نداء الليبرالية المعاقة
يعد انحباس التنمية في البلدان المتخلفة نتاجا رئيسيا للسيطرة الإمبريالية على هذه البلدان، وقد كانت هذه التبعية وسبل الفكاك منها قصد بناء «اقتصادات وطنية» مستقلة عن مصالح السوق الإمبريالية وراء حركات التحرر الوطني التي اخترقت القرن العشرين ونتجت عنها مدارس اقتصادية عديدة خصوصا في أمريكا اللاتينية، ومحاولات لتجسيد تلك النظريات على أرض الواقع طوت صفحتها أزمة الرأسمالية في منتصف السبعينات وبداية الثمانينات.
تظهر السيرورة الثورية التي تخترق منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط أنها نتاج بالدرجة الأولى لانحباس التنمية في هذه الدول التي تحكمها أنظمة مستبدة، وما يفرزه ذلك من ظواهر البطالة والاحباط الاجتماعي التي حفزت قطاعات واسعة من الجماهير للانخراط في هذه السيرورة الثورية.
الانعتاق من التخلف و»التنمية المعاقة» نقاط رئيسية في برنامج عمل أي تغيير ثوري بالمنطقة، ولا بد أن كون التبعية للإمبريالية تعتبر أهم عوامل انحباس التنمية في هذه البلدان يجعل تحقيق هذه المهام يمر عبر الطريق الثوري، وليس عبر طريق آخر.
لكن «الليبرالية» المغربية لها رأي آخر غير هذا الرأي، حيث اجتمعت «شخصيات وطنية» لتوقيع نداء يدعو لإطلاق حوار وطني حول التنمية المعاقة بالمغرب.
غيرة على استقرار الاستبداد
جوهر النداء الذي وقعته هذه «الشخصيات الوطنية» استجداء للملكية كي تلتقط فرصة لضمان استقرار البلد المهدد بانفجارات اجتماعية ضد نتائج «التنمية المعاقة». إن غاية الموقعين على النداء هو تجنيب الملكية تداعيات السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تسنها الملكية ذاتها، وذلك بإضفاء طابع الديمقراطية والتشاور والتوافق على تلك الإجراءات ثم بكبح جماح ظواهر الفساد والرشوة والاغتناء المشروع، متناسين أن هذه الظواهر هي نتاج الرأسمالية بشكل عام والرأسمالية التبعية بشكل خاص، ولا يمكن القضاء عليها إلا بدك المجتمع الطبقي واستبدالها بمجتمع الرقابة الشعبية والديمقراطية من أسفل.
ينضح النداء بلغة التخوف الليبرالي ليس فقط على النظام السياسي ولكن أيضا على النظام الاقتصادي السائد ويحاول تخويف الملكية بالمستقبل المظلم الذي ينتظر البلد إذا استمرت على نهجها؛ فتلوح أمامها بـ»الوضعية التي توجد فيها بلادنا تبعث على القلق، والآفاق غير مطمئنة…»، وتأمل الليبرالية دئما أن ترهيب الاستبداد من مغبة سياساته سيدفعه للقيام بتنازلات.
تسمي الليبرالية هذه السياسة المعاقة «واقعية» لكنها واقعية جبانة وخانعة.
تبرئة الرأسمالية
يرد النداء أسباب التنمية المعاقة إلى «العيب الرئيسي في النظام السياسي المغربي: فلأنه غير ديمقراطي؛ لا يربط ممارسة السلطة والمسؤولية بالمحاسبة والجزاء، فإنه يعجز عن تحقيق التنمية، بل يتسبب في نتائج عكسية. وباختصار، لقد أصبح هذا النظام، بالشكل الذي يشتغل به، يشكل عائقا أمام تنمية البلاد». ويتعمق هذا السبب عميقا في التاريخ السياسي المغربي ليكون في الأخير مرتبطا «بالاختيارات الكبرى التي تمت هندسة أسُسِها خلال الستينيات من القرن الماضي في إطار الحكم المطلق للملك الراحل الحسن الثاني. وهي الهندسة التي لم تتم إعادة النظر في جوهرها خلال الخمسة عشرة سنة من الحكم الحالي».
يستعمل النداء لغة «شعبوية» عند الحديث عن التفاوت الاجتماعي والطبقي، فبدل الحديث عن برجوازية محتكرة لوسائل الإنتاج والثروة وطبقة عاملة وصغار منتجين يتم اعتصارهم، يتحدث النداء عن «أغنياء وذوي نفوذ» من جهة وعن «فقراء « من جهة أخرى. ويحصر جوهر المشكل في سوء توزيع الثروة وليس في إنتاجها بحد ذاته، وهو غض للطرف عن استغلال الطبقة العاملة داخل دائرة الإنتاج من خلال اعتصار فائض القيمة وتوجيه النظار إلى التفاوت في توزيع هذه الثروة التي تسيطر عليها طبقات «لا تعمل» من خلال «أرباح وريوع وفوائد». إن روح النداء هو الدفاع عن مصالح الفئة الثانية وإدامة استغلال الفئة الأولى لكن مع حث الاستبداد للحرض على استقرار أوضع الاستغلال هاته.
لا دور هنا لتبعية الاقتصاد المغربي للإمبريالية التي تحكمت في «الاختيارات الكبرى» للمغرب منذ ما قبل الاستقلال، ولا ذكر لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمديونية الخارجية التي تتحكم في السياسات الاقتصادية.
إن تخلف البلد الاقتصادي وضعف برجوازيته وانعدام تقاليدها السياسية هو السبب في لا ديمقراطية نظامه السياسي وليس العكس كما يدعي موقعو البيان، فالبرجوازية كانت حاضرة أثناء «هندسة أسس الاختيارات الكبرى خلال الستينيات»، ولكن لأنها ضعيفة كانت بحاجة لنظام قوي مستقر يؤمن لها تثبيت مكتسباتها قبل أن تصبح هذه البرجوازية ذاتها قوة فعَّالة لدعم النظام.
استبطان تبريرات النظام
جعل موقعو النداء من خطاب الملك مرجعية لندائهم، رغم سعي «أحرشان» أحد موقعي النداء عن جماعة العدل والإحسان لنفي ذلك وحديثه عن كون الخطاب الملكي مناسبة لا غير. (موقع الجماعة، 22 شتنبر 2014).
وسجل الموقعون للملكية حسن نيتها في فقرات النداء واعتبروه مقاربة نقدية ومهيئا لشروط «فتح نقاش حقيقي وبناء وعميق حول قضايا الثروة وإنتاجها وتوزيعها».
إن الليبرالية الجبانة والخائفة من الجماهير تجعل أنظارها معلقة نحو ما يجود به الاستبداد من أوهام تتعلق بها آملة أن يكون الاستبداد عند «حسن نيته» ويستعمل الاستبداد أوهام الليبراليين هذه كآلية لضبط الجماهير وتنفيس الاحتقان الاجتماعي.
أكد موقعو النداء حسن نيتهم تجاه الاستبداد من خلال الإشارة المتكررة إلى لغة الحوار والنقاش المفتوح؛ «إن المغرب اليوم في حاجة إلى نقاشات صريحة ومنفتحة على الجميع. ولابد من تجاوز الحكم على أصحاب كل رأي مخالف بأنهم أعداء يتعين تهميشهم. فاعتماد مثل هذه النظرة لم يقدم في الماضي ولن يقدم الآن أو غدا أي خدمة لمصلحة البلاد».
إن هذه «الشخصيات الوطنية» الذين لم يتجرؤوا حتى على التوقيع على النداء بصفاتهم السياسية والحزبية بل «بصفتهم الشخصية»، لن يتجرؤوا على أكثر من الاستجداء والنقاش، وهم يعتبرون الاستبداد الذي يحافظ على استقرار نظام التخلف والتنمية المعاقة «صاحب رأي مخالف» وليس «نقيضا طبقيا»، وذلك كفيل لوحده لإظهار طبيعة المعارضة التي تسعى هذه الشخصيات الوطنية تشكيلها؛ «معارضة صاحب الجلالة».
حتى في تحليل وضعية الاقتصاد المغربي لم يسلم النداء من ترديد حجج النظام وأيديولجييه، فيرد موقعو النداء ضعف النمو الاقتصادي وهشاشته، إلى «ضعف تنافسية القطاعات المنتجة». ويعيد النداء نفس السيمفونية حول محاور الإصلاح التي فرضها البنك الدولي على المغرب «إن أداء صندوق المقاصة يبقى غير عادل وغير فعال، ويشكل خطرا مستمرا على توازن الميزانية. أما صناديق التقاعد، فإنها تعاني من عجز هائل يمكن أن يؤدي إلى تفكك الاقتصاد الوطني برمته، ما لم تتم معالجتها بشكل جذري وسريع».
استجداء التوافق لا معارضة
إن جرد أوجه تخلف الاقتصاد المغربي من طرف موقعي البيان ليس لغاية تعبئة الجماهير للنضال، بل لتنبيه الاستبداد إلى مواقع الخلل في سياساته لتدارك الأمر قبل الانفجار، ولا يعارض هؤلاء جوهر السياسيات و»الاختيارات الكبرى» بل طريقة صياغته وإقرارها؛ أي استفراد الاستبداد بسن تلك الخيارات وتنفيذها، فبالنسبة لموقعي البيان التبادل الحر خطير على اقتصاد المغرب لأن هذه الاتفاقيات «لم يتم إعدادها بشكل جيد، وتم التفاوض بشأنها بعيدا عن كل مراقبة ديمقراطية».. وهو عين ما يتم توجيهه حاليا من طرف المعارضة والبيروقراطية النقابية التابعة لها للحكومة حول ملفات إصلاح أنظمة التقاعد والمقاصة بحديثها عن «تهريب الملفات» عن طاولة الحوار الاجتماعي.
لذك ينتقد هؤلاء عدم خضوع «الاختيارات التي يحددها الملك والبرامج التي تنبثق عنها» للمراقبة الديمقراطية، والمراقبة الديمقراطية التي يقصدها هؤلاء السادة ليس الرقابة الشعبية بل ما يطلقون عليه رقابة «مؤسساتية»، أي برلمانية برجوازية.
إن البرلمانية البرجوازية لا تعني الديمقراطية تحديدا، فالاختيارات الاقتصادية الكبرى حتى في أكثر الدول الدمقراطية البرجوازية عراقة لا تحددها المؤسسات المنتخبة ولا تخضع لرقابة البرلمانات، بل تحدد من طرف مؤسسات غير منتخبة وفوق وطنية (الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي).
إن موقعي النداء- وقبلهم كل الليبراليين الذي تعاقبوا على «منصب» المعارضة الشرعية بالمغرب- مقتنعون أن الديمقراطية حتى في صيغتها البرجوازية والبرلمانية مستحيلة- ما دام لا يفرضها النضال الشعبي- لذلك يسعون إلى إقناع الملكية باقتسام السلطة معهم من موقع الشريك الصغير.
إن حلم الاتحاد الاشتراكي بملكية برلمانية لا زال خالدا ويدغدغ أحلام صغار الليبراليين الذين يبزغون بين الفينة والأخرى على الساحة الإعلامية بالمغرب، ولأنه حلم قديم قدم الليبرالية فتفسير ذلك الحلم سيكون قديما أيضا؛ «كان الليبراليون يحلمون بملكية من الطراز البريطاني. ولكن هل كانت البرلمانية على التايمز وليدة تطور سلمي، أم نتيجة فطنة العاهل الملكي وتصرفه بشكل «حر»؟ كلا، إن البرلمانية الإنكليزية لم تترسخ إلا بفضل نضال طويل دام عدة قرون، وأطاح برأس أحد الملوك على مفترق الطرق». (ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، الجزء الأول).
بدائل النداء.. صيغة أخرى من «الاختيارات الكبرى للاستبداد
لا تخرج البدائل التي يقترحها موقعو النداء عن روح الهجوم النيوليبرالي إلا بإضفاء الطابع الأخلاقي على تلك البدائل والتركيز على أمور تفصيلية لا تتعلق بجوهر السياسات الاقتصادية التي كانت السبب وراء إعاقة التنمية، لا يتحدث النداء إلى عن التوضيح والتقييم والترشيد والعقلنة وإعادة الاعتبار، أما ما يخص مطلب المحاسبة والمساءلة فليست محض إجراء إداري أو سياسي يمكن تطبيقه في إطار أي نظام سياسي، بل مرتبط بالطبيعة الطبقية للدولة.
إن البرلمان المغربي له أيضا أدوار المحاسبة لكن في إطار ما يسمح به تحكم الاستبداد، وتتعدد لجان التقصي والمحاسبة التي يشكلها الاستبداد كلما فاحت روائح ملفات بعينها أو كلما أراد الاستبداد ذر الرماد في العيون. وهو ما يقع أيضا في «الدول الديمقراطية التي تحترم نفسها» حسب تعبير الصحافة الليبرالية المغربية، لكن يبقى الوضع على ما هو عليه وتتكرر بشكل دوري فضائح الفساد والرشوة والاستيلاء على الملك العام دون ذكر الأمر الأساسي في المجتمع الرأسمالي وهو الأزمات الاقتصادية، فلا المسؤولية ولا ربط ممارسة السلطة بالمحاسبة يستطيعان درء شرور المجتمع الرأسمالي هذه.
لا ندافع عن المحاسبة والمساءلة هكذا بشكل عام، بل ندافع عن الرقابة العمالية على الإنتاج وعن الرقابة الشعبية من أسفل. ندافع عن ديمقراطية حتى نهايتها أي عن ديمقراطية لا تشمل المجال السياسي فقط، بل كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ندافع عن حرية سياسية لأنها بالنسبة لنا شرط أساسي لتطوير النضال العمال والشعبي ودفعه نحو غايته النهائية؛ قلب هذا المجتمع الطبقي ودك أسسه القائمة على الاستغلال والاضطهاد. لا نريد حرية سياسية لكي نشارك الاستبداد في استغلال العمال وصغار المنتجين، ولا نريد شراكة في صياغة مخططات اقتصادية تديم التخلف وتربط البلد أكثر إلى الدول الإمبريالية.
إن الواقعية السياسية التي يدعيها موقعو البيان جعلتهم يغضون الطرف عن أحد الأسباب الجوهرية في إعاقة التنمية بالمغرب هو المديونية الخارجية، فبدل المطالبة بالامتناع عن السداد والنضال من أجل إلغاء هذه الديون ومحاسبة المتورطين في تفاقم الديون وتدقيق أوجه صرفها، يلوك موقعو البيان لغة عامة لا يستفاد منها شيء فيما يخص المديونية الخارجية؛ «التقييم المستقل والعلني للبرامج والمخططات القطاعية وللمديونية العمومية (من حيث جدواها وفعاليتها وتدبيرها والمسؤوليات المرتبطة بها) وإخضاع هذه الأمور إلى نقاش وطني».
لا تنمية خارج تلك التي يفرضها النضال العمالي والشعبي
ليس النداء إلا تكرارا مشوها لكل الاستجداءات التي سبق أن أرسلها الليبراليون إلى الاستبداد الملكي منذ عقود، فإذا كان الأصل مأساة فإن التقليد مسخرة.
إن استجداء التنازلات أسلوب بئيس للظهور بمظهر الديمقراطي في أعين الجماهير التي تكتوي بنتائج التنمية المعاقة، يتوهم الليبراليون أن تخويف النظام بنتائج سياساته الكارثية سيدفعه إلى تقديم تنازلات، متغافلين من جهة عن أن المستبدين الذي أطاحتهم الثورات ظلوا رافضين لتقديم التنازلات حتى وهم في الرمق الأخير من بقائهم على عروشهم، ومن جهة أخرى أن الاستبداد لا يقدم على هذه التنازلات إلا إذا كان متأكدا من أنها ستساعده على هزيمة الديمقراطية الحقيقية أي «حركة الجماهير من أسفل».
إن الاستبداد والبرجوازية التي يخدمها وحافظ على نظامها الاقتصادي، لا مصلحة لها في تنمية متحررة من قيود التخلف والتبعية للإمبريالية، لذلك فإن استجداءها لتكون طرفا في نقاش «التنمية المعاقة» يعد مطالبة وحش مفترس كي يكف عن كونه وحشا مفترسا.
إنقاذ البلد من التخلف وفك روابط التبعية الاقتصادية والسياسية تجاه الإمبريالية لا يمكن إلا أن يكون في مصلحة الطبقة العاملة وصغار المنتجين والكادحين، لذلك فإن النقاش يجب أن يكون موجها نحو الأسفل، على شكل حملات تعبوية ضد مخططات النظام، على شكل تحريض وحفز النضال الجماهيري ضد كل أشكال الاستغلال والاضطهاد.. وهو ما لا ننتظره من هذه «الشخصيات الوطنية» التي تعتبر الاستبداد القائم على جثث شعبنا ومعاناة أبنائه المناضلين في المعتقلات والمنافي «صاحب رأي مخالف، لا يتعين تهميشه».
النضال من أجل الديمقراطية و»التنمية» لا ينفصل عند الماركسيين الثوريين عن النضال ضد أوهام الليبراليين الذين يعملون على تسييدها داخل صفوف الطبقة العاملة، فبالنسبة لنا الطبقة العاملة هي المناضل الطليعي الوحيد القادر على هزم الاستبداد والظفر بالحرية السياسية وفتح المجال لتطور المجتمع الاقتصادي.
لكن إذا تجرأ السادة الليبراليون لمناوشة الاستبداد بنضال ميداني فسيكون الماركسيون الثوريون في مقدمة الصفوف كما سبق أن حدث مع حراك العشرين من فبراير، ليس للبقاء ضمن الحدود السياسية التي يرسمها الليبراليون للنضال بل لحفز نضال الجماهير وتنظيمها ونيل استقلاليتها السياسية عن الأحزاب البرجوازية بكل تلاوينها.
إن ثقتنا في النضال العمالي والشعبي كبيرة، ونحن متأكدون أن لحظة انطلاقه من جديد آتية لا ريب فيها، وعندما يندلع النضال ويضع نصب عينيه دك المجتمع الطبقي وحارسه الاستبدادي سيظهر إلى أي جانب ستصطف «الشخصيات الوطنية».. ولنا في التاريخ عبرة.
بقلم: أزنزار
اقرأ أيضا