دروس الثورة الفيتنامية
دروس الثورة الفيتنامية
الاثنين 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010
بقلم: مجلة المناضل- لبنان
افتتح انتصار الثورة الصينية في عام 1949 حقبة جديدة في تاريخ الثورة العالمية تميزت بأهمية متزايدة للثورة الكولونيالية «ثورة المستعمرات وشبه المستعمرات». وتشكل الثورة الفيتنامية رمز هذه الثورة الكولونيالية التي تنهك الإمبريالية وتلحق بها الهزائم المتتالية. ومن ناحية أخرى قد حطمت الثورة الفيتنامية أوهام الستالينيين الإصلاحية حول إمكانية كبح الثورة العالمية من خلال «التعايش السلمي» مع الإمبريالية العالمية.
من واجب المناضلين في العالم أن يدرسوا هذه الثورة الغنية جدا بالتعاليم الثورية، لكن الثورة الفيتنامية من حيث امتدادها على فترة زمنية تقارب الثلاثين سنة ومن حيث أهميتها التاريخية والعالمية تحتاج إلى أكثر من كتاب لتحليلها كظاهرة تاريخية. فكل ما يمكن للملف أن يهدف إليه هو التركيز على بعض النقاط الأساسية التي يمكن استخلاصها من تجربة الثورة الفيتنامية فمن الطبيعي أن لا يتم تناول كل المواضيع من جميع جوانبها.
1-القوى الاجتماعية
هزالة البرجوازية القومية:
إن سيطرة الإمبريالية الفرنسية على فيتنام وارتباط الطبقات الحاكمة بها (إقطاع وكومبرادور) شكلا عائقا أمام نشوء برجوازية قومية (صناعية). فهي طبقة صغيرة الحجم (10 ألاف نسمة في الجنوب) تميزت تاريخيا بعجزها عن لعب دور سياسي مستقل بالنسبة للإمبريالية والجماهير الشعبية بسبب ارتباطها المزدوج بالإمبريالية والإقطاع وتقول وثيقة الحزب الشيوعي الفيتنامي صدرت في مؤتمره التأسيسي أن التناقضات الجزئية بين البرجوازية القومية والإمبريالية الفرنسية لا تمنعها من التحالف مع هذه الأخيرة في النضال ضد الحركة الثورية الجماهيرية. فالبرجوازية القومية، المرتبطة بالملكية العقارية الكبرى، تساوم مع الإمبرياليين الفرنسيين على حساب مصالح الجماهير الكادحة في الهند الصينية.
فهي عاجزة إذن عن المشاركة في أي نضال جذري ضد الإقطاع أو ضد الإمبريالية. ولكن إذا كان هذا الطرح ينفي مشاركة فعلية للبرجوازية القومية في العملية الثورية وخاصة مشاركتها في السلطة بعد الثورة فإنه لا ينفي إطلاقا تحالفا تكتيكيا مع هذه الطبقة. فتحالفات مؤقتة وحول نقاط محددة ليست ممكنة فحسب بل إنها ضرورية شرط أن يحافظ الحزب الثوري على استقلاليته التنظيمية والبرنامجية، ويحتفظ بموقعه الطليعي بالنسبة للحركة الجماهيرية ويكون له الحق في نقد البرجوازية وتذبذبها تجاه الإمبريالية أو الإقطاع أي النضال ضد أيديولوجيتها الليبرالية أو البرجوازية الصغيرة.
وقد بين مجرى الثورة الملموس هزالة هذه الطبقة. فنشأت حركات برجوازية معادية للاستعمار في أوائل القرن العشرين وتشكلت أحزاب قوية في العشرينات، لكن منذ سنة 1945، أي بداية الكفاح المسلح ضد الوجود الفرنسي تضاءل نفوذ هذه الأحزاب، وتخلت البرجوازيتان القومية والصغيرة عن قيادة الثورة أمام البروليتاريا على رأس الحركة الجماهيرية، كونها الطبقة الأكثر ثورية في المجتمع.
البورجوازيتان المتوسطة والصغيرة:
إن تجذر هاتين الطبقتين أتى نتيجة أوضاع الحرب التي وضعت البلاد في حالة اقتصادية واجتماعية لا تطاق، أمّا بالنسبة للبرجوازية المتوسطة فنزول الأمريكيين وسيطرتهم على البلاد وعلى جهاز الدولة قد جعلا هذه الطبقة ذات الثقافة ونمط العيش الفرنسيين ترى نفسها مبتعدة عن الحكم ولم تعد تستفيد من فتات المائدة. في الوقت الراهن تسعى جبهة التحرير القومية لأسباب تكتيكية إلى الحوز على تأبيد هذا الجناح البرجوازي المعادي للأمريكيين. فالجبهة تسعى إلى عزل النظام البرجوازي المهترئ من خلال حصر قاعدته الاجتماعية الطفيلية التي تستفيد من الحرب.
أما بالنسبة للبورجوازية الصغيرة، فالبلبلة والفوضى والفساد التي تسود البلاد جعلتها ترى في جبهة التحرير السبيل الوحيد إلى السلام والاستقرار تضم هذه الطبقة الحرفيين والتجار الصغار والمهن الحرة وخاصة الطلاب والأساتذة (زهاء 4 ملايين حاليا في الجنوب). وكان للطبقة البرجوازية الصغيرة دور هام في العملية الثورية منذ بداية الخمسينات من خلال النضالات الجماهيرية في المدن أو بالتحاق بعض عناصرها بالحرب الشعبية في الريف.
الفلاحون
يشكل الفلاحون حوالي 70% في المجتمع الفيتنامي وقد عانت الطبقة من شناعة استغلال الملاكين العقاريين وأتى الاستعمار ليسرع من عملية تمركز الملكية وليزيد من حدة الاستغلال.
ينشطر الفلاحون إلى الشرائح الاجتماعية التالية: بروليتاريا زراعية ذات وزن اجتماعي وسياسي ضخم (تشكل 60% من الفلاحين قبل الإصلاح الزراعي). وفلاحون فقراء ومتوسطون (35%).
لقد تدهورت أوضاع الريف خلال الثلاثينات وكان لأزمة 1929 العالمية أثر بالغ على هذا الوضع رافق تجذر الفلاحين الفقراء بروز البروليتاريا السياسي في المدن ونشوء الحركات العمالية (نقابات وأحزاب). ومنذ هذه الفترة، وخاصة منذ النضال ضد الإمبريالية اليابانية (في أواخر الثلاثينات) لعب الفلاحون دورا حاسما في النضال ضد كل الإمبرياليات التي وطئت الأرض الفيتنامية بتشكيلهم القاعدة الجماهيرية الأساسية للحزب الشيوعي. وتشكل مقاومة الفلاحين تحت قيادة الشيوعيين تجربة نضالية لم يعرفها التاريخ من قبل ولم تعرفها أية حركة تحرر قومي واجتماعي في عصرنا من حيث تماسكها وزخمها الثوري ووعيها السياسي المرتفع، ومن حيث العدو الذي يواجهها والدعم التي تحوز عليها عالميا، وأخيرا من حيث أهميتها التاريخية خاصة في الوضع الراهن للثورة العالمية.
ولكنه من الخطأ أن نعتبر أن الفلاحين الفقراء لا يشكلون سوى حليف برجوازي بالنسبة للبروليتاريا أي أن حركتهم حركة برجوازية ثورية تقتصر على تصفية الإقطاع والإمبريالية وتحصر نفسها في نطاق برجوازي ضيق.
وقد يقول البعض بأن الشعار التاريخي للحزب الشيوعي المحلي كان «الأرض لمن يعمل فيها»، شعار برجوازي محض. هذا صحيح، ولكن هناك عنصران في خط جبهة التحرير القومية يتخطيان إطار الطرح البرجوازي
1- التشديد على وحدة الشمال والجنوب، ففيتنام موحد لا يمكنها أن تكون سوى فيتنام اشتراكية.
2- تركيز الجبهة على ضرورة العمل الزراعي الجماعي الذي عرفه الجنوب في الأراضي المحررة خلال الحرب ضد فرنسا من ناحية، والذي يعطي أحسن النتائج في الشمال حاليا خاصة إن قورنت بأوضاع سائر البلدان المتخلفة، من ناحية أخرى.
منذ بداية الستينات كانت جبهة التحرير القومية تتخطى برنامجها السياسي. فبينما لم تكن الجبهة عند تأسيسها، في 1960، تتكلم عن إصلاح زراعي نرى أنها وزعت 1.5 مليون هكتار في ظرف سنة واحدة (60-61).
الطبقة العاملة:
قد يضن البعض أن الطبقة العاملة الفيتنامية، كنتيجة منطقية لضعفها العددي، لم تلعب في الثورة دورا سياسيا ذا أهمية. إن تاريخ الأمة الفيتنامية يدحض هذا الرأي دحضا كاملا. فالطبقة العاملة ممركزة في المدن تمركزا قويا وقد كانت قائد الأمة الفيتنامية الأكيدة منذ الثلاثينات. وكان موقعها في طليعة الحركة الجماهيرية يسمح لها بممارسة نفوذها الأيديولوجي والسياسي على الشرائح الاجتماعية غير البروليتارية. كانت بروليتاريا المدن تتصدر النضالات الاقتصادية والسياسية المعادية للاستعمار، وكانت شعاراتها تتعدى النطاق المهني لتكتسب طابعا سياسيا واضحا (معاديا للاستعمار) لكن بعد الحرب العالمية الثانية برز، إلى جانب النضالات العمالية في المدن، كفاح الفلاحين المسلح وانتقل مركز الثقل إلى الريف، لكن استراتيجية الحرب الشعبية لا ترتكز فقط على محاصرة المدن للريف (كما يقول ماو) بل على الصلة الفعلية بين نضالات المدن (أكانت مسلحة أم لا) ونضالات الريف. لكن وزن البروليتاريا السياسي سيظهر بكل أهميته عندما سنتكلم عن موقعها بالنسبة لسائر القوى الطبقية المشاركة في العملية الثورية.
تحالف العمال والفلاحين تحت قيادة الطبقة العاملة.
برهنت تجربة فيتنام ما يلي:
1- ضرورة تحالف ثوري بين العمال والفلاحين كشرط ضروري لانتصار أية ثورة شعبية في البلدان المتخلفة.
2- عجز الفلاحين عن لعب أي دور سياسي مستقل وبالتالي قيادي.
3- ضرورة قيادة البروليتاريا للتحالف العمالي-الفلاحي.
يقول لي ذوان (1969): «إن المسألة الجوهرية الرئيسية للثورة على الصعيدين القومي والعالمي هي توطيد الهيمنة الثورية للطبقة العاملة». ويقول أيضا (الثورة الفيتنامية-دار الطليعة): في ظل نظام شبه إقطاعي، فإن الطبقة العاملة في بلادنا، برغم صغر عددها، تمتلك قوة تفوق قوتها العددية كثيرا، وذلك لأنها عن طريق خطها الثوري الصحيح استطاعت أن تكسب حليفا طبيعيا (…): الفلاحين (ص 19) – إن الفلاحين سيصبحون قوة هائلة فقط بمصاحبة الطبقة العاملة. وبينما تتزايد قوة الطبقة العاملة عدة مرات لأن لها حليفا كبيرا هو الفلاحين، فإنه يجب أن يكون مفهوما أيضا أن قوة الفلاحين لا يمكن أن تلعب دورها الكامل إلا بالتحالف مع الطبقة العاملة وتحت قيادتها (ص21).
هل يستطيع الفلاحون أن يلعبوا دورا سياسيا قياديا أو على الأقل مستقلا؟ يجيب لي ذوان بشكل صريح لا يسمح بالالتباس: «إن الفلاحين ثوريون بدرجة عالية، ولكنهم لا يستطيعون أن يقودوا الثورة لأنهم لا يمثلون أي نمط إنتاج متميز، كما أنه ليس لهم وضع سياسي مستقل ولا أيديولوجية خاصة بهم. وفي الثورة القومية الديموقراطية في بلدنا، فإنهم يستطيعون فقط أن يسيروا مع الطبقة العاملة وتحت قيادتها –وإنهم لا يستطيعون حتى أن يقوموا بالثورة الزراعية بمفردهم». (ص 21).
3- ثورة على مراحل
من أهم المشاكل التي تطرحها الثورة الفيتنامية، وربما أهمها: استراتيجية الثورة، فإذا كانت الاستراتيجية التي يمارسها الشيوعيون الثوريون الفيتناميون لا تأتي بشيء أساسي جديد (من حيث الاستراتيجية) بالنسبة لباقي الثورات المنتصرة فإنها إثبات جديد لصحة نظرية الثورة الدائمة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من التراث البلشفي والتراث الماركسي الثوري بشكل عام. لكن ما يميز الفيتناميين (كالكوبيين) هو أنهم قد وعوا لسيرورة الثورة الفيتنامية، فتخطوا المقولات الستالينية البالية (ضرورة المرحلة الرأسمالية الديموقراطية، التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، التحالف الاستراتيجي مع البرجوازية «الوطنية» … الخ) ليتبنوا مقولات ماركسية ثورية (تحويل الثورة الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية اندماج المرحلة الديموقراطية بديكتاتورية البروليتاريا، عجز الفلاحين عن لعب دور سياسي مستقل، القيادة البروليتارية الثورية للثورتين الديموقراطية والاشتراكية الخ.). بينما نرى، من ناحية أخرى، القيادة الماوية لم تتخل حتى الآن عن المفاهيم الستالينية التي برهنت الثورة الصينية نفسها إصلاحيتها المعادية للثورة (دعم البرجوازية الوطنية في أندونيسيا، وباكستان والسودان والدعم «لفتح» … الخ).
دكتاتورية البروليتاريا:
تؤكد ثورة فيتنام ما أكدته كل الثورات الاشتراكية حتى يومنا (إذ كلها قد انتصرت في بلدان متخلفة): إن دكتاتورية البروليتاريا (أي الثورة الاشتراكية) هي السبيل الوحيد للحل الحقيقي والكامل للمهام الديموقراطية (إصلاح زراعي وتصفية الإقطاع بشكل عام) ومهام التحرر القومي (تصفية الإمبريالية). إن البلدان المتخلفة التي تحررت فعليا من الإمبريالية والإقطاع هي التي أقامت دولة عمالية (ديكتاتورية البروليتاريا) ونسفت علاقات الإنتاج الرأسمالية وضربت الطبقة البرجوازية الكبرى. أي أن ديكتاتورية البروليتاريا المرتكزة على تحالف الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، ليس «الحكم الديموقراطي الوطني»، هي الطريق الوحيد الكفيل بتصفية الإقطاع والإمبريالية وبالتالي «بإفساح المجال أمام الانتقال إلى الاشتراكية».
يقول هوشي منه «من أجل إنقاذ البلاد وتحرر الأمة ليس هناك طريق آخر غير الثورة الاشتراكية» (ص6 من كتاب لي ذوان) ولا بد أن يذكرنا هذا القول بجملة تشي الشهيرة: «وليس ثمة بديل: أما الاشتراكية أو مسخ من ثورة» [+] (1967).
ويشكل الإصلاح الزراعي خير برهان على هذا الطرح. فقد بدأ أول إصلاح زراعي في فترة 1952. لكن بعد معاهدة جنيف التي أعادت «السلام» إلى البلاد أجبر الفلاحون الجنوبيون على إعادة أراضيهم إلى الملاكين العقاريين بينما لم يحتفظ الفلاحون الشماليون بأراضيهم فحسب بل بدأ بعضهم بإنشاء التعاونيات الاشتراكية. والسبب في اختلاف أوضاع الفلاحين هو أن الجنوب كان في ظل نظام البرجوازية، أما الشماليون فكان يبني الاشتراكية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا المستندة على التحالف العمال-الفلاحي الثوري.
تحول الثورة الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية.
إن القرن العشرين هو عصر «الإمبريالية، عشية الثورة الاجتماعية البروليتارية» (لينين 1920) في هذا العصر لا تستطيع ثورة البلدان المتخلفة أن تحصر نفسها في نطاق ديموقراطي قومي (وطني) فإن نضوج الظروف الموضوعية، على الصعيد العالمي، من أجل بناء الاشتراكية يجعل هذه المرحلة غير ضرورية تماما. هذا من ناحية، ومن ناحية فإن عجز البرجوازية القومية (بسبب طبيعتها الاجتماعية بالذات أو بسبب خوفها من تحرك الجماهير) عن خوض نضال فعلي ضد الإمبريالية والإقطاع وخاصة عجزها عن تحقيق النصر النهائي عليهما، يجعل من قيام نظام «ديموقراطي وطني» (أي نظام) متحرر فقط من الإمبريالية والإقطاع) أمرا مستحيلا تمام الاستحالة.
يقول لي ذوان: «في البلدان حيث يلعب العمال والفلاحون الدور الحاسم، وحيث طليعة الطبقة العاملة هي التي تولت قيادة الثورة، فإن نجاح الثورة الديموقراطية القومية ليس فقط انتصارا للشعب على الإمبريالية والإقطاع، ولكنه أيضا انتصار لدولة من نوع جديد. ومن ثم فإن الانتصار في استكمال الثورة القومية الديموقراطية يعني افتتاح الثورة الاشتراكية. إن السلطة الثورية للعمال والفلاحين بقيادة الطبقة العاملة تشرع على الفور بالقيام بالمهمات التاريخية لديكتاتورية البروليتاريا: أي تحقيق ثورة اشتراكية وبناء الاشتراكية. وهكذا، وفي زمننا هذا، فإن الثورة القومية الديموقراطية بقيادة الطبقة العاملة هي بالضرورة مرتبطة بالثورة الاشتراكية» (ص65)[++]
لقد أممت الدولة المشاريع القليلة التي كانت موجودة. وأدت الثورة إلى تحطيم جهاز الدولة البرجوازية وتأسيس دولة عمالية تدير الإنتاج القومي وفقا للخطط الخمسية. وقد رأينا من ناحية أخرى كيف أن الثورة الزراعية في الريف لم تتوقف عند حدها البرجوازي بل تخطته وأقامت علاقات إنتاج اشتراكية في الريف. فقد انتقل الريف الفيتنامي خلال عشرين سنة، من علاقات إنتاج شبه إقطاعية إلى علاقات إنتاج اشتراكية.. وتعيش العائلات الفلاحية اليوم ضمن تعاونيات اشتراكية تديرها لجنة إدارية منتخبة من قبل الفلاحين وخاضعة لرقابتهم المباشرة. وتؤمن هذه التعاونية جماعية الملكية والعمل والتوزيع.
3-كيف تمارس فيتنام الحرب الثورية
تمتد الثورة الفيتنامية على فترة قياسية بالنسبة لحركة تحرر قومي، وهي تشكل العمود الفقري للنضال الثوري المعادي للإمبريالية وتجابه أقوى جيش إمبريالي في التاريخ.
لذلك تكتسب دراسة التجربة الفيتنامية أهمية أساسية بالنسبة للمناضلين الثوريين –وسنقتصر هنا على عرض لمختلف جوانب خوض الشعب الفيتنامي للحرب الثورية دون الدخول في مقارنة مباشرة مع المقاومة الفلسطينية. إلاّ أن المرء يمكنه بسهولة رؤية الاختلاف والتشابه، إن بالنسبة للحزب الثوري ودوره في شن الكفاح المسلح (ومسؤولية الأحزاب الشيوعية في هذا المجال) وأهمية التقاليد النضالية عند الجماهير، ومسألة الأيديولوجية المهيمنة عند المقاتلين وعلاقة الحزب بالمنظمة المسلحة (تجارب الجبهات في المقاومة) ودور النضال السياسي السابق للكفاح المسلح وخلال هذا الكفاح وبعده (وبشكل عام مسألة العلاقة مع الجماهير بما فيها داخل الأراضي المحتلة، ومنها الجماهير اليهودية ومشاركتها في الكفاح المسلح). وكذلك مسائل إستراتيجية الكفاح المسلح (أو غيابها) وفعاليته، وأهمية العمل على تفتيت الجيش المعادي (إن في فلسطين أو في الأردن مثلا)، والعلاقة مع الأنظمة المجاورة، واستقلالية القاعدة الاقتصادية، ومسألة قواعد الانطلاق، والدور السياسي والاجتماعي للنضال المسلح (المناطق المحررة). وهذه المسائل تتطلب دراسة لحالها، لا مجال للقيام بها هنا.
لمحة تاريخية
يمتد الكفاح المسلح في فيتنام منذ فترة المقاومة ضد الفرنسيين. وبعد نصر ديين بيين فو الشهير، في ماي 1954، انتهت المفاوضات باتفاقيات جنيف وتم ذلك بفضل المناورات الدبلوماسية للاتحاد السوفياتي والصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وانكلترا، التي ضمنت الاتفاقية. كان الشيوعيون يسيطرون على ثلاثة أرباع الشمال وعلى نصف الجنوب. وتم الاتفاق على تقسيم مؤقت لفيتنام، على أن تنسحب كل قوات «الفيت منه» إلى الشمال، وليتم توحيد البلاد بعد انتخابات عامة عام 1956 على الأكثر.
وغداة الاتفاق، أعلنت الولايات المتحدة أنها غير ملزمة به. وبدأت تعمل على تحويل الجنوب إلى قاعدة عسكرية كبرى لها، تمهيدا للقضاء على النظام الانتقالي نحو الاشتراكية الذي أقيم في الشمال، ولتشكل تهديدا دائما للصين الشعبية.
تركزت نضالات الجماهير في المدن في البداية على تحضير انتخابات عام 56، التي كانت قيادة هو شي منه واثقة من الفوز فيها. إلاّ أن شراسة قمع نظام تغودينه دييم قد تزايدت، وفي الوقت نفسه تطورت النضالات في المدن وتتالت الإضرابات. ومنذ سنة 56، قام دييم بحملة إبادة منهجية لرجال المقاومة السابقين، وبتنظيم حملات إرهاب مسلحة من قبل الشرطة: «حملة الوشاية على الشيوعيين»، وقوانين عرفية، الخ. وتم نقل السكان في الريف إلى معسكرات اعتقال واسعة (القرى الإستراتيجية).
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، ألغى دييم كل القوانين التي أقامها الغيت منه في المناطق التي كانت تحت سيطرته قبل جنيف. وقد حاول إعادة الأراضي إلى ملاكيها القدامى وأعاد نظام الاستغلال القديم، مما أثار مقاومة الفلاحين. وكانت النتيجة الإسراع بتوسيع القمع ليشمل كل السكان الريفيين. إلاّ أن إرهاب النظام لم يؤثر على عزم الفلاحين على النضال، وذلك بسبب التقاليد النضالية المتأصلة.
اتجه النضال السياسي آنذاك نحو مجابهة القمع، ولكن سلميا (جو التعايش السلمي، وباندونغ، الخ..) إلاّ أن شراسته فرضت البدء بالكفاح المسلح الذي جاء بشكل عفوي كمبادرة من الجماهير للدفاع عن نفسها (وربما قد جاء متأخرا، نظرا لنسبة الخسائر المرتفعة التي ألحقها القمع بصفوف الثوريين). وعندمها، بعد عدة سنوات من النضج السياسي للجماهير الريفية والمدينية، ثم في ديسمبر 1960 أول مؤتمر لجبهة التحرير القومية.
وقد مر تدخل الإمبريالية الأمريكية بمرحلتين:
1- من «الحرب الخاصة»إلى الحرب المحلية (1961-1964): في البداية حاول الإمبرياليون حصر الحرب بين الفيتناميين أنفسهم، مكتفين بمساعدة نظام دييم. وهذه كانت فترة تمشيط الأرياف وتجميع السكان في «قرى استراتيجية». ومن أصل 16000 «قرية» كان مقررا إقامتها، تم بناء 3700 دمرت الجبهة منها 2600 خلال عام واحد. وفي أواخر عام 1964، كانت قوات الجبهة على مشارف سيغون. عندها لجأت الإمبريالية الأمريكية إلى الهروب إلى الأمام، فقامت بقصف فيتنام الشمالية.
2- من الحرب المحلية إلى حرب الإبادة: عندها بدأ التدخل الأمريكي المباشر. وقد سمح به انقسام «المعسكر الاشتراكي» من جراء الخلاف الصيني –السوفياتي (وعصبوية الطرفين)، الذي جعله عاجزا عن التدخل لحماية فيتنام الشمالية. إلاّ أن المقاومة الهائلة لقوات التحرر الشعبية المسلحة قادت إلى هجوم «التيت» عام 1967، الذي كرس منعطفا في الحرب: إذ أجبر الأمريكيين على اتباع استراتيجية دفاعية لحماية المدن والقواعد، وكرس إقامة سلطة شعبية ثورية على امتداد البلاد تعبر عنها الحكومة الثورية المؤقتة، وأجبر الأمريكيين على الجلوس على طاولة المفاوضات.
واليوم، يعلن نيكسون إيقافه للمفاوضات، مستفيدا من نجاح مناورته للاستفادة من العداء بين الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي، وذلك في محاولة لكسب الوقت حتى انتخابات الرئاسية للمضي في تصعيد الحرب وتوسيعها.
جبهة التحرير القومية
يشكل الفلاحون الفقراء أكثر من 80% من قوات الجبهة. إلاّ أن وزنهم السياسي لا يعني أن الجبهة تنظيم فلاحي. فهي في الوقت نفسه الذي تنظم الفلاحين، تظهر لهم الضرورة المطلقة للتوجه نحو شكل من الإنتاج الجماعي.
وإلى جانب ذلك فإن الدور القيادي للطبقة العاملة إن على صعيد البرنامج أو التنظيم قد تم التأكيد عليه طوال المقاومة الفيتنامية. وأشد الأحزاب التي تؤلف الجبهة تنظيما، وأهمها، هو الحزب الشيوعي الثوري (اسم الحزب الشيوعي الفيتنامي في الجنوب، الذي أعيد تنظيمه عام 1962) ويقدر عدد أعضائه بحوالي 100 ألف عضو ونجد إلى جانبه الحزب الديموقراطي والحزب الراديكالي الاشتراكي، وهما يمثلان قوى أكثر تواضعا، ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالحزب الشيوعي واستراتيجيته. ذلك إلى جانب مختلف المنظمات الجماهيرية، والدينية والجامعية والعرقية والنقابية، الخ. التي تخضع سياسيا وتنظيميا للجنة المركزية للجبهة.
استراتيجية الحرب الشعبية
يشكل الترابط بين النضال العسكري والاستراتيجية السياسية إحدى لازمات التفكير الاستراتيجي للثوار الفيتناميين. وهذا التفكير يظهر كتطبيق للسياسة والخط العسكري الماركسيين على الظروف الخاصة لبلد مستعمر يناضل من أجل إعادة الاستقلال وإقامة الاشتراكية.
وقد وجد هذا الترابط التعبير عنه في نظرة «نقاط الهجوم الثلاثة»: النضال المسلح، والنضال السياسي، وعمل الإقناع والشرح بين القوات المعادية.
1-النضال المسلح: لقد تطور التفكير الاستراتيجي عند الفيتناميين خلال الحرب ضد الإمبرياليين الفرنسيين والحرب الحالية. إن الحرب ستكون، نظرا لميزان القوى غير الملائم في البداية، حربا طويلة الأمد. ويميز تروونغ شينه في الحرب الأولى ثلاث مراحل، ويمكن أن نجدها بشكل عام في الحرب الحالية.
* فنحن في البداية ضعفاء والعدو قوي. فاستراتيجيتنا هنا دفاعية، وتسود فيها حرب المواقع. وحين يتسع نطاق نشاط العدو، تترك حرب المواقع المجال لحرب المناورة التي تصبح شكل القتال الأساسي.
* وفي المرحلة الثانية، يكون هدفنا السياسي والعسكري تفتيت القوى المعادية وإبادة وحدات منها وملاحقتها على الدوام، لشلها وتعبئة الشعب لحمل السلاح. وهذه أطول المراحل وفي نهايتها يبدأ التحضير للهجوم المضاد، بعد تعادل القوى.
* المرحلة الثالثة، هي مرحلة الهجوم المضاد. وهي تتميز بكون قوانا قد ازدادت عددا وعدة، بينما القوى المعادية قد ضعفت نسبيا، وهبطت معنوياتها، وتتعرض لصعوبات شاقة. وهذه المرحلة في بدايتها تسود حرب المناورة التي تساعدها حرب العصابات الشعبية، ثم وعلى نطاق واسع تتسع حرب العصابات لتصبح حرب تحركات، وفي النهاية تتحول حرب العصابات إلى حرب مواقع، التي هي الشكل المهيمن في المرحلة النهائية.
●ما هي أساليب القتال التي تتميز بها الحرب الشعبية وتتفوق فيها؟
يعرض تروونغ سون، في حساب نتائج حملة «فصل الجفاف» [أكتوبر 1966 إلى مارس 1967]، بعض المبادئ العامة للتكتيك العسكري لجبهة التحرر القومية:
«إن قرارا إستراتيجيتنا وانتقاء حذتا لأساليب القتال ليس ممكنا إلاّ بعد دراسة النية الإستراتيجية للعدو واكتشاف قوانين وإمكانيات عمله».
يجب أن يصب هدفنا في «الحفاظ على موقعنا الهجومي وتطويره، وبناء مبادراتنا على ساحة المعركة والإمساك بزمامها جيدا وتوسيع نطاقها، وإجبار العدو على القتال حسب رغباتنا.» وذلك يعني إجباره على «…بعثرة قواته وتقليص اتساع تجهيزاته، مما يسمح بضربه في كل الأمكنة. ومن جهة أخرى نمنعه من استعمال التكتيكات التي يمتاز فيها [معركة مرصوصة مع تمركز قوى، وخط جبهة محدد، وحماية مؤمنة للمؤخرة، مما يسمح له بالاستفادة من تفوقه في القوة النارية وقدرته الكبيرة على الحركة].
«ولذلك سيتبع أسلوب حرب دون خط جبهة، ودون هدف محدد نهائيا، مع تجمع وتفرق بسرعة، وتتالى المناوشات والهجومات المركزة، ضاربين العدو في الوقت نفسه في كل مكان».
ويمكننا أن نجد هذا أيضا في الحرب ضد الجيش الفرنسي، إذ أن تفوقه التقني لم تفده لكسب الحرب. وكان الفرنسيون واقعين في «تناقض أساسي»: فإذا اتبعوا استراتيجية دفاعية عرضوا أنفسهم لهجوم الثوار وملاحقتهم وتركوا لهم مجالا حرا للنشاط. وإذا انتقلوا إلى الهجوم وأجبروا الثوار على التراجع، عادت العصابات وتشكلت في مؤخرتهم. وإمكانية إبدال الجبهة والمؤخرة هذه بالنسبة للثوار يفسرها التداخل الوثيق بين الجيش الثوري وجمهور الشعب، حيث يمكن للجيش أن يذوب ثم يتشكل من جديد على مؤخرة القوات المعادية. «وحرب الشعب كله» هذه هي وحدها التي تسمح للثوار بالحصول على المعلومات والمساعدة والتموين والأسلحة اللازمة لكي يتنظموا، ويستطيعوا العيش في مناطق ومخابئ. وهي تفسر كذلك إمكانية وجود «مناطق محررة رغم تواجد مراكز عدوة»، أي تأمين حماية أرض وسكان أرض وسكان منطقة وإمكانية الحركة فيها، حيث يبقى السكان مسيطرين عليها، رغم وجود عشرات المراكز المعادية.
واندفاع الجماهير ومشاركتها بالقتال يعزز منه إلى حد كبير الدور السياسي والاجتماعي للكفاح المسلح، أي التغييرات التي أحدثت في البيئة الاجتماعية في المناطق المحررة. وهذه المناطق تشكل قاعدة اقتصادية ضرورية للمقاومة. وتشارك الجماهير مباشرة بالقتال، فتروونغ سون يقول بضرورة تقسيم عقلاني للعمل، للاستفادة، في الوقت نفسه، من إمكانيات البالغين والشيوخ والنساء والأطفال. ونجد كذلك تنسيقا في استعمال الأساليب الحديثة والأساليب البدائية [أفخاخ، الخ] في القتال.
إن هذا كله يخلق قدرة هجومية عامة وشاملة، ويسمح للجيش الشعبي بتكييف خطته القتالية بحيث يستطيع الانتصار على قوة تفوقه عددا كما يستطيعه على قوة تصغره.
هذا وتتألف القوات المسلحة الثورية من ثلاث فئات من القوات: ميليشيا العصابات الشعبية، والقوات المنطقية، والقوات النظامية. ودور المليشيا هو الدفاع الذاتي، وهي باستطاعتها أن تجابه وحدات نظامية أمريكية، والقوات المنطقية قادرة على القيام بعمل مستقل على نطاق واسع. أما القوات النظامية فهي قادرة على إبادة فرق كاملة من المشاة أو المدرعات أو الدبابات. ويتم القتال بتركيبة عمل هذه الفئات الثلاثة حسب الظروف.
يبرز من كل هذا تفكير عسكري شامل ومنظم، ونظرة استراتيجية واضحة تدخل فيها كافة أنواع العمليات لتؤدي بتركيبها إلى الهدف المرجو، مع تحديد واضح لأهداف مرحلية يجب بلوغها، تدخل في نظرة استراتيجية واحدة. ويبرز شيء آخر: وهو دور السكان وأهمية دعمهم للنضال ومشاركتهم به. إن هذا يدل بوضوح على أن حرب العصابات ليست تكتيكا سحرية يسمح بالتفوق على العدو والانتصار بسهولة، ملغيا كل ضرورات العمل السياسي العادي الشاقة. وإنما هي في النتيجة تكملة لاستراتيجية حزب سياسي مرتبط بالجماهير، وذلك حتى في الميدان العسكري.
وهذا بحد ذاته يلغي أية نظرة «بؤرية». فحرب العصابات في فيتنام قد استفادت في توسعها من وجود حزب سياسي يملك تجربة نضالية [سياسية وعسكرية] طويلة.
2-النضال السياسي: وهو ليس مجرد ملحق بالنضال المسلح أو فقط شرط مسبق له. إن النضال السياسي مهم في المناطق المحتلة من قبل العدو، وفي المناطق المحررة. وبدونه لا يكون القتال الناجح ممكنا.
يأخذ النضال السياسي في المناطق المحتلة أشكالا متنوعة وعديدة: مظاهرات، الحصول على المعلومات والمؤن، النضال ضد غلاء المعيشة، النضال داخل الجهاز الإداري الشرعي. وكذلك تنظيم الفلاحين للقضاء على «القرى الاستراتيجية»، حيث يبرز الالتحاق بالجبهة كردة فعل دفاعية جماعية، لا كعمل بطولي فردي.
إن مشكلة الطبقة العاملة [في الصناعات، والمرافئ، ومزارع الكاوتشوك..] في النضال أساسية. وتقوم الجبهة بعمل داخل النقابات. وتقوم كذلك بعمل بين صفوف الطلاب الذين يناضلون ضد تجنيدهم.
3-عمل الإقناع والشرح في صفوف قوات العملاء: وهو يقوم على كسب الجنود بشكل فردي. وتظهر نتائجه خلال الحملات التي يقوم بها الثوار. إن ذلك يزرع مناخا من عدم الثقة داخل الجيش المعادي، ويساهم في زعزعته وإضعاف وخفض معنوياته. وقد بلغ عدد الفارين من الجيش، عام 1966-1967، 200 ألف شخص.
لقد برزت كل هذه الجوانب بوضوح خلال الهجوم العام في عيد «التيت» في فبراير 1967. فلولا وعي السكان السياسي ومشاركتهم لما أمكن التحضير لمثل هذا الهجوم الواسع [الذي شمل كل جنوبي فيتنام] بمثل هذه الدقة وبأدنى تفاصيله. وقد ظهر تنسيق «نقاط الهجوم الثلاثة» بوضوح: فقد جاء الهجوم العسكري في سايغون وهوي ودانانغ وكل جنوبي فيتنام متناسقا مع مظاهرات سياسية قامت تضامنا مع جبهة التحرير القومية. وكانت نتيجة العمل في الجيش والجهاز الإداري أن قامت الكثير من وحدات العملاء بالانتقال جماعيا إلى صفوف الجبهة.
جلي أن تجربة فيتنام لا تتطابق أبدا مع «محاصرة الأرياف للمدن». فإذا كان الاحتلال الأجنبي ينقل من أهمية المدن إلى الريف، فإن أساسية المدن لا تقل من جراء ذلك. ويقول نغويين خاك فيين: «لقد عرفنا على الدوام تنقلا مستمرا بين المدن المحتلة والأرياف المحررة إلى هذا الحد أو ذاك. فالحركة الثورية في المدن لم تتوقف لحظة واحدة عن تزويد الثوار بالأدوية والآلات والمعلومات والرجال…» إن العمل داخل المدن ينسق مع العمل الخارجي. ويتم الاستيلاء على السلطة في مقاطعات ريفية ومدينية في آن معا. وتسيطر الجبهة، في المدن، على عدة نقابات وهي تقود «تجمع الشغيلة في سبيل تحرر جنوبي فيتنام». وتاريخ الطبقة العاملة القريب حافل بالنضالات [491 ألف مضرب عن العمل عام 1964] والنضالات السياسية.
ويبرز الدور القيادي للحزب الشيوعي داخل الجبهة [مما يفترض وجود حزب شيوعي ثوري منظم وممركز يخوض النضال، ومنفصل عن الجبهة التي هي الإطار الضروري لضم أوسع القطاعات في الكفاح المسلح] كشرط أولي للنجاح. وهو يتجلى في كون المسؤول الأول عن الجيش الفيتنامي الجنوبي [وزير الدفاع في الحكومة الثورية المؤقتة] عضوا في قيادة الحزب الشيوعي. يقول جياب: «يجب السهر بشكل خاص على التربية السياسية والقيادية الأيديولوجية للكوادر والمقاتلين، وعلى تلقينهم الماركسية-اللينينية، ورفع وعيهم الطبقي». ويقول لي دوان: «يجب النضال ضد كل ميل لإضعاف دور الحزب ولحله داخل الجبهة القومية».
إلاّ أن قيادة الحزب للجبهة ما كان يمكنها أن تعمل لولا الأساس الاجتماعي للجيش الشعبي [الفلاحين الفقراء] والبروليتاريا، التي تلعب الدور القيادي رغم ضعفها العددي].
إن التنظيم الداخلي للجيش يطبق المركزية الديموقراطية السائدة في الحزب. فيجري تحضير كل الهجومات وخاصة الحاسمة منها من قبل مجمل الكوادر والمقاتلين من كل المستويات. إلاّ أن الانضباط التام مطلوب خلال العملية وعلى الجنود تنفيذ المهام التي يوكلون بها. وما أن تنتهي العملية حتى يصبح القادة والجنود من جديد متساوين بالنسبة لنقد العملية.
من الطبيعي أنه توجد رتب في الجيش. إلاّ أن القادة المنتخبين من قبل الجنود يجب أن يحوزوا على ثقتهم، وإلاّ فيمكن لهؤلاء استبدالهم بضباط أكثر قدرة.
بذلك يتم تجنب الفوضى والتفكك وعدم الانضباط كما يتم تجنب المركزية المتحكمة، وهما ميلان كان على مؤسسي جيش التحرير الشعبي محاربتهما. ويحللهما جياب على أنهما يعكسان أيديولوجيات لا بروليتارية، بورجوازية أو فلاحية. وذلك مفهوم متى تذكرنا أن الجيش مؤلف أكثر من 80% منه من الفلاحين. إن الوسيلة الوحيدة لتجنب ذلك، كما يقول جياب، هي تعزيز الأيديولوجية البروليتارية بالحفاظ على الدور المهيمن لخلايا الحزب في الجيش.
في النهاية، ليس ذلك التنظيم الداخلي للجيش الثوري ممكنا إلاّ بفضل الدور القيادي لحزب البروليتاريا.
إن التجربة الثورية الفيتنامية تؤكد أن تكتيك الكفاح المسلح ما هو إلاّ تعبير عن الاستراتيجية السياسية، وعلى الحزب الثوري أن يستخدمه بالشكل المناسب لظروف البلاد، لا استنادا إلى مبدأ مطلق مسبق [محاصرة الريف للمدينة، أو البؤرة الثورية أو الانتفاضة.. الخ.] وإنما بتركيب خلاق لكافة الأشكال.
4-البعد العالمي لثورة الهند الصينية
يشكل اتساع رقعة الثورة الفيتنامية لعامة الهند الصينية أهم ظاهرة ثورية لعقد الستينات. واتساع هذه الثورة أتى كنتيجة مباشرة لمبادرة الإمبريالية الأمريكية نفسها التي رأت أن الحل الوحيد لهزائمها المتتالية هو تعميم النزاع. فالإمبريالية نفسها لا تلتزم بالحدود القومية [أو القطرية] كون نظامها نظاما عالميا. لم تستطع الولايات المتحدة صد الهجوم الثوري الفيتنامي إلاّ من خلال قصف فيتنام الشمالية وتتالي الانقلابات على يد المخابرات الأمريكية (سي، أي، أي] وهذا في لاوس [57، 61، 64] وكامبوديا [59، 70] وجنوبي فيتنام…
لكن امتداد العملية الثورية إلى كافة الهند الصينية زاد موقف الولايات المتحدة تأزما. فخلال سنة واحدة فقط استطاع الثوار الكامبوديون تحرير خمس مقاطعات كليا و80% من عشرة أخرى و65% من أربعة أخرى.
واليوم قد ارتقى الثوار في الهند الصينية إلى مستوى الواقع الموضوعي لثورتهم، فقد عبروا عن السيرورة ما فوق القطرية [ما فوق القومية] لثورتهم من خلال تأسيسهم «الجبهة الثورية الهند الصينية» التي تمثل القيادة الموحدة لثورة الهند الصينية في وجه القيادة المركزية للثورة المضادة المتمثلة بالإمبريالية الأمريكية والزمر الفاشستية الموالية لها.
لكن الثورة الفيتنامية لم تتخط الحدود القومية فحسب بل كسبت أيضا معنى قاريا شاملا، فما هو السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تنزل [في 1965] نصف مليون جندي في جنوب فيتنام وتدفق مئات ملايين الدولارات للأنظمة العميلة المحيطة بفيتنام الشمالية وتنعزل سياسيا على صعيد الرأي العام الدولي [قارن مع حرب كوريا في 53 التي شنتها أمريكا تحت راية الأمم المتحدة]؟ هل هو تدمير علاقات الإنتاج غير الرأسمالية في فيتنام الشمالية كما يقول البعض؟ كلا، إن المصالح الأمريكية في فيتنام لا تفسر أهمية المواجهة بالنسبة لأمريكا. لكن مصالحها في المنطقة المجاورة [تايلندا، ماليزيا، أندونيسيا، بورما الخ…] هي بالفعل ضخمة. ما تريده أمريكا هو الحؤول دون امتداد هذه الثورة التي نشأت في الصين وفيتنام. إنها لا تريد أن تسقط «الحلقة الفيتنامية» فتسقط الحلقات الأخرى اللاوسية والكامبودية الخ، فتنهار السلسلة الإمبريالية بكاملها على المدى المتوسط والبعيد. إن الولايات المتحدة تهدف إلى صد تطور الثورة الاشتراكية في آسيا.
لكن فيتنام هي أيضا رمز الثورة الكولونيالية، إلى جانب أهميتها على صعيد الهند الصينية وآسيا. إن شعوب الهند الصينية تدل شعوب «العالم الثالث» على طريق التحرر القومي الفعلي وطريق الاشتراكية البروليتارية. إن أي شعب مضطهد يستطيع تحقيق النصر على الإمبريالية، مهما كان وضعه الاقتصادي [والثقافي] متخلفا أو حجمه صغيرا، شرط أن يلتزم بالاستراتيجية الثورية وأن يقوده حزب شيوعي ثوري ذي خط سليم [جيش شعبي، التحالفات التكتيكية، مشاركة الجماهير الخ]. هنا تكمن علة شراسة الحرب التي تشنها الولايات المتحدة، إنها تريد برهنة العكس، أي أن قوة «زعماء العالم الحر» لا تقهر.
إن الثورة الفيتنامية تكتسب كل أهميتها التاريخية والعالمية إذا رأينا ما هو دورها التاريخي وموقعها الراهن في الثورة العالمية-فبعد الحرب العالمية الثانية عرفت الثورة الكولونيالية مدا جديدا [نشوء دول عمالية جديدة] ولكن مباشرة بعد انتصار الثورة الكوبية التي كانت تتويج هذا المد، قامت الإمبريالية بهجوم مضاد كان هدفه منع تحول الثورة الكولونيالية إلى ثورة اشتراكية [التجربة الكوبية]. وكان هذا الهجوم منتصرا [برازيل، أندونيسيا، الكونغو، يونيو 67 الخ..] حتى وصل إلى فيتنام. إن الموجة الإمبريالية المضادة للثورة تسير من نصر إلى نصر حتى تحطمت على صخر صلابة الثوار الفيتناميين وبطولتهم.فتحول العدوان الأمريكي من رأس حربة الهجوم الإمبريالي إلى أول هزيمة كبرى تلحق بالإمبريالية الأمريكية منذ أمد طويل. وعلى الساحة الفيتنامية يشكل هجوم «التيت» عام 1968 هذا المنعطف حيث انتقل زمام المبادرة [العسكرية والسياسية والديبلوماسية]، استراتيجيا، إلى أيدي الثوار الشيوعيين.
وقد رافق مقاومة فيتنام المنتصرة عدة عوامل على الصعيد العالمي: الأزمة الاقتصادية في الدول الإمبريالية، ظهور حركة شعبية ثورية، أزمة البيروقراطية في الدول العمالية المبقرطة. وعلينا أن ننظر إلى هذه العوامل في ارتباطاتها وتأثيرها المتبادل لكي نفهم كيف أن سنة 1968 تشكل منعطفا في تاريخ الثورة العالمية [مماثل لسنتي 1848 و1919] يتميز بميزان قوى بين البرجوازية العالمية والجماهير الشعبية يميل لصالح هذه الأخيرة. ففي الوقت الراهن [منذ 1960 ولفترة تاريخية مقبلة معينة] حيث تشكل الثورة الهند الصينية طليعة النضال الثوري المعادي للإمبريالية، إن الوضع العالمي مرهون إلى حد كبير [لكن لا بشكل آلي] بمصير الكفاح البطولي الذي تخوضه الشعوب الثورية في هذه البقعة من العالم.
وهذا التحليل، الذي تتقدم به الأممية الرابعة، هو على أي حال أيضا تحليل الثوار الفيتناميين أنفسهم.
يقول لي ذوان في كتابه المذكور أعلاه: «ودون أدنى شك، فإن الثورة العالمية هي اليوم في وضع هجومي يزاد ثباتا وقوة مع كل يوم يمر [ص 151]… إن مقاومة الشعب الفيتنامي للعدوان الأمريكي، من أجل التحرر القومي هي قمة موجة نضال شعوب العالم ضد الإمبريالية [ص152] إن شعبنا يقف في مقدمة جبهة المعركة الثورية التي تخوضها شعوب العالم ضد الإمبريالية القومية [ص 152] –وهذا القول يذكرنا بقول غيفارا الذي كان يعتبر فيتنام «الخندق الأمامي للبروليتاريا العالمية».
والفيتناميون واعون لأثر نضالهم على أزمة الإمبريالية كما هم واعون لتأثير الوضع العالمي الثوري على نضالهم. يقول جياب: «إن الثورة الفيتنامية جزء لا يتجزأ من الثورة العالمية. كل حدث كبير يجري في العالم يؤثر على نضال شعبنا، بالمقابل هذا النضال يؤثر بشكل لا يستهان به على الحركة الثورية لمختلف بلدان العالم».
نرى إذن أن الفيتناميين يجارون غيفارا في التشديد على العلاقة الموجودة بين مختلف جبهات النضال المعادي للإمبريالية وطرح «ضرورة إقامة جبهة متحدة من شعوب العالم ضد الإمبريالية الأمريكية» [لي ذوان] تضم البلدان الاشتراكية والحركة الشيوعية والعمالية العالمية وحركة التحرر القومي. [راجع الفقرة الأخيرة من المقال قمة ماو-نكسون «المناضل عدد 9»].
إن ثورة الهند الصينية صامدة في وجه التدخل العسكري والمساومات الديبلوماسية. إنها تظهر من خلال تأكيدها على استقلاليتها وعزيمتها على النصر، أكثر من أي وقت مضى، كحجر الزاوية في الوضع العالمي. إنها الصخر التي تتحطم عليه جبهات الإمبريالية ضد الثورة الكولونيالية. إنها نقطة ارتكاز من أجل هجمات ثورية جديدة. إنها المثال المطروح على جميع المناضلين في العالم أجمع. إنها المثل الذي دعا تشي غيفارا إلى تكراره في أكثر من بقع العالم الرأسمالي. □■□
إن تجربة فيتنام أكدت مسائل عديدة من تراث الماركسية الثورية [التعبير النظري عن الحركة العمالية العالمية] كما أضافت إليه مسائل أخرى. ونذكر من دروس التجربة الفيتنامية الثورية: «القفز» فوق مرحلة النمو الرأسمالي، تحالف العمال والفلاحين تحت قيادة بروليتارية ثورية الدور القيادي للحزب الثوري في جبهة التحرير القومية، الاستفادة التكتيكية من التناقضات بين البرجوازية المحلية والإمبريالية العالمية، العلاقة بين الكفاح المسلح والعمل السياسي الجماهيري [تحريض، دعاية، تعبئة]، العلاقة بين الثورة الديموقراطية والثورة الاشتراكية، العلاقة في الريف بين النضال ضد الإقطاع [تفتت الملكية] والنضال ضد علاقات الإنتاج الرأسمالية [التعاونيات الاشتراكية] الصراع الطبقي الذي ليس له من القومية سوى الشكل، ضرورة قيادة للثورة تتخطى القطرية، العلاقة بين الثورة العالمية والثورة القومية، العلاقة بين بناء الاشتراكية في الداخل والثورة العالمية الخ… فكل هذه الدروس جد أساسية وهي بمثابة تأكيد وتطوير لدروس ثورة أكتوبر الروسية، دروس اللينينية. لكن يسار المقاومة قد أغفل ترابط هذه الدروس إذ لم ير في التجربة الفيتنامية سوى جانب، هو كونها ثورة دائمة، وقد غاب عنه كليا جانب آخر لا يقل أهمية، وهو أيضا مشترك بين التجربتين البلشفية والفيتنامية، عنينا: دور الحزب الثوري.
وفي هذا مفتاح أزمة المقاومة والحركة الثورية في المنطقة بأسرها.
مجلة المناضل الشيوعية الثورية – لبنان
العدد العاشر – ؟197
هوامش
*- ويعبر لي ذوان عن الخيار المصيري المطروح على البلدان المتخلفة: أما إمبريالية أو ديكتاتورية البروليتاريا، يقول: «إن انتقال الثورة الديموقراطية القومية مباشرة إلى الثورة الاشتراكية متخطية مرحلة النمو الرأسمالي هو الطريق الوحيد الذي يضمن النصر الكامل لقضية التحرر القومي، ويضمن الاستقلال الحقيقي، والتقدم دون انقطاع، والازدهار للشعوب التي ظلت حتى ذلك الوقت في حالة من التخلف الاقتصادي والثقافي تحت نير الإمبريالية والاستعمار»، (ص15)
** إن الرفاق الفيتناميين يعتبرون تحول الثورة الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية ظافرة تاريخية تشمل على جميع البلدان ذات التطور البرجوازي المتأخر. يقول لي ذوان: «في المرحلة الراهنة، حيث تضمحل الرأسمالية وتتحلل أكثر فأكثر وحيث أصبحت الاشتراكية… نظاما عالميا… فإن مسألة التقدم إلى الاشتراكية قد أصبحت ضرورة تاريخية، ليس فقط بالنسبة إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة، ولكن أيضا بالنسبة إلى تلك البلدان المتخلفة اقتصاديا التي استطاعت استعادت استقلالها القومي» (ص66).
اقرأ أيضا