العالم العربي:”طور مضاد للثورة ليس هو ذاته غير مرحلة في السيرورة طويلة الأمد”
مقابلة مع جلبير الأشقر
يستهل جلبيرالأشقر كتابه بقول مقتبس من دفاتر سجن غرامشي، منه اشتق عنوان الكتاب:”تتلخص الأزمة تحديدا في أن القديم يموت فيما لا يستطيع الجديد أن يولد؛ في هذه الفترة الفاصلة تظهر أعراض مرضية شديدة التنوع”.يفحص جلبير الأشقر هذه الأعراض المرضية البادية على الانتفاضات العربية. وبنظره ” وحده “التغيير الاجتماعي والسياسي الجذري” قد يمثل ترياقا سياسيا لـ”تفاقم صدام الهمجيات” المحدق بهذا القسم من العالم.
كما يسعى، من خلال تحليل السيرورة الثورية في سوريا ومصر وليبيا واليمن، إلى تلخيص الدروس الإستراتيجية المفيدة للمستقبل. بعد “الربيع العربي” ليس العالم العربي محكوما حتما بالشتاء وبعهد جليدي سياسي. طبعا كان غرامشي يتحدث أيضا عن “حالة لبس” حيث “تظهر المسوخ” وداعش مثالها الساطع. لكن من كل “لبس” قد يظهر تفرد سياسي يجازف به الأشقر في كتابه ويتمناه للبلدان العربية.
****************
كيف تفسرون تلك النظرة الى العالم العربي التي كانت سابقا متشائمة، مع الفكرة
الأثيرة لدى برنار لويس، مؤداها استعصاء هذا العالم بفعل ثقافته ذاتها على كل ديمقراطية. ثم غذت تفاؤلا ساذجا، لحظة ما سمي بالربيع العربي. وعادت الى التشاؤم مع هذا الشتاء، وحتى العصر الجليدي الراهن الذي تشهده هذه المنطقة من العالم؟
يجد تبدل المزاج هذا تفسيره أولا في بخس قدر التحدي الذي واجهه ما وُصف في العام 2011 بالربيع العربي. كانت الغبطة ناتجة من اعتبار تلك الحركات مجرد انتقال ديمقراطي ستجري تسويته بدستور جديد وانتخابات حرة. ولم يكن هذا حلا في أي من البلدان الثلاثة حيث جرت انتخابات حرة في 2011-2012، أي تونس ومصر وليبيا. لأن المشكل أعمق، يتعلق بمجمل النظام الاجتماعي والسياسي.
وفي الآن ذاته، كان ثمة بخس الصعوبة التي يمثلها التغيير الاقتصادي والاجتماعي الضروري، وهو جذري أكثر من مجرد تعديل دستوري.
ليس ما بدا في العام 2011 “ربيعا” ما عدا باعتبار هذا الربيع فصلا أول ضمن توالي فصول مديد. كان العام 2011 بداية سيرورة ثورية طويلة الأمد ستدوم سنوات طوالا، وحتى عقودا عديدة. ولن تستقر المنطقة إلا لقاء تغيير عميق للنظام الاجتماعي والسياسي. وبدونه سنشهد تناوبا حتميا لأطوار ثورية ومضادة للثورة لن تكون، بالنظر للرهانات، إلا دامية جدا. بنهاية المطاف، بالمماثلة التاريخية، بعد ست سنوات من العام 1789، كانت فرنسا بلدا داميا على نطاق عريض.
يعيش العالم العربي لحظة مضادة للثورة، منذ تعثرت الموجة الصدمية للعام 2011 بالنظام السوري. كان هذا في أصل انقلاب الطور في العام 2013، بفضل مساندة طهران له. تدخلت إيران بكثافة إلى جانب النظام السوري عبر حلفائها بالمنطقة [حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية العراقية]، ما أنقذه و أتاح له إطلاق هجوم مضاد بعد أن كان على وشك الهزيمة. مثل ذلك انقلاب الطور: من الطور الثوري لسنوات 2011-2012، جرى الانتقال إلى طور مضاد للثورة بدءا من العام 2013. وعقب انقلاب 3 يوليو بمصر بقيادة الماريشال السيسي، كانت الحرب الأهلية بليبيا واليمن.
وليس هذا الطور المضاد للثورة ذاته غير مرحلة من سيرورة طويلة الأمد. بقدر قصر نظر غبطة العام 2011 ، بقدر انطباعية التشاؤم المطلق الراهن. إن الطاقة التفجرية الكامنة المتجلية في العام 2011 لا تزال قائمة، إذْ ما من مشكل تم حله. ولم تشهد المسائل الاقتصادية والاجتماعية، التي تمثل الجذور الحقيقية لانتفاضة العام 2011، حتى قبل المسألة السياسية، غير التفاقم. سنشهد حتما انفجارات أخرى بهذه المنطقة: ربما فصول “ربيع” أخرى أيضا، وبالأقل ثمة أمل في ذلك.
أي فروق ترون بين ما يسمى الربيع العربي والثوراث المُخملية بأوربا؟
كان ما جرى بأوربا الشرقية انقلابا جذريا للبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وتغيير من هذا القبيل هو المطلوب بالعالم العربي. لكن الفرق الكبير
أن الدولة بأوربا الشرقية كانت استثناء تاريخيا، دولة يسيطر عليها بيروقراطيون وليس طبقات مالكة. ليس لدى البيروقراطيين المصلحة ذاتها التي لدى المالكين في الدفاع الشرس عن النظام البيروقراطي. بإمكانهم أن يأملوا موقعا في نظام جديد، مثلما سبق لآخرين كُثر أن فعلوا. لهذا انهارت كقصور من ورق تلك الأنظمة المستبدة الأوربية التي جرى الاعتقاد ان لا رجعة عنها . بالعالم العربي، سواء في الانظمة الملكية، او جمهوريات مزعومة، تملك عائلات سائدة قسما كبيرا من الاقتصاد و تعتبر الدولة ذاتها ملكا خاصا بها. ولذلك يبنى جهاز القمع كحرس بريتوري للعائلة السائدة.
تبينون الطابع المثلث للتقاطب القائم، ثمة قطب ثوري وقطبان مضادان للثورة، الأحزاب الإسلاموية و المدافعين عن النظام القديم. لكن هل ينطبق هذا على تونس؟
ستة بلدان شهدت انتفاضات في العام 2011، وتمثل تونس أفضل الشروط السياسية حيث أمكن الحفاظ على المكاسب الديمقراطية حتى الآن. في تونس فضل قطبا الثورة المضادة التحالف بدل التحارب كما حصل ببلدان أخرى. لا يعود هذا إلى حركة النهضة (حزب يعتبر ” إسلاميا محافظا” انطلق في العام 1981 بناء على بنية سابقة مرتبطة بالإخوان المسلمين، وقد تبنى الاسم الراهن في العام 1989)، و لا إلى نداء تونس (حزب أطلقه باجي قايد السبسي في العام 2012، وهو من رموز النظام التاريخية، مع حالات صعود وهبوط، منذ منتصف سنوات 1960)، بل، وبالمقام الأول، بفضل الحركة النقابية، الحركة العمالية التونسية. هذه الحركة التي حصلت في العام 2015 على جائزة نوبل بفعل دورها في تطور البلد الديمقراطي. هنا تمثل تونس استثناء في العالم العربي، إنها البلد الوحيد حيث توجد حركة نقابية قوية ومستقلة.
في تونس بات ثمة تحالف مصلحة بين وجهاء النظام القديم وحركة النهضة. أفضت في الأخير ثورة شباب إلى صعود رئيس يفوق عمره 90 سنة، جاء لتأمين استمرار الدولة البورقيبية (بورقيبة، 1903-2000 ترأس جمهورية تونس من 1957 إلى 1987)، أي الدولة السابقة لنظام بنعلي. ليس هذا ما مطمح الشباب في العام 2011 . خيبة الشباب السياسية، مع بطالة شباب كثيفة، هي التي تفسر نسبة شباب هذا البلد المنضمة إلى داعش، قياسا بعدد سكانه.
أنت تحاكم سياسة باراك أوباما في سوريا بقسوة ، فعل كان بوسعه تصرف مغاير؟
يقع على باراك اوباما قسط كبير من المسؤولية في المأساة السورية. ثمة نوعان من المسؤولية في تخريب بلد. مسؤولية ارتكاب مباشر للتخريب، مثلما فعل بوش في العراق. والمسؤولية المتمثلة في التفرج على التخريب كما فعل باراك أوباما في سوريا. أسمى هذا “امتناعا عنت إسعاف شعب في خطر” . لقد رفض باراك أوباما مساندة المعارضة السورية عندما كان علمانيون وديمقراطيون يقومون فيها بدور هام. فهو لم يرفض تسليح المعارضة السورية وحسب، بل عارض مدّها بأي سلاح مضاد للطيران من قبل حلفائها إقليميا. ولذلك كانت وكالة المخابرات الأمريكية تراقب الحدود من الجانبين التركي والأردني. على ذلك النحو تُركت تلك المعارضة تحت رحمة طيران الأسد الذي دمر البلد و ذبح السكان، حتى ببراميل متفجرة تُلقى من طائرات هيلكوبتر على مناطق يقطنها مدنيون.
كما أن تفويض أوباما أمر تمويل المعارضة السورية، وتسييرها، و تسليحها،لممالك الخليج، جعلته يترك نشوء ذلك الوضع حيث الترجيح التدريجي لكفة المجموعات الجهادية داخل المعارضة السورية. إذ هي من حظي بأولية التسليح من قبل ممالك البترول. أما أوربا، فقد أبانت عجزها، بترك الأمور تجري. كانت فرنسا قد أبدت، بالكلام بالأقل، عن أقوى دعم للمعارضة السورية. لكنه دعم لم يجد سبيلا إلى التجسد بالواقع. وكعادتها، اقتفت أوربا أثر الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تعرف كيف تنتهج سياسة خاصة بها. كان عليها الإقدام على ما رفضته الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها هي المعنية على نحو مباشر أكثر بالعواقب، سواء أزمة اللاجئين أو الإرهاب.
اليس دونالد ترامب حبيس تناقض في ما يخص الملف السوري، إذ يبدو مساندا لروسيا، بيد أن له خطابا معاديا لإيران. و الحال أن إيران حليف لروسيا. كيف سيحل هذا التناقض؟
يبدو التناقض قائما فعلا أكثر لدى روسيا. يشترك ترامب وبوتين العداء للإسلام ورؤية للعالم وفق منظور صراع الحضارات. يكمن التناقض في واقع أن روسيا حليف لإيران في سوريا، مع مجموعات أصولية مثل حزب الله اللبناني او المجموعات الشيعية العراقية. ما يبرز مهزلة ادعاء تصدي النظام السوري للأصولية عند العلم أن حزب الله وشركائه هم من يتحكم بالوضع على الميدان من جانب النظام.
يمكن توقع أن تضع إدارة ترامب الجديدة، لتحقيق ما وعد رئيسها بتحسين مذهل للعلاقات الروسية الأمريكية، شرط تحالف روسيا مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران. ما سيستتبع هيكلة جديدة للتحالفات بالميدان في سوريا ترمي إلى دفع القوات المرسلة من طهران إلى خارج البلد. هذا افتراض منطقي لكن يتعين اعتبار طابع دونالد ترامب غير القابل للتوقع.
كتبتَ أنه ” في حال تحقق تجربة ديمقراطية في سوريا، فستمثل تحديا للنظام الإقليمي الواقع تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية أعظم أهمية من كل ما قد تمثله الدولة الإسلامية” ما قصدك؟
الدولة الإسلامية مضرة عسكرية للمملكة السعودية، لكنها ليست بأي وجه نموذجا مضادا. إنهما يستوحيان نفس المنطلق، أي أشد تأويل للإسلام رجعية والمسمى عموما “الوهابية”. وبالعكس، ستكون ثورة ديمقراطية خطرا يهدد على نحو أكبر بكثير قادة السعودية. هكذا لوحظ تلاق فعلي، بالميدان، بين نظام الأسد وممالك الخليج بقصد إغراق الثورة السورية في الإسلام الأشد أصولية. في أشهر الانتفاضة الأولى، قام بشار الأسد بإطلاق سراح الجهاديين من سجونه كي يعملوا داخل المعارضة السورية. ومن جانبها، قامت الممالك بكل ما أوتيت لتشجيع تطور المجموعات الأصولية داخل تلك المعارضة.
بصدد مصر، لماذا يبدو المارشال السيسي حاظيا بتسامح من الغرب، فيما تصفون قمعا على نطاق كبير منذ استيلائه على السلطة؟ أليس في الأمر، هنا أيضا، تفضيل سلطة قوية على الفوضى؟
كل من يفضل السلطة القوية على الفوضى لا يدرك إن الديكتاتورية هي التي تفضي مباشرة إلى الفوضى. إنها حقيقة أولية بسيطة. شهدنا ذلك في سوريا، كما في ليبيا،اثنتان من أسوأ الأنظمة المستبدة بالعالم العربي. منذ الحرب الباردة، فضل الغرب العلاقة مع أنظمة مستبدة بالعالم العربي. لكن، في العام 2011، بدت الحكومات الغربية تعبر عن مساندة للحركات الديمقراطية بالمنطقة. لكن سرعان ما عاد المألوف الطبيعي: يرضى الغرب من جديد بالتعامل مع الأنظمة المستبدة.
السيسي سائر إلى خلق شروط انفجار كبير في مصر، لن يكون تكرارا لميدان التحرير بل أكثر مأساوية. بُعيد انقلاب 3 يوليو 2013، تدخل الاتحاد الأوربي سعيا للتفاوض حول مساومة بين العسكر والإخوان المسلمين، لكن السيسي رفض كل مساومة. وأقام منذئذ علاقات مع موسكو لموازنة ضغوط الغرب. وبسرعة، شهدنا الحكومات الغربية تعرض هذا المشهد المحزن، حيث تطبيع العلاقات مع هذا الحاكم الشرس. مع الأسف كانت فرنسا بالمقدمة ببيعها رافال Rafales للسيسي، فيما كاهل مصر مثقل بديون كبيرة وتعاني أزمة اقتصادية خطيرة.
أين يكمن الأمل في تفادي بقاء العالم العربي بين كماشة العسكر والجهاديين؟
أقيم تمييزا بين التفاؤل والأمل. ليس ثمة اليوم، مع الأسف، أي داع للتفاؤل. لكن يظل الأمل واردا طالما استمرت طاقة التحرر المتجلية في العام 2011، وذلك في الجيل الذي قام بتجربة الربيع العربي الرائعة، والذي قد يمثل بديلا لقطبي الثورة المضادة، أي الأنظمة القديمة والأصوليين. وحتى بالنسبة لبلد مثل سوريا، حيث يجب الابتهاج بذهاب قسم كبير من الشباب الذي صنع انتفاضة العام 2011 إلى المنفى. فهكذا تمكنوا من البقاء والحفاظ على قوة تغيير سياسي كامنة. لن يكون الأمر سهلا، لكنه ليس مستحيلا. لا سيما إذا لم ننس أننا ما زلنا في بداية مسار تاريخي مديد.
مقابلة مع مجلة بوان افريكà Point Afrique ، يوم 3 مارس 2017
اجرتها حسينة ميشاي Hassina Mechaï
نقلها إلى العربية: جريدة المناضل-ة
اقرأ أيضا