حوار مع جلبير أشقر: نحو يسار تحرري وتقدمي في الشرق الأوسط
نقلا عن موقع الجمهورية على الرابط التالي: http://aljumhuriya.net/34977
تفتتح الجمهورية ملفها الفكري الأول بعنوان «اليسار وسؤال الحرية»، الذي يعدّه عدي الزعبي، وستنشر فيه مقالاً كل يوم جمعة لمدة ثلاثة أشهر. يسعى الملف إلى طرح أسئلةٍ نظرية حول مفهوم اليسار وعلاقته بالحرية، بالإضافة إلى أسئلة أخرى عن اليسار العربي والأوروبي، وغيرها من المواضيع.
نأمل أن يساهم هذا الملف في صياغة أجوبةٍ على أسئلتنا الراهنة الصعبة والمحرجة. كيف يكون المرء يسارياً في هذا الزمن؟ ما الذي يعنيه هذا بالضبط؟ وما الذي يميز اليسار التحرري من يسار الطغيان، اليسار الستاليني الذي يحتفي بستالين وماو، ويدافع عن طغاة العالم الثالث، العرب وغير العرب؟ ما هي علاقة اليسار بالحرية؟ وهل اليسار بالضرورة مع أو ضد الحرية، وبأي معنى؟ هل يقدّم اليسار أجوبةً وحلولاً لمشكلاتنا الراهنة، مع النفق الذي دخله الربيع العربي، ومع سيادة الثورات المضادة، في مصر مثلاً؟ وغير ذلك من أسئلةٍ تحتاج إلى إجابات.
نسعى، في النهاية، إلى الوصول إلى مفهومٍ منفتحٍ ليسارٍ تحرري يبني نفسه من تحت، من حياة الناس العاديين ومن همومهم ومشاكلهم، لا من فوق، من أحزاب وبنى دولتية تفرض نفسها على الناس. هذه مهمة صعبة وشاقة، نأمل أن يكون ملفنا خطوةً في تحقيقها.
لا يتفق كتاب المقالات كلياً على الأجوبة التي يعرضونها، ولكن يرى معظمهم في بناء يسارٍ تحرري مشروعاً يستحق العمل عليه، مشروعاً يتوافق مع الربيع العربي الذي انطلق قبل خمس سنوات ولم يحقق حريته بعد.
نتمنى أن يجد القراء ما يدفعهم للقراءة والتفكير والنقد؛ هذا التفاعل هو ما نريده من طرحنا لأسئلة اليسار والحرية.
*****
المقابلة التالية، التي أشكر صديقي عُدي الزعبي على تعريبها عن النص الأصلي باللغة الإنكليزية، صدرت أولاً باللغة الفارسية. وقد أجراها معي عبّاس شهرابي فراهاني لموقع بروبلماتيكا، وهو موقع يساري إيراني يشرف عليه مناضلون شبان متواجدون داخل إيران بالذات. وتندرج المقابلة في سلسلة مقابلات عن اليسار، أُجريت معي خلال السنوات القليلة الماضية، أخصّ منها ثلاث: مقابلة تحت عنوان «اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر»، صدرت أصلاً في مجلة الآداب سنة 2010 (عدد 4-5)، وهي لا تزال متوفرة على الإنترنت على موقع المناضل-ة (المغرب)، وأخرى تحت عنوان «نحو بناء حركة يسارية جديدة في سياق الانتفاضات الجماهيرية» صدرت بتاريخ 20 آذار 2011 على موقع الحوار المتمدن، وثالثةٌ أجراها معي عُدي نفسه، وصدرت بتاريخ 11 آذار 2015، أي قبل عامٍ ونيف، على موقع الجمهورية هذا بالذات.
أُجريَتْ المقابلة الأولى في أيلول 2009، كان ذلك زمن ما قبل الانتفاضة العربية الكبرى، وقد استشرفتُ إرهاصاتها في ذلك الحين، لا سيما في موجة النضالات العمالية التي تصاعدت في مصر منذ منتصف العقد. فرأيت في تصاعد النضال الطبقي مصحوباً بما أسميته «بوادر تأزم التيار الديني»، ما يشير إلى منعطف تاريخي جديد. وكانت خلاصة تقديري للأمر على النحو التالي:
«إنها بوادرُ لا أكثر، في الوقت الراهن. لكنها كافية لتجعلني أشعر ببعض التفاؤل للمرّة الأولى منذ أكثر من ربع قرن، وإنْ بشكلٍ محدودٍ وحذر. أشعر أننا على عتبة منعطفٍ تاريخيّ، وأمام بداية النهاية للحقبة التاريخيّة التي تلت اندثارَ الحركة القوميّة، وربّما بوادر موجةٍ جديدة. وإذا استمرّت وتعمّقت الظاهرتان اللتان تحدّثتُ عنهما –أزمةُ التيّارات الدينيّة، وصعودُ الموجة الطبقيّة– فعندها يمكن أن تنضج ظروفٌ مواتيةٌ لبناء الحركة اليساريّة من جديد. لقد ضاعت الفرصةُ الأولى بعد هزيمة 1967، وعلى اليسار العربيّ أن لا يضيّع الفرصة المقبلة».
وقد أشرت في المقابلة ذاتها إلى الشرط الرئيسي لتحقيق ذلك على النحو التالي:
«إنّ على اليسار أولاً، إذا أراد أن يتمكّنَ من بناء ذاته، أن يكون يساراً كاملَ الهوية. فأيُّ يسارٍ ينتقص من هويّته، ويسْتر بعضَ قيَمه بغية التعاون أو التحالف مع قوًى أخرى، دينيّةٍ أو غير دينيّة، فإنّ هذه القوى ستبتلعه».
ثم جاء ما أسمي «الربيع العربي» منطلقاً من قلب تونس في كانون الأول 2010، وممتداً إلى كافة أرجاء المنطقة الناطقة بالعربية في عام 2011، ليخلق فرصةً جديدةً أمام اليسار العربي، ما كنتُ، وما كان أحدٌ، ليتوقع مثلها على ذلك المستوى العظيم. وقد وضعت الانتفاضة ما كان قائماً وقتها من يسار في المنطقة العربية، أمام امتحانٍ تاريخي بالغ الأهمية. وفي المقابلة التي أُجريتْ في آذار 2011، أي في صميم الأشهر الأولى التي استحقت تسمية «الربيع العربي»، وعندما كان الحراك في سورية في بدايته، أعدت التأكيد على ما رأيت ولا زلت أرى فيه الشرط الرئيسي لتمكن اليسار من فرض نفسه بديلاً عن قطبي الثورة المضادة في منطقتنا، ألا وهما قطب الأنظمة القائمة وقطب الرجعية الدينية المناوئة للأنظمة. وقدمت تفصيلاً لذاك الشرطِ الرئيسي في أربع نقاط على النحو التالي:
«أن يكون اليسار وفياً حقاً لكامل القيم التقدّمية واليسارية [يعني] أن يكون أولاً وفياً بشكل كامل وبلا تجزئة للديموقراطية، بما في ذلك نقد كافة الأنظمة الدكتاتورية، حتى تلك التي تقف في مواجهة الإمبريالية الأميركية أو الصهيونية، اذ كفانا سكوتاً عن الدكتاتورية بحجة الوطنية، وبالمقابل سكوتاً عن التبعية للإمبريالية بحجة الديموقراطية. وبالتالي أن يكون اليسار، ثانياً، جذرياً في تصدّيه للإمبريالية والصهيونية، وفي نضاله من أجل فك التبعية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وقادراً على إعادة رفع راية التوحيد القومي العربي بعد سقوطها في العقود الأخيرة، وأن يكون كذلك مدافعاً بصرامة عن حقوق الأقليات القومية والإثنية الموجودة في المنطقة العربية. وأن يكون، ثالثاً، وفياً لمعركة تحرر النساء –وأشدّد هنا على تعبير «تحرّر» (بالقوى الذاتية أولاً) بتمايزه عن «تحرير»– وكذلك وفياً للنضال من أجل العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، وهي شرطٌ أساسيٌ لا ديموقراطية حقيقية بدون توفّره. وأن يقف، رابعاً، في طليعة النضال ضد الاستغلال، ومن أجل مصالح الجماهير الكادحة الآنية في تحسين شروط عيشها، ومصالحها المستقبلية في تحقيق المساواة الاجتماعية. إن الوفاء لهذه الأبعاد مجتمعةً بلا إنقاص ولا إغفال تحت شتى الحجج «المرحلية»، هو الشرط الذي بدونه لا مجال لليسار ليبني نفسه بديلاً عن الأوضاع القائمة».
ولشديد أسفي، لم يكن اليسار العربي على مستوى الفرصة التاريخية. وكانت الحصيلة انتكاسة الانتفاضة العربية الكبرى، ودخول المنطقة في طور لم يقتصر على جَزرٍ رجعيٍ بعد المد الثوري، وهو أمرٌ طبيعي في السيرورات الثورية، بل تعدّى ذلك إلى تطاحنٍ بين القطبين المضادين للثورة، على حساب الطاقة الشبابية التقدمية العظيمة التي برزت في «الربيع العربي». فتضمنت المقابلة الثالثة إقراراً مني بالانتكاسة، معزياً إياها إلى إخفاق اليسار في تحقيق الشروط التي ما انفككتُ أشدد عليها منذ المقابلة الأولى. فلم يفِ اليسار بالشرط الرئيسي، إذ أنه لم يشق طريقاً ثالثاً مستقلاً عن قطبي الثورة المضادة، ومناهضاً لهما على حد سواء في المنظور الاستراتيجي، بل خلط بين الاستراتيجية والمناورة التكتيكية وتجاهل الشروط الذهبية لأي تحالفٍ مؤقت، ألا وهي:
1- عدمُ خلط المنظّمات. السيرُ على حِدة، والضربُ معاً.
2- عدمُ التخلّي عن المطالبِ السياسيّة الخاصّةِ بنا.
3- عدمُ إخفاءِ تبايُن المصالح.
4- مراقبةُ الحليف كما يُراقَب العدوّ.
5- الاهتمامُ بالاستفادة من الوضع الناتج من النضال، أكثرَ من الاهتمام بالحفاظ على الحليف.
والحال أن ما لدينا من يسارٍ في المنطقة العربية، قد سقط في فخ التحالف مع خلط الرايات، وطيّ البرنامج والسكوت عن الحليف المؤقت، بل ومدحه. وقد فعل ذلك تارةً مع الرجعية الدينية، وطوراً مع الأنظمة الاستبدادية بعينها. وأرى في هذا الإخفاق الخطير سبباً رئيسياً في مآل الانتفاضة العربية الراهن، وهو ما أتناوله بإسهابٍ في كتابي الجديد، انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراضٌ مَرَضية.
وخلاصة القول، أنه ما دامت القوى التقدمية لم تجد سبيلاً إلى تحقيق الشرط الرئيسي آنف الذكر، وبناء بديلٍ عن قطبي الثورة المضادة المذكورين أعلاه، بديلٍ قادرٍ على المضي بالحركة الجماهيرية نحو الإطاحة بالبنى الطبقية العفنة القائمة في منطقتنا، فإن مصيرنا المحتم هو استمرار ما أسميته «صدام الهمجيات»، وقد بتنا أمام زحمة من الهمجيات: من الهمجية الإمبريالية بوجهيها الغربي والروسي، إلى همجية الأنظمة العربية على اختلافها، وإلى همجية الأصولية الدينية المسلحة مهما كانت طائفتها. فقد عاد الزمن بنا إلى ضرورة التحلّي بالجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، إذ أن الواحد دون الآخر إنما هو طريقٌ أكيدٌ إلى الإحباط واستكمال الكارثة.
جلبير أشقر
*****
كيف تُعرِّفُ «اليسار» و«السياسة اليسارية»؟ ما هي العناصر النظرية الرئيسة للسياسة اليسارية؟
حسناً، دعني أقول إن السياسة «التقدّمية»، إن فهمناها بشكل صحيح -سأستخدم هنا مصطلح التقدمية بدلاً من اليسارية–، هي التي تُدافع عن كافة القيم التي تعرّف الحداثة والتقدم التاريخي منذ ثورات القرن الثامن عشر، مع تأكيدٍ خاصٍ على قيمة جوهرية هي العدالة الاجتماعية والمساواة. لذا، أُعرِّفُ السياسة التقدّمية، أو سياسة اليسار، بأنها أيُّ سياسةٍ تسعى بحقٍ إلى المنظومة الكاملة لهذه القيم.
ماذا عن السياسة اليسارية، أو السياسة التقدّمية كما أسميتها، في الشرق الأوسط؟ كيف نستطيع إعادة بناء اليسار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفقاً للقيم التي أشرت إليها؟
أنا أرفضُ وجهة النظر القائلة بأن الشرق الأوسط أو المسلمين، يجب أن يكون لهم قيمٌ مختلفة. القيم التي أشرتُ إليها هي قيمٌ وحقوقٌ إنسانية كونية يجب الدفاع عنها في كل مكان. وهذه القيم تتضمن بالفعل فصل الدين عن الدولة: الحرية والديمقراطية تقتضيان هذا الفصل، لأنه لا يمكن لدولة قائمة على الدين، أو لدولة تدّعي الاستلهام بالنصوص المقدّسة، أن تكون حرة وديمقراطية، بما أن المؤسسات الدينية ستحاول فرض تأويلها لشرع الله، بدلاً من القوانين الديمقراطية التي يضعها البشر. وكذلك، هناك مروحةٌ واسعةٌ من المواضيع التحررية المرتبطة بفصل الدين عن الدولة. أحدها هو تحرر النساء، وهو مكوّنٌ أساسي لأي برنامج تقدّمي حقيقي، والشرق الأوسط ليس استثناءً. بل على العكس، هذا أحد أهم الأمور في الشرق الأوسط، لأن المنطقة متخلّفة جداً من هذه الناحية. نحن متخلفون عن معظم الأمم في قضايا تحرر المرأة. وبطريقة مماثلة، بالطبع، تشكل حقوق كل الجماعات المضطهَدة في المجتمع، بما فيها الجماعات القومية والإثنية والجندرية، مكوّنات أساسية للسياسة التقدّمية. يجب أن تكرّس السياسة التقدمية نفسها للتحرير الكامل للبشر، رجالاً ونساءً، كما تكرّسها للعدالة الاجتماعية وللمساواة.
ماذا عن التنظيمات السياسية والتحركات الاجتماعية؟ ما هي التحديات الرئيسة التي تواجه الناشطين اليساريين، وما هي الفرص المتاحة أمامهم، في قضايا التنظيم والتحرك؟
أعتقد ان مسألة التنظيم مسألة تتطوّر بالارتباط بالزمن وبالتكنولوجيا. لا يمكننا اليوم أن نحافظ على مفهوم التنظيم نفسه الذي كان قائماً قبل خمسين عاماً. كما رأينا جميعاً، لعبت وسائل التواصل الحديثة دوراً محورياً في الانتفاضات والتحركات الجماهيرية في السنوات الماضية في الشرق الأوسط. ولكن هذه التجارب أثبتت لنا أيضاً أن استخدام التكنولوجيا الحديثة، وبالأخص وسائل التواصل الاجتماعي، لا يكفي كي ننتصر. لأن من يعيش في ظل نظام يتحكّم بجهاز دولة مركزي، لا يستطيع الانتصار عليه باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وحدها. أنت بحاجة إلى تنظيم حقيقي على الأرض، ولكن لا يمكن أن يكون هذا التنظيم على شكل الآلات المركزية التي كانت سائدة في مراحل تاريخية سابقة. كانت هذه التنظيمات خاصةً بالبلدان التي تحكمها أنظمة قمعية، ولكن في الواقع لا نستطيع بناء تنظيمات مشابهة في هذه الأيام، لأن الأنظمة نفسها استفادت من التكنولوجيا الحديثة في مراقبة شعوبها. من الصعب جداً بناءُ أي تنظيم فعّال في ظل القمع والمراقبة الحديثين. هذا يُظهر هنا صعوبةً حقيقية. في البلدان القمعية، قد يكون دور وسائل التواصل الاجتماعي حاسماً في اللحظات الأولى عندما تنزل الجماهير إلى الشارع، أي في بداية انتفاضة. ولكن ما أن تُفرض الحرية في الشارع، يكتسب التنظيم على الأرض أهمية محورية، وبأقصى سرعة ممكنة، في شبكات فعلية وليس افتراضية وحسب. إن لم يحصل ذلك، سيكون خطر النكسات والهزائم كبيراً جداً كما رأينا في التجارب الأخيرة في الشرق الأوسط.
ماذا عن التقاليد اليسارية (ماركسية أو غيرها) في قضايا التنظيم والتحركات؟ ما الذي يمكن أن نتعلّمه من لينين أو لوكسمبورغ أو تروتسكي في هذا االصدد؟
حسناً، أعتقد أن هذه النقاشات معظمها قديمٌ يعود إلى زمنٍ مضى. إن الذين يصرّون على اعتماد تصوّر لينين للتنظيم، إنما يشبهون مقاولين يريدون تنظيم معاملهم بالطريقة نفسها التي كانت سائدة قبل قرن. لن ينجحوا اليوم. نحن نعيش في زمن مختلف، والتكنولوجيا الحديثة تسمح بنوع من التنظيم أكثر ديمقراطية بكثير، وأكثر أفقية بكثير، مبنيٍ على الشبكات وليس على نموذج هرمي مركزي. ولكن، بالطبع، يجب أن يتكيّف التنظيم مع الوضع القائم في كل بلد. لا يوجد نموذجٌ كوني للتنظيم. المأساة التي حصلت بعد الثورة الروسية تكمن في أن البلاشفة عمّموا نموذجهم الروسي، الذي بُنيَ تحت ظروف خاصة تتمثل في مقارعة النظام القيصري ثم في الحرب الأهلية. أرادوا فرض نموذجهم على العالم بأكمله، ولكن هذا لم يُجدِ. يجب أن تأخذ بالحسبان الظروف المحيطة بالمعركة التي تخوضها، ودرجة الحرية المتاحة في بلدك، وطبيعة النظام السياسي الذي تواجهه. كل هذه الأمور جزءٌ من المشكلة، ولا يوجد حلٌّ سحري يصلحُ في كل مكان. لذا، كما قلت، إن كنتَ تعيش تحت نظامٍ قمعيٍ، ستساعدك وسائل التواصل الاجتماعي الالكترونية في التغلب على الصعوبات التي تواجهها في خلق الشروط لمرحلة أولى من التحركات الجماهيرية، والانتفاضات والثورات. ولكن، ما أن تتاح الفرصة لتنظيم مختلف بطريقة أكثر تحرراً، يجب اغتنام الفرصة على الفور والبدء ببناء شبكة واسعة من الناس الملتزمين بهدف مشترك. لذا يكتسي درجةً كبيرة من الأهمية خلقُ إجماعٍ عامٍ بين التقدميين، وبالأخص الشباب الناشطين بما أن معظم الملتزمين بالمعركة من اجل الأهداف التقدمية هم من الشباب. من المهم جداً تحقيق إجماعٍ على الأهداف، أي ميثاق تحرر مشترك، وفي أقرب فرصة تشكيل تنظيم يسعى إلى هذه الأهداف، من أجل الانتقال إلى طور أبعد.
مشكلةٌ أخرى من المشاكل الخلافية في تاريخ الفكر والاستراتيجية اليساريين هي مشكلة الائتلافات. ما رأيك في الائتلافات التي يستطيع اليساريون في الشرق الأوسط تشكيلها في معركتهم السياسية؟ هل تقترح استراتيجية عمّالية أو بروليتارية صرفة، أم ائتلاف يضم طبقات مختلفة؟ وبغض النظر عن الطبقات، من هي الجماعات السياسية والإيديولوجية التي يستطيع اليسار أن يتحالف معها في الشرق الأوسط؟
يعتمد الأمر بشكلٍ رئيسيٍ على طبيعة المشاكل التي تواجهها. إن كنت في بلد ما زال يفتقر إلى الحريات الديمقراطية الرئيسية، فأنت بحاجة إلى ائتلافٍ واسع، ويجب أن تكون قادراً على بناء مثله، لأن هناك الكثير من الجماعات السياسية والاجتماعية التي تشاركك في السعي إلى الحرية. أما إن كنت تعيش في بلد حرّ، حيث معركتك الأساسية هي في سبيل الاشتراكية، سيكون ائتلافك أضيق بكثير، أي ائتلافٌ بين من يتشابهون في السعي إلى تحقيق تغيير اشتراكي، وهو هدف لا يحوز على مثل الإجماع الذي تحوز عليه الحرية والديمقراطية. وبالتالي، مرةً أخرى، لا توجد مبادئ عامة في هذه الأمور. لا توجد وصفات عامة. ففي قضايا التنظيم والتكتيكات، على المرء دوماً أن يستند إلى «التحليل الملموس للواقع الملموس»، كما كان لينين يقول، وهو أفضل مبدأ يجب اعتماده من جملة آرائه في هذه المواضيع.
لقد أشرت إلى العلاقة بين الديمقراطية والاشتراكية، وإلى أهمية الديمقراطية للاشتراكية. ولكنني أريد منك أن تفسر أكثر طبيعة العلاقة بين الاشتراكية والديمقراطية، وبالطبع بينها وبين العلمانية. إن كان هناك علاقة إيجابية بين هذه المفاهيم الثلاثة، فعن أي نوع من الديمقراطية والعلمانية نتحدّث؟
لقد حاولتُ أن أشرحَ كيف ترتبط العلمانية بالديمقراطية في إجابتي على سؤالك الأول. لا يمكن أن توجد ديمقراطية بدون علمانية، بمعنى فصل الدولة عن الدين. يجب أن يكون الدين أمراً مرتبطاً بالحرية الفردية حصراً. يجب ألا تكون الدولة مبنية على الدين، وألا تتدخل في إيمان الناس وفي حياتهم الشخصية. هذا مبدأ أساسي. كذلك، لا يجوز أن تتدخل المؤسسات الدينية في إدارة الدولة، ولا أن تتدخل الدولة في إدارة هذه المؤسسات. الدولة القائمة على سيادة الشعب هي عماد الديمقراطية. والديمقراطية هي شرط رئيسي لأي منظومة يجوز حقاً وصفها بالاشتراكية، إن أردنا لها النجاح. والسبب هو أنه إن لم يكن المجتمع ديمقراطياً، ستؤدي الملكية العامة لوسائل الإنتاج حتماً إلى إعادة إنتاج اللامساواة بأشكال مختلفة. بدلاً من الملكية الخاصة، قد تتأسس اللامساواة الاجتماعية على الامتيازات البيروقراطية. إذاً، بالنتيجة، فالديمقراطية الحقة تقتضي العلمانية، والاشتراكية الحقة تقتضي الديمقراطية.
ما هو دور الإمبريالية والاستعمار في تخلّف المنطقة؟ كيف يستطيع يسار الشرق الأوسط أن يوازن بين المعركة ضد الاستبداد والمعركة ضد الإمبريالية؟
تظهر الإشكالية التي تلمّح إليها فقط عندما نواجه نظاماً استبدادياً معادياً للإمبريالية الغربية. إن كنت تواجه استبداداً تدعمه الإمبريالية، ليست هناك أي مشكلة في محاربة كليهما. على سبيل المثال، بما أن الولايات المتحدة تحمي المملكة السعودية، فعندما تحارب المملكة السعودية أنت تحارب كليهما، المملكة وحاميتها. وبالمنطق نفسه، إن كنت تحارب الاستبداد في إيران زمن الشاه، فأنت تحارب الشاه والإمبريالية الأمريكية بوصفها القوة التي تقف خلفه. لكن عندما تواجه نظاماً استبدادياً يعادي الإمبريالية الغربية، أو له علاقات متوترة معها، قد تظهر المشكلة. النقطة المفتاحية هنا هي التالية: بالنسبة للحركة الجماهيرية، فإن المعركة من أجل حقوقها الأساسية هي أولويتها المطلقة؛ وهذه المعركة تخوضها في وجه الاستبداد. ولكن، في الوقت نفسه، يجب أن يتم خوض هذه المعركة دون أي أوهامٍ حول الإمبريالية، ودون أي اعتمادٍ عليها. لأن الإمبريالية إذا واجهت معركةً تقدميةً أصيلة، فإنها ستفضّل الاستبداد، حتى لو لم يكن موافقاً لمصالحها. من الأفضل دوماً للإمبريالية أن تتعامل مع الاستبداد على أن تتعامل مع ثوراتٍ تقدمية. في الشرق الأوسط، تفضّل الولايات المتحدة وحلفاؤها التعامل مع الاستبداد على التعامل مع الثورات. عام 2011، مع انطلاق انتفاضات الربيع العربي، كان همّ الولايات المتحدة يكمن في الحؤول دون تجذّر الانتفاضات، وتحجيمها في مساحات ضيقة، والحفاظ على الدول القائمة. هذا ينطبق على كل الانتفاضات، بما فيها الانتفاضة السورية. كانت للنظام السوري علاقات متوترة مع الولايات المتحدة. لم يكن النظام «مناهضاً للإمبريالية»، ولكن علاقته بأمريكا كانت متوترة. مع ذلك، لم ترغب الولايات المتحدة بسقوط النظام، ولو رغبت، لسقط النظام بمساعدة أمريكية قبل خمس سنوات. بل رفضت واشنطن تزويد المعارضة السورية بالأسلحة الدفاعية التي احتاجت إليها بشدة، أقصد الأسلحة المضادة للطائرات. لقد فعلت ذلك لأنها لم تكن تريد سقوط النظام: تريد فقط بعض التغيرات داخل النظام، مع الحفاظ على الدولة القائمة. أولئك اللذين شاركوا بالانتفاضة السورية متوهّمين أن أمريكا ستتدخّل لصالحهم، خابت آمالهم بشدةٍ ومرارة.
لقد عملتَ أستاذاً لدراسات التنمية لسنين عديدة. هناك اختلافات عديدة بين دول المينا ((دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.)) بالطبع، ولكن من وجهة نظر عامة، ما هي استراتيجية التنمية المناسبة لهذه البلدان؟ ما هي التحديات والمشاكل الرئيسية التي تواجهها التنمية في هذه البلدان؟ وما هو دور الحكومات في هذه التنمية؟
كل الحكومات في المنطقة تستلهم مفهوماً نيوليبرالياً للتنمية، جميعها يعتقد أن القطاع الخاص يجب أن يقود الاقتصاد. ولكن هذه الاستراتيجية فشلت بشكل مزرٍ في منطقة لا يثق فيها رأس المال الخاص بالمستقبل، ولذلك لا يميل إلى الاستثمار طويل الأمد المطلوب للتنمية الحقيقية المستدامة. الرأسمال الخاص في الشرق الأوسط هو بمعظمه رأسمال يسعى وراء الربح السريع والمضاربة، ولا يشبه الرأسمال الذي قاد حركة التصنيع في أوروبا في القرن التاسع عشر. يعيشُ في وهمٍ كبيرٍ من يعتقد أن تكرار ذلك في الشرق الأوسط المعاصر ممكن. لهذا السبب، فإن السبيل الوحيد للتنمية هو من خلال قيام الدولة بدورٍ محوري. ويصحّ الأمر بوجه خاص لأن هذه المنطقة تملك مصادر نفطية هائلة، تنتج مصادر دخل للدولة يجب توظيفها في تنمية طويلة الأمد. ويصبح السؤال الآن: أي نوع من التنمية؟ نعود هنا إلى مسألة الديمقراطية. إن لم تكن هناك ديمقراطية في المجتمع، بينما تتمتع الدولة بإيرادات نفطية كبيرة، ستكون النتيجة هدراً كبيراً وفساداً هائلاً، مما يضر بشكل كبير بالتنمية.
هل ترى دوراً إيجابياً للرأسمال الخاص في عملية التنمية في بلدان المينا في ظل حكومة اشتراكية؟ كيف ستكون العلاقة بين الدولة والرأسمال هذا؟ بشكلٍ أعم، كيف ستكون العلاقة بين المجتمع المدني، والرأسمال، والدولة؟
الدرس الذي تعلمناه من تجارب التأميم السابقة، هو أن القضاء على المشاريع الخاصة بشكلٍ فظّ كما حصل في نهاية العشرينيات في الاتحاد السوفييتي خطأٌ خطير. يجب أن تكون عملية تشريك وسائل الإنتاج تدريجية، وأن تتولى الملكية العامة السيطرة فقط حيث تكون، وبقدرٍ ما، أكثر فعالية ضمن الظروف المعطاة. يجب أن تشجّع الدولة الرأسماليين الراغبين في الاستثمار في مشاريع مفيدة ومنتجة، تلك المشاريع التي لا يملك القطاع العام الموارد البشرية والمعرفة لتسييرها بفعالية، على أن يلتزموا بدفع الضرائب وقوانين العمل. في مثل هذه الظروف، يجب أن تعطي الدولة للاستثمار الخاص، سواء المحلي أو الأجنبي، ضماناً كاملاً للتعويض العادل في حال التشريك مستقبلاً. أما فيما يتعلق بالمجتمع بشكل عام، وهو على الأرجح ما أشرتَ إليه تحت مسمى «المجتمع المدني»، فيجب أن يكون قادراً على مراقبة القطاع العام والدولة أيضاً. حكومة اشتراكية حقاً هي حكومة تكون، فعلاً وبشكل كامل، «حكومة الشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب»، حيث «من الشعب» لا تقتصر على انتخاب ممثلين، بل تتضمن اشتراك هيئات قاعدية في الإشراف على الحكومة.
دعنا ننتقل إلى أحداثٍ وظواهر محددة في المنطقة. سنبدأ من أحد أقدم الأسئلة: القضية الفلسطينية. ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه اليسار في الشرق الأوسط من القضية الفلسطينية؟ ما هي المشاكل الرئيسية في الحرب غير المتكافئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
أعتقد ان المسألة الرئيسة هنا هي حق الفلسطينيين في تقرير المصير. إن الفلسطينيين مضطهدون من قبل دولة إسرائيل منذ تأسيسها. منذ تلك اللحظة، طُردَ معظم الفلسطينيين من أرضهم وأصبحوا لاجئين. جزءٌ من هؤلاء مع جزءٍ آخر من الفلسطينيين وقعوا تحت الاحتلال منذ ما يقارب الخمسين عاماً، منذ عام 1967. لدينا هنا مآسٍ متراكمة، ويجب حلها كلها. الموضوع الرئيسي هنا هو حق الفلسطينيين في تقرير المصير؛ أي قدرتهم على الاختيار بين العودة إلى الأرض التي طُردوا أو طُرد آباءهم منها، أو العيش في دولة مستقلة على أراضي عام 1967، أو الاستقرار في البلدان التي يعيشون فيها اليوم مع الحصول على حقوق سياسية كاملة ومتساوية. هذا ينطبق على بلدان كلبنان وسوريا والأردن حيث يعاني اللاجئون الفلسطينيون من الاضطهاد. هذا أيضاً جزء أساسي من القضية الفلسطينية، لأن من يضطهد الفلسطينيين ليس فقط إسرائيل. بالطبع الدولة الصهيونية هي المضطهِد الرئيس للفلسطينيين. هذا واضح، ولكن هناك قوى أخرى تمارس الاضطهاد يجب مواجهتها هي أيضاً.
ما هي الصلة بين النضال الفلسطيني من أجل الديمقراطية، والمعركة مع الاحتلال الإسرائيلي؟ ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه اليسار في الشرق الأوسط من جماعات المقاومة الإسلامية كحماس والجهاد الإسلامي؟
إن نظرت إلى المنطقة ككل، ستجد تغييراً منذ السبعينيات، بين الزمن الذي كانت فيه التشكيلات التي تصارع الإمبريالية والصهيونية وأنظمة الاستبداد يسارية الهوى، إلى زمن سيطرت فيه قوى إسلامية أصولية وأصبحت مهيمنة في النطق باسم هذا الصراع. حدث هذا التغيير بأزمان مختلفة منذ السبعينيات فصاعداً بحسب البلدان. في الحلة الفلسطينية ظهرت حماس في أواخر الثمانينيات. قبل ذلك، كان اليسار يلعب دوراً أكثر أهمية بكثير كقوة جذرية. ولكن أخذت حماس تنمو ودخل اليسار في أزمة، كما دخل اليسار العالمي في أزمة مع انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي كان يُنظر إليه كتجسيد لليسار، مهما كانت هذه الرؤية خاطئة. النتيجة كانت نمو الحركات الإسلامية الأصولية. ولكن هذه الحركات تلعب أدواراً مختلفة في البلدان المختلفة. في بلد كفلسطين، أو حتى في لبنان (حالة حزب الله) عندما كان جزءٌ من لبنان محتلاً، لعبت هذه الحركات دوراً مهماً في مقاومة الاحتلال. في مثل هذه الحالات، إن كنت معادياً للإمبريالية وللصهيونية كما يجب أن يكون كل تقدّمي، عليك أن تدعم أي حركة تخوض صراعاً عادلاً ضد الإمبريالية والصهيونية. ولكن، هنا أيضاً، يجب القيام بذلك بدون أي أوهام. عندما تكافح نظاماً استبدادياً يدّعي أنه معادٍ للإمبريالية، يجب أن تقوم بذلك بدون أي أوهام حول الإمبريالية. وإذا كنت تحارب الإمبريالية، يجب أن تقوم بذلك بدون أي أوهام حول القوى الإسلامية الأصولية المستبدة التي تحارب الإمبريالية أو تدّعي ذلك، لأنك يجب أن تتذكر أن هذه القوى معادية لليسار بقدر ما هي معادية للإمبريالية، إن لم يكن أكثر. هم في الحقيقة أكثر عداءً للديمقراطية الجذرية وللاشتراكية ولتحرر النساء من عدائهم للإمبريالية والصهيونية. لذا، حتى عندما تدعمهم في صدام مع الإمبريالية أو الصهيونية، يجب أن تبقى نقديّاً جداً تجاه ما يمثّلونه، ويجب ألا تُغفل الاختلافات المحورية بينك وبينهم.
هل نستطيع القول إن تنظيماً ما، تقدميٌ في موضوع ما، ورجعيٌ في موضوع آخر؟ إذا نظرنا إلى التنظيمات كوحدة متكاملة، فإننا لن نستطيع القيام بهذا التمييز. حزب تودة في إيران اتبع الطريق المشار إليه عشية ثورة 1979 ودعم صقور الإسلاميين، وفي الواقع أسهم في تثبيت الحكم الإسلامي. أدركُ أن ثمة معضلة هنا: من جهة لدينا تنظيم رجعي معادٍ للاحتلال، ومن جهة أخرى قوى الاحتلال الصهيوني. ولكن كيف تستطيع جماعات المقاومة التقدمية العلمانية أن تصبح مهيمنة على حساب الجماعات الإسلامية في الصراع مع الاحتلال الصهيوني، بحيث تتمكن التنظيمات التقدمية من أن تدفع في آن واحد النضالات ضد الاحتلال والصراع الديمقراطي التقدمي ضد الإسلاميين؟
في الحقيقة هذا هو لب الموضوع. القواعد التي يجب اتباعها هي قواعد معروفة في كل تحرك مشترك مع جماعات لا نشترك معها إلا بقليل، فيما عدا وجود عدوٍ مشترك. وقد لخّص هذه القواعد ثوري روسي قبل قرن من الزمان، وأحب أن أذكّر بها دوماً: «1) لا تدمجوا التنظيمات. سيروا على حدة ولكن اضربوا سويةً. 2) لا تتخلوا عن مطالبكم السياسية. 3) لا تخفوا الاختلافات في المصالح. 4) احذروا حليفكم كما تحذرون من عدو. 5) اهتمّوا بالاستفادة من الوضع الذي يخلقه الصراع، أكثر من اهتمامكم بالحفاظ على الحليف.». إن تمَّ اتباع هذه القواعد، يبقى على التقدميين أن يثبتوا للجماهير أنهم لا يقلّون التزاماً بالصراع ضد العدو المشترك مما هم الأصوليون، ولكنهم يدافعون بحزمٍ عن مصالح العمال والنساء وكل المستغَلين والمضطهَدين على العكس من الأصوليين، وأحياناً في مواجهتهم.
سوف أعود إلى الإسلاموية والإسلام السياسي في السؤال القادم. ولكن قبل ذلك أودّ أن أسأل عما يُطلَقُ عليه «الربيع العربي». كيف تفسر نشوء هذه الاحداث؟ ما هو دور اليسار فيما يسمى «الربيع العربي»؟ إن قبلنا أن «الربيع العربي» قد هُزم، مؤقتاً على الأقل، سواء من قبل الدكتاتوريات أو الأحزاب الإسلامية الرجعية، ما هي المآلات المتوقعة للمستقبل؟
ج أ: أولاً، أنا لم أسمّه «الربيع العربي». كانت الفكرة من وراء هذه التسمية أن هذا «الربيع»، وهو فترة قصيرة من الزمن، سوف يشهد ما يشبه ثورات أوروبا الشرقية حيث انقلب كل شيء في غضون أشهر قليلة. أنا لم أؤمن بهذا قط، لأنني كنت أعرف مدى صعوبة إسقاط الأنظمة العربية، وهو أكثر صعوبة بكثير من الوضع الذي كان سائداً في أوروبا الشرقية، لأن تلك الأنظمة على استعداد لقتل ملايين البشر كي تبقى في السلطة. فالوضع بالتالي أصعب بكثير، ولذا استخدمت مصطلح «الانتفاضة» بدلاً من «الربيع»، ووصفت الأحداث منذ البداية بأنها سيرورة ثورية طويلة الأمد. ما بدأ في البلدان الناطقة بالعربية عام 2011 هو سيرورة طويلة الأمد سوف تستغرق سنوات عديدة، بل عقوداً. إنها سيرورة ثورية تاريخية مديدة، ستشهد انتصارات وانكسارات، مراحل من الثورة والثورة مضادة، ولن نرى استقراراً مستداماً لمدة طويلة. في الحقيقة، ما دامت المواضيع الرئيسية، وهي المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى الانفجار، لم تجد حلاً، لن تشهد المنطقة استقراراً. كان هناك كثيرٌ من الأوهام في البداية وقد حذّرت من الإفراط في التفاؤل، لأنني عرفت صعوبة الأمر وتوقّعت ردة فعل الثورة المضادة. في الواقع، شهدنا موجة ثورية أولى وقد استمرت لمدة عامين، وبعدها أتت ردة الفعل العكسية. منذ 2013، دخلت المنطقة في مرحلة ثورة مضادة وما زالت فيها. فشلت القوى اليسارية والتقدمية في البلدان العربية في تولي القيادة بشكل ثابت خلال المرحلة الثورية الأولى. لقد فشلوا في بناء قوة تقدّمية مستقلّة. ما فعلوه في الأساس هو تبديل حلفائهم: تحالفوا مرةً مع قوى الأنظمة القديمة، ومرة أخرى مع الإسلاميين الأصوليين؛ تحالفوا مع الأصوليين الإسلاميين ضد الأنظمة القديمة، ثم مع الأنظمة القديمة ضد الأصوليين الإسلاميين، عندما أصبح هؤلاء مهيمنين. وقد أخفقت هذه اللعبة كليّاً. نتيجة لها هُمّش اليسار، بالرغم من انه لعب دوراً هاماً في بداية الانتفاضات. ما يغلب على الوضع اليوم ليس صداماً بين الثورة والثورة المضادة، بل بين شكلين من الثورة المضادة. هناك قوتان للثورة المضادة: الأنظمة القديمة والإسلاميون الأصوليون. هذه القوى تتحارب عسكرياً في سوريا وليبيا واليمن، وسياسياً في بلدان أخرى كمصر. والوضع مأساوي، لكن الحكاية لا تنتهي هنا، لأنه، كما قلت، لن تستقر المنطقة طالما لم تُحل المشاكل الرئيسية. والمشاكل الحقيقية، بدلاً من أن تُحل، ساءت بشكل كبير، لأن الوضع نفسه يخلق مشاكل اقتصادية أكبر تؤدي إلى المزيد من التوترات الاجتماعية. لذا، ستستمر السيرورة الثورية، وسنرى انتفاضات جديدة كالتي رأيناها في تونس مؤخراً حيث اندلعت انتفاضة محلّية حول موضوع البطالة. هذا مؤشر لما هو قادم. سنرى المزيد من الانتفاضات، والمزيد من الانفجارات الاجتماعية، وسيستمر الوضع هكذا. القضية الأهم للمستقبل هي قدرة أو عجز القوى التقدمية عن تنظيم أنفسها كقوى مستقلة قادرة على قيادة بلدانها نحو تغييرٍ تقدميٍ حقيقي. إن لم يحصل هذا، سيكون مستقبل المنطقة مظلماً جداً، ومخيفاً بحق. عندما تفكر بالآمال الكبيرة التي سادت عام 2011، ثم تنظر إلى الوضع القائم اليوم، تجد تبايناً عظيماً. لكن هذا التحوّل حصل في خمس سنوات، وبعد خمس سنوات أخرى قد يتغير الوضع بالكامل مرة أخرى. يجب أن نتذكر ذلك. من المصيري للقوى التقدمية أن تبني بديلاً تقدّمياً لمعسكري الثورة المضادة السائدين في المنطقة.
في النهاية، سؤالان عن إيران. الأول حول ثورة 1979. أنت تنتمي إلى تيار ماركسي ينتقد بشدة الإسلام السياسي وتجلياته كثورة 1979. ما هي العناصر الرئيسية لانتقادك للإسلام السياسي، وبخاصة لثورة 1979؟ وكيف تشرح هذه الظواهر؟
في البداية، هناك أنواع مختلفة من الماركسية. الماركسية هي مقاربة منهجية عامة وتصور عام للتاريخ، ولكن هناك استخدامات مختلفة جداً لها. قد يكون لمن يطلقون على أنفسهم صفة ماركسيين وجهات نظر مختلفة عديدة حول موضوع واحد. أتذكر جيداً عام 1979، حين احتد الجدل بين الماركسيين. رأى كثيرون منهم في الثورة الإيرانية ثورة تقدّمية، مؤمنين أن ثورة إيران كبقية الثورات، هي نوع من الثورة الوطنية-الديمقراطية. لقد أصررت في ذلك الحين على أن من يقولون هذا لا يفهمون دور الأصولية الإسلامية في الثورة الإيرانية. صحيح أن الثورة الإيرانية بدأت على أرضية وطنية–ديمقراطية، ولكن بسبب ضعف اليسار، استولت قيادة إسلامية أصولية على الثورة. وقد قامت هذه القيادة بالوقوف على أرضية الثورة الوطنية–الديمقراطية، ثم أخذتها في طريقٍ مختلفٍ تماماً. بدلاً من السير في الدرب الوطني–الديمقراطي، سارت على درب رجعي مستلهمة نظرة إسلامية أصولية. هذا أدى إلى كل هذا الالتباس حول ثورة أطاحت بالشاه وكانت شديدة العداء للغرب، ولكنها في الوقت نفسه رجعيةٌ جداً في توجهاتها الاجتماعية في ما يخص حقوق النساء واليسار والحريات السياسية والثقافية، إلخ. فحتى لو استطاع الإسلام الأصولي أن يضطلع بدور يبدو تقدمياً موضوعياً في المعركة ضد الصهيونية والإمبريالية ونظام استبدادي كنظام الشاه، هذا لا يغيّر طبيعته الرجعية الأساسية. كل الأصوليين الدينيين، سواء كانوا إسلاميين أو مسيحيين أو يهود أو هندوس أو يتبعون أي ديانة أخرى، هم رجعيون بالتعريف والجوهر. جوهر الأصولية هو إرادة فرض الدين على المجتمع وإقامة الدولة على الدين. أياً كان الدين، فإن الأصولية رجعية، مضادة للديمقراطية واضطهادية.
كيف ترى مستقبل إمكانيات اليسار والتقدميين في إيران، بعد الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية والقوى النووية؟ هل سنرى تغيرات سياسية واجتماعية حقيقية بعد الاتفاق؟ ما هي نتائج مثل هذا الاتفاق على الشرق الأوسط؟
الاتفاق النووي أمرٌ جيد، لأن كل ما يسهم في تخفيف الاحتقان في المنطقة جيد. يحتاجُ صقور الأصوليين إلى الاحتقان للحفاظ على سيطرتهم العقائدية على المجتمع، وهم يسيطرون على المجتمع باسم الحرب مع «الشيطان الأكبر». بهذا المعنى، تخفيف الاحتقان إيجابي. نستطيع الآن رؤية نتائجه في الانتخابات الإيرانية، مع صعود ما يسمّى بالإصلاحيين. مهما تكن محدودية هذه الانتخابات، إلا أنها تشير بإيجابية إلى رغبة المجتمع الإيراني في التغيير. لا يملك الناس الحرية في اختيار ما يريدونه حقاً، لأن النظام يختار من يحق له الترشح، لذا يختار الناس من يرونه الأقل شراً كتعيبرٍ عن سخطهم. بشكل عام، الوضع الإيراني معقد، لأن إيران بلد بدولتين: مؤسسات عادية كالجيش وغيرها، ودولة موازية تمثّلها المؤسسات العسكرية غير التقليدية، التي أسستها القيادة الإسلامية الأصولية. هذا يخلق وضعاً معقداً وصعباً للغاية. على المدى الطويل، كما في كل مكان في المنطقة، مشكلة الثورة الرئيسية سوف تكمن في قدرتها على استمالة الجزء الأكبر من القوى العسكرية إلى جانب الثوار. هكذا انتصرت ثورة 1979، لأن جزءاً كبيراً من الجيش تخلى عن الشاه. ولو قام الجيش بتنفيذ قمع دموي للحراك على نطاق واسع دفاعاً عن نظام الشاه، لفشلت الثورة ربما. هذه نقطة مصيرية: القدرة على استمالة قطاع كبير من القوى المسلحة، خصوصاً الجنود والرتب الدنيا.
اقرأ أيضا