عن الانتفاضات الفرنسيّة الرّاهنة
في بداية آذار/مارس، أعلنت حكومة الحزب الاشتراكي الليبراليّة للغاية عن مشروع قانون الاصلاحات العمالية الذي يهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية للشركات القائمة في فرنسا. مشروع القانون، المعروف بقانون الخمري (على اسم وزيرة العمل مريم الخمري)، اعتبر فورا من قبل معظم الفصائل اليسارية اعتداء جوهريّا على حقوق العمال وخرق محض لقانون العمل الفرنسي، الذي يعتبر الأكثر تقدما في اوروبا. يسمح هذا القانون للشركات أن تتوصل مع موظّفيها إلى “اتفاقيّات” حول ظروف العمل دون الحاجة إلى التفاوض مع النقابات العمالية، مخضعة العمال لقرارات اصحاب العمل التعسفية (فيما يخص تمديد ساعات العمل وتخفيض أجرة العمل الاضافي) من دون أي حماية قانونية. كما أنه يُسَهِل الاقالة الجماعية والفردية عبر التخفيف من قيود القانون الفرنسي في التسريح والتوظيف، ويلقي جانبا نظام الـ 35 ساعة عمل أسبوعية المقدّس لصالح آخر أطول و”أكثر مرونة”.
وبعد الاعلان عن قانون الاصلاح، طرحت عريضة عبر الانترنت من قبل الفصائل اليسارية المعارضة بدون الحيازة على دعم العمال والطلاب المسبق. وقد توّج الحقد تجاه قانون الاصلاح الذي أعلن عنه- وضد حكومة الحزب الاشتراكي بشكل عام- بالاضرابات المحلّية والوقفات الاحتجاجية الضخمة. أبرزها كانت تلك التي جرت في 9 آذار/مارس شارك فيها 250،000 شخص، وفي 31 آذار/مارس شارك فيها أكثر من مليون متظاهر، وفي 9 نيسان/ابريل شارك فيها اقل من 200،000 شخص. في جميع المناسبات، قامت النقابات العمالية اليسارية والأحزاب السياسية بدعوة مؤيديها للنزول إلى الشوارع في وجه الحزب الاشتراكي الحاكم. شملت النقابات العمّالية سوليدير (متضامنون) (SUD وهو تحالف وثيق مع الحزب الجديد المناهض للراسمالية)، والاتحاد الوطني للشغل (CNT-F والذي يعتبر مجوعة نقابية أناركية)، وقوة العمال (FO)، والاتحاد العام للشغل (CGT، المتحالف مع الحزب الاشتراكي في السابق)، بينما ضمّت الاحزاب السياسية الحزب الشيوعي الفرنسي (PCF)، وحزب اليسار (PG، وحزب ميلونشون الاشتراكي الساعي إلى الحفاظ على البيئة)، والحزب الجديد المناهض للرأسمالية (NPA، المعروف في السابق باسم العصبة الشيوعية الثورية) والنضال العمالي (LO، وهو منظمة تروتسكيّة)، والبديل التحرري (AL، وهي منظمة شيوعية أناركية صغيرة). من المهم أن نذكر، قبل أن نركز على المطالب المتناقضة لهذه الاحزاب السياسية، أنّ الجهود- لعدم وجود كلمة أفضل- التي بذلها اليسار من أجل إقامة حركة كبيرة لمكافحة التسلّط باءت بالفشل الذريع في السنوات الفائتة. وقد تشكّلت التحالفات في السابق- على سبيل المثال، اتّحد الحزب الشيوعي الفرنسي ما بعد الستالينية مع حزب ميلونشون اليساري في جبهة واحدة تحت اسم جبهة اليسار (FDG) في عام 2008- لكن اليسار الفرنسي أثبت عدم كفاءته في الاعتراض على المواقف اليمينيّة للفريق الاشتراكي من الحكومة حيال الأمن والتقشف الاقتصادي وحقوق العمال والهجرة من خلال تنظيم وقفات احتجاجية موحّدة. حقيقة أنهم قد جمعوا مؤيّديهم- ولو من غير قصد- لمعارضة اصلاح قانون العمل اعتبرت نجاحا نسبيّا، وهو كذلك. ولكن يبقى أن هذه الأحزاب لا تزال بحاجة لمعالجة تفكّكها الفكري وقدراتها في تحطيم جبهتها الموحّدة الهشة. كلّ من الخطاب القومي المتزايد للحزب الشيوعي الفرنسي والحزب اليساري، إلى جانب حاجة ميلونشون المستمرة لخلق تأليه ذاتي لنفسه، يهدّدان بإعادة الستالينية لأقصى اليسار الفرنسي الذي حارب طويلا ليخلّص نفسه من الأشباح الستالينيين. إن مجموعات كنضال العمال- الذي ما تزال المتحدثة باسمه ناتالي أرثود تحاول أن تعرض استراتيجية واضحة على مؤيديه- والبديل التحرري- الذي ما زال يناضل من أجل الإدارة الذاتية للعمال منذ البداية- هي محدودة عدديّا لتشارك في نقاش اليسار الفرنسي حول كيفيّة تعريف وقيادة الانتفاضات الحاليّة.
بذلك نبقى مع الحزب الجديد المناهض للرأسمالية (NPA)، وهو حزب سياسي تشكل عام 2009 وقام بجلب أعضاء من الاتحاد الشيوعي التروتسكي (المعروف باسم النّضال العمالي) جنبا إلى جنب مع المناضلين المناهضين للعولمة وعلى أساس الهوية. في كتابه “تقارب ثوري: نجومنا الحمراء والسوداء” الصادر عام 2015، شرع أوليفييه بيزانسونو، المتحدث غير الرسمي باسم الحزب الجديد المناهض للرأسمالية، بمهمة صعبة للتوفيق بين المناضلين الأناركيين والماركسيين، من أجل استمالتهم لليسار الراديكالي الفرنسي. وقد تكونت استراتيجيّته من الكشف عن عدة تحالفات جرت بين أوروبيين ماركسيين وأناركيين خلال القرنين التاسع عشر والعشرين من خلال إعادة ذكر الحالات التضامنية التي جسّدت أحداثا تاريخية مثل كومونة باريس في 1871 والثورة الاسبانية في 1936. كما فضل بيزانسونو أن يركز على مقال والتر بنيامين “نقد العنف” عام 1921، الذي يؤكد فيه الفيلسوف المحترم على أن “الاضراب البروليتاري العام هو بالضبط ما يمنع الدولة السياسية عن ممارسة العنف من خلال الانسحاب الثوري الأناركي للعمال”. واذا كنا لنؤمن بأن الهدف من وجود “تقارب ثوري” أن يكون بمثابة “البيان الرسمي” للحزب الجديد المناهض للرأسمالية (بدلا من أن يكون نقدا خالصا للأناركية أو الاشتراكية الستالينية)، فلماذا لا يزال الحزب ينتظر لتنفيذ وعده بتعزيز الاضرابات الجماهيريّة كطريقة للعمل الثوري؟ إنه من الخداع وصف الاضرابات الاخيرة التي نظمتها النقابات العمالية ومن ضمنها الـ CGT وسوليدير (متضامنون) بأي شيء غير عدم الجدوى. كتبت روزا لوكسمبورغ أنه “من السخف النظر إلى الاضراب الجماهيري وكأنّه فعل واحد، وعمل واحد متقوقع. إن الاضراب الجماهيري هو بالأحرى المؤشّر، والفكرة الحاشدة، في فترة طويلة من الصراع الطبقي الذي دام لسنوات، وربما لعقود”. لقد فشل كل من الحزب الجديد المناهض للرأسمالية والنقابات العمالية في فهم الطابع الثوري للاضرابات الجماهيرية. إنهم اختاروا بدلا من ذلك ما سمته لوكسمبورغ حصريا بالإضرابات الجماهيرية “السياسية”، وهو “الانتفاضة الفردية الضخمة للبروليتاريا الصناعية، المنبثقة عن بعض الحوافز السياسية التي هي غاية في الأهمية، القائمة على أساس الفهم الملائم والمتبادل لسلطات الحزب المسيطرة وللنقابات العمالية، والنّاجحة عن طريق روح الانضباط الحزبي والترتيب المثالي”. بدلا من الضغط على سوليدير (متضامنون)- النقابة الذين هم على تحالف وثيق معها- بغية “ترقية” الاضرابات العامة الذين كانوا قد دعوا المؤيدين من جانبهم بشكل واضح إليها إلى أخرى من شانها أن تعرقل (وبالتالي توقف) عملية الانتاج، اختار الحزب الجديد المناهض للرأسمالية أن يعطي الاولوية للوقفات الاحتجاجية في الشارع التي كانت تقوم بتنفيذها الطبقة العاملة من مؤيديه كل أسبوع تقريبا.
لقد أصبح من الصعب إنكار البنية الاقتصادية لسياسة الطبقة العاملة الفرنسية، كما يتضح من خلال مسار العمل الذي تتخذه الاحزاب السياسية اليسارية من خلال الكفاحية النقابية. إن وسائل النضال السياسية الضرورية في نضال العمّال ضد الدولة وللاطاحة بالرأسماليّة باتت تستخدم- بأشكالها المدجّنة- للضغط من أجل اصلاحات اقتصادية تخاطب الاهتمامات المباشرة.
يجب مواجهة جانباً آخر من الانتفاضات وهو توازن القوى على الأرض خلال الاحتجاجات. فقد تبيّن أن بعض النقابات العمالية كالاتحاد الوطني للشغل CGT- الذي تنامى داخله شعور مضاد للشيوعية نتيجة استقالة العديد من أعضائه بعد فشل مفاوضات متتالية- كانت تقوم بالاتفاق مع شرطة مكافحة الشغب الفرنسية خلال الاحتجاجات الأخيرة لتتفادى إلحاق الأذية بالمتظاهرين المنتمين إليها. ويتم هذا على حساب الشباب الذين يساعد الاتحاد الوطني للشغل والنقابات العمالية والأحزاب السياسية الأخرى (مثل حزب اليسار الذي أسسه ميلونشون) على تشويه صورتهم بهدف جعلهم كبش فداء. شوهدت شرطة مكافحة الشغب وهي تعتدي بهمجيّة على تلامذة محتجّين منذ أن بدأت الانتفاضة. فالهيئات المؤسساتية التي تحمي التلامذة المحتجين من ممارسات الشرطة العنفية ومن الاعتقال التعسفي لا تقدم لهم أية حماية قانونية، بعكس أفراد الطبقة العاملة المنضمين إلى النقابات.
بذل الحزب الاشتراكي الحاكم عبر جهازه الأمني القمعي جهداً لتفرقة الشباب عن العمّال، مطبقاً استراتيجية فرّق تسُد التي ثبتت فعاليتها. انقسمت الانتفاضات بين تيارين مختلفين نتيجة لذلك: الأول أخذ الطابع البيروقراطي الإصلاحي لنقابات العمال التي تقوده، أما الثاني فيتشكل حصرياً من شباب غير مسيّسين- في جوٍّ من الديمقراطية التمثيلية- تبنّوا مقاربة عفوية للتعبئة السياسية لكنّهم يواجهون شرطة مُعسكرة بشكل خطر. تستطيع نقابات العمال بهذا الشكل أن تتولّى ضبط العمال، الأمر الذي يعكس أولويّة مصالحها المادية التي تحصل عليها عندما تحمي الإعانات الضخمة التي تمنحها الدولة لها. يتم حمل العمال على الاعتقاد أنهم وُهبوا منصة مستقلة يحتجّون عليها بدون أن تقمعهم الدولة في الوقت الذي يُسمح للشرطة بالاعتداء على الشباب الذين لا تدافع عنهم أية جهة.
أخيراً، علينا ألّا ننسى حركة نوي ديبو (#NuitDebout أو “مستيقظون طوال الليل”)، وهي أكثر ظاهرة مثيرة للاهتمام تنبع من الانتفاضة الحالية. ولدت هذه الحركة في 31 آذار/مارس، وهي امتداد للمظاهرات التي سبق ووصفناها، إلا أنها تشغل ساحة الجمهورية في باريس، وتوافق فيها جمعية عامة دائمة على القرارات في ممارسة الديمقراطية. تتبع نوي ديبو نموذج حركتي احتلوا Occupy وساخطون Indignados اللتين فشلتا، على الرغم مما يقوله البعض عن تلك الأخيرة التي يُعقل أنها ساعدت على ازدهار بوديموس Podemos في اسبانيا. حثّ منظّمو نوي ديبو المحتجين على تقريب الصراعات المختلفة من بعضها البعض لمحاولة بناء خطاب ممنهج ليس مبنياً على الاستعارات المبتذلة التي يحفل بها خطاب عامة اليسار السياسي. أعربت بعض الأحزاب كالحزب الجديد المناهض للرأسمالية وجبهة اليسار عن تأييدها للحركة، فيما شدد منظمو نوي ديبو على ضرورة إبعادها عن أي تأثير سياسي.
لكنّه من الحمق أن نفترض تلقائياً أن مناضلي حركة نوي ديبو يجهدون لتبنّي حلولاً أكثر راديكالية من تلك التي اقترحها الفريق السياسي الحاكم. فقد أجمع المناضلون على رفض النظرية الماركسية لصالح مقاربات أكثر ليبرالية لمسألتي النسوية والهجرة، كما أن نظرتهم للاقتصاد متجذرة في النظرية الكينزية. يدفعنا هذا للتساؤل عمّا يجعل حركة نوي ديبو مختلفة عن الأحزاب السياسية الفرنسية التي يحاول منظمو الحركة الخلاص من سيطرتها؟ قد تبدو مقاربتهم “المتعددة الأوجه” ورفضهم الامتثال بتيار أيديولوجي أموراً “منعشة” للبعض، لكنها تبرهن أن أغلبيتهم لا يدرون بهيكلية السلطة التي تفسح المجال للعديد من أشكال القمع التي ينتقدونها… بدرجات متفاوتة من الغضب وحسب تراتبيّة أهمياتها. حتى الآن، لم ترحّب الحركة سوى بمفكّرٍ فرنسي واحد، هو عالم الاقتصاد والفيلسوف فريدريك لوردون الذي سرعان ما لاحظ عيوب نوي ديبو (العديدة). وقد قام بانتقادها في ساحة الجمهورية في 9 نيسان/ابريل، قائلاً: “الحركة التي لا تحدد هدفاً سياسياً لنفسها تزول سريعاً. فقد نتعب من تواجدنا معاً، أو قد تنطفئ الحركة تحت تأثير عملية الانتخابات”. وقد شدّد أيضاً في خطابه على أهمية الإضرابات العامة التي خفف من شأنها الحزبين المذكورين أعلاه ومناضلو نوي ديبو بالرغم من كونها عملاً ثورياً. “تذكّروا حسنات وفضائل الإضراب العام. الإضراب يجعل البلد بكامله يتوقّف، هذا هو تعبيرهم. لكن الواقع لا يمتّ إلى ذلك بصلة. حين يقولون أن كل ما في البلد توقّف عن العمل، حينها ينفتح كل شيء: فتبدأ السياسة (الحقيقية) والخطاب والنشاط وحتّى العلاقات بين الناس بالازدهار. عندها تظهر آفاق مستقبل أفضل”.
تواجه حركة نوي ديبو مشكلة أخرى، وهي عجزها عن جذب الشباب المحرومين، ومن غير البيض على وجه الأخص، الآتين من ضواحي المدن. يعتبر البعض أن ذلك نتيجة رفض اليسار الفرنسي الانضمام إلى انتفاضة انتفاضات الضواحي عام 2005، مما جعل سكان الضواحي يبتعدون عن الانتفاضات الحالية. لا يخلو هذا التفسير من الصواب، لكنه يبقى سطحيا للغاية. لم يعطِ حتى الآن مناضلو نوي ديبو مسألة تفرقة البروليتاريا الفرنسية على أساس العرق الأهمية السياسية التي تستحقها، وفضّلوا جعل الاضطهاد الممنهج الذي يواجهه المواطنون الفرنسيون المتحدّرون من المهاجرين والمهاجرون غير الموثّقين مشكلة “ثانوية”. إن التفرقة العرقية في فرنسا متجذرة في النظام التعليمي في المناطق المُدُنية الفرنسية التي يتكون معظم سكانها من غير البيض. وأتى تكوين هذه المناطق العرقي نتيجة سنين من الممارسات التي عزلتهم عبرها الحكومة الفرنسية وأفقرتهم، فقد خفّضت ميزانيات المدارس الرسمية من أجل إضعافها ودفع التلاميذ من غير البيض إلى التخصص في مجالات تتطلب العمل اليدوي. يفشل من بعدها معظم العمال من غير البيض في الانضمام إلى النقابات العمالية بسبب تشبثها برفض مكافحة العنصرية والاسلاموفوبيا في أماكن العمل. لا يزال فهم هذه الحركة لمسألة العرق ولتقاطعها مع مسألة الطبقة مصدر مشاكل، وهو واحد من الأسباب التي لم ينضم إلى الحركة من أجلها الحزب الفرنسي الوحيد المناهض للاستعمار، حزب السكان الأصليين للجمهورية (PIR)، بالإضافة إلى الجماعات المناهضة للعنصرية مثل لواء مكافحة كراهية السود (BAN). إذا كانت حركة نوي ديبو، واليسار الفرنسي بشكل عام، تنوي أن تتولّى الحكم في المستقبل القريب، عليها أن تتبنّى خطاباً يعي، من جهة، تاريخ وسوسيولوجية الكيانات ما بعد الاستعمارية، ويواجه، من جهة أخرى، تأييد العمال للجبهة الوطنية النيو فاشية التي حصدت %57 من الأصوات في الانتخابات الأخيرة.
اقرأ أيضا