتجاجات الاجتماعية» خارج خطة نضالية عمالية موازية للحراك الريفي: إضرابات قطاعية، وإضرابات على صعيد المدن، وقوافل تضامن،وإضراب عام على صعيد البلد؟ ما يؤكد هذا آن مسيرة الشموع يوم 20 يونيو كانت فعلا بلا أفق، فعلا معزولا ليس أكثر من طقس من طقوس إحياء الذكرى. أمر عادي ضمن منطق القيادة النقابية السياسي: منطق الحرص على استقرار نظام الاستبداد المفضي إلى إسداء النصح للحاكمين (بيان المكتب التنفيذي 29 يونيو 2017)، عوض تعزيز الحراك الشعبي الريفي بنضال عمالي بمواقع الإنتاج و الإدارة و المواصلات، سبيلا وحيدا لتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
2- قصور اليسار داخل النقابات العمالية
موقف البيروقراطية النقابية من حراك الريف، ومن النضال الشعبي عامة، يجد تفسيره في طبيعتها الاجتماعية: فئة من منشأ عمالي وسيطة بين العمل والرأسمال. يعمل هذا الأخير على دمجها في دولته، وتجد هي مصلحة في ذلك لإنماء امتيازاتها. ومن ثمة نزعتها المحافظة التي تتطور إلى تواطؤ مكشوف مع البرجوازية ودولتها. وقد بلغ هذا التواطؤ مستوى متقدما فيما يخص الاتحاد المغربي للشغل منذ مطلع سنوات 1960، ثم تفاقم بزوال دور الكونفدرالية الديمقراطية للشغل كجناح لمعارضة مناوشة باستعمال القوة العمالية. تحظى هذه البيروقراطية حاليا بمكانة في مؤسسات رسمية عديدة (مجلس المستشارين، المجلس الاقتصادي والاجتماعي و البيئي و المجلس الأعلى للتعليم، وما شابه)، وبدعم مالي من الدولة، وبفرص المتاجرة بالنضالات وإسداء خدمات بالمقابل لأرباب العمل [تُحدث مكاتب نقابية شكلية تابعة للبيروقراطية بتواطؤ مع أرباب العمل لتفادي نقابة حقيقية، مثالها الأبرز العديد من المناجم،..].
أصبح الجهاز النقابي مكملا لاجهزة الدولة المعنية بالنزاعات الاجتماعية [وزارتي الداخلية والتشغيل] أكثر مما هو أداة قيادة لنضالات الطبقة العاملة. البيروقراطية النقابية موالية سياسيا للنظام الاستبدادي الرأسمالي القائم، والقاعدة العمالية متخلفة، متمسكة بالتنظيم النقابي لأنه درعها الواقي من اشتداد تعديات البرجوازيين ودولتهم، لكنها قاعدة متدنية الوعي السياسي.
وكما سبق بمقال بجريدة المناضل:
«المعضلة في هذا المشهد برمته هي حالة اليسار المنتسب لقضية تحرر الطبقة العاملة. فكل ما شهدت الحركة النقابية المغربية في العقدين الأخيرين من مخاضات معبرة على استياء القاعدة العمالية من سياسة القيادات الاستسلامية لم تفض إلى تبلور معارضة نقابية واعية ذات خط مستقل عن البيروقراطية ومدافع فعلا عن مصلحة الأجراء وقضية تحررهم. فكل تلك المخاضات أجهضت مفضية إلى انشقاقات بلا أفق (مثل النقابة المستقلة والهيئة في قطاع التعليم)، أو تلاشت (مثل الحركة الرافضة في قطاع بلديات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل)، وآخرها ما سمي “التوجه الديمقراطي” في الاتحاد المغربي للشغل، حيث جرت العودة إلى حظيرته بشروط أسوأ من السابق، فتبدد إمكان تبلور قطب كفاحي ديمقراطي في الساحة النقابية» .
بحجم القوى المنجرة إليها، وسياقها، وما كان عليه مجمل الحركة النقابية، مثلت حالة ما عرف بـ»التوجه الديمقراطي» في الاتحاد المغربي للشغل، منذ مارس العام 2012، فرصة تاريخية حبلى بإمكان بناء قطب نقابي على أساس النضال الطبقي بوجه سياسة «الشراكة الاجتماعية» المهددة بتدمير ما تبقى من نقابة عمالية. ومع ما انتهت اليه تلك الحالة، ضاعت أيضا فرصة توجه نقابي منفتح على حركة النضال الشعبي، بما ينطوي عليه الأمر من إمكانات تطوير كلا النضالين، العمالي و الشعبي.
الحقيقة ان الحالة المسماة توجها ديمقراطيا في إ.م.ش جرى بناؤها أصلا، طيلة ما لا يقل عن 20 سنة، على أسس هشة سياسيا، قوامها تفادي قمع البيروقراطية بأي ثمن، وحتى على حساب علة وجود اليسار الجذري: الدفاع عن خط سياسي مناهض لإصلاحية البيروقراطية النقابية وتعاونها مع الرأسمال ودولته.
آفاق تضافر النضالين العمالي والشعبي
النتائج الاجتماعية للسياسة النيوليبرالية تدفع أقساما متزايدة من الكادحين إلى شارع النضال. والخبرة المكتسبة في العقدين الماضيين، وضمنه بوجه خاص دينامية 20 فبراير، تبشر بجولات كفاح شعبي أعظم. كفاح سيبدو ما شهدت طنجة ضد شركة اماندس متم العام 2015، وما يجري بالريف حاليا، مجرد تمرينات أولية له.
لكن النضال الشعبي غير مبني وطنيا، لا فيما يخص المطالب أو أشكال التنظيم. وهذه إحدى مكامن ضعفه الكبرى بوجه دولة ممركزة. ولا شك ان الحاجة ستدفع في اتجاه ذلك البناء الوطني، لكن سلبية تقاليد التحكم الفوقي التي درج عليها اليسار تقتضي بناء الحراكات المحلية ديمقراطيا، تمهيدا لحراك وطني ديمقراطي. تستوجب الديمقراطية إتاحة تفتق المبادرة الشعبية عما تختزن من إقدام وعنفوان، وحفز التنظيم التحتي بالإحياء و القرى، باعتماد الجمع العام، وتشجيع أوسع مشاركة، وإتاحة إسهام النساء، وبانتخاب اللجان وتكريس إمكان عزل أعضاء منها أو كلها حسب حاجات النضال.
وموازاة، يقع على كاهل نقابيي اليسار، العاملين بمنطق طبقي،استنتاج درس 20 فبراير وحراك الريف الجاري، بالعمل لتمييز ممارستهم النقابية عن خط البيروقراطية. هذا التمييز جوهره الوفاء لمصلحة الطبقة العاملة آنيا في تحسين أوضاعها، لما فيه من إنماء لمقدرتها الكفاحية، واستراتيجيا في أفق تغيير جذري يتجاوز الرأسمالية. ومنظور التغيير الشمولي هذا بالذات يقتضي التقاء الحركة النقابية بحركة النضال الشعبي. ففي هذا الاتقاء يتجسد تحالف الطبقة العاملة مع مفقري القرى و المدن بما هو احد اكبر مقومات انتصار الثورة الاجتماعية ببلد تابع.
لقد ضاع الكثير من طاقة السخط على الخط البيروقراطي في ردود فعل فئوية، وفي مغادرة لمواقع النضال بسبب افتقاد رؤية مكتملة للنضال النقابي، ما يستدعي النقاش بين مكونات الحالة اليسارية الجذرية. نقاش في خضم تعاون نضالي للتصدي لتصاعد هجمات البرجوازية . ويجب أن ننظر إلى الحراك الشعبي بالريف وبباقي البلد بما هو فرصة لتجديد قوى الحركة النقابية. فالشباب الذي تعلم النضال في المسيرات، وتعلم المشاركة في النقاشات الجماهيرية، وفي التعبئات، سيكون دما جديدا يساعد الحركة النقابية على التعافي من عللها: انه قوة بناء توجه نقابي ديمقراطي كفاحي حقيقي.
مصطفى البحري
اقرأ أيضا