الحزب الشيوعي السوري … انشقاقات وانحطاط
انشق الحزب الشيوعي السوري ،عبر تاريخه الطويل ، كثيرا. لدرجة ان الحركة الشيوعية السورية بأغلبيتها الساحقة، او بالاحرى باستثناء حزب العمل الشيوعي، ان كانت حليفة للنظام ام لا، هي مجرد انشقاقات عن الحزب الشيوعي الأم (البكداشي). وخرجت من رحمه. بل ان ما يعقد فهم واقع الحركة الشيوعية الرسمية في سوريا ان عددا من الأحزاب التي تشكلت في العقد الأخير بأسماء اخرى انما هي مجرد تغيير لأسماء انشقاقات عن الحزب الشيوعي السوري –بكداش.
والملفت للنظر، ان الحزب الام وانشقاقاته التي حافظت على انتمائها ” الشيوعي” او حتى تلك التي تخلت عنها بشكل او باخر، تغرف من نفس الوليمة الأيديولوجية الستالينية والانتهازية السياسية المريعة.
ما يلي هو عرض سريع لمحطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي السوري وانشقاقاته ولمحات عن مواقفه، بما قد يفسر مواقفه، وانشقاقاته ، من الثورة الشعبية المستمرة منذ نحو خمس سنوات.
الفكرة الجوهرية التي تبرز في هذا العرض هي ان الحركة الستالينية ،وما آلت اليه، مع استثناءات شبه نادرة، اما وقفت ضد ثورة الجماهير الشعبية ومع النظام، وأما مارست أسوأ انواع التحالف مع قوى رجعية وارتبطت او راهنت على قوى اقليمية ودولية. وكأن الستالينية داء عضال ، بالنسبة لاتباعها، لا يكفي تغيير الاسم او حتى قولهم بالتخلي عن الماركسية لشفائهم منه.
وبكل الأحوال ، فاننا عندما نمارس نقدا ونفضح مواقف الأحزاب الستالينية الانتهازية فاننا لا ننسى بان هذه الأحزاب ضمت وتضم اليوم مناضلين مخلصين وشرفاء، من الواجب العمل معهم وتجاههم، ولكننا نعني بشكل اساسي قياداتها وسياساتها وممارساتها.
بدايات التشكل
تشكلت النواة الاولى في 28 تشرين الاول/أكتوبر 1924 (للحزب الشيوعي السوري-اللبناني) ، ولكن الاممية الشيوعية الثالثة (الكومنترن) لم تعترف به الا في أيلول /سبتمبر 1928 تحت اسم الحزب الشيوعي السوري- فرع الانترناسيونال(الاممية). وتم إعلانه في عام 1930.(1).
وضمت النواتات الاولى للحزب الشيوعي السوري ، مناضلين بارزين مثل النقابي فؤاد الشمالي، الذي يعتبر الأمين العام الاول لهذا الحزب.
ومن المفيد تقديم موجز تاريخي لفترة البدايات، وانتشار الفكر الاشتراكي في بلادنا. والعلاقة الوطيدة والمتبادلة بين مجتمعات منطقتنا ، ولا سيما ما يعرف بالشرق الأوسط ومصر.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى أخذ مفهوم انقسام المجتمع إلى أغنياء وفقراء، ومن ثمّ إلى مستثمِرين ومستثمَرين، ينمو باطراد بفعل التأثير المزدوج للثورة الفرنسية البرجوازية 1789 والثورة البروليتارية الروسية 1917. وكان هذا المفهوم – القديم في التاريخ قِدَمَ المجتمعات الطبقية – قد توضّحت معالمه قبل الحرب العالمية الأولى على يد (الديمقراطيين الثوريين)، أمثال فرح أنطون وشبلي شميل، ولكنه أخذ الآن طابعاً أكثر شمولية واتساعاً بفضل التطورات السياسية والاقتصادية – الاجتماعية، التي تسارعت وتائرها بعد الحرب العالمية الأولى ودخول المشرق العربي في دائرة الحكم الإمبريالي المباشر.
قبل الحرب العالمية الأولى وبعد زوال الحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد على أثر قيام ثورة الاتحاد والترقي عام 1908، ساد نوع من الديموقراطية النسبية في سماء الدولة العثمانية، وظهرت الأحزاب السياسية ومنها الأحزاب العربية. في تلك الأجواء قام الجناح اليساري في الحركة الوطنية العربية الناشئة بإصدار صحيفة (الاشتراكية) في دمشق عام 1912. حصل على ترخيص الجريدة حلمي الفتياني، الذي اشتهرت عائلته في نابلس والقدس بتولي عدد من رجالها منصب الإفتاء وعاش حلمي فترة شبابه في دمشق ، وأسهم في الحركة الفنية المُبكِّرة في سورية مع أبي خليل القباني، ورافقه في رحلته إلى مصر تجنباً لضربات القوى المحافظة المعادية للفن والمسرح. ويبدو أن حلمي الفتياني تأثر أثناء إقامته في مصر بالجو التنويري السائد بين عدد من مثقفي مصر، وعندما عاد إلى دمشق بعد زوال الاستبداد الحميدي اشترك مع عدد من المثقفين التنويريين في نشر الأفكار الاشتراكية. وحصل عام 1912 على ترخيص بإصدار صحيفة (الاشتراكية)، التي عطلتها السلطات بعد شهر من صدورها واضطر حلمي الفيتاني نتيجة مضايقات السلطة إلى مغادرة دمشق.
يمكن تقسيم نشاط الحزب الشيوعي حتى مطلع الاستقلال إلى المراحل الأربع التالية:
المرحلة الأولى، التي بدأت مع تأسيس الحزب الشيوعي عام 1924 وانتهت عام 1930 وفي هذه المرحلة برز اسم مؤسسي الحزب اللبنانيين، النقابي فؤاد الشمالي والمثقف التنويري يوسف إبراهيم يزبك. وفي هذه المرحلة جرى وضع اللبنات الأولى في بناء الحزب، وفي دمشق برز اسم ناصرحدّة وفوزي الزعيم كمؤسسين للحزب الشيوعي بدمشق بمساعدة (الرفاق اللبنانيين).
المرحلة الثانية (1930 – 1935)، التي تبدأ مع إعلان الحزب الشيوعي السوري برنامجه المطبوع الصادر في 7 تموز 1931 من خلال وثيقة تبيّن غايته القصوى وشيئاً من برنامجه. جاء في البرنامج: (إن النظام الرأسمالي ليس مُنزَلاً من عند الله، كما يدّعي البرجوازيون).. (إننا نريد أن نضع حداً لاستثمار جهود العمال السوريين).. (وكذلك الفلاحون فإنهم مستثمَرون من الإقطاعيين وخدم الاستعمار والمرابين ورجال الدين والحكام).. (النضال المستمر ضد الاستثمار الإقطاعي والرأسمالي).. (إنشاء حكومة العمال والفلاحين في سورية).. (الاستقلال التام والوحدة السورية، سحب الجيوش المحتلة، إلغاء الانتداب).. (الإخاء والتضامن بين جميع الشعوب المظلومة، وإيجاد جبهة متحدة بينها للنضال ضد الاستعمار، وأن تتحد مع طبقة العمال العالمية، التي هي العدو الأكبر للاستعمار)..
وبعد أن تشيد وثيقة الحزب الشيوعي السوري بالمثال التاريخي لتآخي الشعوب المختلفة في (اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية)، تطالب بـ: (تحرير الجموع السورية العاملة بدون فرق بين الجنسيات والأديان…).. (إيجاد جبهة متحدة بين جميع البلدان العربية للنضال والتضامن المشترك ضد الاستعمار) و(إيجاد حلف بين العمال والفلاحين في البلاد العربية).
المرحلة الثالثة (1936 – 1940) وهي استمرار للمرحلتين الأولى والثانية، ولكن بنوعية جديدة في مجال تكوّن الحزب سياسياً وتنظيمياً وفكرياً، وبرز ذلك واضحاً في غزارة البيانات (المناشير) والكراريس والمطبوعات النقابية والأدبية المختلفة ومع هذه المرحلة بدأت ترتسم قيادة خالد بكداش العائد من الدراسة في موسكو أوائل 1937،ليصبح الأمين العام للحزب الشيوعي ولمدة ستين عاما لغاية وفاته عام 1995 .
بعد توقيع مشروع المعاهدة بين الكتلة الوطنية وحكومة الجبهة الشعبية في باريس وتأليف الوزارة السورية الكتلوية في أواخر سنة 1936 ونجاح برلمان كتلوي، دخلت سورية في العهد، الذي أطلق عليه (العهد الوطني الأول) (1936- 1939). ونتيجة لذلك تمكّن الحزب الشيوعي السوري من العمل لأول مرة في تاريخه بصورة علنية في سنة 1937. ففتح مكاتب له في دمشق وحمص وحلب وغيرها. كما تمكن الحزب بتاريخ 15 أيار 1937 من إصدار جريدة (صوت الشعب)، التي أغلقتها السلطات الفرنسية أواخر 1939، وعادت للصدور في 20 كانون الثاني 1942. كما استطاع الحزب إصدار الكثير من النشرات والكراريس وتمكن من نشر آرائه في عدد من الجرائد والمجلات المختلفة.
ولكن تراجع الحركة الوطنية السورية وصعود القوى اليمينية في فرنسا والنشاط الوطني للحزب الشيوعي أدى في 19 أيلول 1939 إلى صدور قرار من المفوض السامي الفرنسي بحل الحزب الشيوعي وإغلاق مكاتبه واعتقال أعضائه إذا اجتمعوا أو تظاهروا.
المرحلة الرابعة (1940 – 1945) وتنقسم أيضاً إلى فترتين: الأولى: فترة العهد السري وتمتد من أيلول 1939 إلى تموز 1941 والثانية: فترة العمل العلني وتمتد من تموز 1941 إلى ما بعد عام 1945.
وفي هذه الفترة التفّ حول الحزب جمهرة من المثقفين القادمين إلى الحزب من بوابة النضال الوطني والمعجبين في الوقت نفسه بانتصارات الدولة السّوفياتية والمتلهفين إلى ارتياد منابع الفكر الماركسي.
عُقد (المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان) في أواخر 1943 أوائل 1944، في بيروت (2).
تحول الحزب الشيوعي السوري الى احد المكونات الاساسية للحياة السياسية في. سوريا لغاية بداية السبعينات من القرن الماضي. وأخذ عليه في مراحل الأربعينات والخمسينات موقفين أساسيين . الاول يتعلق بقرار تقسيم فلسطين الصادر في 29 تشرين الثني/ نوفمبر 1947 ، حيث كانت جرائده وصحفه تهاجم ، قبل اعلان القرار، التقسيم وتندد به. ولكن حال صدور اعلان دعم الدولة السّوفياتية له حصل تبلبل في صفوف الحزب الشيوعي السوري حسمه امينه العام خالد بكداش بتبني القرار والدفاع عنه لأن (السوفيات لا يخطئون) حسب احدى مقولاته الشهيرة.
والحدث الثاني هو اعلان الوحدة بين بين مصر وسوريا عام 1958 ، حين كان فيه خالد بكداش نائبا في البرلمان، تغيب عن جلسة التصويت وأعلن معارضته لمشروع الوحدة ، او ، كما يحب بعض البكداشيون وصف موقفه ، بانه “تحفظ” عليها وطرح 12 شرطا لها أولها تعزيز التعامل والتعاون مع الدولة السّوفياتية. وفي ذلك الوقت لم يكن الاتحاد السوفياتي معارضا جديا للوحدة بين مصر وسوريا ولكنه كان يدعو الى ضرورة التعاون بين الشيوعيين ونظام ناصر، كما جرى في العراق من تعاون بين الشيوعيين ونظام عبد الكريم قاسم. في حين ان نظام جمال عبد الناصر كان يعتقل الشيوعيين. هذا الهامش الضئيل من الاستقلالية عن الدولة السّوفياتية فقده سريعا الحزب الشيوعي السوري.
منذ ذلك الحين، اصبح واضحا ان الحزب الشيوعي السوري بقيادة بكداش تابع تماماً للدولة السّوفياتية في تقرير سياساته الداخلية والخارجية، التي يمليها عليه “الرفاق الكبار” كما كان بكداش يصف المسؤولين السوفيات.
لعب الحزب الشيوعي السوري دورا سياسيا هاما في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فقد فاز امينه العام خالد بكداش في الانتخابات البرلمانية عام 1954 في مواجهة ممثل الاخوان المسلمين عن دمشق ليكون اول نائب شيوعي في تاريخ بلدان المنطقة.
وكما هو شائع ومعروف فان القوى السياسية الاساسية في تلك الفترة كانت الحزب الشيوعي السوري وحزب البعث والاخوان المسلمون والعسكر، بالطبع.
اضرت مواقف الحزب الشيوعي من قضيتي الوحدة مع مصر وقضية تقسيم فلسطين التي دعا وروج لها في شعبيته وأضعفتها كثيرا. ولكن سياساته وممارساته نتيجة تبعيته للدولة السّوفياتية اودت به الى مواقف تتزايد في إصلاحيتها وانتهازيتها، وبنيت على فكرتين أساسيتين. الاولى كانت تبنى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956 لسياسة جديدة عنوانها ” التعايش السلمي بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي ” ، وأخذت طابعا عمليا اكثر مع طرح الدولة السّوفياتية لفكرة التطور اللاراسمالي ، عام 1961، التي فتحت الباب واسعا لتحالفات وخضوع للأحزاب الشيوعية مع أنظمة برجوازية “وطنية”. وهكذا أصبحت بعض جوانب السياسات الخارجية، كمعاداة الإمبريالية او التحالف مع السوفيات، لانظمة مستبدة وبرجوازية كافية بالنسبة لهذه الأحزاب الشيوعية ، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي السوري للتحالف مع البورجوازيات وانظمة الحكم البرجوازية، ولم يقتصر الامر على سوريا فحسب.
فقد أصبحت، وفق رؤية الدولة السّوفياتية واتباعها من الأحزاب الشيوعية الستالينية، مصر وسوريا والعراق وغيرها من الأنظمة الشبيهة في العالم الثالث انظمة تقدمية و دول تسير نحو الاشتراكية عبر طريق التطور اللاراسمالي .
إذن ، منذ بداية الستينات لم تعد ميزة هذه الأحزاب الشيوعية ومنها الحزب الشيوعي السوري احزاب تابعة للدولة السّوفياتية فقط بل انها تحولت بشكل فج الى احزاب انتهازية خانت قياداتها المصالح العامة للطبقة العاملة والماركسية . ولم يعد تحليل الوقائع الطبقية لبلدانها وبعض مطالبها سوى غطاء هش لالتحاقهم الكامل بالدولة السّوفياتية وانظمة الحكم ” التقدمية” البرجوازية في بلدانهم.
هذا الحال ما كان يمكن ان يستمر طويلا، دون ان يخلق الصراع الطبقي في سوريا ، وكل البلدان المعنية، توترات شديدة ، تمس تماسك الحزب الشيوعي السوري ، وأشقائه الستالينيين، بالرغم من القبضة الحديدية للامين العام على التنظيم.وهيمنة القيادة على كل تفاصيل الحزب، وغياب عقد مؤتمراته لعقود طويلة.
الانشقاقات
لعل الانشقاق الاول في الحزب الشيوعي السوري-اللبناني هو “انشقاق” او انفصال الحزب الشيوعي اللبناني عنه عام 1964. ليصبح لكل من البلدين حزب شيوعي خاص به.
الانشقاق الثاني ومولد الانشقاقات
ولكن مرحلة الستينات من القرن العشرين شهدت تداعي ” الأنظمة التقدمية ” في سوريا ومصر وخصوصا بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 ونمو حالة تجذر ونهوض يساري عمت بلدان المنطقة والعالم مثل بروز المقاومة الفلسطينية وآيار 1968 في فرنسا وغيرها من الأحداث الثورية ، وبرز جيل جديد من المناضلين اليساريين متعدد المرجعيات يتململ من المواقف الانتهازية للأحزاب الشيوعية الرسمية (الستالينية).
وبما يخص الحزب الشيوعي السوري ، لعبت شخصية خالد بكداش دورا مركزيا في بناء تنظيم تغيب عنه النقاشات والحوار مع افراط في مرض عبادة الشخصية، وجو من الاٍرهاب الفكري لأي صوت معارض داخل الحزب.
في هذا السياق جاء الإعداد لعقد المؤتمر الثالث ، بعد ربع قرن من عقد الثاني، الذي فجر جدلا كبيرا في أوساطه حول عدد من القضايا: من بينها ضرورة نوع ما من الاستقلالية التنظيمية ودرجة اقل من التبعية للاتحاد السوفياتي ( لان احد من المتصارعين، حينئذ، لم يدعو الى استقلالية كاملة عنه). وايضا التعامل الإيجابي مع القضية القومية، ترافق مع بروز تيار عروبي داخل الحزب، ومراجعة نقدية لموقف قيادة الحزب الشيوعي السوري من الوحدة مع مصر عام ، 1958. وايضا القضية الفلسطينية ومراجعة الموقف المتذبذب للحزب منها وموضوع موافقته على تقسيم فلسطين، وطرحت ايضا قضايا الموقف من التحالف مع النظام الحاكم. وقضايا تنظيمية تناولت الهيمنة الفردية على مقدرات الحزب.
انكشفت هذه الخلافات، وظهرت الى العلن، خلال المؤتمر الثالث لحزب بكداش والذي عقد عام 1969. ولم تحسم فيه الخلافات ، مما اضطر بكداش وقيادة حزبه الى عقد مجلس وطني لحسم الخلافات عام 1971 ونقاش مشروع البرنامج السياسي التي طالب بها المؤتمر الثالث وتناولت القضايا المذكورة أعلاه .
فجر مشروع البرنامج السياسي الخلافات داخل الحزب الشيوعي، تيار يدافع عن الأفكار “الجديدة” ضم في البداية شخصيات معروفة فيه مثل ظهير عبد الصمد ودانيال نعمة وإبراهيم بكري ورياض الترك وبدر الطويل وعمر قماش واحمد فايز الفواز وغيرهم، ولم يكن حينها رياض الترك (زعيم الانشقاق القادم) ابرز الرموز المعارضة.
في هذه السنوات جرى انقلاب حافظ الاسد في 16 ت2/نوفمبر 1970 وعمل النظام على إلحاق عدد من الأحزاب غير حزب البعث به ، ودعاها عام 1970 للمشاركة في الحكومة ، وبعد ذلك للانضمام الى ما اسماه ” الجبهة الوطنية التقدمية” التي اعلن عنها في 7 آذار / مارس 1972 . هذه القضية فاقمت من الخلافات داخل الحزب الشيوعي السوري الذي صوتت غالبية لجنته المركزية المحسوبة على جناح بكداش على الانضمام للجبهة الوطنية التقدمية ، ليتذيل بذلك للنظام الحاكم، مما وضع المعارضة داخله بموقف مواجه مع النظام، بعضها لم يكن راغبا به.
استعان جناح بكداش بما يسمى ” بالخبراء السوفيات ” الذي نقدوا ما هو مطروح في مشروع البرنامج السياسي، واصفين دعاته بالمغامرة والصبيانية اليسارية والنزعة القومية وغيرذلك من الاوصاف التي تعج بها الستالينية. ومستندا على دعم السوفيات له اصدر خالد بكداش رسالته الشهيرة في 3 نيسان/ ابريل 1972 يصف فيها معارضيه ” بالكتلة التحريفية الانتهازية المغامرة التي يقودها رياض الترك ” . وأصبح واضحا ان الحزب الشيوعي السوري اصبح حزبان . وأصدر رياض الترك رسالة له مضادة في 27 أيلول / سبتمبر 1973 ، تخلى اثرها عدد من حلفائه الهامين عنه وهم : دانيال نعمة وزهير عبد الصمد وإبراهيم بكري الذين أعلنوا عودتهم للجناح البكداشي.
وهكذا عقد جناح رياض الترك “المؤتمر الرابع” في كانون الاول / ديسمبر 1973 كحزب مستقل، وانشقاق مكتمل عن حزب بكداش الام وأصبح اسمه الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي ، وتعريفه بالمكتب السياسي يحيل الى ان قادته كانوا غالبية المكتب السياسي لحزب بكداش.
ومن جهته، عقد حزب بكداش مؤتمره الرابع في 26-28 أيلول / سبتمبر 1974، وانتخب خالد بكداش أمينا عاما مجددا ،ليكتمل الانشقاق بشكليه السياسي والتنظيمي. وبوجود أمينين عامين هما رياض الترك من جهة. وخالد بكداش ، في الجهة الاخرى. وأصبح لحزب بكداش وزيرين وستة نواب في مجلس الشعب التابع لسلطة حافظ الاسد ، بينما انتقل جناح رياض الترك الى موقع تدرج في معارضته للنظام، ركز على قضية الديمقراطية وابتعد عن التبعية للسوفيات وتأثر بأطروحات الحزب الشيوعي اللبناني والاوروشيوعية التي كانت شائعة في السبعينات وخصوصا في اوساط الأحزاب الشيوعية الإيطالية والفرنسية والإسبانية .
وشارك جناح رياض الترك للحزب الشيوعي السوري في تأسيس تحالف معارض هو التجمع الوطني الديموقراطي الذي تأسس عام 1979 من خمسة أحزاب سياسية، ذات تلاوين إيديولوجية مختلفة، هي:
1ـ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي (مؤسسه جمال الأتاسي).
2ـ الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي ـ أمينه العام رياض الترك.
3ـ حزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي ـ جناح صلاح جديد.
4ـ حركة الاشتراكيين العرب ـ جناح عبد الغني عياش.
5ـ حزب العمال الثوري ـ أمينه العام طارق أبو الحسن.
انشقاقات حزبي خالد بكداش و رياض الترك
أ- انشقاقات الحزب الشيوعي السوري – جناح خالد بكداش
منذ بداية السبيعنات من القرن الماضي ومع انضمام الحزب الشيوعي السوري- بكداش لجبهة النظام ومشاركته فيها، اصبح واضحا انه صار جزءا لا يتجزأ من السلطة الحاكمة للطغمة البرجوازية لآل الاسد. ومن جهة اخرى، عبر عن التزام بلا حدود لتبعية لا تقصم للدولة السّوفياتية ، وبعدها لروسيا كدولة حتى ولو لم يعد الحزب الشيوعي حاكما فيها.
وهذان الاعتباران سيرسمان ملامح وأرضية الانشقاقات التي ستجري داخله لاحقا.
انشقاق مراد يوسف
المؤتمر الرابع لحزب بكداش لم يحقق التماسك المنشود له، اذ تجلى خلاله ان هنالك كتلة وازنة تتبع الرجل التنظيمي المهم في الحزب وهو يوسف فيصل ، طالبت بحصة كبيرة في قيادة الحزب ثمنا لدعمها لبكداش في مواجهة كتلة رياض الترك ، وكان يوسف فيصل يأمل بالحصول على منصب الأمين العام مقابل ان يكون بكداش الرئيس الفخري ، وفق ما تردد عن اتفاق سابق بين الطرفين.
تمت تسوية مؤقتة بينهما في المؤتمر الرابع حيث ابتدع منصب جديد هو الأمين العام المساعد حل فيه يوسف فيصل، وخصوصا ان كتلة اخرى داخل الحزب كانت تشكل تهديدا لكل من بكداش وفيصل، وهي كتلة مراد يوسف النافذة في مدينة دمشق.
وعلى الطريقة الستالينية التقليدية والمعروفة، قام بكداش اولا بتقسيم منطقية الحزب في دمشق الى منطقيتين ، لاضعاف مراد يوسف. ووجه للأخير اتهام علني في 9 كانون الاول/ ديسمبر 1978 بالتكتل. وخلال اجتماع مشترك عقد في أواسط حزيران/ يونيو 1979 بين الحزبين الشيوعيين السوري والسوفياتي اعلن بكداش رسميا عن اتهام مراد يوسف “بتوتير العلاقة مع البعث وإيصالها الى درجة القطيعة” و “شرشحة قيادته” و” تمريغها بالوحل” وإفشاء اسرار الحزب للخارج وتحريض القواعد على القيادة.(3).
وفي 28-29 حزيران 1979 عقدت اللجنة المركزية لحزب بكداش جلسة محاكمة لمراد يوسف ، تم فيها ابعاده عن سكرتارية اللجنة المنطقية في دمشق وعن المكتب السياسي. وفي نهاية العام نفسه أعلنت جريدة “نضال الشعب” لحزب بكداش عن فصل مراد يوسف وكتلته من الحزب. فكانت ردة فعل الاخيرين انهم قرروا العمل بشكل مستقل تحت اسم الحزب الشيوعي السوري- منظمات القاعدة. بقيادة مراد يوسف، وحاولوا هم ايضا من جهتهم ان يحصلوا على اعتراف السلطة البعثية بهم ، لكن دون جدوى.
انشقاق يوسف فيصل
بخروج كتلة مراد يوسف من حزب بكداش، عادت المواجهة بين بكداش ويوسف فيصل على أمانة الحزب ، الى الواجهة.
وتفاقم الصراع بينهما الى درجة ان بكداش، مع معرفته بسيطرته على العدد الأكبر من المندوبين، دعى الى عقد المؤتمر السادس لحزبه ، في حين كان الفيصليون ، يرغبون بمؤتمر متوازن بعدد المندوبين، فعقد بكداش مؤتمره السادس في أواسط تموز / يوليو 1986 متهما الفيصليين بالتأثر بالخارج لتحويل الحزب من حزب “بروليتاري” الى حزب اشتراكي –ديمقراطي. ويذكر لبكداش انه قال ، حينها، ان فصله لمراد يوسف كان “لأسباب تنظيمية” بينما فصله ليوسف فيصل هو “لأسباب ايديولوجية”!.
وهكذا ، في المقابل، عقد الفيصليون، الذين دعموا وتعلقوا بالبرويسترويكا الجارية في الاتحاد السوفياتي، مؤتمرهم السادس في 29-31 كانون الثاني/ يناير 1987، وبانضمام حركة “اتحاد الشيوعيين ” وهي انشقاق عن جناح رياض الترك ، سنتحدث عنه لاحقا، اضافة لانضمام كتلة مراد يوسف، بضعة سنوات لاحقا، اليه ليصبح اسمه الحزب الشيوعي السوري الموحد.
واعترفت السلطة الحاكمة به وجعلته يتقاسم عدد كراسي النواب والوزراء بينه وبين جناح بكداش.
ستصبح قضية “وحدة الشيوعيين” وتوحيدهم وبناء الحزب الشيوعي “الموحد” فعلا، مطلبا مكررا لكل الانشقاقات لاحقا، بالتوازي مع توالي الانشقاقات وابتعاد “وحدة الشيوعيين” عن التحقق اكثر فاكثر.
انشقاق قدري جميل
تحولات كبرى جرت مع سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، وأصابت الأحزاب الشيوعية الستالينية ، بل واليسار عموما، بأزمة عميقة ، لكن تأثير سقوطه كان اكبر بما لا يقاس على هذه الأحزاب ، لاسيما بسبب التبعية التي عانت منها الأحزاب الستالينية تجاه الدولة السّوفياتية سابقا.
فمثلا كان يرى بكداش، في تعليقه على انهيار الاتحاد السوفياتي، ان الشيوعيين السوفيات “سيعودون وسيعود الاتحاد السوفياتي” . فالشعور السائد في الحزب البكداشي قبل انهياره هو ما قاله، في هذا الخصوص، خالد بكداش ” نحن الشيوعيين لا يمكن ان نكون من دعاة الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي وعن حزب لينين، بل نحن دعاة الانسجام معهما” (4).
وفي تفسير انهيار الاتحاد السوفياتي يمكن تلخيص موقف حزب بكداش بما قاله حينها احد قادته وهو قدري جميل واصفا سقوطه بأنها نتيجة ” مؤامرة وانحرافات بدأت منذ نقد خروتشوف لستالين عام 1956″. في حين ان جناح يوسف فيصل وجد ان ” تجربة السوفيات سقطت بسبب اخطاء في التطبيق وليس في الماركسية السّوفياتية” (5).
مع وفاة خالد بكداش عام 1995، ورثت أرملته السيدة وصال فرحة الأمانة العامة للحزب البكداشي ، وأصبحت قيادته عائلية، حيث تربعت على امانته العامة محاطة بصهرها ، حينئذ، قدري جميل وابنها عمار بكداش(الذي سيُصبِح هو نفسه بعد وفاة والدته عام 2012 أمينا عاما، بدوره)، ثلاثي عائلي سيطر على مفاصل الحزب التنظيمية والمالية.
وفي عام 2000 وفي جو من الدراما العائلية – السياسية، انفصل قدري جميل عن ابنة بكداش، ولم يعد صهرها للعائلة، وازداد إمساك عمار بكداش مع والدته بكل تلافيف الحزب وامتيازاته التي توفرها علاقته بالنظام البعثي. فانفصل قدري جميل، ايضا، عن الحزب البكداشي وأطلق مع مجموعة صغيرة موالية له في منطقية دمشق جماعة عرفت باسم “قاسيون” . دعت الى “توحيد الشيوعيين” وطرحت ميثاق شرف للتوقيع عليه، محاولة تجميع جسد تنظيمي من كل من يرغب من الشيوعيين.وفي عام 2001 استفادت المجموعة من مناخ الانفتاح السياسي القصير والجزئي ودعت الشيوعيين المنشقين والمستقلين للتوقيع على ميثاق يدين ما سمته “عقلية العائلة والإقطاع السياسي”، وأطلقت على نفسها اسم اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين.(6) عام 2003، وعقدت ستة اجتماعات وطنية، ونجحت بتجميع عدد من الأفراد الذين غادروا الحزب الشيوعي السوري، خلال سنوات انشقاقاته الطويلة، وكان تركيز هذه المجموعة، اضافة الى مطلب ( توحيد الحزب الشيوعي) الذي بقي شعارا لكل انشقاقاته المتتالية، ” خلق حوار وطني ديمقراطي شامل بين جميع أطراف القوى السياسية الوطنية لتعزيز الوحدة الوطنية بعيدا عن الثنائيات الوهمية، بل على أساس معايير وثوابت وطنية جامعة “(7) ، وبالتالي وضعت هذه المجموعة نفسها خارج إطار المعارضة، وسعت الى ان يعترف النظام بها كمكون شيوعي ثالث في جبهته ” الحاكمة” ولكنها لم تفلح في ذلك،
فبقي تنظيما “مقبولا” من السلطة الحاكمة دون ان تعترف به. وفي ديسمبر من عام 2011، بعد اشهر من اندلاع الثورة والحراك الشعبي الذي شارك فيه عدد من قواعد هذا التنظيم ، اعلن عن تحول اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين الى حزب سياسي اسمه ” حزب الإرادة الشعبية” ، نال ترخيصا ، هذه المرة، من النظام، وأصبح قدري جميل أمينه ” العام”، ودخل الأخير في انتخابات مجلس الشعب للنظام عام 2012 ليصبح نائبا فيه، ومن ثم عينه النظام الحاكم نائبا لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية. لكن احتدام التدخلات الإمبريالية في الوضع السوري (روسيا وأمريكا ) دفعت بقدري جميل الى مغادرة سوريا مع عائلته للإقامة في روسيا في شهر تشرين الاول/ أكتوبر 2013، ليصبح جزءا مما يسمى بمعارضة ” الداخل” المقربة من موسكو، وليعمل على المشاركة بمفاوضات جنيف بهذه الصفة.
هيئة الشيوعيين السوريين
مجموعة صغيرة كانت تاركة للحزب الشيوعي السوري، ابرز شخوصها منصور الأتاسي ، اندمجت مع اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين لقدري جميل وغادرتها عام 2005، وقف قسم منها بشكل صريح مع الثورة، وتعرضت الى انقسام حول الموقف من الانسحاب من هيئة التنسيق الوطنية، وهي تحالف لقوى سياسية متعددة تأسس في حزيران/ يونيو 2011، كان ومايزال له موقف ملتبس من الثورة الشعبية.فقد اصدر منصور الأتاسي بيانا باسم “سكرتاريا” هيئة الشيوعيين السوريين بتاريخ 17/9/2012، يعلن فيه انسحاب هيئة الشيوعيين من هيئة التنسيق الوطنية، ليليه بعد يوم منه اي في 18/9/2012 بيانا مخالف له وينفيه باسم ” أعضاء في سكرتاريا” هيئة الشيوعيين.(8)
وعلى كل حال، فانه واضح ان هذه المجموعة التي تشتت بعض رموزها خارج البلاد قد فرط عقدها. لكن منصور الأتاسي، الذي اصبح مقيما خارج البلاد، اعلن عن تأسيس حزب اليسار الديمقراطي في بيان صدر في 17 نيسان/ابريل 2015 ورد فيه إن “الحزب الجديد نتج عن اندماج مجموعات يسارية وشيوعية وأفراد تاركين لأحزابهم اليسارية التقليدية الملتحقة بالنظام والمبررة لقمعه وإجرامه منذ الأيام الأولى للثورة مع هيئة الشيوعيين السوريين المعارضة للنظام منذ 2005، والتي عقدت في النهاية مؤتمرها وتحولت لحزب اليسار الديمقراطي وشعاره (مدنية – ديمقراطية – عدالة اجتماعية)”.
وأضاف البيان الصادر عن الحزب: “يواجه هذا الحزب الجديد جملة من التحديات الكبيرة منها الإجرام الكبير الذي يمارسه النظام، وتشتت أفراد الحزب في الداخل السوري، وفي بلدان اللجوء، كما يواجه انتشار المنظمات الأصولية المتطرفة، والمدعومة من نظام الأسد وداعمه في إيران ومن قبل قوى أخرى، وهذه التحديات وضعف الموارد المالية أجبرته على أن يعقد مؤتمره مستفيدا من وسائل الاتصال الحديثة كالفيس بوك والسكايب، وبعد مناقشات طويلة وشاقة دامت أربعة أشهر تم التوصل لمبادئ الحزب الجديد، واختير يوم السابع عشر من إبريل ليكون تاريخ ميلاد الحزب لارتباط هذا التاريخ بذكرى جلاء القوات الفرنسية عن سوريا””.(9)
ورغم الموقف المؤيد للثورة الشعبية لهذا “الحزب” ، لكن لا يعرف له نشاط يذكر باستثناء تقارير سياسية دورية كما كانت تفعل هيئة الشيوعيين السوريين سابقا، اضافة الى ميل سياسي قريب من سياسات الهيئات المعارضة البرجوازية مثل الائتلاف الوطني، فقد ورد في العرض السياسي رقم 70 لهذا “الحزب” تحديده للدول “المؤيدة ” للثورة وهي حسب رأيه ” تمثله بشكل واضح السعودية و تركيا ثم قطر” ، ما يشير الى تبنيه لنفس سياسات المعارضة البرجوازية.
ب- انشقاقات الحزب الشيوعي السوري – جناح رياض الترك
عاش جناح رياض الترك سنواته الاولى بعد الانشقاق باحثا عن هوية تميزه عن الحزب الأم، وان ركز على القضايا المذكورة أعلاه : الديمقراطية والقومية والاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي . الا ان معارضته التدريجية للنظام ستكون العلامة الفارقة له، وليست أسسه البرنامجية، فقد دفع تدخل الجيش السوري في لبنان في حزيران 1976 لصالح القوى اليمينية اللبنانية، لحظة القطيعة الأهم تجاه النظام وبداية سياسات ” تصعيدية” تجاه السلطة الحاكمة، لكن تيارا هاما لبعض قيادات وقواعد جناح الترك “عارضت هذا الخط انطلاقا من عدم قدرة الحزب على تحمل عقابيله وأخطار” (10). يقف على رأس هذا التيار عضوي المكتب السياسي يوسف نمر وصبحي انطون.
انشقاق يوسف نمر
في هذه الأجواء عقد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي في كانون الاول/ديسمبر 1978 ، بعد ان تمت كل الترتيبات اللازمة لتهميش وجود “المعارضين” فيه لدرجة ان احد ممثليهم وهو صبحي انطون قال: ” اذا كان خالد بكداش ديكتاتورا بدون نظام داخلي فان رياض الترك هو ديكتاتور بنظام داخلي”(11).
انشق تيار يوسف نمر اثر هذا المؤتمر، ليشكل ما عرف باسم ” اتحاد الشيوعيين” الذي انتهى به الامر للاندماج بالحزب الشيوعي السوري جناح يوسف فيصل عام 1991.
واستمر حزب رياض الترك بتصعيد معارضته للنظام، مع ابتعاد متزايد عن الماركسية. وغياب لرؤية فكرية صلبة لأعضائه مع اعتمادهم على افتتاحيات جريدة الحزب كموجه لسياساته. وفي عز المواجهة المسلحة بين السلطة والاخوان المسلمين، دعا حزب رياض الترك في رسالة داخلية للجنته المركزية في حزيران /يونيو 1980 الى تكوين “تحالف ديمقراطي-إسلامي- شعبي” ، ولم يوجه نقدا باي من أدبياته للعنف الذي مارسته جماعة الاخوان المسلمين. هذه السياسة سنجدها بعد عقود في تحالفاته مع الليبراليين والاخوان المسلمين وسكوته(بل احيانا تبريره ، كما فعل احد قادته وهو جورج صبرة) عن ممارسات السلفيين الجهاديين كجبهة النصرة بعد اندلاع الثورة عام 2011.
لكن الحزب الشيوعي السوري-رياض الترك تعرض مثل غيره من قوى اليسار السوري الى حملات اعتقال شرسة، خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، فككت الكثير من قدراته، ولم يخرج كوادره وامينه العام من السجون الا في أواخر التسعينات وبداية الألفية الثالثة.
تغيير الاسم وانشقاق المكتب السياسي
بعد خروج امينه العام رياض الترك من السجن عام 1998 وعديد من كوادره استعاد الحزب نشاطه، وساهم بتشكيل تحالف اعلان دمشق، عام 2005، على أسس ليبرالية- وشبه طائفية. واجتاحته حاجة البحث عن هوية سياسية جديدة للحزب ابتعدت اكثر فاكثر عن الماركسية، وبدأ التنظير الى ان الماركسية “هي مصدر من مصادر متعددة” ، ولم يعارض رياض الترك الغزو الامريكي للعراق عام 2003، بل رأى انه رفع العراق من تحت الصفر الى الصفر. مع هيمنة لأطروحات “ليبرالية” لم تقتصر على الحزب بل في اوساط “النخب” المعارضة عموما.
تتوج هذا التحول الفكري بعقد المؤتمر السادس لحزب المكتب السياسي في نيسان/ابريل 2005 ، ليتحول الى “حزب ديمقراطي” باسم حزب الشعب الديمقراطي، بافكار ليبرالية اجتماعية. في حين رفضت كتلة من هذا الحزب هذا التحول الليبرالي. وبقيت تنشط، بشكل مستقل تنظيميا باسم الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، ومن ابرز شخوصها الكاتب محمد سيد رصاص.
انشقاق حزب الشعب الديمقراطي
لم يفلت حزب رياض الترك حتى باسمه الجديد ” حزب الشعب الديمقراطي” وبهويته الجديدة “الليبرالية الاجتماعية” من وباء الانشقاق .
فقد دفعت الثورة الشعبية التي اندلعت في آذار /مارس2011 بكل الأفراد والقوى السياسية الى تحديد الموقف من معمعة الكفاح الثوري، ودفعت بها الى اصطفافات واضحة وجديدة. بين قوى وقفت مع النظام الدكتاتوري واُخرى مع الثورة، وداخلها قوى راهنت على القوى السلفية او الدول الإمبريالية لاسقاط النظام، وقوى ثالثة وقفت موقف وسطي بين النظام والثورة.
حزب الشعب الديمقراطي وقف ضد النظام ومع اسقاطه، لكنه ربط نفسه بكل هيئات المعارضة البرجوازية بدءا من المجلس الوطني الى الائتلاف الوطني، وبرر لقوى سلفية جهادية، وراهن على تدخل قوى إمبريالية. في الوقت الذي بقيت فيه آلياته التنظيمية اسيرة للمدرسة البكداشية. لذلك لم يكن مستغربا تفجر أزمة داخلية لديه في عام 2014 حيث أصدرت قيادته عقوبات مجحفة بحق عدد من قياداته وكوادره المعارضين، الذين أعلنوا عن تشكيل “قيادة مؤقتة”، من ابرز شخوصها فؤاد ايليا ومازن عدي ومحمود الحمزة، بقصد إدارة شؤون الحزب والاعداد للمؤتمر السابع.
وانفجر للعلن هذا الخلاف في رسالة وجهتها “القيادة المؤقتة” في اول أيار 2015 تحدد فيها أسباب الخلاف والانشقاق” غير المكتمل”. وجاء في هذه الرسالة ” أخذت تسود في الحزب قبضة مركزية جديدة. بشعبوية واضحة. في ظلّ استمرار الصمت. بسبب تطورات الوضع السياسي الكبيرة. ومن أجل قضية شعبنا على طريق التغيير الثوري العام. تلك الأوضاع العامة – مع الميزات الخاصة بأعضائه – التي تجعل من الحزب، في ضعفه وتخلفه، قدوة بين قوى معارضة أكثر ضعفاً وتخلفاً منه. كانت تحول، جزئياً أيضاً، دون مطالب التغيير والالتزام بوعود المؤتمر السادس الكبرى. كما لم تترك فرصة لفتح أبواب الحزب أمام الشباب ذوي العقل الحديث، والمتعامل مع وسائل التواصل التكنولوجية الحديثة”(12).
وأدانت الرسالة ممارسات قيادة الحزب واصفة إياها ” استفحالٍ مرضي للفردية والتحكم وعودة اللغة البكداشية من مقبرتها. وكان الرد عن طريق أكثر الأدوات تخلفاً وفضائحية: التشهير والعزل والعقوبات المرتجلة”.
وفي المقابل، هاجمت قيادة الحزب معارضيها واصفة اياهم بأنهم “تكتل تنظيمي حاول بناءه للتخريب في جسد الحزب بعض الذين انتسبوا اليه في المهجر لغاية ما”.كما اتهمتهم بالتآمر و “التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية”.(13)
اصبح حزب الشعب الديمقراطي حزبان ،على الاقل، لكل منهما سياساته واجتماعاته وتحالفاته وقياداته.
خاتمة
تفكك الحزب الشيوعي السوري على مدى عقود من الزمن، وانشطر الى احزاب عديدة، يمكن القول ان كتلتين أساسيتين بقيتا تحملان ، حتى الآن، نفس الاسم هما انشقاقا بكداش ويوسف فيصل (وان توفيا). وهاتين الكتلتين تقفان مع النظام وترى في الثورة “مؤامرة”، ويشكلان جزءا لا يتجزأ من نظام الطغمة البرجوازي لآل الأسد. حيث يرى عمار بكداش ان ما يجري في سوريا ليس ثورة بل” هجمة إمبريالية رجعية على سوريا كون سوريا هي عقبة في تحقيق مشاريع الإمبريالية والصهيونية” (14). اما الحزب الشيوعي السوري الموحد (جناح يوسف فيصل بأمينه العام الحالي حنين نمر) فانه يغرف من نفس الموقف التابع للنظام فيقول في بيانه (تقويم المرحلة التي وصلت اليها الأزمة الراهنة في سورية ) الصادر في تموز/يوليو 2011 : ” بدا واضحا منذ بداية الأحداث ان القوى الخارجية التي أدمنت التآمر على سورية بغية حرفها عن مواقفها الوطنية ، ومن أجل تنفيذ المشروع الأمريكي الاسرائيلي في المنطقة ، رأت في هذه الأحداث فرصة مؤاتية لها، فقامت لتوجيه جماعات مسلحة معدة مسبقا لاستغلال التحركات الشعبية” . وبهذه المواقف التي تكرر معزوفة الأنظمة المستبدة المعهودة في مواجهة الحراك الشعبي، يقف انقساما الحزب الشيوعي السوري الكبيرين موقف الانتماء العضوي في السلطة الدكتاتورية الحاكمة. وهو نفس الموقف المعادي لكفاح الجماهير الشعبية السورية من اجل تحررها، الذي تكرره الأحزاب الستالينية وبعض اليسار المتخاذل في بلدان المنطقة والعالم.
بينما نجد ان بقية الانقسامات اما وقفت موقفا وسطيا او تحالفت مع السلفية والبرجوازية.
ولكن هنالك عشرات، بل ومئات، المناضلين في صفوف هذه الأحزاب غادرتها والتحقت بالثورة الشعبية، وبعضها عمل اعلاميا باسم تنسيقيات الشيوعيين ، او مجموعة كوادر شيوعية في هذه المدينة او تلك. ولكنها لا تملك مشروعا تنظيميا خاصا بها، فغالبيتها العظمى ما تزال تحلم ببناء الحزب الشيوعي “الموحد”. كما انها لم تقم، بما يكفي، من مراجعة تنظيمية وفكرية لأزمة الحزب الشيوعي السوري التاريخية والمستفحلة، والتي لا يمكن فصمها عن أزمة الستالينية وما أورثته من كوارث سياسية وفكرية وتنظيمية .
ان اليسار الثوري الذي يقوم على قطيعة مع هذه التجربة، بالجوانب المذكورة، ويحمل، في الوقت عينه، التراث الكفاحي للطبقة العاملة والكادحين، وخبرات الثورة الشعبية، هو ما يجب لكل مناضل اشتراكي الارتكاز عليه، لبناء الحزب العمالي الاشتراكي الثوري ، الاداة الكفاحية الفكرية والسياسية والتنظيمية الضرورية لانتصار جموع العمال والكادحين، وكافة المضطهدين .
غياث نعيسة
آذار/مارس 2016
الهوامش
1- عبدالله حنا، المراحل الأولى لظهور الحزب الشيوعي السوري، نشر على موقع الحوار المتمدن في 11/3/2011.
2- المصدر السابق
3- محمد جمال باروت، في حال الحزب الشيوعي السوري وانقساماته، جريدة الحياة اللندنية، العدد 13014، تاريخ 21/10/1998
4- محمد سيد رصاص، الشيوعيون العرب في مرحلة ما بعد السوفيات، نشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 14/5/2015
5- محمد سيد رصاص، الماركسيون السوريون، جريدة الاخبار اللبنانية، العدد 2819 بتاريخ 22/2/2016
6- الجزيرة نت، التيار الشيوعي في سوريا، نشر بتاريخ 27/5/2013
7- تقرير اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين للاجتماع الوطني السادس، نشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 24/8/2006
8- جريدة طريق اليسار العدد 40، أيلول / سبتمبر 2012
9- موقع عكس السير، بتاريخ 24/4/2015
10- محمد جمال باروت، الحركة الشيوعية السورية وأسئلة المصير…، جريدة الحياة اللندنية، العدد13034، بتاريخ 10/11/1998.
11- محمد جمال باروت، المصدر السابق
12- رسالة القيادة المؤقتة لحزب الشعب الديمقراطي، نشرت على موقع كلنا شركاء في 7/5/2015.
13- طارق عزيزة، “أزمة” حزب الشعب الديمقراطي السوري، جريدة الحياة ، 16 أيلول/سبتمبر 2015.
14- عمار بكداش في مقابلة مع صوت روسيا، بعنوان”بكداش : حول تطورات الأحداث في سورية”، نشرت على موقع صوت روسيا بتاريخ 13 آذار/مارس 2014.
اقرأ أيضا