ثروة المغرب مستنزفة ومنهوبة، ومنتجوها في وضع اجتماعي كارثي
مباشرة بعد خطاب الملك متسائلا أين الثروة؟ ومقرا حدة الفوارق الطبقية، انطلق خبراء النظام وكل المتواطئين معه في كشف ما سعوا دوما لإخفائه.
لم يعد الحديث عن الكارثة الاجتماعية التي حلت بالبلد ماركة مسجلة للعدميين والمحبطين والمحرضين ولا تيئيسا، ومعاداة لمصالح البلاد الكبرى ومؤسساته، ولا خدمات مقدمة للأعداء. لكن السؤال الجوهري ظل غائبا وغاب معه تحديد المسئول الحقيقي عن الوضع القائم.
لقد طفح كيل الأغلبية الساحقة المسحوقة بدكاكة سياسات اقتصادية واجتماعية حملت وتحمل أعباء رأسمالية تابعة ومتخلفة للمكتوين أصلا بنيرانها. لم تعد جماهير العمال والمنتجين الصغار… تطيق ما لا يحتمل، وخرج مئات الآلاف للشوارع محتجين ضد الاستبداد والفساد، ومطالبين بديمقراطية حقيقية وبالعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية، وتم الالتفاف على توقهم بتنازلات شكلية شارك في مدحها وتمريرها المجمعون على بقاء النظام ورعايته لمصالحهم. قمع المحتجون ونكل بهم واعتقلوا، وحوكموا صوريا، وسجنوا، ولم يسجل أن قدم من أشير إليهم على أنهم رموز للفساد المستشري للمحاكمة والمحاسبة، بل رقي بعضهم، منهم من صار مستشارا، وهلم جرا.
الوضع لا زال متفجرا، وهذا ما تنبه له تقارير مؤسسات دولية مسئولة عن الكارثة التي يشهدها المغرب، وهي توصي بتعميق ما أملته من سياسات؛ ما تسميه إصلاحات ستأتي على ما تبقى من مكاسب، وتفاقم التقهقر الاجتماعي الحاصل. لكن هذه المؤسسات تعي، كما حكام البلد، أن القمع وحده، مهما بلغت وحشيته، ليس حلا، بالتالي الحاجة لربط جماهير المستغلين والمضطهدين بوهم قديم متجدد بأن الحالة ستتحسن، وأن الجهود تبدل وستبدل من أجل ذلك: التضحيات التي تقدمونها اليوم هي ثمن ثمار الغد. سنقوم بدراسة، كما في السابق، وسيعم الخير البلد وينعم به الجميع، فقط قليل من الانتظار ضروري، وبعد 15 سنة أخرى تعاد الكرة.
كل شيء يشير إلى أن غاية النظام إبعاد المسؤولية عن نفسه، وعن السياسات التي يرعاها، ولا يرى المشكل سوى في النخب والحكومة والبرلمان… غير الكفأة لترجمتها بالشكل الصحيح. لكن منذ الاستقلال شهد المغرب تعاقب 30 حكومة والفوارق لا تنفك تحتد، ازداد الأغنياء غنى، وعم الفقر والبؤس والبطالة والهشاشة… الأغلبية الساحة. علاوة على ذلك يؤمن النظام تماما بفعالية سياساته التي جعلت من القطاع الخاص قاطرة لما يسمى تنمية، والتي أغرقت البلد في دوامة المديونية، وأفقدته عبر الخوصصة قطاعا عاما، وإن شله الفساد، يلطف مآسيه، وشرعت أبوابه أمام التبادل الحر، وغزو مؤسسات الامبريالية والشركات العالمية العملاقة العابرة للقارات النهابة والمرحلة لجزء غير يسير من الثروة التي ينتجها… هذا عدا الفساد والرشوة والمحسوبية… الخ.
رأسمالية تابعة ومتخلفة، لا نقص فعالية ومهارة ونخب
يرى الملك أن «… الأثر الملموس لهذه الإصلاحات وغيرها، يبقى رهينا بحسن تنزيلها، وبالنخب المؤهلة لتفعيلها.» وأن «هناك تطور خلال 15 سنة الماضية لكن ثماره ليست معممة، بل قلة من يستفيد منها» بالتالي إصرار على نفس السياسات وما تنتجه من تفاقم عواقبها المأساوية. لقد ازدادت حدة الفوارق الاجتماعية في المغرب في السنوات الأخيرة، كما ارتفعت معدلات الفقر والبطالة، خصوصاً بعد تأثر اقتصاد المغرب بالأزمة في منطقة اليورو.
المشكل مشكل نظام اقتصادي رأسمالي تابع، ومتخلف يعيد إنتاج التخلف دون تنمية فعلية للبلد، نظام مرتكز أساسا على السوق العالمية على حساب تصنيع فعلي. نظام سرعت العولمة الرأسمالية تفاقم أزماته، وارتفعت البطالة والبؤس والهشاشة وكل مصائب الرأسمالية مقابل ثراء فاحش لأقلية ضئيلة تملك المال والسلطة. والآن برزت هشاشته بجلاء بفعل استحكام الأزمة بالسوق الرئيسية لمنتجاته ولحاجاته، الاتحاد الأوروبي. تقهقرت عائدات التصدير، وعائدات المهاجرين والسياحة…
يظل المغرب بلدا تابعا للاقتصاديات المتطورة ويبقى رهن صادراته القليلة وغير التنافسية… وهناك إيمان قوي، لدى حكام البلد، بأن النمو سيقلص الفوارق الطبقية، إيمان يدعمه البنك الدولي، وتتبناه الدولة، ويعممه مع كثير من التضليل ونشر للأوهام، خبراء النظام وحزبه الواحد المتعدد.
لا زال الفقر منتشرا على نطاق واسع، والبطالة تتصاعد وخاصة وسط الشباب، والمتعلمون منهم خصوصا، ووسط النساء، وسكان القرى يعيشون البؤس، وبفعل الهجرة القروية، علاوة على أمور أخرى، صارت ضواحي المدن، والكبرى بخاصة، عنوان مأساة اجتماعية صارخة.
أصل المشكل نظام نهب ممنهج
للجواب على هذه المأساة الطبقية الصارخة: أقلية تنعم بكل شيء، وغالبية عظمى محرومة ومسحوقة، أمر الملك «المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بتعاون مع بنك المغرب ومع المؤسسات الوطنية المعنية وبتنسيق مع المؤسسات الدولية المختصة للقيام بدراسة لقياس القيمة الإجمالية للمغرب ما بين 1999 ونهاية 2013». طبعا ليست الدراسات ما ينقص، إذ يكمن المشكل أساسا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية… المنتهجة خلال قرابة 60 سنة من الاستقلال الشكلي، وعلى الأقل خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، حيث صار البلد تحت وصاية مؤسسات الامبريالية العالمية (منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك العالميين، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي…).
مرة أخرى يتبنى الحكام طريقة البنك العالمي حول الثروة الإجمالية التي تشمل مفهوم الرأسمال اللامادي، ويقصد بالثروة الإجمالية: مستوى الرفاهية ودرجة السعادة، وهي مفاهيم مجردة ونظرية خالصة. معايير قياس ومقارنة تلجأ لها المؤسسات العالمية المرجعية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون والنمو الاقتصادي والبنك العالمي. وحسب هذا المفهوم، تتكون ثروة بلد ما من ثلاث عناصر: الرأسمال المنتج ، والرأسمال الطبيعي، والرأسمال اللامادي وهذا الأخير ليس قابلا للحساب مباشرة لأنه مجرد وغير قابل للقياس عبر العناصر التي تكونه. بالتالي يكون حصيلة طرح الرأسمال الطبيعي والرأسمال المنتج من الثروة الإجمالية، وإضافة بعد ذلك الحصيلة الصافية للتدفقات المالية الخارجية. ويشمل الرأسمال اللامادي الرأسمال البشري والرأسمال الاجتماعي والرأسمال المؤسساتي. يمثل الرأسمال البشري الإنسان ومؤهلاته وجهد البحث والابتكار والاختراع وأيضا التحويلات المحققة من طرف المهاجرين المغاربة. ويتعلق الرأسمال الاجتماعي بالاستقرار السياسي للبلد والتجانس الاجتماعي ومجموع المعايير المنظمة لاشتغال المجتمع، والأخير مرتبط بالمؤسسات وجودتها.
للانعتاق يجب مصادرة سلطة الأقلية وثروتها
كي «ينعم جميع المغاربة بالرفاهية» لا بد من القضاء على أصل البلاء؛ رأسمالية تابعة ومتخلفة حيث تستحوذ قلة على جل الثروة التي ينتجها العمال والمنتجون الصغار. لقد تحسنت إنتاجية العمل، لكن حصة الأجور ضمن توزيع الثروة المنتجة تقلصت، وارتفعت الحصة التي يستحوذ عليها رأس المال، والحصيلة حتى الآن استحواذ 20 في المائة من المغاربة على 80 بالمائة من ثروة البلد.
اتسعت الهوة بين ال10 بالمائة الأكثر فقرا وال10 بالمائة الأكثر غنى، إذ انتقلت من 11 إلى 12 مرة بين 1985 و2007، علما أن الهوة 18 مرة بين العشر الأكثر غنى والعشر الأكثر فقرا بالبوادي. كانت ثمار النمو، الضعيف مع ذلك، لصالح الأقلية الأكثر غنى.
يوصي البنك الدولي الحاكمين بالمزيد مما يسميه إصلاحات منها، تعزيز تحرير اقتصاد البلد وانفتاحه، وتقوية القطاع البنكي، وسوق عمل مؤهل أكثر مرونة وبنية تحتية جيدة وإصلاح الإدارة العمومية وجعلها مرنة أكثر وقائمة على المردودية وتقليص تدريجي لكتلة الأجور، فضلا عن أنظمة التقاعد، وصندوق الموازنة، وإقرار قانون للإضراب، وآخر للنقابات…
هذه السياسة هي التي خصصت الربح للقلة، وأشركت الغالبية الساحقة المكتوية بلهيبها في الخسارة. إنها السياسة التي سمحت بانتقال الحصة التي يستحوذ عليها الرأسمال من الثروة المنتجة من 61,5 بالمائة سنة 2005 إلى 65 بالمائة حاليا. في حين مرت حصة العمل من زهاء 37 بالمائة أواسط سنوات 2000 إلى نحو 34 بالمائة حاليا
هذه السياسة هي من فتحت أبواب المغرب مشرعة على السوق الرأسمالية العالمية، سياسة كل شيء للتصدير المدمرة لنسيج البلد الإنتاجي الهزيل أصلا، والتي ترهن اكتفاءه الذاتي وأمنه الغذائيين، وفوق ذلك تستنزف اقتصاد البلد استنزافا بواسطة آلية التبادل اللا متكافئ. أكد بنك المغرب أن اتفاقيات التبادل الحر التي وقعها المغرب مع عدد من البلدان ساهمت بشكل كبير في تفاقم عجز الميزان التجاري، إذ نتج عنها ارتفاع سريع للواردات، وسجل المغرب، إثرها، عجزا تجاريا مع كل البلدان الموقعة على اتفاقيات التبادل الحر مع المغرب.
وهي السياسة التي استنزفت مقدرات البلد عبر مضخة المديونية الهائلة التي امتصت أموالا طائلة كان الأجدر استثمارها لازدهاره.
وهي السياسة التي حولت، عبر خوصصة كل شيء، القطاع العام – وإن نخره الفساد يظل مكسبا شعبيا- إلى مجال لاستثمار القطاع الخاص وتنمية أرباحه.
نفس السياسة التي سمحت بتهريب الثروات إلى الخارج، إذ تشير بعض المعطيات إلى أن 30 في المائة من ثروة أغنياء المغرب مهربة للخارج (صنف المغرب في المرتبة السادسة قاريا ضمن البلدان المصدرة للمال غير الشرعي بخسارة فاقت 13 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من 2000 إلى 2008 بمعدل 1,66 مليار دولار سنويا، أي ما يناهز 13,7 مليار درهم، وفق ”مركز شفافية النظام المالي العالمي”). وهي نفسها السياسة التي تسمح بترحيل الثروة من طرف الرأسمال الأجنبي، إذ يمكنه أن ينقل أرباحه للخارج، وأيضا كامل استثماره عندما يقرر تصفيته.
وهي السياسة القائمة على النهب الممنهج والصريح، وذليل ذلك سيل ملفات الفساد التي تم الكشف عنها خلال العقدين الأخيرين فقط، والتي أبرزت حجما هائلا من الأموال يقدر البعض نسبتها إلى الناتج الداخلي الخام بنحو 2 في المائة سنويا، وهناك من يذهب أبعد من ذلك(قَدّر البنك الدولي الخسارة التي يتكبدها المغرب بسبب الفساد في الصفقات العمومية ب 3.6 ملايير درهم خلال سنة 2007، أي ما يعادل 0.5 من الناتج الداخلي الخام).
إنها السياسة التي خصصت الثروة لأقلية بواسطة نظام ضريبي محابي تماما للأغنياء. في حين كان الأجدى لازدهار البلد وتقدمه، البحث عن المال حيث هو أي عبر إصلاح ضريبي حقيقي. بدل ذلك هناك إعفاءات ضريبة مثل تلك الممنوحة للمصدرين وللرأسمال الأجنبي ولمختلف قطاعات الرأسمال المحلي(60 في المائة من الشركات تعلن عن عجز مالي، و20 في المائة فقط من الشركات تشكل 80 في المائة من مداخيل الضريبة على الشركات). كما أسست صناديق لمنح قروض مدعومة للقطاع الخاص مثل السياحة والنسيج لتعمم على باقي القطاعات في ما بعد، بضغط من مستثمري القطاعات الأخرى.
وهي السياسة التي خلفت بالمقابل كارثة اجتماعية متعددة العناوين: تعليم رديء، ونظام صحة مهترئ، وبنية تحتية بليغة الهشاشة، وحتى منعدمة بمناطق، وسكن مأساوي، وبطالة جماهيرية ودائمة، وفقر وبؤس واسعي الانتشار…
لا إمكان لتوزيع عادل للثروة في ظل الرأسمالية، يفتح القضاء عليها الطريق نحو مجتمع عادل لمنتجين أحرار متشاركين ومسير ديمقراطيا.
يوجد هذا النهب والفساد في صميم نموذج التراكم الرأسمالي في البلدان المتخلفة وليس فقط انحرافا أخلاقيا أو جرائم اقتصادية، ولا يكفي تنقية الرأسمالية التابعة والمتخلفة (رغم أهمية ذلك) من تلك المظاهر الموجودة في جوهرها للقضاء على الاستغلال وعدم عدالة توزيع الثروة، بل من الضروري الإطاحة بنظام الاستغلال هذا نفسه.
مع ذلك يعد النضال لتحسين التوزيع لصالح الغالبية الساحقة، أي منتجي الثروة الفعليين، ضروريا لفتح الطريق المؤدي للانعتاق من ويلات الرأسمالية واستغلالها. لذا على حركة النضال بتنوع منظماتها وخبراتها أن تناضل، من بين مطالب أخرى، من أجل:
– جمعية تأسيسية كاملة السيادة تحت حكومة عمالية وشعبية تعيد رسم الأولويات، يحكمها منطق الاستجابة العاجلة للحاجات الأولية للبشر، وليس ربح أقلية جشعة ومتسلطة
– وقف تسديد ديون تستفيد منها دوما أقلية ممسكة بالسلطة والمال
– إقرار نظام ضريبي تصاعدي على رأسمال وعلى الثروة
– وقف الخوصصة، وتأميم ما تمت خوصصته، وكل المؤسسات الإستراتيجية الصناعية والتجارية والمالية
– استرجاع الأموال المنهوبة والأموال المهربة ووضعها في صندوق لتنمية فعلية للبلد
بقلم: سليم نعمان
اقرأ أيضا