الثورة والديمقراطية
لقد أصبحت مسألة الديمقراطية اليوم مركز المشروع الثوري لسببين أساسيين.يحيل الأول إلى حصيلة القرن الماضي،ولا سيما الضرورة البرنامجية الأساسية في استخلاص جميع الدروس من الستالينية، ويحيل الثاني إلى لزوم تحديد سلسلة من الدروب التكتيكية والإستراتيجية التي تعارض الديمقراطية بالليبرالية الرأسمالية وتفتح الطريق أمام الاشتراكية الديمقراطية.
الديمقراطية الشاملة
إذا كانت الديمقراطية تعرف بوصفها “حكم الشعب للشعب ومن أجل الشعب” فهي دون حدود. لا يمكن ان يفلت منها أي شيء يتصل بحياة “المدينة”، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ينبغي إذن على كل بناء ديمقراطي أن يستجيب أولا لهذا المقتضى: الذي تطرح فيه هذه المسائل.
اللوم الأساسي الذي توجهه للديمقراطية البرجوازية هو أن أهم خياراتها السياسية والاقتصادية تفلت من الإرادة الشعبية.وبسبب تأسيسها على الملكية الخاصة و الاستغلال الرأسمالي و ارتباطها بالبنية الطبقية المميزة البرجوازي، لايمكن للديمقراطية فيها إلا أن تكون محدودة. ليست المؤسسات ” الديمقراطية” (حكومة برلمان، بلديات ، إلخ.) هي التي تقرر أهداف وأولويات و حاجات مجتمعنا، بل السوق. وتتخذ هذه القرارات حفنة من كبار أرباب العمل والممولين الذين يسيطرون على السوق ولا يدينون إلا لمساهميهم بالمساءلة.
في النظام الرأسمالي، يسود قانون القيمة، أو قوانين اقتصادية موضوعة تؤثر على النساء و الرجال و تنظم أساسا الحياة الاقتصادية و قبل كل شيء توزيع الموارد الاقتصادية على قطاعات الاقتصاد المفتاحية . غير أن الديمقراطية تفترض اختيار وتقرير هذا التوزيع. ينبغي أن يحل تنظيم واع لمصير الإنسانية على الصعيدين الاقتصادي و الاجتماعي محل تنظيم السوق الأعمى الفوضوي.
يمر تصورنا للديمقراطية بالقطيعة مع قواعد اللعبة هذه بإدخال مجموع النشاطات الاجتماعية الاقتصادية والاقتصادية في حقل قار جميع المجالس المنتخبة. وينبغي أن يكون بوسعها سن قوانين مجمل الأولويات الاقتصادية، وأن تكون قادرة إذا رأت ذلك مناسبا، على منع التسريحات و القيام بإجراءات اجتماعية عاجلة، وزيادة الأجور، وفرض تقلها على إعادة الهيكلة الاقتصادية هذه أو تلك.
تتطلب هذه الديمقراطية المتكاملة إعادة النظر في الحق المقدس للملكية وفي تحكم أرباب العمل المطلق بالاقتصاد، أي باختصار المضي نحو الاستحواذ العام و الاجتماعي على النشاطات الاقتصادية الرئيسية،كي تتمكن على نحو أفضل من مراقبتها و التحكم بها.
كما تترافق بتخطيط واع للاقتصاد المؤمم في الفترة الانتقالية بين الرأسمالية و الاشتراكية. إن الديمقراطية الشاملة أو الناجزة هي معادية للرأسمالية.
تعميم الاقتراع العام
الديمقراطية هي أيضا تعميم التصويت و الانتخاب.”صوت لكل رجل و امرأة” وفق الانتماء المكاني، هذه هي صفة الاقتراع العام. وباعتبار هذه الصيغة مطلبا قديما للحركة العمالية في مقابل جميع صيغ الاقتراع الخاصة بدافعي الضرائب أو الاقتراع المقتصر على فئة معينة، فإن توسيع وتعميم الاقتراع العام في مجتمع الانتقال إلى الاشتراكية ينبغي ألا يعانيا من التردد أو الالتباس. كان انتخاب جميع المسؤولين بتلك الصيغة من صميم تجربة كومونة باريس.
باسم البنية الاجتماعية الخاصة بروسيا “(محيط فلاحي يحيط بجزر عمالية”، وفق صيغة تروتسكي)، و في مواجهة الثورة المضادة، حدًت الثورة الروسية من الحق في التصويت بالنسبة لبعض الطبقات أو الفئات الاجتماعية (البرجوازيون و الفلاحون). لسوء الحظ، عزز القادة البلاشفة تلك الإجراءات المؤقتة في مطلع العشرينات، مستبدلين تعيين المسؤولون بانتخابهم و القرار السلطوي بالسجال الديمقراطي. و استندت الثورة المضادة الستالينية إلى تلك الأخطاء البلشفية كي تصفي نهائيا كلً ديمقراطية.من جانب آخر، و لأنً البرجوازية قد روضت الاقتراع العام عبر إخضاعه للمنطق الرأسمالي، ارتابت- ولا تزال – قطاعات من الحركة العمالية، ولا سيما في التيارات الثورية، بالاقتراع العام.
وقد وضعت الدولة البرجوازية و الديمقراطية، المؤسسات البرجوازية و الاقتراع العام، في سلة واحدة، في حين ينبغي –على نقيض ذلك – التمييز بينهما، سواء من وجهة النظر التاريخية البرامجية. الاقتراع العام هو الإطار للتعبير عن أية ديمقراطية. تمثل الدولة و المؤسسات البرجوازية أدوات سيطرة الطبقات المسيطرة في النظام الرأسمالي.
في ما يتعلق بالأممية الرابعة، تعلن الوثيقة المعنونة:الديمقراطية الاشتراكية و ديكتاتورية البروليتارية (1979) التي تبلور تصورها للديمقراطية، دون تردًد انحيازها لتعميم التصويت و الانتخاب، لكنها لا تذكر صراحة الاقتراع العام. و يمكن أن نقرأ في تلك الوثيقة أنً الاشتراكية الديمقراطية تمثل “مؤسسات مبنية على مجالس للعمال سيادية ومنتخبة ديمقراطيا، حيث ينتخب جميع الموظفين و القضاة و قادة المليشيات العمالية و جميع المندوبين عن العمال في مؤسسات الدولة”. لكن ما الذي يمكن أن تكون عليه “انتخابات ديمقراطية” في مجتمع اشتراكي إن تكن الاقتراع العام ؟
بعد تحرير الاقتراع العام من خضوعه للعلاقات السلعية، يصبح إذن المبدأ الأولي للتنظيم و للتعبير عن الديمقراطية. و لهذا التقدير تبعات تكتيكية و استراتيجة بالنسبة للحركة العمالية. يتوجب على هذه الأخيرة أن تظهر بوصفها القوة التي ترفع الممارسة الديمقراطية إلى مستوى غير مسبوق، وذلك بتعميم التصويت على جميع المسائل الأساسية، سواء في المجتمع أم في الشركات، و الانتخاب الديمقراطي لجميع المسؤولين. بهذا المعنى، ينبغي ضمان و تطوير كلً ما يرتبط بالاقتراع العام، و على نحو أكثر عمومية، بالحريات الديمقراطية: حرية التعبير، حقوق التنظيم، حرية الصحافة، التعددية النقابية و السياسية، التمثيل النسبي للمواقف و التيارات السياسية، المساواة بين الرجال و النساء، ولاية النواب و إمكانية عزلهم، الاستفتاء العام بناء على مبادرة شعبية.
أخيرا، فحكومة للشعب هي أيضا حكومة” قريبة” من الشعب. تفترض الديمقراطية نزع مركزة السلطة و إعادة توزيع القدرات على المستوى المحلي و الإقليمي و القومي، لتقترب ما أمكن من المواطنين. ينبغي أن تتخذ المجالس البلدية أو مجالس الشركات جميع القرارات على نحو سيادي، باستثناء تلك التي تتطلب مداولة و قرارا على المستولى الأعلى.
القطيعة مع الدولة البرجوازية
لكن إذا كان الاقتراع العام يعين المبدأ الضروري لسير الحياة الديمقراطية، فهو غير كاف لتنظيم مجموع منطق المؤسسات التي تشكل “حكومة الشعب،من الشعب و لأجل الشعب”. وهو لا يلغي لا انقسام المجتمع إلى طبقات اجتماعية، و لا الطابع الطبقي للدولة و المؤسسات، و لا دينامكية صراع الطبقات الاجتماعية الأساسية في المجتمع، و لا آفاق تحوله.
من وجهة النظر هذه، ينبغي التمييز نظريا و سياسيا بين مؤسسات الديمقراطية البرلمانية البرجوازية(جهاز القمع، الإدارة، الدستور، القوانين، القواعد) التي تستند إلى الملكية الخاصة لرأس المال و لوسائل الإنتاج الكبيرة وبين مؤسسات الديمقراطية الاجتماعية(بما في ذلك أجنتها داخل المجتمع البرجوازي)، حصيلة النضالات و نشاط المنظمات و مكتسبات عمل العمال الذاتي و تنظيمهم الذاتي. إن مؤسسات الدولة البرجوازية هي أدوات تخدم مصالح الطبقات المسيطرة، و هي لا يمكن أن تكون أدوات لاستبدال هذه السيطرة و نقل سلطة الطبقة البرجوازية إلى الطبقة العاملة .
تظهر التجربة التاريخية و السياسية الحالية للطبقات المسيطرة رفضها لكل تحول جدري و العنف الذي تعارض به الإرادة الشعبية. و حين تنتزع الشعوب انتصارات برلمانية، لا تتردد الطبقات المسيطرة في الهزء بالاقتراع العام. تبقى هذه المقاربة أحد اختلافاتنا الأساسية مع النزعة الإصلاحية. لا يمكن لتحول جذري في المجتمع أن يجري في إطار المؤسسات البرجوازية عبر إيلاء الانتخابات البرلمانية الثقة و بتراكم تدريجي للإصلاحات و اكتساب المواقع. يفرض رد فعل الطبقات المسيطرة و التماسك القوي في النظام الرأسمالي قطيعة مع هذا الأخير.
برنامج لديمقراطية جذرية
وفق هذا المنظور، يتوجب على أي تفكير استراتيجي أن يهدف من جانب إلى خلق شروط تحشيد معظم المستغلين و المضطهدين ضدً المنطق الرأسمالي، ومن جانب آخر إلى العمل على إقامة بنى ومنظمات ومؤسسات جديدة لهذه الأغلبية الاجتماعية التي تمثلها “كتلة المأجورين”بهدف تمكينها من الهيمنة على المجتمع. لكن هذا الهدف، المرتبط بالنشاط الذاتي وبتنظيم العمال، لا يعفينا من النضال من اجل الدفاع عن الحريات الديمقراطية وتوسيعها، سيما في حقبة تاريخية تنزع فيها العولمة الرأسمالية لطرد الديمقراطية من الحياة السياسية.
إن الليبرالية والازدواجية والبونابرتية تفرغ الديمقراطية السياسية من كل محتوى، بما في ذلك المؤسسات الديمقراطية البرلمانية. أما الثوريون،فهم يدافعون عن برنامج لديمقراطية جذرية، ليس إعدادا لعودة الديمقراطية البرلمانية الكلاسيكية، كعودة إلى الجمهورية الرابعة في فرنسا على سبيل المثال. لا، فالنضال ضد الجمهورية الخامسة يفترض قطيعة شاملة: انفتاح مسار تأسيسي، النسبية المتكاملة، إمكانية عزل المندوبين (الذي ينبغي ألا تتجاوز دخولهم مستوى معينا) وعلى نحو خاص دستور يضمن الحقوق الأساسية لغالبية السكان.
في سياق أخر(2)، عارض تروتسكي صعود البونابارتية والنزعة التسلطية في الديمقراطية الفرنسية في الثلاثينات ب”مشروع جمعية وحيدة تنتخب بالاقتراع العام وحل مجلس الشيوخ وإلغاء منصب رئيس الجمهورية”. كان يتوجه للشعب و لمناضلي اليسار لحثهم على الدفاع عن “أفكار وطرائق جمعية العام 1973 التأسيسية وليس عن مثيلتها في الجمهورية الثالثة”.في الوقت نفسه نادى ب”انتخاب المندوبين عن طريق مجالس محلية منتخبة بالاقتراع العام يمكن عزلهم على الدوام بموجب تفويضهم، مندوبين يعاملون أثناء ولايتهم معاملة عامل مؤهل”. كان الأمر يتعلق بحقن الديمقراطية الاشتراكية في مؤسسة للديمقراطية البرلمانية البرجوازية، لكن ذلك الحقن كان تفجريا بالنسبة لتلك المؤسسات نفسها ويوسع أسس نضال من أجل الديمقراطية الاشتراكية.
إعادة النظر في جهاز الدولة القديم
لكن الانجاز الكامل والتام للديمقراطية يتطلب إعادة النظر في الملكية الخاصة رأس المال ولجهاز الدولة القديم. وهو يؤدي إلى المواجهة مع الدولة البرجوازية، ولا سيما مع آلتها القمعية التي ينبغي حينذاك تحطيمها. ينبغي أن تتمتع الثورات التي تحمل مشروع انعتاق وديمقراطية اجتماعية بالأغلبية وبالوعي. وبما أنّ الأغلبية الاجتماعية تتطابق مع العمل المأجور، فسوف يزيد ذلك من جعل الاقتراع العام أداة للتعبير عن الأغلبية.
صحيح أن بدء مسار ثوري يمكن أن يعرف طورا برلمانيا. نحن لا نستبعد، على مثال تروتسكي، فرضية “بداية برلمانية لحكومة عمالية”- لكن يستحيل أن يجري تحول جذري في إطار المؤسسات. أثناء المسار الثوري، ومع تعمق هذا المسار، سوف تبرز مؤسسات جديدة تهدف إلى تشكيل شرعية ديمقراطية جديدة. بل أكثر ديمقراطية وتمثيلا من مؤسسات الديمقراطية البورجوازية.
بوصف هذه المؤسسات دمجا بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية(مجالس منتخبة)، فينبغي أن تمثل في الآن ذاته تعبيرا عن المسار الثوري وعن السيادة الشعبية، وتكون حينذاك قادرة على أن تحل محل المؤسسات البورجوازية القديمة. ولضمان شرعيتها، سيتوجب على مؤسسات الديمقراطية الاجتماعية الجديدة تلك (مجالس في الشركات ومجالس في البلديات، مجالس محلية وإقليمية وقومية للمواطنين أو المأجورين) اللجوء إلى الاقتراع العام.
الإقليم ليس جغرافية وحسب
إذا كان الإقليم يحد الاقتراع العام، فماذا يحصل للديمقراطية الاجتماعية؟ ماذا عن مجالس العمال في الشركات؟ إذا كانت توجد صيغ لدى لينين وتروتسكي، ولدى غرا مشي خصوصا، تقدم الديمقراطية الاشتراكية أو سلطة المجالس بوصفها ديمقراطية “مجالس معامل” تستند إلى “التجمعات الإنتاجية”، فالتجربة التاريخية تذكرنا بأن المندوبين في كومونة باريس يمثلون مجالس انتخبت بالاقتراع العام وبأن سوفيتات الثورة الروسية كانت مجالس تتعلق بالإقليم، مصحوبة بمجالس عمالية في الشركات ومجالس للفلاحين وأخرى للجنود.
في مسار ديمقراطي واسع يتزامن مع مسار للإدارة الذاتية الاجتماعية المعممة، لا يكون الإقليم جغرافية وحسب. ينبغي أن تنتج المجالس المنتخبة بالاقتراع العام أيضا عن انتخابات في الشركات أو في قطاعات الإنتاج. وهذا ما تستشرفه وثيقة: الديمقراطية الاشتراكية و ديكتاتورية البروليتاريا.”لن تكون مجالس العمال المنتخبين في الديمقراطية الاشتراكية لجان مصانع، بل هيئات للتنظيم الذاتي للجماهير في جميع دوائر الحياة الاجتماعية و الاقتصادية، بما في ذلك بطبيعة الحال المعامل ووحدات التوزيع والمستشفيات والمدارس ومراكز الاتصال والنقل والأحياء (وحدات “مكانية”). وتتابع الوثيقة: “هذا ضروري كي تندمج في البروليتاريا أكثر فئاتها تشتتا واضطهادا و فقرا في كثير من الأحيان، كالنساءو القوميات المضطهدة و الشباب و فعمال الشركات الصغيرة. كما أن ذلك ضروري لبناء التحالف بين الطبقة العاملة و الفئات الاجتماعية الأخرى”.
الإدارة الذاتية الاجتماعية وتلاشي الدولة
تسمح هذه المقارنة بالتفكير في ديمقراطية للمنتخبين المتشاركين بحرية تستند إلى الاقتراع العام. يمكن للمجالس الشعبية المناطقية أو لمجالس البلديات المنتخبة أن تتعايش مع مجالس للعمال ينتخبها مأجورو شركات البلدية أو شركات منطقة معينة. وهكذا، تساعد بنى التنظيم الذاتي- مجالس عمومية، لقاءات، اجتماعات – جميع المجالس وتراقبها على الدوام، مجالس وجمعيات وممثلين منتخبين، مما يساعد على بناء الاشتراكية من الأسفل. لقد أتاحت بعض التجارب التاريخية إمكانية وجود نظام لمجلسين اثنين: أحدهما ينتخب بالاقتراع العام، ويمثل الثاني القطاعات الاجتماعية ومختلف أشكال تنظيم السلطة الشعبية. ويمكن لهما أن يعبرا عن ضرورة التعبير عن الديمقراطية الاجتماعية والسياسية. لكن ذلك النظام، ينبغي أن يكون للمجلسين نفس الشرعية الديمقراطية وأن ينتجا بالتالي عن الانتخاب بالاقتراع العام. إن هيمنة القطاعات الاجتماعية أو مجالس العمال ليست مجرد سلطة مضادة للمجالس المناطقية، بل هي سلطة ذات سيادة.
يوصلنا هذا إذن إلى تلك الفرضية الواجب تبنيها في مجتمع انتقالي من أجل شكل معين من “ازدواجية السلطة” يضمن توترا بين الديمقراطية السياسية والاجتماعية. أليس ذلك تعبيرا عن تناقضات مجتمع انتقالي نحو الاشتراكية، حيث يتعايش مساران ويتقاطعان؟ تلاشي الدولة ومؤسساتها السياسية من جانب، ومن جانب آخر الإدارة الذاتية الاجتماعية ومجتمع منتجين متشاركين بحرية. وإذا ظهرت تناقضات أو نزاعات بين المجالس، حينذاك يكون للشعب ذي السيادة أن يقرر بالاستفتاء أو بالاقتراع العام.
إن دروس التجارب التاريخية، من الثورة الفرنسية(1787-1793) إلى الثورة الروسية للعام 1917، مرورا بكومونة 1871، تدفعنا، بعد عدة إطاحات بالمؤسسات القديمة للدولة البورجوازية، إلى إبراز الديمقراطية المدارة ذاتيا في البلدية آو الشركة وكذلك إبراز توليفة من مجالس المواطنين والمنتخبين توسع شروط السجال السياسي والاقتصادي.
ينبغي لديمقراطية اشتراكية أن تعني توسيعا لا سابق له للحريات الديمقراطية، وضمانا للتعددية السياسية، وأكثر أشكال الاقتراع العام عدالة، وتمثيلا للأقليات.وينبغي أن تبدأ بالتغلب على الانقسام بين الاقتصادي والسياسي، والفصم بين المنتج والمواطن.كما ينبغي أن ترسخ مسؤولية المندوبين أمام ناخبيهم، وأن تشجع كل ما ينقص تفويض السلطة كي تتمكن الدولة من التلاشي بوصفها جسما منفصلا عن المجتمع.
باختصار فالديمقراطية الاشتراكية هي مزيد من الديمقراطية دائما.
===========================================================
حول ديكتاتورية البروليتاريا
في التاريخ الماركسي، استخدم مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا وفق مفهوم مزدوج. يحيل الأول إلى تمييز نظام سياسي أو دولة طبقية بوصفهما دكتاتورية طبقية: تركيز السلطة في أيدي إحدى طبقتي المجتمع الرئيسيتين: دكتاتورية البرجوازية أو دكتاتورية البروليتاريا. ويحيل المفهوم الثاني إلى تمييز نظام سياسي مرتبط بوضع استثنائي. أثناء الأزمة الثورية التي هدفت إلى قلب الطبقات المسيطرة وإقامة سلطة جديدة، أقامت الطبقات الثورية دكتاتورية ثورية، نظاما “يمركز كل السلطات” ويستخدم في مواجهة العدو إجراءات استثنائية، بما في ذلك إجراءات لتقييد الحريات الديمقراطية، وذلك إلى حين استقرار المؤسسات الثورية الجديدة. هذا هو المعنى الذي أعطي ل”الديكتاتورية اليعقوبية”، سواء على يد روبيسبير أم على يد لينين في مماثلاته بين “دكتاتورية العمال والفلاحين” في الثورة الروسية وبين أكثر الأشكال السياسية للحكومات جذرية في الثورة الفرنسية
. في كتاب ماركس: نقد برنامج غوتا، وسّع هذه التعيينات بإعطائه محتوى أكثر عمومية، محتوى انتقالِ بين الرأسمالية والشيوعية: “بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، تقوم فترة انتقالية ثورية من هذا إلى ذاك. ما الذي تعنيه فترة انتقالية سياسية لن تكون الدولة فيها إلا دكتاتورية البروليتاريا الثورية؟ يعود ماركس وانجلز إذن مباشرة إلى الإجراءات الثورية وإلى المميزات الدستورية التي اتخذتها كومونة باريس للعام 1871 لتعريف محتوى دكتاتورية البروليتاريا.
جرى تقديم الكومونة بوصفها أول تجربة ل”حكم الطبقة العاملة” أو ل”دكتاتورية البروليتاريا”.وسوف يحدد ماركس، ثم لينين في مؤلفه: الدولة والثورة ميزاتها الأساسية: تسليح الشعب، الكومونة –شكل سياسي للديمقراطية المباشرة-، تدمير آلة الدولة القديمة، الملكية العامة والاجتماعية وتعاون المنتجين. بيد أنّ الكثيرين سوف ينسون الإشارة إلى أنّ الكومونة كانت تشكل أيضا محاولة للجمع بين الديمقراطية المباشرة والاقتراع العام.
لا تزال هذه الخطوط العريضة حتى اليوم النواة الصلبة لبرنامج الديمقراطية الثورية، لكن لم يعد ممكنا ربطها بمفهوم “دكتاتورية البروليتاريا”. إذا كان يتوجب على نظام دكتاتورية البروليتاريا أن يمثل بالنسبة ل”آبائنا المؤسسين” وبجوهره نفسه “التفتح الأقصى للديمقراطية البروليتارية” وفق تعبير لتروتسكي، فالحصيلة التي نستنتجها اليوم، من الأخطاء التي ارتكبها البلاشفة ومن نقدنا الجذري للدكتاتورية الستالينية في ان معا، تؤدي بنا إلى إزاحة هذا المفهوم من مراجعنا البرامجية. لقد تعلمنا، بالطبع التمييز بين الثورة الروسية وأخطاء البلاشفة في قلب المسار الثوري والثورة المضادة الستالينية، وهي نفي تلك الثورة الروسية. لقد استخدم الستالينيون مفهوم “دكتاتورية البروليتاريا” لتدمير كل أثار الحياة الديمقراطية في الطبقة العاملة وفي المجتمع الروسي. كان هذا المفهوم وبامتياز أحد الأسلحة الرئيسية في يد الثورة المضادة.لكن ينبغي أيضا العودة إلى أخطاء الثوريين الروس.باسم دكتاتورية البروليتاريا الثورية، المفهومة بوصفها نظاما استثنائيا، اتخذ لينين وتروتسكي والعديد من القادة البلاشفة الآخرين إجراءات صفَت تدريجيا الديمقراطية في المؤسسات الثورية الجديدة: إحلال سلطة الحزب محل ديمقراطية السوفيتات، ضياع جوهر المجلس واللجان، رفض استدعاء مجلس تأسيسي جديد، حظر التيارات.
لقد جعلت ممارسة دكتاتورية البروليتاريا- بما في ذلك من العام 1918 إلى العام 1924، عبر دمج الدولة والحزب والإلغاء التدريجي لكافة الحريات الديمقراطية- مثل هذا المفهوم أمرًا “باطلا”. وهو اليوم محمّل بمحتوى تاريخي يتميز برفض أشكال الديمقراطية السياسية لدرجة أنّه لم يعد بوسعنا تقديم مفاهيمنا عن سلطة العمال أو الديمقراطية الاشتراكية بوصفها نظام دكتاتورية البرولياريا. ناهيك عن أنّ كلمة دكتاتورية مبغوضة عبر جميع التجارب التاريخية للقرن العشرين، من قبلنا أولا، سواءٌ ارتبطت بصفة أم لم تربط.
===========================================================
بقلم: فرانسوا سابادو
اقرأ أيضا