تناقضات استراتيجية رأسالمال للانتقال إلى اقتصاد مغربي ” أخضر”، تكشف عن أوهام “التنمية المستدامة”
نشر هذا النص بموقع جميعة أطاك المغرب، نعيد نشره تعميما للفائدة.
يهيئ المغرب منذ بداية الألفية الثالثة استراتيجيته “للتنمية المستدامة ” منتجا ترسانة من الدراسات والوثائق والبرامج والقوانين والمخططات ومحدثا عدة صناديق قصد تأمين الانتقال إلى مغرب ” أخضر”، كما يزعم حكامه، وبهدف التكيف مع آثار التغيرات المناخية والتقليص من انبعاثات الغازات الدفيئة انسجاما مع التزامات البلد اتجاه الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة بشأن التغيرات المناخية (إإأمتم).
تلا احتضان مراكش لمؤتمر الأطراف السابع سنة 2001، إحداث صندوق محاربة التلوث الصناعي سنة 2003، الصندوق الوطني للبيئة (2004)، صندوق رأسمال كاربون المغرب (2008)، صندوق التنمية الطاقية (2009)، إعداد المخطط الوطني لمكافحة الاحتباس الحراري (2009)، الميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة (2010)، التقرير الخاص بأجرأة ” إإأمتم” (2011)، وثيقة سياسة التغيرات المناخية، مخطط الاستثمار الأخضر، القانون الإطار المتضمن للميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة سنة 2014 ، الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة (2015)، تقديم “المساهمة المرتقبة و المحددة وطنيا ” (2015)، تحويل الصندوق الوطني للبيئة إلى الصندوق الوطني لحماية البيئة و التنمية المستدامة سنة 2016 والذي تغذيه الضريبة البيئية على استيراد المواد البلاستيكية التي تم تخفيضها من نسبة 1.5 إلى 1 بالمئة بموجب القانون المالي لسنة 2016 ، إعداد ثلاث تقارير وطنية ل”إإأمتم” على التوالي سنوات 2001، 2010، 2016. وقد تم تشكيل عدة هيئات تشرف على تطبيق التزامات المغرب الدولية التي يُرَوج لها كأهداف لمكافحة الاحتباس الحراري كاللجنة الوطنية للتغيرات المناخية، اللجنة الوطنية العلمية والتقنية للتغيرات المناخية، اللجنة الوطنية لتتبع ومراقبة الهواء، سلطة وطنية مكلفة بميكانيزم التنمية النظيفة، المديرية المركزية المكلفة بالتغيرات المناخية والتنوع البيولوجي والاقتصاد الأخضر…وحاليا يتم التحضير لمؤتمر الأطراف 22 في ظل وضع بيئي كارثي محليا وعالميا.
لا يمكن لغالبية ساكنة المغرب المتضررة من الوضع الاقتصادي والاجتماعي القائم إلا أن تقتنع بلا جدوى هذه الترسانة من البرامج ذات الكلفة الباهظة على المالية العامة دون أثر يذكر في اتجاه تحسين أحوال البلد الذي لازالت سياسات القائمين على تدبير شؤونه تفاقم من مديونيته. فكل السياسات التي يتم إعدادها ليست سوى سعي محموم للدولة من أجل تهييئ أرضية لإطلاق فرص استثمارات جديدة لرؤوس أموال تبحث عن حقول ذات مردودية عالية مستفيدة من دعم الدولة وشروط مناسبة للتمويل.
فمن يمتلك السلطة ليوظفها في خوصصة الخدمات العمومية من تعليم وصحة وماء مثقلا كاهل الأجراء والفلاحين الصغار والفقراء بكلفتها المرتفعة، وفي عقد اتفاقيات للتبادل الحر تغرق السوق المحلية ببضائع مضرة بالصحة والبيئة، وفي حرمان الغالبية من سكن لائق، وفي استيراد النفايات الخطيرة للبلدان المصنعة لتخفيض كلفة صناعة باطرونا البلد دون مراعاة للمجال البيئي وصحة الساكنة، وفي الإجهاز على حق ألأجراء في تقاعد يضمن لهم شيخوخة “نظيفة”، وفي سن قوانين شغل تكرس الهشاشة والمرونة وتسمح بظروف عمل مهددة للسلامة الصحية في المناجم والمصانع والمدارس، وفي إغداق الامتيازات على المنعشين العقاريين والفلاحين الكبار وأباطرة الصيد البحري، وفي إطلاق العنان للتهرب الضريبي وتهريب الأموال لا يمكن البتة و بأي حال من الأحوال القبول بسياساته أو التماهي معها أو اعتبارها إطارا للتفاوض. إلا أنه من واجب كل مناضل من أجل مغرب آخر ومن أجل العدالة المناخية أن يعمل جاهدا من أجل فضح التناقضات التي تحملها برامج الدولة والكشف عن رهاناتها وعن زيف ما تدعيه ووضع الحد الفاصل بينها وبين مطالب العدالة المناخية التي ستلبي حاجات من نخرتهم سموم أوراش ومصانع الرأسمالية.
يُسَوق المتحكمون في السياسة الاقتصادية والبيئية بالمغرب لقدرتهم على قيادة تحول الاقتصاد المغربي إلى “اقتصاد أخضر” يراعي التوازنات البيئية ويفتح آفاق جديدة لخلق الثروة وإحداث مناصب الشغل، معتبرين ذلك طريقا لتشييد “تنمية مستدامة ” وفقا لالتزاماتهم الدولية بعد التوقيع على “إإأمتم” سنة 1992 والمصادقة عليها سنة 1995 كما المصادقة على بروتوكول كيوطو سنة 2002.
في هذا الإطار، هيأت الدولة استراتيجيتها للتنمية المستدامة التي تتضمن آليات بناء اقتصاد أخضر يأخذ على عاتقه الإشكالات البيئية من منظور السوق ومن زاوية مصالح الرأسمال الذي يطمح إلى الرفع من مردوديته بالاستحواذ على قطاعات بعينها، منتقاة حسب ما تَعِد به من أرباح مستقبلية عالية دون أن يكون لذلك أي انعكاس إيجابي على الوضع الاقتصادي والبيئي بالمغرب أو على المساهمة في مكافحة التغيرات المناخية.
يمكن حصر الأدوات الاقتصادية التي تقترحها ” الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة” للانتقال إلى “اقتصاد أخضر” في: الضريبة البيئية والدعم للاستثمار الأخضر من جهة و”مالية المناخ” لمكافحة التغيرات المناخية والحد من انبعاثات الغازات الدفيئة من جهة أخرى. من المتوقع أن يتم هذا الانتقال في ظل سياسة تحرير السوق والتجارة بالاستمرار في تشجيع التبادل الحر والخوصصة.
الضريبة البيئية: الصدفة الفارغة
يمتص إنتاج السلع والخدمات الموارد الطبيعية مما يسبب ضررا للتوازنات البيئية، لذلك يقترح الاقتصاديون الليبراليون قياس قيمة هذه الموارد ليتضمنها سعر السلع والخدمات المنتجة والمستهلكة. فمن شأن اعتبار “الرأسمال الطبيعي” عاملا من عوامل الإنتاج إلى جانب الرأسمال والعمل أن يجعل المستهلكين للموارد، المتسببين في الضرر البيئي، مسؤولين عن أفعالهم عبر تأديتهم لكلفة هذا الضرر. حسب نفس المنظور، يجب التأسيس للكلفة الحقيقية للإنتاج أولا عبر احتساب كلفة التلوث وثانيا عبر تحديد ميكانيزم لإدخالها في سعر السوق بتفعيل مبدأ الملوث-يدفع. يقترح الليبراليون وسيلتين لذلك: الضريبة البيئية (تضريب استخدام الموارد الغير المتجددة، تخفيض الضريبة على السلع الخضراء، إلغاء دعم المنتوجات الملوثة، دعم الإنتاج والأنشطة المساهمة في التخفيف من التلوث وآثاره…) وسوق رخص التلويث. النتائج المتوخاة من تفعيل هاتين الوسيلتين تتجلى في تشجيع استخدام التكنولوجيا الخضراء التي تصبح أقل كلفة عند مقارنتها بكلفة الاستثمار الباعث للكاربون1.
يمكن إدراج ثلاث نقط توضح مأزق هذا التوجه:
ليس للثروة البيئية في الجوهر قيمة اقتصادية ويصعب قياس الضرر البيئي باعتباره كلفة اجتماعية للإنتاج والاستهلاك. فالوعاء الضريبي للضريبة البيئية غير محدد نتيجة تعدد مصادر التلويث وصعوبة حساب كمية الانبعاثات لأنشطة إنتاجية معقدة، متعددة ومتداخلة.
استخدام الضريبة البيئية في إطار اقتصادي مبني على تحكم السوق يجعل من هذه الكلفة ملقاة على عاتق المستهلك الأخير والأجراء عبر ثلاث قنوات: الأولى، عند اعتبار هذه الضريبة غير مباشرة لتصبح مضرة بالقدرة الشرائية. الثانية، عند إنفاق هذه الضريبة في التخفيض من حصة الرأسمال في الاشتراكات الاجتماعية، والثالثة، عند إنفاقها للتخفيض من الضريبة على الشركات. لن يكون بذلك أي أثر لتطبيق الضريبة البيئية على سلوك المالكين لوسائل الإنتاج المضر بالبيئة. سيتم تحويل جدوى الضريبة المتمثل في التقليص من وعائها (التخفيف من التلوث ومن حجم الضرر البيئي) إلى تكتيك آخر لتكثيف الاستغلال ودعم الرأسمال.
يجب التساؤل عن حدود ومستويات تطبيق الضريبة البيئية في المغرب. ففي ظل حرية تنقل الرساميل، تحرير التجارة وتنافس البلدان على جلب الاستثمارات الخارجية عبر سن قوانين تعمم مرونة وهشاشة الشغل، تصبح الضريبة البيئية أحد العوامل الأساسية لخلق ملاذات للتلوث. فالبلدان الضعيفة اقتصاديا تبحث على تقوية تنافسيتها عبر تطبيق سياسة ضريبية مرنة لتصبح بذلك وجهة للأنشطة الملوثة. امام استحالة تطبيق وضبط الضريبة البيئية على المستوى العالمي في ظل التفاوت بين الصناعات واقتصادات البلدان واستحالة تأسيس هيئة عالمية تشرف على ذلك في ظل نمط إنتاج رأسمالي أساسه المنافسة لكسب أسواق جديدة، يبقى خطر تحويل البلدان التابعة لملاذات للتلوث قائما.
مالية المناخ: فضاء آخر للمضاربة والاغتناء على حساب المآسي البيئية
يقصد بمالية المناخ القنوات التي من شأنها توفير التمويل اللازم للتخفيف من آثار التغيرات المناخية والتكيف معها أي لتحفيز التحول نحو نمو بانبعاثات منخفضة للكاربون وبناء القدرات اللازمة لذلك. يستخدم هذا المفهوم عند الحديث عن نقل الموارد المالية والتكنولوجيا الخضراء من البلدان الرأسمالية المتقدمة نحو البلدان النامية قصد مساعدتها على تطوير اقتصادها في اتجاه تنمية مستدامة في إطار التزامات هذه الأخيرة باتفاقيات الأمم المتحدة حول المناخ. وتشير “الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة” إلى أن مالية المناخ تشجع التدفقات المالية من القطاع الخاص، الهبات والقروض للتكيف مع آثار التغيرات المناخية بالبلدان “السائرة في طريق النمو”. يعول على ميكانيزم التنمية النظيفة (متن) والصندوق الأخضر للمناخ (صأم) لتنشيط مالية المناخ وإنجاح استراتيجية التنمية المستدامة.
ميكانيزم التنمية النظيفة، فقاعة بحجم صغير سرعان ما اختفت
اعتمد بروتوكول كيوطو سنة 1997 ميكانيزم التنمية النظيفة ورخص الانبعاثات القابلة للتداول كآليتين للتخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة. وقد دخل هذا البروتوكول حيز التنفيذ سنة 2005.
يشتغل ميكانيزم التنمية النظيفة على الشكل التالي: تستثمر أو تمول شركة أو حكومة بلد من البلدان المصنعة مشروعا ببلد نامي يهدف إلى التقليص من الانبعاثات التي لم يكن ممكنا التخلص منها بدون هذا الاستثمار. يحصل المستثمر بعد ذلك على رخص للانبعاثات قابلة للتداول بسوق الكاربون تكافئ قيمتها حجم الانبعاثات التي تم تفاديها. يلتقي في سوق الكاربون من له حاجة أكبر إلى التلويث أي من يبحث على الحصول على عدد أكبر من الرخص التي خصصت له مع من له فائض في هذه الرخص. النتيجة المتوخاة من “متن” تتجلى في خلق تنمية نظيفة بالبلدان النامية عبر جلب استثمارات خضراء مع بلوغ هدف التقليص من انبعاثات الغازات الدفيئة. في حالة السير العادي للعمل بهذا الميكانيزم، تجني الشركة المستثمرة أرباحا على واجهتين، أرباح متأتية من المشروع وأرباح عند بيع الرخص في سوق الكاربون. مثلا، يمكن لمشروع ينتج الكهرباء بالطاقة الشمسية أن يجني مداخيل وأرباح من بيع الكهرباء وكذلك استخلاص أرباح من بيع الانبعاثات التي تم تفاديها والتي كانت ستنفث لو تم إنتاج الكهرباء بموارد ملوثة وغير متجددة.
شكل المغرب سنة 2002 السلطة الوطنية المكلفة ب “متن” لتصادق على المشاريع قبل تقديمها لتسجل من طرف اللجنة التنفيذية الخاصة بهذا الميكانيزم لدى “إإأمتم” والتي تصدر رخص الكاربون المسماة “وحدات تخفيض الانبعاثات المصادق عليها (وتكم)”. تكافئ كل وحدة طن واحد من الكاربون.
إلى حدود سنة 2016، تمثل حصة المغرب من الانبعاثات التي تم تخفيضها في إطار “متن” 1.6 مليون “طن مكافئ كاربون” تأتت من تسجيل 14 مشروع. وإذا ما تم افتراض تسجيل 23 مشروع مقترح سيصل الحجم إلى حوالي 6 مليون (طمك). لمدة 10 سنوات، خلق “متن” على المستوى العالمي تقريبا 8000 مشروع استأثرت فيها الشركات بما قدره 1.6 مليار “وتكم”، أي 1.6 مليار طن من الكاربون تم تفادي نفثها. قد يبدو هذا مهم، لكن ماذا يمكن القول عندما نعلم أن الصين تنفث وحدها 10 مليارات طن من الكاربون سنويا؟ وكيف يمكن تقدير حصة المغرب من المشاريع المنجزة على المستوى العالمي ونسبة مساهمته في تنظيف المناخ؟
كي تتضح الصورة يكفي أن نضع حصيلة 10 سنوات من تفعيل هذا الميكانيزم، كي نعلم أنه فرصة أخرى للمضاربة في سوق الكاربون:
تفجرت فضائح مصدرها مشاريع سُجلت واتضح فيما بعد أنها خربت الغابات ورحلت الأسر واستولت على أراضي السكان المحلين واستغلت العمال ببشاعة أثناء تشييدها بل وصل الأمر بشركات صينية إلى تصنيع التريفليوروميتان الناتج عن صناعة التفلون والذي يعتبر أحد الغازات الدفيئة القوية جدا، فقط لتدميره بعد ذلك والحصول على حصص كربون آلية التنمية النظيفة. هذه الشركات الصينية تبيع هذه الحصص إلى الشركات الأميركية والأوروبية. هذه الجريمة قد كسبتها مليارات الدولارات. وللاطلاع على مزيد من الفضائح يمكن للقارئ الاطلاع على مقال بعنوان “ميكانيزم التنمية النظيفة، بحثا عن نموذج جديد” وسيجده على الصفحة التي يظهر عنوانها بالهامش أسفله.2
الفشل الذريع لهذا الميكانيزم عكسه أيضا انهيار أسواق الكاربون حيث انتقل سعر الطن من 20 أورو سنة 2008 إلى نصف أورو واحد سنة 2014. عاملين يمكن أن يفسرا الحد من فقاعة “وتكم”. الأول يتجلى في عدم جاذبية الاستثمار في مشاريع “متن” إلا إذا كانت الرأسمالية في فترة ازدهار أي أن فرص التلويث (التصنيع) متوفرة بكثرة، مما يجعل من البحث عن “وتكم” ضرورة للتوسع الذي يؤدي إلى مزيد من الانبعاثات. لكن أزمة الرأسمالية التي عكسها انخفاض معدلات النمو جعلت الرأسمال يتجه إلى مزيد من استغلال الأجراء وتعميم سياسات التقشف للحفاظ على أرباحه عوض تشييد مزيد من المشاريع الملوثة ذات مردودية متدنية.
توزيع تراخيص الكاربون بالمجان وبشكل كبير عند إحداث النظام الأوروبي لتبادل حصص انبعاثات الغازات الدفيئة جعل من سوق الكاربون غير ذي جدوى في تحفيز الاستثمار الأخضر. فشراء الكاربون أقل كلفة بكثير من الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء.
توجهت حوالي 84 بالمئة من مشاريع “متن” إلى آسيا والمحيط الهادئ، 12 بالمئة إلى أمريكا اللاتينية و2 بالمئة فقط إلى إفريقيا. خمس بلدان فقط أعطت 93 بالمئة من رخص الكاربون المتوفرة. أنتجت الصين لوحدها 49 بالمئة من هذه الرخص والهند نسبة 20.6 بالمئة. ما يفسر اختيار الرأسمال لهذه البلدان استناد تخفيض الانبعاثات المولدة للرخص إلى سيناريو مرجعي ونظرا لكون هذا السيناريو أكثر تلوثا بالصين فإنه سيكون مذرا أكثر للرخص التي ستباع بالسوق وسيتيح الفرصة للمضاربة مما يثير شهية المستثمرين. فبعيدا عن هدف تنمية البلدان النامية، ما سيجنى من أرباح هو المحدد.
تعتبر أسواق الكاربون والضريبة البيئية أداتان للاقتصاد الأخضر أساسهما القدرة على تحديد سعر للانبعاثات كما يروج له الليبراليون. في إطار أسواق تداول رخص الكاربون، يتم تحديد سقف التلوث بقرار سياسي لكن يترك للمضاربة في السوق دور تحديد السعر. تصبح البيئة أصولا مالية وهذا في حد ذاته أحد المخاطر المحدقة بها ولنا في الأزمة العقارية لسنة 2007 خير دليل، حيث تشردت العديد من العائلات عندما أصبحت العقارات أصولا مالية. تجدر الإشارة أيضا إلى تنامي قطاع التأمينات الذي يراهن على الأضرار التي تحدثها التغيرات المناخية للفوز بأقساط التأمين والرفع من مردودية محفظاته. أما الضريبة البيئية فمن المفترض أن تحدد سعر التلوث لكن لا يمكن لها ضبط كمية الغازات الدفيئة التي سيتم تخفيضها ما دامت هناك قنوات عديدة للرأسمال كي يتهرب من تحمل كلفتها.
الصندوق الأخضر للمناخ: جفاف الصنابير المالية وشركاء غير نظيفين
بعد إحداث عدة صناديق كصندوق البيئة العالمية (1991)، صندوق البلدان الأقل نمواً (2001)، الصندوق الخاص بتغير المناخ (2001)، صندوق التكنولوجيا النظيفة (2008)، صندوق الاستثمار من أجل المناخ (2008) …وهي غالبا صناديق تدار من طرف البنك العالمي أو أسست على إثر انعقاد قمم مجموعة الدول الصناعية أو عند انعقاد مؤتمرات الأطراف، ثم إحداث الصندوق الأخضر من اجل المناخ سنة 2010 على إثر انعقاد مؤتمر الأطراف 16 بكانكون بعد أن تمت مناقشة تأسيسه بمؤتمر كوبنهاكن سنة 2009 و ليتم التنصيص على اعتماد آليات اشتغاله سنة 2011 بمؤتمر داربن.
التزمت الأطراف بضخ 100 مليار دولار في الصندوق كل سنة اعتبارا من عام 2020 تستفيد منها البلدان النامية لمكافحة انبعاثات الكربون.
إلى حدود انعقاد مؤتمر الأطراف 21 بباريس سنة 2015 لم تتم تغذية هذا الصندوق إلا بعشر مليار دولار، ستصبح متوفرة عند حلول سنة 2018 أي بمعدل 2.5 مليار في السنة للفترة الممتدة بين 2015 و2018. فرنسا باعتبارها مُنَظِمة المؤتمر، التزمت بمساهمة قدرها مليار دولار. للإشارة، فرسملة الصندوق لن تستند إلى الهبات والمساهمات العمومية بل ستعتمد على قروض القطاع الخاص بنسب فائدة عالية.
يبين ضعف هذه المساهمات تهرب البلدان المصنعة من تحميل برجوازياتها كلفة ما اقترفته من جرائم في حق شعوب بلدان الجنوب باستنزاف مواردها الطبيعية وفي حق المناخ والبيئة عامة.
الهدف المعلن من إحداث الصندوق دعم برامج التخفيف والتكيف للبلدان النامية عبر تقديم إعانات وقروض. سيكون البنك العالمي المنَفذ لقرارات مجلس إدارته.
سبق للمغرب أن استفاد، إلى حدود 30 أبريل 2015، من 813.95 مليون دولار أمريكي كتمويل لمشاريع “خضراء” من طرف صندوق البيئة العالمية، صندوق التكنولوجيا النظيفة، الصندوق الخاص بتغير المناخ…90.16 بالمئة من هذا التمويل كانت عبارة عن قروض3. حاليا، يهيئ المغرب محفظات مشاريعه، للاستفادة من هذا تمويل الصندوق الأخضر للمناخ، بمساعدة البنك الألماني “مؤسسة القروض من أجل إعادة البناء” وهو أحد شركاء الصندوق. ستؤطر أغلبية هذه المشاريع عقود شراكة عام-خاص. ستمثل هذه الشراكة فرصة للقطاع الخاص للاستفادة من دعم القطاع العام ومن تمويل الصندوق قصد الفوز باستثمارات بكلفة أدنى وحاملة لأرباح مستقبلية عالية. خلال هذه السنة تمت المصادقة على قبول وكالة التنمية الفلاحية كشريك للصندوق لتمويل مشاريع في إطار مخطط المغرب الأخضر4 الذي مثل فرصة للباطرونا الزراعية للاستحواذ على اعتمادات مالية ضخمة لدعم تنافسية صادراتها مقابل بدائل بئيسة للفلاحين الفقراء. هذا المخطط ساهم أيضا في استنزاف الموارد المائية كنتيجة لتكثيف الإنتاجية وعبد الطريق أمام الباطرونا لتجميع الأراضي ووضع يدها على الثروة المائية مستغلة يدا عاملة محرومة من أدنى حقوقها.5
إمكانية تخصيص مالية الصندوق في أنشطة مشبوهة، وحتى ملوثة قائمة. فشركاء الصندوق بنوك رأسمالية ضليعة في الخداع والاحتيال كالبنك الألماني الذي استثمر في قطاع الفحم 13.84 مليار دولار بين سنتي 2009 و2014 والقرض الفلاحي وشركة هونغ كونغ وشنغهاي للخدمات المصرفية اللذان استثمرا في نفس القطاع ما مقداره 9.5 مليار دولار و7 مليار دولار على التوالي خلال نفس الفترة6.
التبادل الحر أداة للجرائم البيئية
ستظل المشاريع الخضراء جزر للاغتناء بميزتين أساسيتين: مردودية عالية وتسويق إعلامي لوهم “الرأسمال الأخضر”. ما يعري زيف الادعاءات بالتأسيس للانتقال إلى تنمية “نظيفة” هو توقيع المغرب على اتفاقيات التبادل الحر التي تؤدي إلى مزيد من التخريب البيئي.
تتبنى منظمة التجارة العالمية، البنك العالمي والاتفاقية الإطار للأمم المتحدة للتغيرات المناخية نظرية “الدعم المتبادل” بين نمو المبادلات التجارية والمحافظة على البيئة. تعتبر هذه النظرية الفقر كأحد العوامل الأساسية المهددة للبيئة. وبذلك، فكل دعم للنمو الاقتصادي عبر تكثيف المبادلات التجارية، سيولد الموارد اللازمة لمكافحة التلوث. عدة حجج تدحض هذه المزاعم:
في ظل النظام الرأسمالي، كل محاولة للرفع من النمو تعني استنزاف للموارد المتاحة وارتفاع حجم المتلاشيات، وكل توسع اقتصادي يؤدي إلى التقليص من إعادة إنتاج النظم البيئية ويهدد توازناتها.
تدعي النظريات الاقتصادية الليبرالية، أن تخصص كل بلد في إنتاج السلع والخدمات التي له فيها أفضلية نسبية سيجعل كل أطراف التبادل رابحة. فمن جهة، تنطلق هذه النظريات من فرضية مفادها أن التبادل سيجرى على قاعدة المنافسة الكاملة والخالصة حيث المعلومة حول الجودة والأسعار متاحة للكل وحيث ولوج أسواق جميع أطراف التبادل يتم دون عراقيل. يغيب هذا النموذج من التوازنات النيوكلاسيكية حقيقة واقع المبادلات التجارية المبني على اللاتكافؤ والتفاوتات الكبيرة بين البنيات الاقتصادية للبلدان الامبريالية والتابعة كما يغيب احتكار الأقوياء (شركات ودول) للمعلومة وقدرتهم على التمويه. ومن جهة أخرى، تخصص بلد معين في إنتاج ما له فيه أفضلية نسبية لتلبية حاجات السوق العالمية من شأنه الضغط أكثر على الموارد الطبيعية مما يخل بتوازنات النظم البيئية (لنا أمثلة في كوارث التخصص في إنتاج العاج بإفريقيا، الحوامض والبواكر بالمغرب، القريدس بآسيا…)، كما من شأنه جر بلدان عديدة للتخصص في الإنتاج الملوث حيث تأتي الأفضلية من التخفيف من القيود البيئية لإغراء الاستثمارات الملوثة. تتوقع بعض الدراسات أن “فرار الكاربون” يمكن أن يفوق نسبة 100 في المئة. بتعبير آخر، إذا خفضت البلدان المصنعة الملتزمة ببروتوكول كيوطو انبعاثاتها بطن واحد فسيرافق هذا التخفيض ارتفاع الانبعاثات بطنين خارج أراضيها.7
تحد حقوق الملكية الفكرية من إمكانات البلدان النامية في توفير التكنولوجيا الخضراء عبر إنتاجها بكلفة أقل. يأتي في مقدمة أهداف اتفاقيات التبادل الحر غزو الأسواق بمنتجات استهلاكية دورة حياتها قصيرة جدا ضمانا لدوران أسرع للرأسمال، مخلفة أطنان من المتلاشيات، أما نقل التكنولوجيا إلى البلدان النامية فهو ضعيف وأسراره التقنية تبقى محتكرة من طرف الشركات المتعددة الجنسيات.
يكثف التبادل الحر من حركة النقل والمواصلات التي تعد مصدرا أساسيا لتلوث المناخ بالمغرب، وعلى الخصوص النقل البحري والجوي الوسيلة الأساسية للمبادلات التجارية والأخطر من حيث انعكاساته على المياه والأمطار وصحة الإنسان كما أقر بذلك وزير التجهيز والنقل واللوجيستيك خلال لقاء نظمته الجمعية المغربية للقانون البحري والجوي يوم فاتح يونيو 2016. وإذا ما تم التدخل للرفع من كلفة النقل الملوث، سيؤثر ذلك على أرباح الشركات المصدرة والمستوردة وسيقلص من المنافذ لتصريف السلع وهذا يناقض تماما جوهر الرأسمالية.
للانتقال إلى ما تسميه المؤسسات والمنظمات العالمية، والدولة المغربية، اقتصادا أخضرا، يجب على الرأسمالية أن تجد مخرجا لعدة تناقضات يظهر أن لا حل لها سوى بتجاوز النظام الرأسمالي. أولا، يستلزم جني ثمار الاستثمار بتكنولوجيا نظيفة، تعويض كلفتها (الضريبة البيئية مثلا) بمزيد من الضغط على الأجور والمساهمات الاجتماعية. إلا أن هذا التعويض سيبطل المفعول التحفيزي لهذه الضريبة ولن يكون له أي أثر إيجابي على البيئة. ثانيا، للحفاظ على مستوى معدل الربح، يجب أن تكون الإنتاجية في القطاعات الخضراء مرتفعة، مما سيساهم في تخفيض سعر التجهيزات النظيفة. لكن هذا الافتراض غير مؤكد ولا تظهر له أي مؤشرات، خصوصا أن أرباح الإنتاجية في تراجع منذ أزمة الرأسمالية في السبعينيات لتسجل أدنى مستوى لها بعد أزمة 2007. يحتاج تطوير تكنولوجيا نظيفة ذات إنتاجية عالية إلى استثمارات ضخمة مردوديتها بعيدة المدى، الشيء الذي يناقض منطق الرأسمال التواق للربح السريع. ثالثا، سيؤدي الحفاض على معدل الربح بتحميل كلفة الانتقال للأجور إلى تقليص الطلب على السلع والخدمات. زد على ذلك، من وجهة نظر بيئية، يجب أن يتوجه هذا الطلب إلى البضائع التي دورة حياتها طويلة مما سيبطئ من سرعة دوران الرأسمال. كل هذه التناقضات تشكل مأزق للتأسيس لتراكم رأسمالي أخضر.
ليس للرأسمال المحلي والأجنبي أي مصلحة في خلق قفزة بيئية في المغرب، لكن تُعَد ترتيبات ساسة العالم الرأسمالي طريقا لاصطياده فرصا للاغتناء عبر إنشاء استثمارات تَعِد بأرباح مرتفعة مستفيدا من وضع تحتكر فيه الأقلية السلطة والثروة.
تحقيق العدالة المناخية سبيله التصدي لتبضيع الطبيعة ولتحميل كلفة تخربها للمستَغَلِين والمضطَهَدين. يستلزم ذلك النضال من أجل السيادة الشعبية على ثروات البلد والالتفاف حول مطالب أسلسها التحرر من سطوة المؤسسات المالية العالمية والشركات المتعددة الجنسية، الانسحاب من اتفاقية التبادل الحر واستعادة الثروات التي تمت خوصصتها ، وقف نزيف ترحيل الثروات عبر آلية الديون وعبر تهريب الأموال، تسديد البلدان الامبريالية لدينها الايكولوجي، تغير أشكال الإنتاج والاستهلاك المستنزفة للموارد والمنتجة لحجم هائل من المتلاشيات عبر سن سياسات اقتصادية تعطي الأولوية للحاجات الاجتماعية، تقطع الطريق أمام سعي الرأسمال لتنمية أرباحه وتضمن تراكما تعود قيمته المضافة ومردوديته إلى منتجي الثروة الحقيقيين، أول المتضررين من جرائم الرأسمال البيئية.
عبد القادر مرجاني
شتنبر 2016
الرابط الأصلي للنص على موقع جمعية أطاك المغرب.
1 “الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة” 2015-2020. التقرير النهائي. الأداة الضريبية ص 30
2http://www.blogueaqlpa.com/2015/12/10/mecanisme-de-developpement-propre-mdp-en-quete-dun-nouveau-modele/
3 انظر “التقرير الوطني الثالث للمغرب لاتفاقية الإطار للأمم المتحدة بشأن التغير المناخي” ص 177-179.
4 تمت الموافقة على مشروعان من أصل 12 مشروع، تحديث السقي التقليدي بجهة سوس ماسة درعة وتشجيع زراعة الأركان بالمناطق الهشة.
5 انظر: أزيكي عمر، “مأزق الصادرات الفلاحية المغربية”، على الصفحة، http://attacmaroc.org/?p=2263
و” Situation des populations rurales et montagnardes au Maroc “، على الصفحة، http://www.cadtm.org/Situation-des-populations-rurales
6 Les partenaires pas très verts du Fonds vert pour le climat. http://www.euractiv.fr/section/climat-environnement/news/les-partenaires-pas-tres-verts-du-fonds-vert-pour-le-climat/
7 MONJON. S. (2007), « Développement, croissance et environnement. Mondialisation et environnement », Développement et environnement Cahiers français n° 337, pp 40.
اقرأ أيضا