اعتداءات 13 تشرين الثاني/نوفمبر بباريس: رعب الدولة الاسلامية، وحالة الطوارئ في فرنسا، ومسؤولياتنا
بقلم بيار روسيه وفرانسوا سابادو
التضامن مع الضحايا!
يشكل يوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر تغييرا في الوضع السياسي وطنيا وعالميا. ضرب تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) مرة أخرى؛ وبشكل أقوى أيضا. في يوم كانون الثاني/يناير، كان صحافيو شارلي إبدو، وعناصر البوليس واليهود هدفا للهجوم. في هذه المرة، كان المستهدف شباب البلد. لم يقتل المعتدون أي شخص كان وفي أي مكان كان: هاجموا الشباب، الشباب بجميع ألوانهم، بصرف النظر عن أصولهم، وأديانهم (أو انعدام دين)، وآرائهم السياسية. ما لا يقل عن 130 قتيل وأكثر من 350 جريح –وعلى أقل تقدير ألف شاهد مباشر على المذبحة. لدى كثير منا أقارب ضمن الضحايا، وإن لم يكن كذلك، لدينا رفاق لديهم أقارب ضمن الضحايا. موجة الصدمة والتأثر عميقة.
هدف مقاتلي الدولة الاسلامية غير مخفي: إحداث تصدع في المجتمع بواسطة الرعب. خلق وضع حيث تفرض حرب البعض ضد البعض الآخر نفسها؛ وحيث يقيم الخوف حواجز منيعة بين المواطنين، رجالا ونساء، وفق أصولهم ودياناتهم وأنماط حياتهم، وهوياتهم- وحفر هوة من دم وسط الدين الاسلامي بالذات، واجبار المتدينين على اختيار معسكر. من ليس معنا إلى حد المعاملة اللإنسانية فهو ضدنا، ومن ثمة يصبح هدفا «مشروعا».
كانت اعتداءات باريس من أكثر ما ارتكب بالعالم تضرجا بالدم، من قبل تنظيم الدولة الاسلامية وحركات أخرى مماثلة، تستند إلى نفس المنطق المدمر. تضامننا أممي، ويتجه بوجه خاص نحو من يحاربون ضد هذا التنظيم، رجالا ونساء، في بلدان أخرى، مجازفين بحياتهم، في سوريا والعراق، وفي لبنان وباماكو، وفي باكستان وتركيا… علينا أولا تأكيد تعاطفنا وتماهينا ومؤاخاتنا مع الضحايا، ومع أقربائهم.
في مثل هذه اللحظة، نواصل طبعا خوض الصراع الطبقي، ودعم نضال كل المضطهدين والمضطهدات؛ ولكن أبعد من ذلك، فنحن ندافع عن الانسانية ضد الهمجية. إن البعد الانساني للالتزام الثوري يظل بوصلتنا. تبدأ كل سياسة تقدمية بالسخط والعاطفة. لا نواجه التفكير بالبكاء! لا نتحدث لغة خشبية، ولا نكتب بقلم بارد! هنا والآن، لنعمل على مساعدة الضحايا وأقاربهم، ولنشارك في لحظات الحداد، ودقائق الصمت، وفي التظاهرات التضامنية. نحن في إطار هذه الحركة –لذلك بوسعنا شرح مواقفنا.
تنظيم الدولة الاسلامية مسؤول عن أفعاله مهما كان دور الامبريالية
على الثوريين رفض الهمجية الأصولية بصراحة وبقوة. يجب محاربتها –بأساليبنا، وفق توجهنا وليس تبعا لتوجه حُكَّامنا-، ولكن يجب هزمها بفعالية.
تحت تأثير الأحداث، استسلمت تنظيمات يسارية، وجمعيات ونقابات بوجه الدعوة إلى الوحدة الوطنية؛ وغيرها كرد فعل شددت على المسؤوليات السياسية والتاريخية الفعلية للغاية للرأسمالية الغربية إلى حد أن التنديد بتنظيم الدولة الاسلامية بات غير مسموع. وعلى مر الأيام، غالبا ما اتضحت المواقف المتخذة. ذلك أفضل بكثير. لكن لا زلنا نقرأ مقالات عديدة ترى أنه إن «لم يكن أي عذر» للاعتداءات، كان من اللازم بالمقام الأول اعتبار «السياق»- و يجري اختزال تحليل ذاك السياق أساسا في سرد أضرار الإمبريالية، ما قد يدفع إلى استنتاج أن الحركات الأصولية إنما تقوم برد فعل على عمل القوى العظمى، وإلى وجوب تمتيعها بظروف التخفيف. لابد من إزالة كل لبس حول هذا الموضوع.
وبصورة غريبة، تندد بشدة أقلام يسارية كثيرة بالاعتداءات الأصولية، ولكنها ترفض توجيه إدانة صريحة للحركات التي تقترفها وتمتنع عن ذكرها باسمها. والأغرب من ذلك أيضا، أن تنظيمات عديدة لا تتردد في فعل ذلك (تسمية المتهمين، توضيح طابعها الرجعي) دون استخلاص أية نتيجة عملية. وعند بلوغ المهام، تكف الإشارة إلى النضال ضد الارهاب وضد هذه الأصوليات ؛ ما يترك بالمناسبة لحكامنا احتكار أجوبة خاصة. نحن متفقون، بوجه عام، على مناهضة الأنظمة الامبريالية وحروبها، وضد عولمة رأسمالية مدمرة، وضد انعدام المساوات وأشكال الميز، وضد ايديولوجيا صدام الحضارات، وضد أشكال العنصرية–ضمنها كره الاسلام-، وضد إرث الماضي الاستعماري، وضد السياسات الأمنية وحالات الطوارئ، وضد نداءات الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي… أي أننا ضد أسباب معينة، ومن ثمة ضد نتائج ما نعاني من مآسي. لكن علينا أيضا محاربة تأثير تنظيم داعش (وغيره) في مجتمعاتنا الخاصة، والتضامن الفعلي مع المقاومات الشعبية في بلدان الجنوب الممزقة بالتعصب الديني –هذا هو الواجب الأممي! يوجد هنا «نطاق لا يبصر» لدى قسم كبير من اليسار الجذري، حتى غير الغارق في «نزعة معسكراتية» قاتلة. لذلك نولي أهمية لتك المسألة في اسهامنا.
لا يكتفي تنظيم الدولة الاسلامية، ونظائره، برد الفعل؛ بل يتصرفون وفق أجندة خاصة بهم. إنهم فاعلون سياسيون يسعون إلى تحقيق أهداف محددة. لا شك أن تنظيم داعش مسؤول فعليا عن اعتداءات باريس. لقد أسس هذا التنظيم دولة قيد النشوء على منطقة تعادل مساحة بريطانيا. ويسير إدارة ويراكم ثروات هائلة (تقدر بنحو 1.8 مليار دولار)، وينظم تهريب النفط والقطن. ويشن عمليات عسكرية على مسارح عمليات عديدة، كما جند مختصين رفيعي المستوى في مجال المعلوميات… هذا التنظيم ليس دمية! إنه مسؤول عن أفعاله- ومسؤول كليا عن الاعتداءات التي يقترفها بأماكن عديدة.
لا تسقط هذه المسؤولية الخاصة بسبب مسؤوليات الامبريالية، مهما كانت هذه الأخيرة جمة، ومنذ مدة طويلة: من اتفاقات سايكس بيكو في مطلع القرن العشرين إلى عمليات تدخل الدول الكبرى حاليا. غالبا ما يُعتقد أنه بدون تدخل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 في العراق (الذي زعزع استقرار المنطقة، وفكك دولا)، ما كان تنظيم داعش ليقوم. ذلك غير صحيح سوى في ما يتعلق بسياق معين أفضى إلى تشكيل تنظيم الدولة الاسلامية كما نعرفها. وإلا، فذلك خطأ. لا يترتب بروز القوى الجهادية آليا عن الهيمنة الامبريالية وحدها، إنه أيضا نتاج مركب لعوامل عديدة تتراوح بين افلاس اليسار العربي (والأوروبي) وبين رغبة برجوازيات المنطقة في ظهور قوى جديدة مناهضة للثورة لدعم طموحاتها الاقليمية أو محاربة الصعود الثوري في العالم العربي. وذلك صحيح أيضا فيما يتعلق بصعود الأصوليات الدينية في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك ببلدان لم تشهد أي حدث مماثل لحرب عام 2003، مثل الهند (اليمين المتطرف الهندوسي)، أو بورما (اليمين المتطرف البوذي) أو الولايات المتحدة الأمريكية (اليمين المتطرف المسيحي- قوي قبل عام 2011 بمدة طويلة وقريب جدا من بوش).
عودة إلى «صدام الهمجيات»
هناك مسؤولية امبريالية غربية، مثل غداة الحرب العالمية الأولى 1914-1918(معاهدة فرساي) في صعود الفاشية بألمانيا. لم يتجاهل مناهضو الفاشية في ذلك الوقت استحضار كل ذلك بانتظام. لكن بمجرد أن شهد الحزب النازي تصاعدا، جرى التنديد به ومحاربته بحد ذاته. ولقد شهد تنظيم داعش إقلاعه…
علينا مواصلة تفسير السياق، لكن يجب فهم تنظيم الدولة الاسلامية على ما هو عليه، وليس بوصفه مجرد ظل للغرب. إن الامبريالية المعاصرة والسياسات النيوليبرالية والعولمة الرأسمالية ومقاولات الاستعمار الجديد، وما لا نهاية من الحروب تمزق النسيج الاجتماعي لعدد متزايد من البلدان، ما أطلق عنان جميع أشكال الهمجية. لكن الأصوليات الدينية تتوفر هي أيضا على عوامل رهيبة لتفكيك مجتمعات برمتها. ليس ثمة والحالة هذه «همجية رئيسية» (من الغرب) يجب محاربتها اليوم و«همجية ثانوية» (تنظيم داعش وغيره) لا يجدر الاهتمام بها سوى في مستقبل غير محدد. والعكس صحيح أيضا: ينبغي ألا نتغاضى عن الهمجية الامبريالية وهمجية الديكتاتوريات «الحليفة»، بدعوى محاربة الهمجية الأصولية. لا تراتبية في الرعب. يجب الدفاع بنشاط ودون انتظار عن جميع ضحايا هذه الهمجيات المتماثلة، والتي تتغذى بعضا من بعض، وإلا قصرنا بواجبنا السياسي والانساني.
غالبا ما حظيت الأصوليات الدينية في بدايتها بدعم واشنطن باسم الجهاد ضد الاتحاد السوفييتي (في أفغانستان وباكستان…) قبل تأكيد استقلالها الذاتي، بل الانقلاب ضد عَرَّابها. هذه الحركات رجعية إلى حد كبير، ولا صلة لها بالنضال التقدمي. ليس ثمة «رجعية معادية للامبريالية»! إنها تسعى في الآن ذاته لفرض نموذج مجتمع رأسمالي وماضوي وشمولي بالمعنى القوي للكلمة. طبعا، جرى ضرب فرنسا بسبب سياستها في منطقة الشرق الأوسط أو تاريخها الاستعماري وتاريخها ما بعد الاستعمار. لكن حينما يقتل تنظيم داعش اليزيديين لأنهم يزيديون، وجر الناس إلى الرق، وبيع النساء، وزعزعة استقرار لبنان، ودفع أشكال العنف الطائفي (خاصة ضد الشيعة) إلى أقصى حدودها، ما العلاقة مع نضال مفترض ضد الامبريالية؟
لدى جميع الحركات الأصولية نفس الأسس ونفس الاستراتيجية. هل، بعضها، مثل تنظيم الدولة الاسلامية، فاشية؟ إنها لا تقيم نفس العلاقات (المعقدة) مع قطاعات برجوازية امبريالية كما في أوروبا خلال سنوات الثلاثينات، لكنها تعيد ربط هذه العلاقات مع قطاعات برجوازية «الدول الاقليمية» كما في الشرق الأوسط إيران والعربية السعودية وقطر وتركيا… إنها تستقطب «الغبار البشري» في مجتمعات منهارة وكذلك عناصر من «طبقات وسطى» و«برجوازية صغيرة» وأجراء متعلمين. إنها تستخدم الرعب «من أسفل» لفرض نظامها. تجرد الآخرين من انسانيتهم وتجعلهم أكباش فداء كما فعل سابقا النازيون مع اليهود أو الغجر أو المثليين جنسيا. وتستأصل جميع أشكال الديمقراطية والتنظيم الشعبية التقدمية. يؤدي الحماس الديني نفس وظيفة الحماس القومي في مرحلة ما بين الحربين الأولى والثانية وتمكنها، علاوة على ذلك، من الامتداد عالميا. سيكون من غير المألوف أن لا تؤدي الاضطرابات الناجمة عن العولمة الرأسمالية إلى أشكال فاشية جديدة، كما سيكون مذهلا أن تشبه هذه الأخيرة بدقة أشكال فاشية القرن الماضي. ثمة فرق قياسا بأشكال الفاشية الأوربية، إنه تداخل هذه الرجعية الأصولية الشمولية، مع أزمة تفكك الدول، وعلاقات الهيمنة الامبريالية الاقتصادية والعسكرية هي التي تحيط بالمنطقة. يجب أن يخاض النضال ضد الارهاب من قبل شعوب المنطقة، وليس من قبل تحالف دول غربية. إن تدخلا عسكريا جديدا من طرف الدول الامبريالية وروسيا، يحظى من جميع جوانبه، بدعم بلدان الخليج والدكتاتورية السورية، قد يضعف تنظيم داعش على المستوى العسكري، لكن لا يمكن إلا أن يثير رد فعل رافض من جميع الشعوب السُّنية بالمنطقة.
أزمة المجتمع في فرنسا
كانت اعتداءات فرنسا في 13 تشرين الثاني/نوفمبر في المقام الأول من ارتكاب فرنسيين أو فرنسيين بلجيكيين –تشكل فرنسا وبلجيكا أكبر بلدين مصدرين للمغادرين نحو سوريا. ليس ثمة ميزة خاصة وحيدة يتسم بها الأشخاص المنضمون إلى تنظيم الدولة الاسلامية. قد ينتمون لعائلات متدينة أو مسلمة علمانية أو غير مسلمة: إن عدد معتنقي الدين الاسلامي حديثا، وغير العرب، كثير جدا. وعلى النحو ذاته، قد يتحدرون من أوساط هشة أو مستقرة، أو هم من ذوي السوابق الاجرامية أو بدونها. في بعض الحالات، يشكل «تطرف» فرد نتيجة سيرورة طويلة؛ وبالنسبة لآخرين، يتعلق الأمر بانقلاب مفاجئ. وكما قد يكون متوقعا، يتحدر معظم الأشخاص الذين اقترفوا اعتداءات فرنسا من أوساط محرومة بوجه خاص، وعاشوا تجربة السجن وكانوا أفراد عصابات، لكن ليس كلهم. وبوجه تعدد الميزات الخاصة هذا، لا يمكننا الاكتفاء بتفسيرات بسيطة، اجتماعية (هشاشة، واضفاء طابع العنصرية على العلاقات الاجتماعية…) أو تاريخية (عواقب ما بعد الاستعمار) وحسب.
وبخلاف أشكال تجذر الشبيبة سابقا، تشكل هذه الشبيبة الحالية أقلية بالغة ولا تحمل نفس التطلعات الانسانية الفارطة. يقدم تنظيم الدولة الاسلامية ذاته في ابشع صوره: «تعالوا معنا لقطع الرؤوس». لقد مارس الجيش الفرنسي التعذيب على نطاق واسع، وخاصة خلال الحرب على الجزائر، لكن الحكومة وهيئة الأركان كانتا تنفيان بشدة جرائمهما: لا نداءات تقول: «انضموا إلى صفوف جيشكم العظيم، تعالوا معنا لممارسة التعذيب»! يقدم تنظيم داعش بجلاء خطابا قائما على كراهية الآخر وإقصائه (على غرار أشد تنظيمات اليمين المتطرف غلوا). ما من تشابه ممكن بين السفر إلى سوريا حاليا وتشكيل الألوية العالمية في الحرب الأهلية الاسبانية- أو تجذر سنوات الستينات.
ما من شيء عادي في كل ذلك ولا في اللجوء للرعب الجماهيري. ان الاعتقاد بأن من شأن الارهاب تشكيل سلاح «طبيعي» للمُضَّطهدين في حروب «غير متكافئة»، يعني تجاهل دروس نضالات التحرر الكبرى في القرن السابق، والحروب الثورية. في النضالات من أجل الاستقلال أو ضد الامبريالية، في الهند الصينية أو في أمريكا اللاتينية، كانت الهجمات الارهابية نادرة آنذاك وسرعان ما أدركت الحركات المعنية عموما أن الكلفة السياسية لمثل هذه العمليات كانت باهظة جدا- وكانت تطرح مشاكل أخلاقية عديدة. إن جبهة التحرير الوطني في الجزائر، التي كانت قد غامرت في هذا المجال، سرعان ما تراجعت تحت ضغط بعض قطاعاتها أو حركات التضامن مع استقلال الجزائر.
نعاني من العواقب الوخيمة «لأزمة الشأن السياسي» وتدمير كل ما يكتسي طابعا اجتماعيا في مجتمعاتنا النيوليبرالية وظلمها المتزايد، و ما تكبدته أجيالنا (الجذرية في سنوات 60-70) من هزيمة وعجز اليساريين في بلداننا عن تقديم أي بديل جذري وعن النضال وسط السكان المعرضين للهشاشة. ومن ثمة فنحن نثير مجالات لا تتقنها غالبيتنا: علم النفس الاجتماعي والعلاقة بين أشكال الهشاشة الهوياتية الفردية وبين انحلال النسيج الاجتماعي، ومطالب المراهقين. يقدم تنظيم الدولة الاسلامية وقاء هوياتيا والسلطة: سلطة التمثيلية وسلطة السلاح والسلطة على النساء، وسلطة الحياة والموت… إن الطابع الخاص لتنظيم الدولة الاسلامية أبعد ما يكون عن معاداة مفترضة للامبريالية.
تلك مسائل علينا ادراكها أكثر مما فعلنا حتى الآن؛ والتي بات بإمكاننا استنتاج بعض مستتبعاتها. إن النضال المعادي للعنصرية، مهما كان هاما، غير كاف. بوجه الفردانية النيوليبرالية وهويتها المجهولة(من يعرف جيرانه؟) يجب تشجيع الأماكن المشتركة وإعادة تشكيلها، وأماكن «العيش معا»، والاختلاط – واعادة تقديم تفكير عميق حول أخلاقية الالتزام والنضال.
في مثل هذه الحالة، تشكل أشكال العنصرية برمتها خطرا قاتلا، بما في ذلك عنصرية الدولة طبعا، على سبيل المثال لا الحصر. لنناضل ضد ما قد يذكي التوترات الطائفية، ويجعل المُضطهَدين يعارض بعضهم البعض، سواء كانت العنصرية ضد العرب أو السود، ومعاداة السامية أو معاداة الاسلام، والتمييز ضد الغجر…- ومن أجل ذلك، لنعزز ثقافة العيش معا، واحترام حقوق الكل نساء ورجالا.
مهامنا الأممية
عجلت الأحداث الأخيرة (13 تشرين الثاني/نوفمبر، وتفجير الطائرة المدنية الروسية في منطقة سيناء…) بتطور تحالفات كانت بالفعل قائمة سابقا، مع تشكيل ائتلاف كبير: اندماج روسيا، وتخلي فرنسا عن مزاعم استقلاليتها، وبروز مخاوف حتى في العربية السعودية حول انتشار تنظيم الدولة الاسلامية… وبالمقابل، تَعَزَّز نظام الأسد بينما هو مصدر الأزمة السورية ومتهم بالجرائم المعروفة. هل سيكفي ذلك للتوصل إلى عقد اتفاق مؤقت بين الدول الاقليمية المنتمية إلى ما يسمى «المعسكرين» السني والشيعي؟
من السابق لأوانه تحديد جميع مستتبعات هذا المنعطف في الوضع العالمي. لنشر حاليا إلى المسائل التالية:
ستُعقد التسويات بين الدول الغربية وتركيا أو نظام الأسد على حساب قوى في الميدان تستحق مزيدا من دعمنا: الأكراد واليزيديون، والمكونات التقدمية وغير الطائفية في المقاومة المضادة للنظام. يجب أن نقدم لهم تضامننا السياسي والمادي ونطالب بأن يحصلوا خاصة على سلاح ملائم- لم تستفد منه بأي وجه مكونات الجيش السوري الحر التقدمية (ورغم ذلك، فهي تقاوم!) والذي قد يُحرَّم منه الأكراد، بوجه خاص على الجبهة السورية. لا بد من الاقرار بأننا لم نقم بأي وجه في فرنسا، في هذا المجال، بما ينبغي علينا فعله.
إن اشتداد قصف قوات التحالف، مع ما يؤديه المدنيون من ثمن باهض، قد يعزز اهتمام مكونات اسلامية أخرى قائمة في سوريا بتنظيم داعش. النتيجة الجلية لهذه السياسية إذا ستكون تعزيز كلا من نظام الأسد والتنظيمات الأصولية (بدءا من تنظيم الدولة الاسلامية)! لتفادي هذا الفخ، يلزم القطع مع منطق الدول الكبرى: لنساعد القوى الشعبية في سوريا، والعراق على مواصلة قتالها بدل السعي إلى الحلول محلها، بل تهميشها أكثر من ذلك.
لنناضل والحالة هذه ضد سياسة حرب حكامنا، لكن لنفهم أيضا خصوصية هذا النزاع، المختلف جدا عن حروب الهند الصينية أو الجزائر: إن انسحاب القوات الفرنسية أو الأمريكية كان يعني آنذاك نهاية التدخلات الأجنبية وكان يخلق ظروف انتصار. ليس الحال كذلك اليوم في الشرق الأوسط: ستبقى تركيا وإيران (حزب الله) والعربية السعودية وقطر والجزائر ومصر… في وضع جيوسياسي معقد للغاية، يلزم الاصغاء إلى الحركات التي تحظى بدعمنا لأخذ ما تحتاجه ماديا وسياسيا بعين الاعتبار. يتوقف التقرير على الشعوب وليس على قوى التحالف الامبريالية. لكن، وهذا بُعد خاص لهذه الحرب، الأكراد كما الديموقراطيين السوريين طالبوا ويطالبون بمساعدة صحية وعسكرية، بما في ذلك من الحكومات الغربية. يجب منحهم ذلك. لا بديل عن قرار القوى الديموقراطية السورية والأكراد وعن تقرير مصيريهم، لكن لا تردد في مساعدتهم وفي الضغط على حكوماتنا لتلبية ما يطلقونه من نداءات.
على الصعيد العالمي، يجب التنديد بنفاق القوى الغربية: من جهة، تدعي محاربتها الارهاب، ومن جهة أخرى تدعم أنظمة مثل أنظمة قطر أو العربية السعودية أو تركيا.
لا يمت الائتلاف الذي يتشكل بصلة إلى تحالف «ديموقراطي» ضد تهديد شُمولي. وعلاوة على أنظمتنا الامبريالية «الكلاسيكية»، يضم الائتلاف روسيا بوتين، والعربية السعودية التي يقترب نظامها جدا من نموذج المجتمع الذي ينادي به تنظيم داعش، وقطر والتيوقراطية الايرانية، وتركيا أردوغان… أيا كانت طبيعة تنظيم الدولة الاسلامية، فإن كل مماثلة مع «جبهة ديموقراطية معادية للفاشية» غير صحيحة. نحن لسنا مع التحالف ولا مع تنظيم داعش ولا مع الأسد. نحن مع الحق في تقرير مصير الشعوب- ضمنها الشعب الفلسطيني-، ضد كل الهمجيات.
تحول الوضع وطنيا
كما في كانون الثاني/يناير الأخير بعد مقتل صحافيي مجلة شارلي إيبدو، وعناصر البوليس، والهجوم على متجر إيبير كاشير [1]، اجتاحت البلد مشاعر التأثر- وذلك أمر طبيعي تماما طبعا. تزايدت الممارسات المعادية للإسلام، لكنها نتيجة أقلية هامشية من السكان وحسب. وتضاعفت أيضا أعمال التضامن والضيافة: ابتسامة كبيرة في ميترو الأنفاق عند مصادفة مغاربي، لطف واضح (رغم أنه تصرف موجود أصلا) عند التنحي سماحا لامرأة محجبة بالمرور، واعادة احتلال أماكن الحفلات والاختلاط، ورفض أشكال الربط بين الاسلام والارهاب…. للأسف، جميع هذه المظاهر لم يجري تعدادها وغير مدرجة في الاحصاءات.
وكما في شهر كانون الثاني/يناير، أيضا، حظيت السياسات الأمنية بتأييد شعبي، ولاقت قوى الأمن استحسانا. لكن أكثر حتى مما حصل في كانون الثاني/يناير، اغتنمت الحكومة الفرصة لاتخاذ تدابير قاتلة للحريات. هكذا كان سابقا حال المصادقة على قانون الاستعلامات الذي يمنح صلاحيات واسعة للمخابرات السرية. وهذا هو الحال الآن مع تطبيق حالة الطوارئ، وتشديدها من قبل البرلمان، ودعوة حكومة فرنسا بأن يلاحق الاتحاد الأوروبي المسافرين على متن الطائرة لاسيما بتسجيلهم في قوائم، واعلان فرنسوا هولاند عن اصلاح دستوري.
تمتلك فرنسا بالفعل نظامين استثناءين، جرى اعتمادها خاصة بمناسبة الحرب على الجزائر: حالة الطوارئ (شبه أحكام عرفية تعفي قوات الأمن من الرقابة القضائية وتقيد الحريات) وحالة الحصار(أحكام عرفية متكاملة تخول جميع السلطات للجيش). لماذا ذلك لا يكفي حكامنا؟ لأن اللجوء إلى حالة الطوارئ، على سبيل المثال، محدود زمنيا ويتطلب تصويتا برلمانيا – صادق عليها والحالة هذه بالإجماع: حظيت حالة الطوارئ بدعم السواد الأعظم من الاشتراكيين والخُضر والنواب الشيوعيين. قد يتيح الاصلاح الدستوري للحكومة (أو للرئيس؟) اتخاذ تدابير استثنائية بحرية أكبر – وبالتالي جعل الاستثناء قاعدة في آخر المطاف: تدخل الجيش في الحفاظ على الأمن، وعمليات تفتيش تعسفية، واعتقالات «احتياطية»، ومنع التظاهرات أو الاضرابات، وفرض الرقابة على الصحافة، الخ. إن نص القانون الذي سيُعِدُّه هولاند غير معروف حتى الآن، لكن مراميه جلية. سيصبح النظام أكثر فأكثر استبدادا، وستحرز عسكرة المجتمع تقدما إلى أمام.
إن أشخاصا كُثر قلقون مما قد يحدث إن فازت مارين لوبين والجبهة الوطنية بالانتخابات (سيناريو ليس من قبيل الخيال السياسي)، لكنهم لا يتساءلون حول كيف سيتصرف هولاند وفالس وساركوزي وغيرهم في حالة انتصارهم. لذلك من المهم للغاية استحضار ما قامت به الحكومات «الجمهورية» سابقا – بما في ذلك التعذيب في الجزائر واقرار قانون عفو عام يمنع متابعة مرتكبيه (لا يمكن إلا اتهامهم بتمجيد التعذيب إن دافعوا بعد ذلك عن استخدامه)، وتجاهل وسائل الاعلام لمذبحة الجزائريين في باريس يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر عام 1961 (ارهاب دولة بامتياز)، وانقلاب الجنرالات بالجزائر العاصمة، وهجومات خادعة عديدة للمخابرات السرية، والهجوم على السفينة رينبو واريور التابعة لأسطول منظمة السلام الأخضر (مقتل شخص واحد، ارهاب دولة مرة أخرى)، واغتيال قادة الكاناك [سكان كاليدونيا الجديدة]، الخ. وفي الواقع، سيكون بوسع كافة القوانين الأمنية المعتمدة السماح لأية سلطة بشن حرب أهلية زاحفة عندما ستريد ذلك. وفي آخر المطاف، بغض النظر عن السير نحو تطبيق المقاربة الأمنية المطلقة، ثمة حسابات سياسية. يعتمد هولاند وفالس على الحالة الاستثنائية لاستخدام الترسانة البونابرتية مرة أخرى والارتقاء إلى حد ما، فوق الأحزاب والمؤسسات. إنها عملية تستهدف محو تأثير الحصيلة الكارثية للحكومات منذ عام 2012 وتُبشر الحزب الاشتراكي بتحقيق أفضل النتائج الانتخابية. ذلك رهان الاشخاص الأكثر مغامرة. بوسع هولاند وفالس اللعب على الورقة الأمنية، وبدعم من مؤسسات الجمهورية الخامسة، لكن في ظل الوضع السياسي الراهن حيث تهب الرياح السيئة نحو اليمين واليمين المتطرف، فهاتان القوتان هما من قد يستفيد من هذه المناورة.
كانت أشكال المقاومة الرافضة لتمديد حالة الطوارئ ضعيفة وسط اليسار البرلماني، لكن أكثر أهمية في الأسفل (وسط الحزب الشيوعي الفرنسي على سبيل المثال، ضد تصويت ممثليه) أو في الحركة الاجتماعية والنقابية: نقابة متضامنون، لكن أيضا الكونفدرالية العامة للشغل.
إن اللحظة السياسية الراهنة محفوفة بمخاطر كبيرة للغاية. باتت الديموقراطية السياسية مفرغة من محتواها، ولم يعد للمجالس المنتحبة تأثير على القرارات الرئيسية (المندرجة ضمن اختصاص الاتحاد الأوروبي، والمنظمة العالمية للتجارة، والاتفاقات المشتركة بين الحكومات…). إن الحريات المدنية، التي باتت تحت الضغط، هي التي قد تصبح حاليا قوقعة فارغة. تسعى الحكومة للتمكن من وضع المجتمع تحت الاقامة الاجبارية. لكن السكان غير واعين بذلك.
المهم ربط علاقات بين ميادين المقاومة، وابداء تضامننا مع ضحايا الارهاب، ومنح الوسائل المادية والسياسية والعسكرية للشعوب المناضلة من أجل الحرية لبقائها على قيد الحياة وانتصارها، ودعم القوى التقدمية وغير الطائفية المناضلة على أرض الواقع في الآن ذاته ضد الظلامية الدموية الارهابية لتنظيم داعش ولتنظيم الأسد الذي ساعد على انتشارها إلى حد كبير. والمهم أيضا التوقف عن خوض حروب وعن القيام بعمليات قصف، والتوقف عن دعم الأنظمة الاستبدادية وعن تشجيع أشكال الظلم الاجتماعية والسياسية في منطقة الشرق الاوسط وأماكن أخرى.
حالة القوى الديمقراطية بفرنسا كارثية إلى حد ما، لكن في هذه اللحظة الحاسمة، توجد مرتكزات المقاومة: في مشاعر التضامن المشتركة بين السكان، وفي رد فعل الشبيبة، وفي رفض عدد كبير من الجمعيات والنقابات قبول تدابير قاتلة للحريات، ونظام استثنائي دائم. ما يلزم لبناء جبهة موحدة دفاعا عن الحريات بفرنسا وخارجها، ودفاعا عن التضامن والعيش معا.
[1] نحيل إلى المقال الذي كنا قد كتبناه سابقا: بموقع أوروبا متضامنة. مقال رقم (34100)] موقع http://www.europe-solidaire.org/spip.php?article34100
تعريب المناضل-ة
اقرأ أيضا