ولادة الاتحاد المغربي للشغل(UMT): من ولادة عسيرة…إلى انحطاط بيروقراطي.
رغم ما حققه الاتحاد العام للنقابات الموحدة من جهود نضالية و توعوية للطبقة العاملة المغربية خلال الفترة الممتدة ما بين 1943 و 1954 ،فانه لم يستطع أن يتحول إلى نقابة مغربية مستقلة لأسباب ذاتية وموضوعية حيث مازال الحق النقابي للعمال المغاربة انداك مجرد وعد ،ولم يتحقق بعد في الفترة الاستعمارية رغم الصمود النضالي والكفاحي الدي عرفته نضالات الطبقة العاملة المغربية الناشئة خلال اواسط الثلاثينات خاصة مع موجة كبيرة من الاضرابات العمالية سنة 1936.كما ان الحركة العمالية المغربية خلال الاربعينات لعبت ادوار جد متقدمة تجاوزت في بعض الاحيان المدكرات الاصلاحية للحركة الوطنية البورجوازية المثمثلة في حزبي الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال ،بل تجاوزت حتى “الحزب الشيوعي المغربي ” ،الدي لم يلعب الدور المنوط له في تلك الفترة نتيجة التحام توجهاته الايديولوجية والتكتيكية مع الكومنترن “الاممية الثالثة ” المفلسة التي بدورها لم تلعب الادوار المهمة في السير بالشعوب المستعمرة نحو التحرر الوطني الشامل من قبضة الاستعمار والتوحش الرأسمالي .
إن الدراسات التاريخية للحركة العمالية المغربية لم تستحضر التأثيرات التي مارستها الطبقة العاملة على الحركة الوطنية البورجوازية ،فالحركة النقابية –العمالية- أرغمت الحركة الوطنية كما اثرت على الجماهير الشعبية في الحواضر و البوادي، خصوصا مع انسجام الطموحات الوطنية بالمطالب النقابية ،فهذا العامل اقلق الإقامة العامة التي أخذت ترى في ولوج الطبقة العاملة المعترك التحرري خطرا يداهمها خصوصا حينما قرر المناضلون الشيوعيون والاستقلاليون خلال الخمسينات التسريع بتأسيس المركزية النقابية المغربية المستقلة دون انتظار ظهير شريف يعترف بذلك.
فبعد مجهود كبير تمكن النقابيون منذ 1951 من أن يطرحوا بجدية ضرورة تأسيس الإطار النقابي الجديد غير أن أحداث 1953 الدموية الناتجة عن السخط الشعبي بعد نفي الملك محمد الخامس أجلت مرة أخرى ذلك المشروع الطموح دون آن يخرج إلى ارض الواقع وبعد صراع مرير وشاق مع المستعمر أنجبت سنة 1955 مولودا نقابيا اسمه “الاتحاد المغربي للشغل “/UMT، ويعتبر 20مارس1955 يوما عماليا بامتياز للمغاربة. إن هذا المولود النقابي الجديد، جاء نتيجة كفاح وطني قادته الطبقة العاملة المغربية التي استطاعت في ظرف وجيز أن تجمع كل المضطهدين من عمال و فلاحين فقراء بحيث وصل عدد أعضائه حسب عبد اللطيف المنوني إلى 300000 عضو في دجنبر 1955، لذلك سارعت النقابة الجديدة إلى تأسيس الجامعات النقابية والاتحادات المحلية.
وعلى العموم تمكنت الطبقة العاملة المغربية رفقة الحركة الوطنية وأعضاء المقاومة وجيش التحرير من نيل استقلال المغرب سنة 1956،بعد محادثات “ايكس ليبان” المشؤومة في غشت 1955 ،التي لم تعرف لا مشاركة التمثيلية العمالية و لا ممثلي أعضاء المقاومة جيش التحرير. فعناصر المقاومة وجيش التحرير رفضت بقوة النوايا “الفرنسية الجديدة”، ورفضت نزع السلاح حتى تحقيق التحرير الشامل للمغرب الكبير في إطار وحدته الاقتصادية والثقافية والجغرافية، إلا أن النظام الحاكم حسب وارتربوري Waterbury استعان بفرنسا العدو القديم/ الصديق الجديد “لحل” مشاكله السياسية والاقتصادية. فالنظام المغربي رفقة فرنسا واسبانيا، استطاع تقليم أظافر جيش التحرير بشتى الوسائل.
منذ الفترة الاستعمارية، انخرطت الطبقة العاملة في العمل النقابي، ومع نشأة الاتحاد المغربي للشغل، وبمساندة من حركة المقاومة وجيش التحرير، لكن العمل كان وفق خطة سياسية موحدة، اتجهت النقابة الأولى في المغرب إلى التعبير عن الاختيارات الجوهرية لضروريات التطور الحاصل للاقتصاد الاجتماعي. جعلت الحركة العمالية ومن خلال الاتحاد المغربي للشغل في سنوات الاستقلال تضع لنفسها أهداف سياسية كما يرى عبد اللطيف المنوني ، هو آمر طبع مسيرة هذه النقابة بضع سنوات فقط. أثمرت خلاله مكتسبات هامة، فقد خاض الاتحاد المغربي للشغل منذ نشأته عدة إضرابات سياسية خاصة في سنوات 1957 و1958، لقد كانت مطالب حركة الإضراب، تتمثل في التضامن مع الثورة الجزائرية، والمطالبة بطرد القواعد العسكرية الأجنبية من الأراضي المغربية. كما استطاع الاتحاد المغربي للشغل أن يرسم خطا كفاحيا مستقلا عن البرجوازية وبقايا “الاقطاع”، فهي تجربة تجاهلها الكثير من الدارسين لتاريخ الحركة النقابية لدوافع إيديولوجية محضة. وقد برز هذا التعارض السياسي بين اتحد العمال النقابي المتمثل في ا.م.ش واتحاد أرباب العمل “الاتحاد المغربي للتجارة الصناعة-” في المواقف التالية:
1- إصلاح صندوق المساعدات الاجتماعية C.A.C
2- تأميم استيراد السكر والشاي.
3- الموقف من السوق الأوربية.
وبموازاة الإضرابات العمالية السياسية ذات البعد التضامني، تمكن ا.م.ش/UMT من انتزاع عدة مكاسب اجتماعية، ظلت من أهم مكتسبات الطبقة العاملة في مغرب الاستقلال قبل أن يتم الإجهاز عليها من طرف أرباب العمل.
إن التنظيم النقابي بالمغرب شمل كل القطاعات بما في ذلك الرعاة وماسحي الأحذية، وانتقل عدد الفيدراليات النقابية من 14 فيدرالية سنة 1955، إلى 24 فيدرالية سنة 1959. كما تم تأسيس “الشبيبة العمالية المغربية” « La Jeunesse Ouvrière Marcaine » ، وكذلك ظهر المسرح النقابي، وانتعاش المدارس التكوينية لفائدة العمال والنقابيين . إنه حقا حسب الباحثين العصر الذهبي للحركة العمالية المغربية.
إن القوة التي عرفها الاتحاد المغربي للشغل والأوج الذي وصله، قد تراجع مع بداية الستينات من القرن الماضي، لأسباب متضافرة، لا يمكن حصرها في كتاب أو كتابين، فهي أسباب متعددة ذاتية وموضوعية. فالباحثون في ميدان سوسيولوجية الشغل، يرون أن التراجع أو “الجزر” الذي عرفته هذه النقابة، راجع بالأساس لانعدام تصور واضح لصالح الطبقة العاملة المغربية، تفتح آفاقا مستقبلية لنضال النقابي بالمغرب لتوازيه باستراتيجية تحويل اشتراكي للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. فغياب هذا النهج حسب المنوني عبد اللطيف، أفقد المضمون النقابي الحقيقي للاتحاد، مما فتح بابا لنمو” شريحة بيروقراطية في أجهزة النقابة”.
إن بعض الدارسين والمهتمين بالشأن العمالي بالمغرب، يعتبرون أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي يعتبر نفسه حزب الطبقة العاملة، جوابا –مشوها-للأداة الثورية العمالية. فرغم احتلال قادة الاتحاد المغربي للشغل لمواقع مهمة في الحزب، ورغم وجود الرغبة عند بعض القادة للحزب أمثال المهدي بن بركة، إلى تحويل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى “حزب ثوري منظم”، فإنه لم يتجاوز حدود حزب شعبي قريب إلى “قومية راديكالية” من الاشتراكي الثوري. فحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية حسب المهتمين بالشأن العمالي، فشل في صراعه ضد الجناح البيروقراطي للنقابة. لأن البرنامج السياسي للحزب تعارض مع النقابة المركزية والعكس صحيح فحينما بدأ الاتحاد المغربي للشغل في 1960، يطرح شعار “الاستقلالية النقابية” مع تنامي البيروقراطية النقابية ، أصبحت “الاستقلالية” تعني لدى المحجوب بن الصديق الكاتب العام للمركزية النقابية إ.م.ش/UMT، الابتعاد عن كل نضال سياسي والوقوف موقف “الحياد” إزاء الأحداث والوقائع، وبالتالي السقوط في “الاقتصادوية” حسب التعبير اللينيني في كتابه “ما العمل” ، لقد ظهر هذا النهج النقابي الضيق لدى الإقامة العامة للاتحاد المغربي للشغل، حينما تم إلغاء إضراب الموظفين المقرر تنظيمه يوم 19 يونيو 1961، إضافة عندما تم تعطيل مشروع بناء منظمة الفلاحين. إن هذه التراجعات لدى قيادة إ.م.ش تكشف عن الانحطاط والتعفن البيروقراطي حسب تعبير عمر بن جلون(كراس أمراء النزعة الانحرافية النقابية )، إن الأزمة لدى قيادة الاتحاد المغربي للشغل بدأت منذ 1959، نتيجة الأوضاع السياسية المشحونة التي عرفها مغرب الاستقلال الشكلي ، وهذا ما انعكس على مسار الحركة النقابية المتمثل في أكبر نقابة وطنية (UMT) وزاد الطين بلة مع بروز نقابة جديدة مدفوعة من طرف أعضاء حزب الاستقلال تحت اسم “الاتحاد العام للشغالين بالمغرب” الذي أفرزته الصراعات الحزبية في 20 مارس 1960، شكل هذا الحدث ضربة قاسية للوحدة النقابية، فالبعض من الباحثين يعتبرون تأسيسها (UGTM)، أول اختراق برجوازي لصفوف الطبقة العاملة. ويفسر بعض الباحثين ولادة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، إلى الصراع الحاد بين حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، هذا الاخير دفع بتأسيس UGTM، وتم اختيار “20 مارس” كدلالة تاريخية للاشتراك في الموروث النضالي الذي خاضته نقابة الاتحاد المغربي للشغل ضد المستعمر. فعندما أحس النظام الحاكم بقوة وتجدر النقابة العاملة انفرد بخلق أحزاب إدارية، لاحتواء شوكة النضال السياسي للحركة العمالية، وهذا ما جعل عبد الكريم الخطيب يؤسس نقابة “صورية” تحت اسم “اتحاد نقابة العمال الأحرار”/U.S.T.L سنة 1963، كما أقدم أحد المتحالفين مع السياسة الفرنسية وعملاء الفرنسيس امثال رضا كديرة، وبدعم من القصر على تأسيس نقابة أخرى صورية تحت “اسم الاتحاد النقابي للقوى العماليةUSFO ، قصد احتواء اي تحرك نقابي بالمغرب.
فالحكم المطلق أقحم القيادة النقابية للاتحاد المغربي للشغل في اللعبة السياسية للبرجوازية، وهذا ما فقد لدى المركزية الكفاحية النقابية وإفراغه من أي مضمون سياسي، فسياسة الاستسلام “التعاون الطبقي” بين النقابة وأرباب العمل انعكس على الطرح السياسي لـ إ.م.ش/UMT، فرغم كل محاولات تشتيت الطبقة العاملة بطرق مباشرة وغير مباشرة والعمل على عزلها في ما يقع داخليا ودوليا، فقد استطاعت النهوض النسبي في أواخر الستينات وبداية السبعينات، حيث شكلت سنة 1964، سنة عمالية بامتياز فموجة من الإضرابات اندلعت بالمقاولات والشركات، فمن إضرابات معامل السكر، إلى إضراب مستخدمي الطيران، والى إضراب البحارة بأسفي، ثم إضراب عمال شركة تكرير البترول لاسامير، ففي فاتح ماي 1964 رفعت فيها الطبقة العاملة شعارات، وأصدرت بيانات تنديدية ضد التوجه الإصلاحي ، والبيروقراطي المتعفن في قيادة الاتحاد المغربي للشغل، فقد تم فيه المطالبة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين دون قيد أو شرط، والتعبير عن التضامن اللامشروط مع الإضرابات الطلابية بالجامعة، في الوقت الذي ظل فيه المحجوب بن الصديق يخاف من غضب الطبقة العاملة، لذلك كثيرا ما تم عزل كل من يخالفه في المكاتب المحلية للنقابة، وبالتالي سارع إلى تهدئة ذلك الهيجان. ففي أكتوبر من سنة 1964 دخل عمال المحروقات لشركة لاسامير في إضراب عام شمل كل محطات الوقود، تجاوزت مطالبهم تحسين شروط العمل، إلى المطالبة بإحداث مكتب وطني للبترول، مع تأميم الشركات لوضع حد لامتيازات كبار المستثمرين. إن هذه الإضرابات العمالية بالمغرب، حسب الباحث السوسيولوجي عزيز خمليش، عبارة عن مقدمات أولية لاندلاع انتفاضة شعبية في 23 مارس 1965، التي فجرها التلاميذ والطلبة على إثر القرارات الوزارية في حق أبناء الطبقة العاملة المحرومين من حقهم في التعليم، فهذه الانتفاضة التي كتبت عنها مئات المقالات الصحفية المغربية والأجنبية، غالبا ما تستبعد الطبقة العاملة فيها، فالرواية الشفوية التي اعتمد عليها عزيز خمليش في دراساته “الانتفاضة الحضارية بالمغرب، دراسة ميدانية لحركتي مارس 1965 ويونيو 1981″ّ، تكشف لنا أن العمال انسجموا، والتحقوا بأبنائهم من تلاميذ وطلبة المنتفضين، لأن القرار الوزاري الذي يحرم كل من يبلغ سن السابعة عشر سنة في الالتحاق بالسلك الثانوي، فهو ضرب لحقوق أبناء الفقراء من العمال والفلاحين الصغار. إن قيادة الاتحاد المغربي للشغل “تحالفت” مع القصر في مجموعة من الوقائع والمواقف، فالتاريخ يذكر لنا انفراد القيادة النقابية في “محادثات إيفران” المشهورة حول الزيادة في التعويضات العائلية في القطاع الخاص، الذي لم يسفر عن أي نتيجة لصالح العمال، وإنما هي خطة لامتصاص غضب الجماهير، فمثل هذه الخطط الانتهازية تنبأ بها بن بركة حينما قال: “إن ما يخشاه النظام هو أن تصبح الطبقة العاملة، وهي مجندة في طليعة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنظمة في الاتحاد المغربي للشغل، الأداة الصالحة للتحقيق التحرر الاقتصادي والثورة الاجتماعية. هو لذلك يبدل قصارى الجهد لفصل النشاط النقابي العمالي عن حركة التحرر الوطني، بعد أن باءت محاولات تقسيم النقابات بالفشل” ، ودهب عمر بن جلون أكثر من دلك حينما عبر عن خيبة اماله واستخلص “أن الانحراف النقابي ليس وليد اليوم، أو وليد 1960 أو 1961، بل كانت هناك ظروف موضوعية وذاتية شجع عليها بعض “القادة” التي جعلت التنظيم النقابي يأخذ مسار الانحراف…”. إن شهيد الشعب المغربي عمر بن جلون انتقد بشدة في مجموعة من كتاباته انحرافية قيادة الاتحاد المغربي للشغل، حينما قال:” تحولت المنظمة العمالية التي كانت نموذجا في الحيوية داخل القارة الإفريقية إلى شبكة مكلفة بتنظيم حفلات فاتح ماي، الذي أصبح بمثابة عيد العرش للكاتب العام يسخر اتساعا وبهاءه قبل كل شيء للتأثير على المدعويين الأجانب ولضمان مكانة شخصيته في النقابة الدولية. أما الطبقة العاملة فما عليها إلا أن تفقد مكاسبها وتؤدي ثمن سياسية الإفلاس الاقتصادي التي ينهجه الحكم”.
إن تحليلنا التاريخي لمجموعة من الوقائع والأحداث العمالية، تبين بشكل ملموس أن الاتحاد المغربي للشغل منذ بداية الستينات وجدت نفسها في تبعية تامة إزاء الحكم سواء في تخصيص الإغراءات المالية للنقابة والنقابيين، فالوسائل المادية التي تقدمها الدولة كان من الممكن حسب بن جلون، أن لا يشكل لأي خطر، لولا العقلية البيروقراطية السائدة في الأجهزة النقابية، فتلك العقلية كانت قوية في سنة 1963 و1964، ويتجلى ذلك حينما قال المحجوب بن الصديق الكاتب العام للمركزية النقابية متحديا الجميع “من هو ضد القيادة، فهو ضد الطبقة العاملة” ، فهذا القول لا يخالف في شيء “الديكتاتورية الستالينية”، ولا يخالف كلمة لويس الرابع عشر الشهيرة حينما قال: “الدولة هي أنا”، فهذا ما يسميه عمر بن جلون في المغرب” بأمراء النزعة الإنحرافية العمالية”.
بقلم اكرويض الحسن: مقتطف من بحثه تحت عنوان”قضايا من تاريخ الحركة العمالية المغربية مابين 1920الى 1980″
اقرأ أيضا