البنك العالمي ومسألة النوع: نحو «إجماع واشنطن جديد»
كما لاحظ الجميع، تغير خطاب المؤسسات الدولية منذ بضع سنوات: لم تبق كلمات «الفقر» و”التنمية”، الخ محرمة كما كانت في مطلع سنوات 1980 . وبوجه خاص أطلق البنك العالمي استراتيجيته لتقليص الفقر المفترض ان تمثل انعطافا في سياسته .
يبدو ان للنساء، في تبدل التوجه هذا، دور مركزي. فمنذ زهاء 15 سنة يكد البنك العالمي وباقي المؤسسات الدولية، مثل البنوك الإقليمية للتنمية، بقصد الظهور كأدوات لتحرر النساء في البلدان المتخلفة.
وهي بذلك تنضم الى خطاب جرت العادة على مصادفته في أدبيات الهيآت المرتبطة بمنظمة الأمم المتحدة. ونجد ضمن “أهداف الألفية” “تشجيع مساواة النوع” و “تمكين” (empowerment) النساء عبر إلغاء تفاوتات النوع على كل مستويات التعليم، و” تشجيع العناية بصحة الام” بهدف خفض وفيات الأمهات بنسبة ثلاثة أرباع في أفق 2015 .
وتؤكد التحاليل على ضرورة توفير شروط رفع إمكانات الاختيار لدى النساء في المجتمع.
لكن هل طابقت الإجراءات الملموسة كل ذلك؟
بقلم ستيفاني ترييه Stephanie Treillet
عن مجلة les autres voix de la planete الصادرة عن لجنة إلغاء ديون العالم الثالث
العدد 24 – سبتمبر 2004
تمكن الإشارة، بادئ ذي بدء، إلى ان الأمر لا يتعلق بالخطاب وحسب. فثمة مشاريع عديدة في هذا الاتجاه: مشاريع تكوين مهني «للنساء ذات دخل ضعيف»، وبرامج تحديث للتعليم المدرسي تدمج المساواة بين البنات والأولاد، وبرامج صحة، وتحسين التغذية، والتخطيط العائلي وحماية الأمومة والطفولة. كما يؤكد تقرير البنك العالمي لسمنة 2001 بعنوان«مهاجمة الفقر» على بعد الفقر المرتبط بتفاوت النوع. وعلى ذات المنوال يسير تقرير 2004 المتعلق بفعالية تزويد الفقراء بالخدمات مؤكدا، مثلا، على أشكال الميز ضد البنات في مجال المدرسة.
ثمة إغراء الاعتقاد أن الأمر ليس، قبل كل شيء، سوى سعي من البنك العالمي الى تلميع الواجهة، وعملية تواصل لمحاولة استعادة شرعية مهشمة الى حد ما: مجرد إعلان نوايا لا تليها أية نتائج، وبوجه خاص مشاريع جزئية لا تصل صلب البرامج الماكرواقتصادية التي تظل موجهة نحو اللبرلة واكبر انفتاح ممكن للاقتصاديات. هذا كله صحيح بصورة جزئية، لكن الاكتفاء بهذا التشخيص قد يؤدي بنا الى التغاضي عما هو جوهري: العقيدة الجديدة حول التنمية التي يبلورها البنك العالمي مند بداية سنوات، 90 والتي تندرج فيها استراتيجية تقليص الفقر، و يشكل بها استعمال مفهوم النوع [7]، من زاوية معينة، حلقة مركزية. وبقصد فهم تماسك«اجماع واشنطن« [8] الجديد هذا، لا غنى عن العودة الى أسباب التطورات هذه الحاصلة في الخطاب.
1- قابلية رؤية جديدة للنساء
خلال المرحلة الأولى من التقويم الهيكلي، طيلة عقد 80، كانت النساء غائبات كليا في كتابات المؤسسات المالية الدولية: تجاهل تام لدورهن في اقتصاديات العالم الثالث، وكذا لعواقب السياسات المطبقة على وضعهن. لم يكن هذا التعامي أمرا مستجدا بأي وجه. فقد كان قائما في استراتيجيات التنمية والتصنيع في العقود السابقة. ويمكن، على صعيد نظري، عزو ذلك الى أسباب عدة.
ثمة، في المقام الأول، النماذج الماكرو اقتصادية التي بنيت عليها برامج التقويم الهيكلي. فهذه لم يجر تصورها في البداية لتكون قادرة على دمج فروقات الهيكلية في المجتمع، أي الطبقات الاجتماعية والنوع أو أي بعد آخر. إذا قصرنا النظر على منطقها، باستقلال عن أهداف السياسة الاقتصادية التي من اجلها بنيت، نلاحظ أنها لا تتناول الا قيما اجمالية: الاستثمار، الاستهلاك، الانتاج، الادخار، مأخوذة ككتلة او « فاعلين اقتصاديين» أفرادا لا متمايزين ومجردين.
علاوة على ان هذه النماذج، المستوحية لليبرالية مفرطة، تفترض توازنا للأسواق يعتبر هو الوضع الأمثل. ومذاك، لا مجال، بالنسبة لأصحابها، لأي صراع: يستمد الأفراد العقلانيون أقصى ما يمكن من الإكراهات التي يواجهون على هدا المستوى الماكرواقتصادي. وفي غالب الأحيان، ليس الأفراد الحقيقيون هم المعتبرون وحدة أساسية … بل الأسر. ولا ُينظر في إمكانية وجود اختلاف في المصالح وموازين قوى داخلها( سنرى ان هذه المقاربة تطورت شيئا ما مذاك). واخيرا، بوجه عام، في هذا الطور الأول من عقيدة التكييف الهيكلي، لا تأخذ الاستدلالات نهائيا بعين الاعتبار كون النساء محرومات من وسائل الإنتاج المتاحة للرجال ومن القرض والأرض والتكوين … بما أن ثمة في البداية تخصيص لعوامل الإنتاج، وهو تخصيص لا يضعه النموذج موضع تساؤل.
وقد وضعت الاقتصاديات النسوانيات الإصبع على نقط النظرية السوداء هذه، لا سيما بالبلدان الانجلوساكسونية [9]. ومند بداية سنوات 90 قام البنك العالمي وباقي المؤسسات بدمج جزء من هده الانتقادات. وجردوها جزئيا من معناها الحقيقي ومن حمولة التمرد فيها. هكذا فكلمة « نوع»، المستعملة بكيفية عادية، تفقد معناها النقدي في العلوم الإنسانية، الذي يدل على «علاقات الجنس الاجتماعية» لتشير بشكل وصفي محض الى وضع النساء. أخيرا حاول البنك العالمي تكييف تلك التحاليل مع أهدافه، مستعملا إياها لتعديل اتجاه خطابه وتقديم إحصاءات مصنفة حسب الجنسين. ويتماسك هدا التحول مع تحول أشمل للنظرية النيوكلاسيكية، مستجيبا أيضا لمتطلبات سياسية .
2 – أسباب تحول
يمكن تمييز فئتين من الأسباب وثيقتي التداخل:
أ – التطور العام للنظرية النيوكلاسيكية
شهدت النظرية النيوكلاسيكية في العقدين الاخيرين عددا من التحولات.
فمن جهة وقعت الليبرالية الخالصة في مأزق نظري وعملي في ال’ن ذاته فيما يخص النمو الاقتصادي والتنمية. فقد كانت عاجزة على أن توضح، اعتمادا على فرضياتها، سبب عدم استئناف النمو في الاقتصاديات المصنعة رغم تمكنها من إقرار التوازنات الكبرى (في الميزانية وفي التجارة)، ولماذا لم يؤد تراجع الدولة في اقتصاديات العالم الثالث وإرجاع آليات السوق الى ارتفاع تلقائي في الاستثمار المنتج الخاص، ولماذا كان نجاح دول طبقت الليبرالية بأقصى سرعة، وفي كل الاتجاهات(لاسيما بأمريكا اللاتينية)، اقل من نجاح دول أخرى حافظت على تدخل للدولة وسياسات صناعية نشيطة وحواجز حمائية ( لاسيما في شرق آسيا)، أي باختصار تلك التي قامت بعكس ما يدعو إليه البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. واخيرا لماذا لا يلاحظ ، على صعيد دولي، تلاقي مستوى الدخل والتنمية والمكافأة الذي توقعته النظرية، بل حصل تفاقم مستمر ومتراكم للفروق.
حاول عدد من الاقتصاديين النيوكلاسيكيين حل هذه المشاكل، خلال عقد الثمانينات، واضعين ما سمي «نظريات النمو الجديدة» او «نظريات النمو الذاتيendogene» . وتم وضع نماذج بالغة التعقيد والتجريد، تخلت، بقصد إنقاذ الاساسي، عن بعض الفرضيات الأساسية للنماذج التقليدية، من قبيل المردودية المتناقصة للرأسمال (بقدر زيادة الاستثمار بقدر انخفاض مردوديته). وذلك بغية التمكن من تفسير أسباب تطور بعض الاقتصاديات دون غيرها، و أسباب تعمق هذه الهوة بدل تقلصها. تتميز هذه النماذج بخاصية اعادة إدخال عوامل نمو جرت العادة على تجاهلها في النظرية المعيارية: التقدم التقني والتعليم والتكوين ووجود بنيات تحتية مثل وسائل النقل او الاتصال … و أفضى ذلك ، لا اقل ولا اكثر، الى اعادة إدخال ذئب مطرود من الزريبة بكثير من العناية والجهد، ألأ وهو الدولة. هذا لأنه لا مفر، شئنا أم كرهنا، من حد أدنى من الدولة لضمان حد أدنى من التعليم لكافة السكان، وتكوين مهني، وبحث أساسي، وبنية تحتية… وهي كلها أمور ليست بالضرورة ذات مردود للاستثمارات الخاصة.
قد يُعتقد أن كل هؤلاء المنظرين لم يفعلوا غير اعادة اكتشاف الماء الدافئ، اذ صنعوا جهازا ثقيلا جدا من اجل اعادة اكتشاف ما أبرزه اقتصاديو التنمية مند سنوات 50، أي كون النمو والتنمية ليسا نهرا طويلا هادئا، وان ليس ثمة مراحل مرسومة مسبقا بل انقطاعات وانحصارات يستدعي تجاوزها عملا إراديا. لكن حذار من الانخداع، فالدولة التي في أدمغة هؤلاء الاقتصاديين ليست أي دولة: إنها حد أدنى من الدولة تتسرب في «مكامن قصور السوق»( حسب الرطانة المستعملة)، وليس لها أي دور إستراتيجي ولا أي وظيفة في اعادة التوزيع، وتقودها نفس العقلانية التي تقود باقي الفاعلين الاقتصاديين، اي بلوغ أقصى مردودية لعملها.
هذا، لأنه نتبين، في الاتجاه المضاد، ان هذه النظرية النيوكلاسيكية، التي تبدو إذن مهششة ومجبرة على التأقلم، تبدي في الوقت ذاته ثقة قوية في الذات و نزعة إمبريالية في كل الاتجاهات: يجب ان يكون السوق و« عقلانية بلوغ الأقصى» [10] قادرين على تفسير كل السلوكات الإنسانية: الزواج والدين والاختيارات السياسية…
وتوجد نظرية الرأسمال البشري في صلب هذا التناقض الظاهري. فبعد ان ُوضعت في سنوات 60، اقتبستها النظريات الليبرالية الجديدة حول التنمية. فما فحواها ؟ إنها ظاهريا حقيقة بديهية مرة أخرى: كون تعليم السكان وتكوينهم عامل نمو وتنمية للبلد ! ولكن المقصود، أبعد من هذه الحقيقة المبتذلة، هو دمج التعليم في « كل شيء للسوق»: يتصرف الفرد مثل مقاولة صغيرة، وسيقوم باختياراته في مجال التعليم حسب المردود المنتظر من دراساته. و تمثل قدراته البدنية، وكذا الدهنية، عاملين من عوامل النمو، شانهما شأن الرأسمال المادي والتقني والنقدي. ويقوم باختياراته باستمرار وفق حساب للكلفة والمزايا خارج كل ميزان للقوى.
والحال أن هذه النظرية كلية الحضور في تحاليل البنك العالمي. ويمكن أن نقرا في تقريره لسنة 2004 حول «جعل الخدمات تعمل لصالح الفقراء» ما يلي :
«ان طلب الصحة والتعليم محدد بالأهمية النسبية التي يوليها الأفراد والأسر لفوائد وتكاليف اختياراتهم وما يواجهون من اكراهات.(…) تحدد الفوائد والتكاليف مبلغ ما سيستثمر الأفراد في التعليم والصحة. إن صحة افضل وتعليما أفضل مرتبطان بإنتاجية- وبمداخيل- أكبر. يمثل الاستثمار في الرأسمال البشري وسيلة للحصول على عائدات الاستثمار هذه(…)»
ب – مصاعب التقويم الهيكلي
تلتقي تحولات النظرية النيوكلاسيكية هذه مع متطلبات السيطرة الاجتماعية والسياسية. وفعلا كان حتى اكثر الخبراء دوغمائية مجبرين على الاعتراف بفشل الاستراتيجيات التقويمية المطبقة في العالم الثالث خلال عقد الثمانينات.
لقد ضمنت فعلا السداد المنتظم لخدمة الديون، وهو ما كان طبعا هدفها الأول، لكنها كانت فيما بعد عاجزة عن ربط الاقتصاديات بالنمو الذي من شأنه أن يضمن لها حدا أدنى من الاستقرار الاجتماعي ونوعا من الشرعية وأمانا للرساميل المستثمرة. إنها، على العكس، أغرقت الاقتصاديات في انكماش مستديم بموازاة استفحال الفقر وأشكال التفاوت. هكذا أمكن الحديث عن سنوات 1980 بما هي « عقد ضائع» بالنسبة لأمريكا اللاتينية. لكن عقد 90 سيكون عقد النمو الضعيف وغير المستقر مع أزمات دورية.
هؤلاء الخبراء منشغلون اذن بما يلي:
– 0غرق بعض المجتمعات في أوضاع اقرب الى الفوضى: انبعاث أوبئة وتمردات ونهب للمتاجر وحروب اهلية وسلفية دينية وتضخم الاقتصاد الباطني والإجرامي.
– 1 تكاثر السكان، رغم ان هذا الوجه انتقل شيئا ما الى مقام ثان في السنوات الأخيرة – اذ اضطر فعلا خبراء علم السكان الى اعادة النظر بتوقعاتهم الأكثر كارثية.
– 2 وجود شتى الجمعيات والمبادرات الشعبية المقاومة يوميا للتقويم الهيكلي حيث مكانة النساء أساسية، وبات على المؤسسات الدولية محاولة التحكم بها.
3- دلالة هذا التحول : نحو عقيدة جديدة للتنمية
أ – التقويم الهيكلي يتكيف
اعتقد خبراء المؤسسات الدولية في مرحلة أولى بوجوب إعطاء «بعد اجتماعي» و«وجه انساني» للتقويم الهيكلي. ووضعوا لهده الغاية أدوات لـ«محاربة الفقر» مستندة على تمييز «الاشد فقرا» او «المعوزين» عن الفقراء ( وهو ما كان يترك جانبا القسم الأعظم من السكان الفقراء ). وفيما بين نهاية سنوات 1980 وبداية سنوات 1990، ادعت بعض المشاريع إقامة شبكات أمان لغاية تأمين حد أدنى من البقاء للفئة الأولى. كان ذلك عقيدة «الاستهداف» (ciblage): أي تخصيص الموارد لمن هم فعلا بحاجة إليها. ومن ضمن المجموعات المستهدفة كانت ثمة وما زالت النساء الفقيرات، لا سيما النساء اللواتي «يرأسن الأسر».
مذاك أصبحت نظرية الاستهداف هذه منهجية: هي أساس كل العلاقات بين القطاع العام والقطاع الخاص المقدمة اليوم. وحسب هده التصور، يجب أن تكف الدولة عن القيام بنفقات اجتماعية (صحة تعليم ) دون تمييز، ذات طبيعة شاملة يستفيد منها حتى الذين ليسوا في أمس الحاجة إليها. وتعود فائدتها الى الفئات الاجتماعية الحضرية، المتوسطة أو الميسورة ( كل الأجراء مصنفون بلا تمييز في هذه الفئات) القادرة مبدئيا على أداء مقابل هده الخدمات لأن لديها مداخيل. يعتبر البنك العالمي كل الذين لديهم عمل مأجور شكلي ومستقر الى حد ما ( بالأحرى في القطاع العام) محظوظين.
على نحو أعم لا يمكن لكل المحاولات، التي قد تقدم عليها الدولة بقصد اعادة التوزيع، إلا أن تأتي نتائج عكسية، وتقصي الأكثر فقرا. الأفضل إذن هو الخوصصة وفتح الخدمات التي يستفيد منها غير الفقراء للمنافسة (التعليم العالي وحتى الثانوي والمستشفيات ،الخ)، وجعلها بمقابل أو رفع سعرها وتركيز تدخل الدولة على الخدمات الأساسية ( التعليم الأولى والعلاجات الأساسية …). ويسري نفس الأمر على البنى التحتية ( ماء، كهرباء، سكن ،…) وكان لهذه السياسة، أينما طبقت، نتيجة مأساوية متمثلة في إقصاء قسم كبير من السكان، منهم الفقراء لا سيما النساء، من الإفادة من هذه الخدمات.
على هذا النحو يبقى دور الدولة، في منظور البنك العالمي، خاضعا كليا لمنطق السوق. كل القروض والمشاريع موجهة للقطاع الخاص الذي يعتبر ازدهاره مفتاحا للتنمية. وقد اعتبر، وهذه بديهية لا حاجة لتبريرها، أكثر فعالية من الدولة. إن كانت الخدمات، مثل النظام المدرسي، من نوعية سيئة فلأن الدولة حاضرة فيها حضورا يفوق اللازم. وإن فتحها بوجه التنافس، وجعل ما تبقى عموميا مشمولا بمعايير اشتغال القطاع الخاص (استقلال المؤسسات، لا مركزة، أجور حسب الاستحقاق، الحد من دور النقابات) سيضمنان تحسينا للجودة.
ب -استعمال أدواتي للنساء
هكذا للنساء دور مركزي. لكنهن معتبرات قبل كل شيء كمورد، واستثمار ذي مردود، ومستعملات كليا كأدوات. أولا بسبب اعتبار أشكال الميز المتعددة التي يتعرضن لها مصادر لعدم الفعالية في السوق وعوائق لإنتاجيتهن، سواء في الفضاء المنزلي أو في سوق العمل.
ثانيا، لأنهن يعتبرن في المقام الأول كمربيات. و نجد هنا الاستدلال بمفاهيم الرأسمال البشري قائما في صلب الجهاز dispositif.
وهكذا فان تحسينا لجودة النظام المدرسي (بالأساليب آنفة الذكر) سيفضي بالأسر، في حسابها العقلاني الذي يقيس التكاليف بالمزايا، لأن كل شيء يؤول الى ذلك، إلى إرسال أطفالها، ومنهم الفتيات، إلى المدرسة بدل تشغيلهم مجانا في الأسرة: سيكون لهم فصاعدا أمل في التأهيل ودخل مستقبلي ( جلي انه لا اعتبار للبطالة هنا، بما فيها بطالة ذوي الشهادات: الاستدلال مبني على فرضية استخدام تام).
علاوة على أن تعليم الأطفال سيتيح للنساء الحصول بسهولة على نشاط مؤدى عنه، هذا سيما لان سوق عمل أكثر مرونة سيتيح لهن القيام به بدوام جزئي. وعلى هذا النحو سيحصلن على دخل واستقلال أكبر في الأسرة . ان تحسين المستوى التعليمي للنساء، وتراجع الفقر، سيتيحان تراجعا للمواليد ووفيات الأطفال وستتحول الحلقة المفرغة إلى حلقة فاضلة.
هكذا جاء دائما في تقرير 2004:«يتوقف إنتاج الصحة والتعليم على معارف البالغين داخل الأسرة. يؤثر ذلك في الآن نفسه عبر طلب الرأسمال البشري وخلق المداخيل. ان الاستثمار في الرأسمال البشري للأطفال متأثر بتخصيص السلطة داخل الأسرة. فالأسر التي تغلب فيها قوة تفاوض النساء تميل اكثر إلى الاستثمار في الصحة والتعليم.
دلت دراسة بالبرازيل أن الطلب على الوحدات الحرارية والبروتينات متأثر بتغيرات دخل النساء 10 مرات أكثر مما هو متأثر بتغير دخل الرجال. وتطول هذه النتائج، التي تطبع أكثر المجتمعات المانعة لمشاركة النساء،البنات اكثر من الأولاد. ان تعليم النساء البالغات هو إحدى المتغيرات التي تبدى أشد ارتباط مع نسبة وفيات الأطفال في الدراسات العرضانية، حتى عند التصحيح بالدخل القومي لكل بلد.»
هكذا تصبح الصحة والتعليم «منتجات» موضوع«عرض» و«طلب» تحتل بها النساء مكانة مركزية. وتختزل موازين القوى الاجتماعية، التي تفضي إلى اضطهاد النساء والى قسمة متفاوتة للعمل في المجتمع، الى سلطة تفاوض فردية داخل الأسرة، سلطة تفاوض هي ذاتها مبنية على نوعية الرأسمال(نقدي، بشري…) الذي بحوزة كل فاعل.
وأخيرا، ليس توزيع الأدوار، الذي يسند للنساء المهام التربوية والمنزلية، موضوع أي اتهام: المقصود فقط جعل تنفيذ تلك المهام أكثر فعالية.
تجدر الإشارة أخيرا الى أن نشاط النساء المنتج المؤدى عنه ليس بالضرورة عملا باجرة: دعا البنك العالمي مرارا إلى تشجيع القطاع غير المهيكل (اللاشكلي)، معتبرا إياه كرد فعل سليم للمبادرة الفردية الساعية الى الإفلات من التقنينات والضريبة.
كما يبدي البنك العالمي تعاطفا كبيرا مع القروض الصغيرة، من طراز غرامن بنك Grameen Bank، جاعلا من أداة، قد تمثل مخرجا جزئيا ومحدودا للأفراد من الفقر، حلا إجماليا لمشكل التنمية.
ويضاف الى هذا كله موضوع “«لتنمية التشاركية» التي تشكل محورا آخر لـ«إجماع واشنطن الجديد» هذا: احتواء أنشطة المنظمات غير الحكومية، وكذلك الجمعيات العاملة في الميدان، ولجان الأحياء والجيران ،الخ ( مع تسمية الكل «مجتمعا مدنيا»)، التي يوجد بها عدد كبير من النساء والتي تؤمن بسعر زهيد قسما كبيرا من المهام الصحية والتعليمية، الخ كفت الدولة عن القيام بها.
وكل ذلك لصالح دعاة التكييف الهيكلي والحكومات: تفادي الانفجار الاجتماعي بالحد من الفقر المدقع، وبالسعي الى تحقيق إجماع حول برامج التقويم الهيكلي( ما يسميه تقرير 2001 «قابلية تبني» إجراءات التقويم الهيكلي)، بدل فرضها بالقوة، وكل دلك بأقل كلفة على ظهر النساء مرة أخرى.
وبعيدا عن كونها أهون الشرور، تمثل هذه الاستراتيجية خطرا خاصا على السكان المعنيين: إنها تستهدف تفكيك ما يمكن أن يتبقى من حقوقهم الاجتماعية وقدرتهم على الإفادة من خدمات جماعية، والهجوم على البعد الشمولي للخدمات العامة وأنظمة الحماية الاجتماعية، حتى غير الكافية. وتضع بحذق أكثر من قبل شروطا جديدة للحصول على « تعويضات» لنتائج التقويم الهيكلي.
ومن ضمن هذه الشروط، التي وضعها معا البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، تفكيك قانون الشغل والقانون النقابي. وقد أبانت دراسات عديدة نتائج ذلك: هكذا فإن إصلاح التعليم في غواتيمالا [11]، الذي يقضي باللامركزية وبتسيير من قبل «المجتمع المدني»، يمر في الواقع عبر شبه خوصصة للمؤسسات المدرسية، وخلق جمعيات خاصة، وتهميش نقابات المدرسين، وتفكيك حقوق هؤلاء (باتت ثمة حالات مدرسات تم تسريحهن بسبب الأمومة). هذا دون الحديث عن تدهور جودة التعليم في غياب كل رقابة وطنية على البرامج.
وتسعى اليوم الاستراتيجية الإجمالية لمحاربة الفقر، المقدمة في تقرير البنك العالمي الأخير، إلى احتواء أطروحات امارتيا سن [12] Amaratya Sen : اعتراف بتعدد أبعاد الفقر، فهو ليس مجرد حرمان من دخل بل ايضا من حريات و «قدرات». وسيجري تطوير موضوع «التمكين» “empowerment” ، لا سيما بالنسبة للنساء: المقصود تعزيز الفقراء لسلطتهم. لكن السلطة على ماذا وعلى من؟ حذار من الانخداع، فليس المقصود استلاما جماعيا للسلطة من طرف السكان المضطهدين بالعالم الثالث، بل تقوية قدرة النجاح الفردي للبعض بتحسين نفاذهم إلى السوق، والشرط هو اضطهاد متزايد لكل الآخرين وحتى إقصاؤهم.
خلاصة : المخاطر والرهانات بالنسبة للحركات الاجتماعية
تكشف كل محاولة احتواء ميزان قوة معين: لا يكون هدفا للاحتواء غير ما يبدو خطيرا وتمرديا. بهذا المعنى، تكشف محاولة احتواء المؤسسات الدولية لإشكالية النوع أن لا غنى عن هذه الأخيرة نظريا وعمليا على السواء.
تتمثل إحدى فوائد هذا الأمر في ما استجد من قابلية رؤية لعمل النساء، على صعيد دولي، بما فيه في الاحصاآت. إن وجود كمية كبيرة من المعطيات المصنفة حسب الجنس هو أمر يمكن للحركة من اجل عولمة بديلة ان تستعمله رغم الحدود الملازمة للمؤشرات الإحصائية.
أبعد من هذا المظهر، يجب أن ندرك أننا إزاء ظاهرة متناقضة. تسعى المؤسسات الدولية إلى توفيق متطلبات عديدة هي في النهاية متنافرة: من جهة، ثمة الحاجة إلى ترشيد الاقتصاديات وجعلها اكثر إنتاجية وفعالية، مما يقتضي زوال أشكال العنف والاضطهاد الصارخة أكثر، وتوسيع جزئي لاستقلال النساء وحريتهن الفردية في الاختيار، والعمل ليكون أقصى عدد منهن قادرا على ممارسة نشاط منتج .
وثمة، من جهة أخرى، إن سار الأمر بعيدا، خطر ترك توسع هامش الاختيار هذا يتحول إلى تحرر حقيقي فردي وجماعي معا، وهو أمر غير متلائم مع العولمة الليبرالية.
إن هذا التناقض هو بالنسبة لنا نحن، في الحركات الاجتماعية والنسائية، وكل معارضي ومعارضات العولمة الليبرالية، نقطة ارتكاز، يجب العمل لتعميقها. ليس المطلوب مرافقة هذه المؤسسات في مشروع«تحديث» مزعوم للمجتمع ليس غير واجهة لحجب مزيد من الليبرالية.
من الأمور الأساسية إذن الإلمام بآليات «إجماع واشنطن الجديد»، التي تشكل النساء إحدى عناصرها المركزية وتفكيكها. فهذه الأداة تشكل بناء مجردا يضع في المقدمة رد فعل الأفراد على محيطهم بغض الطرف عن كل ميزان قوى اجتماعي او كل ُبعد اضطهاد. إن كلمة «إنصاف»، المكررة بغزارة، لها بالضبط وظيفة تجنب الحديث عن نضال حقيقي ضد أشكال اللامساواة.
فليس وارد في أي لحظة اتهام القسمة الجنسية للعمل التي تجعل النساء مسؤولات رئيسيات أو وحيدات عن الأطفال وعن المهام المنزلية.
يستتبع هذا ضرورة وعي عدد من المخاطر:
– 3أولها خطر الاحتواء -الأيديولوجي أوالمؤسسي أو المالي – الذي قد يكون أكثر مكرا بقدر ما أن بعض المشاريع مرفقة، كما رأينا، ببعد «مشاركة» . وفي هذا الصدد يمثل الذود عن الاستقلالية إزاء الحكومات وإزاء المؤسسات الدولية ضرورة لكل الحركات الاجتماعية بالشمال كما بالجنوب.
– 4 الخطر الثاني متمثل في تضليل او تقسيم الحركات الاجتماعية. فخطاب المؤسسات الدولية حول حرية الاختيار، لا سيما في مجال الإنجاب، يمكن أن يُقدم، من طرف من لهم مصلحة بذلك في الجنوب، كنسخة جديد للإمبريالية والاستعمار الجديد مغذيا بالتالي الخطاب الهوياتي. عندها قد تتم مماثلة أي خطاب حول التحرر مع قصد «تغريبي».
ومن ثمة ضرورة تضافر النضالات من اجل تأكيد وتطبيق الحقوق الكونية.
ترجمة المناضل -ة
[1] النوع : تشير كلمة النوع الى التمايز الذي يصنعه المجتمع بين الذكور والإناث، بتعارض مع كلمة الجنس الذي تحيل على التمايز البيولوجي.
[2] إجماع واشنطن : يقصد به مجموع توصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لبلدان العالم الثالث ، الساعية أساسا الى توجيه تنميتها الاقتصادية . وهي تدعو الى خفض عجز الميزانية والغاء أشكال دعم الدولة ( بقصد إرساء سوق حرة)، وتحرير النظام المالي والمبادلات ، وخصخصة منشآت الدولة ، ونزع تقنين الاقتصاد.
[3] World Development, novembre 1995
[4] تخضع كل تصرفات الافراد، الفاعلين الاقتصاديين «العقلانيين»، لنفس منطق رفع «المنفعة»، أي الإرضاء بالنسبة للمستهلك والربح بالنسبة للمنتج ، مع مراعاة «الإكراهات» : الدخل وتكاليف الانتاج.
[5] ايرك مولوت ،2001 ، «البنيوية الجديدة والمسألة الاجتماعية بأمريكا اللاتينية» Mondes en developpement –الجزء 29 ، العدد 113-114 .
[6] هندي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998 لأنه ” وضع الفقر والتنمية في صلب النظرية الاقتصادية ، مقربا هكذا البعدين الاجتماعي والاقتصادي للتنمية البشرية
[7] النوع : تشير كلمة النوع الى التمايز الذي يصنعه المجتمع بين الذكور والإناث، بتعارض مع كلمة الجنس الذي تحيل على التمايز البيولوجي.
[8] إجماع واشنطن : يقصد به مجموع توصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لبلدان العالم الثالث ، الساعية أساسا الى توجيه تنميتها الاقتصادية . وهي تدعو الى خفض عجز الميزانية والغاء أشكال دعم الدولة ( بقصد إرساء سوق حرة)، وتحرير النظام المالي والمبادلات ، وخصخصة منشآت الدولة ، ونزع تقنين الاقتصاد.
[9] World Development, novembre 1995
[10] تخضع كل تصرفات الافراد، الفاعلين الاقتصاديين «العقلانيين»، لنفس منطق رفع «المنفعة»، أي الإرضاء بالنسبة للمستهلك والربح بالنسبة للمنتج ، مع مراعاة «الإكراهات» : الدخل وتكاليف الانتاج.
[11] ايرك مولوت ،2001 ، «البنيوية الجديدة والمسألة الاجتماعية بأمريكا اللاتينية» Mondes en developpement –الجزء 29 ، العدد 113-114 .
[12] هندي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998 لأنه ” وضع الفقر والتنمية في صلب النظرية الاقتصادية ، مقربا هكذا البعدين الاجتماعي والاقتصادي للتنمية البشرية
ستيفاني ترييه Stephanie Treillet :
المناضل-ة عدد: 2
استاذة محاضرة في الاقتصاد ،من كتبها ” اقتصاد التنمية”-2002 نشر circa-Nathan . عضو بالمجلس العلمي وبلجنة النوع والعولمة باطاك فرنسا . المقال تصرف في مساهمة بكتاب «عندما تصطدم النساء بالعولمة» الصادر عن اطاك فرنسا
اقرأ أيضا