خلاص الشعوب بالثورات الدائمة
راهن معارضون كثيرون، وبعض المثقفين، على التحالف الدولي، واعتبروه بمثابة المخلّص الذي يمكن أن يساهم بإسقاط النظام السوري، ويقضي على الثورة المضادة، التي كان له اليد الطولى بخلقها ودعمها. ولا يمكن بأي حال عقد الآمال على تحالف قوى غربية وعربية، صمتت نحو أربع سنوات على فاشية النظام وداعش، وإذا كان من أسباب عميقة وجوهرية لتشكيل التحالف، فنتائجه ستكون لإعادة تأهيل النظام، لاستكمال ما بدأه من تدمير للبنى التحتية والعسكرية، فضلاً عن استهداف مدنيين أبرياء كثيرين.
لم يتشكل التحالف إلا لقطع الطريق على استمرار الثورات، وعدم انتقالها إلى بقية البلدان، بحيث تكون الحالة السورية عبرة وأمثولةً، يمكن أن تكبح جماح أي مسار احتجاجي في المستقبل، ولا سيما أن البلاد العربية متشابهة في أزماتها الاقتصادية والسياسية.
القوى الغربية لا يعنيها إلا الحفاظ على أنظمةٍ تدين لها بالولاء، وتبقي على علاقة التبعية التي تضمن وجود الاستعمار غير المباشر، لأن أبرز وظيفة للطُغَم المالية التي تحكم، هي نقل الرساميل إلى الحواضر الغربية، وضخ الأموال في البنوك الخارجية، وإبرام صفقات مع شركات الأسلحة، وتمتين صلاتها مع المؤسسات المالية والعسكرية.
وإذا صار، وقرر الغرب إجراء تعديلات وتغييرات، فإن هذه سوف تضحي بالأشخاص، وتبقي على تماسك أجهزة الدولة، بغرض إيقاف الثورات. هذا ما حصل في بلدان عربية، وبعدها يبدأ هجوم مستثمري القطاع الخاص بحجة الانفتاح واللبرلة حلاً لمشكلات فساد الاقتصاد الدولتي (الاشتراكي)، وتكون الليبرالية السياسية بمثابة غطاء للنهب الليبرالي القادم.
تنفق الولايات المتحدة مليارات الدولارات لزعزعة الأسواق الوطنية، وتدمير البنى الأساسية، حتى لا تضمن وجود بنية مستقرة للأنشطة التجارية، ولاستثمارات طويلة الأمد. وتتطلب هذه الاستراتيجية منها حروباً دائمة، يقودها حلف الأطلسي عسكرياً وصندوق النقد الدولي اقتصادياً.
ولو قدّر للثورات النجاح، وأسقطت الأنظمة، وتوقف، بالتالي، ضخ الأموال إلى الخارج، هذا كفيل أن يعمّق أزمات الغرب الاقتصادية، ويمكن أن يدفع شعوبها إلى الاحتجاج والتظاهر، كما سبق وحصل في عدة بلدان أوروبية. قد يخلق هذا الوضع جبهة شعوب معادية للقوى الامبريالية وللاحتكارات في الغرب، كما في الشرق. ولهذا، سارعت معظم الحكومات الغربية، ورفعت شعار الحرب على الإرهاب، لتخيف شعوبها، وتحوّر أنظارها عن الإرهابيين الحقيقيين، أي الغرب الإمبريالي وحلفائه من أنظمة الاستبداد التي همّشت شعوبها، ودفعت شبابها إلى اقتصاد الشارع، وقطاع الخدمات.
في المقابل، التحالف الدولي والثورة المضادة وسياسات اللبرلة الاقتصادية التي تنتهجها الأنظمة عوامل من شأنها أن تجيّش الشعوب العربية وتعبّئها من جديد، وتوسّع دائرة الاحتجاج، وتخلق نقمة وتململاً عند قطاعات وشرائح، لطالما كانت حيادية وصامتة. ولن يستمر خطاب التضليل والكذب إلى الأبد، وبالتالي، لن تصمت الشعوب عن القمع والتجويع مرة أخرى، لأنه سوف يزيد عدد الفقراء، مع إعادة إنتاج الأنظمة، ولن يكون أمامهم من خيارات إلا التظاهر والاحتجاج من جديد.
ليست الأسلحة ولا مليارات الدولارات ما تقرر مسار التاريخ، وإنما حركة الشعوب التي يمكن أن تعود الى الشارع، لتقول كفى، وتشل حركة الاقتصاد، وتطالب بالعدالة والحرية وبالمؤسسات الديمقراطية من دون تبعية.
ما زلنا في المرحلة الأولى من نضال طويل وشاق وصعب باتجاه التحرر من هيمنة وكلاء الغرب، أي أنظمة الاستبداد والثورات المضادة الذين أنيطت بهم مهمة الحفاظ على التخلّف والتجزئة والتفرقة والحروب الأهلية. وديناميكية الثورة الدائمة لا تتأتّى من صراع الشعوب ضد الأنظمة المستبدة، داخل كل بلد عربي، وإنما هي عالمية، تاريخية، وقومية، تتوسّل النضال من أجل نزع الاستعمار واقتلاع بنى التخلّف. هذا هو واقع العالم منذ 2008، حينما بدأت مؤشرات أزمة عميقة في الاقتصاد العالمي.
ما ينقص الشعوب، اليوم، هو التنظيم ووجود أحزاب حقيقية، ومثقفون يسعون إلى إيجاد بدائل اجتماعية ديمقراطية، من أجل الانتقال إلى مرحلة الثورة الاجتماعية التي يمكن أن تواكب الثورة السياسية. والقضية تعتمد على إمكانية إيجاد كتلة تاريخية، تصيغ برامج عمل واقعية، وتظهر الصراع على حقيقته، بحيث تشكل هيمنة نقيضة، سياسية وفكرية وثقافية، تطلق حركة الجماهير من جديد.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل في الوسع أن تتبلور هذه الكتلة التي تحمل مطالب الشعب، وتخوض النضال من أجل تحقيق مطالبه؟ هنا يكمن التحدي.
بقلم هيفاء أحمد الجندي، كاتبة يسارية
منشور في جريدة العربي الجديد في 30 أكتوبر 2014
اقرأ أيضا