المركزية الديمقراطية والمركزية البيروقراطية
يشكل التعارض في الآراء حول تحديد مضمون المركزية الديمقراطية أحد الشواهد على سذاجة الانتساب إلى “الماركسية- اللينينية” دونما تعريف دقيق بها، أي دونما الانتساب تحديدا إلى أحد “أصنافها”. هو ذا مفهوم يعد مفهوما أساسيا في النظرية اللينينية للتنظيم يتضارب حوله تفسيران تربط بينهما علاقة الأطروحة… بنقيضها! وطبعا، لا يخص هذا الواقع المركزية الديمقراطية دون سواها، بل ينطبق على جميع مفاهيم “اللينينية”، من مفهوم الحزب الثوري إلى مفهومي ديكتاتورية البروليتاريا والاشتراكية، مرورا بنظرية الثورة والموقف من التحالفات وهلمجرا. حتى أنه إذا صح قول الفيلسوف الفرنسي ديكارت “إن الإدراك السليم هو بين أمور الدنيا ما يتشارك فيه الناس أحسن تشارك”، فإن “اللينينية” حتما لا تدخل في نطاقه! قول أي طرف، اليوم، أنه يتبنى “الماركسية اللينينية” دونما اختيار بين تياراتها، كأنه يقول أن لا وضوح رؤية لديه بل ميوعة فكرية وبلبلة. لينين ذاته، لم يكتفِ بتبني “الماركسية” أو الفكر “الاشتراكي- الديمقراطي” بل شدد على ضرورة الاختيار، في هذا المجال، بين التيارين الأرثوذكسي والتحريفي القائمين في زمنه. ثم ما لبث أن شق مع ثوريين آخرين طريقا ثالثة تميزت عن ماركسية كاوتسكي “الارثوذكسية”، طريق الماركسية الثورية، الشيوعية، التي كان له الاسهام الأكبر في صياغتها فطغى عليها اسمه، اسم “اللينينية”. وهذه الأخيرة بدورها أصبحت موضوع تضارب في الأفكار، اتخذ شكل التناقض الحاد بين تياري الحركة الشيوعية الستاليني* والتروتسكي مع فارق هام بالنسبة لتياري الاشتراكية- الديمقراطية هو أن التيار التحريفي هذه المرة لم يعلن عن صفته هذه، بل تصارع التياران باسم الوفاء للتراث. غير أن الهوة بينهما لم تكن أضيق لهذا السبب، بل أوسع وأعمق، إلى حد أن الذي يدعي الماركسية- اللينينية في أيامنا مع “رفض التروتسكية والستالينية سواء”- وهو موقف شائع غالبا ما ينم عن تركيب بين الاشمئزاز من الستالينية والخوف من التروتسكية (الشبح)- إن الذي يدعي ذلك هو كمن يجلس بين كرسيين، أي على الفراغ! أو أنه يدعي “شق طريق ثالثة”، أي وضع تفسير كامل جديد للماركسية- اللينينية بعد أن دارت جدالات حولها طوال أكثر من نصف قرن…. رحم الله نرجس! وعلى كل، إذا كان ثمة من يرشح نفسه لأن يكون “لينين عصره” (كما يقولون بالعامية “أفلاطون زمانه”، ساخرين)، فليتذكر أن لينين شق طريقه من ضمن خيار مسبق ولم يخلق شيئا من العدم.
أم أن اعتبر أحد أن الخلاف بين الستالينية والتروتسكية هو بمثابة جدال حول جنس الملائكة أو محاولة “شق الشعرة” بالطول، كما يقول الانكليز، فها هو الخلاف حول مضمون المركزية الديمقراطية يشكل برهانا ساطعا على أن الجدال بين تياري الحركة الشيوعية العالمية له عواقب ملموسة، وأية عواقب! إن الفرق بين فهم الأممية الرابعة وممارستها للمركزية الديمقراطية اللينينية، من جهة، وفهمها وممارستها من قبل الستالينية، من الجهة الأخرى، ليس فرقا بين طبعتين لكتاب واحد صدرتا عن دارين مختلفين، بل فرق بين كتابين يختلفان اختلافا كاملا لكنهما يحملان عنوانا واحدا. إنه الفرق بين المركزية الديمقراطية والمركزية البيروقراطية.
والحال أن النسخة السائدة فكرا وممارسة هي النسخة الأخيرة، خاصة في مناطقنا المتخلفة حيث دخلت الماركسية- اللينينية وراجت أصلا بصيغتها الستالينية، فلم تتعرف غالبية المناضلين العظمى على سواها واعتقدوا بالتالي أنها الأصيلة تماما مثلما ظن المقيدون في كهف أفلاطون أن الخيالات على الجدار المقابل لهم هي الحقائق الأصلية، وهم يديرون ظهورهم للأصول. تعتقد غالبية “الماركسيين- اللينينيين” في مناطقنا وفي العالم أجمع أن منع الاتجاهات داخل الحزب هو من أصول “اللينينية” وأن الإقرار بحق تشكيلها ضرب من “الانحراف التروتسكي البرجوازي الصغير” الذي هو، كما يدري الجميع، “سلاح العداء للشيوعية” و”ألد أعداء اللينينية”. وكيف لا يروج هذا الاعتقاد فيما دار التقدم ودار الفارابي وغيرها من وكالات نوفوستي تطبع الآلاف تلو الآلاف من المقالات والكراريس والكتيبات والكتب والموسوعات، كل سنة، لتلقح قواعدها ضد خطر “التروتسكية” و”تثقفها” بتراثها التجهيلي! ألم نجد مثلا في صحافة الأحزاب الشيوعية الاصلاحية، في مارس ١٩٧١، صفحات وصفحات تشيد بالذكرى الخمسين لمنع التكتلات في الحزب الشيوعي البلشفي في روسيا (المؤتمر العاشر- مارس ١٩٢١)؟ تصوروا! يشيدون بذكرى منع التكتلات، وكأنها مناسبة يغتبط بها! ولا يضاهي غبطتهم في هذه الذكرى سوى كآبة البلاشفة عندما اضطروا قبل سبعة وخمسين عاما ليصوتوا على منع التكتلات بعد أملت صعوبة الظروف هذا القرار عليهم…
إن حق الاتجاهات هو لب المركزية الديمقراطية. فلا بد من أن نوضح بعض الحقائق في صدد قرار منع التكتلات الذي صدر عن مؤتمر الحزب البلشفي سنة ١٩٢١.
أولا، هل يعي الذين يعتبرون أن ذلك القرار مبدأ أساسي من مبادئ “اللينينية” أن موقفهم هذا يؤول إلى القول أن الحزب البلشفي، بين ١٩٠٣ و١٩٢١، بما فيها سنوات النضال ضد القيصرية ودور الحزب في ثورة عام ١٩١٧وإرسائه أسس ديكتاتورية البروليتاريا في الاتحاد السوفياتي، أن الأعوام الـ ١٨ هذه هي الاستثناء وأن ما سرى في السنتين الأخيرتين من حياة لينين السياسية بين ١٩٢١ و١٩٢٣ هو القاعدة!؟ فهل من يستطيع أن ينكر أن تاريخ البلشفية حتى سنة ١٩٢١ كانت التكتلات عنصرا أساسيا من عناصره؟ أفليس البلاشفة أنفسهم بالأصل تكتلا؟ أوليس لينين ذاته أنشط التكتليين؟؟ البلاشفة هم أحد اتجاهي الحزب العمالي الاشتراكي- الديمقراطي في روسيا اللذين تحولا إلى تكتلين علنيين سنة ١٩٠٤ (كونفرنس التجمعات البلشفية في جنيف). سنة بعد ظهورهما في المؤتمر الثاني للحزب (مؤتمر بروكسل – ١٩٠٣)، ثم توحدا مجددا في المؤتمر الرابع (ستوكهولم- ١٩٠٦) وكان البلاشفة فيه أقلية ثم عادوا أكثرية في المؤتمر الخامس (لندن- ١٩٠٧). في سنة ١٩٠٧، في الكونفرونس الثالث، صوت لينين وحده بين البلاشفة مع المناشفة ضد جميع البلاشفة الآخرين حول مسألة مقاطعة الانتخابات للدوما (البرلمان القيصري) الثالثة التي حاول البلاشفة جر الحزب الحزب إليها. بعد ذلك، ظهر بين البلاشفة تكتل جديد، تكتل “القصويين” و”الاتزوفيين” ما لبث أن انفصل عن التكتل الأكبر سنة ١٩٠٩. وهذا وفي السنة ذاتها، أصبح لينين في أقلية بين البلاشفة الذين مالت غالبيتهم إلى التوفيقيين (دعاة وحدة الحزب بجميع تكتلاته، وقد تزعم الدعوة التوفيقية تروتسكي الذي نشط في تكتل مستقل عن البلاشفة والمناشفة). فبلغ جو الوحدة في الحزب أوجه سنة ١٩١٠ إلى حد أن صحيفتي التكتلين الكبيرين اندمجتا في صحيفة واحدة، صحيفة “الاشتراكي- الديمقراطي” التي ضمت هيئة تحريرها لينين وزينوفييف… ودان ومارتوف! غير أن الألفة لم تعمر، وفي عام ١٩١٢ حسم الانشقاق نهائيا بين البلاشفة والمناشفة (بعد أن انفصل بليخانوف عن هؤلاء وتعاون لمدة سنة مع البلاشفة على رأس تكتله الخاص الذي نشأ بين المناشفة سنة ١٩٠٨). بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٤ وإثر القمع الذي انهال عليهم، تضعضع البلاشفة ولم يعيدوا تنظيم صفوفهم إلا بدءا من عام ١٩١٦. أما صراع تكتل لينين ضد “البلاشفة القدامى” طوال الأشهر الممتدة بين ثورتي فبراير وأكتوبر ١٩١٧، فليس من يجهل به. وقد وصل هذا الصراع إلى حافة الانشقاق، سيما وأن “البلاشفة القدامى” (أشهرهم زينوفييف وكامينيف) تعاونوا مع فئات من خارج الحزب ونشروا آراءهم في غير صحافة الحزب. أما بعد الثورة، فدارت مناقشة هامة حول صلح برست- ليتوفسك بين لينين وأنصاره من جهة وتكتل “الشيوعيين اليساريين” (أشهر أعضائه بوخارين) من الجهة الأخرى، وقد انضم تروتسكي وأنصاره إلى رأي لينين بعد أن وقفوا لوهلة أولى موقفا وسطيا، الأمر الذي سمح لرأي لينين بالانتصار. كان ذلك في فبراير- مارس ١٩١٨. وقد دارت بعدئذ مناقشة حول سياسة الحزب في الشؤون العسكرية بين أكثرية تبنت أطروحات تروتسكي في هذا الموضوع وأقلية رأت أن يقتصر التنظيم العسكري على الميليشيات ووحدات الأنصار. اما في سنة ١٩٢٠، فقد انقسم الحزب إلى اتجاهات وتكتلات شتى تحت ضغط ظروف كانت تزداد صعوبتها باستمرار: دارت المناقشة حول المسألة النقابية بين اتجاهين وتكتل ثالث، اتجاه الأكثرية بزعامة لينين واتجاه تروتسكي- بوخارين وتكتل “المعارضة العمالية” بزعامة شليابنيكوف وكولونتاي. كما تشكل تكتل آخر حول الوضع العام في الحزب والدولة هو تكتل “المركزية الديمقراطية” (بزعامة سابرونوف وسميرنوف). ولما أخذ هذا الوضع يهدد وحدة الحزب وبالتالي مصير السلطة البلشفية التي وقفت آنذاك على كف عفريت، قرر المؤتمر العاشر للحزب المنعقد في مارس ١٩٢١ منع النقاش في تكتلات حفاظا على وحدة الحزب في مرحلة عصيبة.
ثانيا، ليس لقرار منع التكتلات الذي تبناه المؤتمر العاشر بأكثرية ساحقة أي طابع مبدئي، بل هو ظرفي مئة بالمئة كما يتبين من أبسط قراءة له. يبدأ هذا القرار (المنشور في مختارات لينين باللغة العربية الصادرة عن دار التقدم- موسكو، المجلد ٣، الجزء ٢، ص. ٢١٧- ٢٢١) على الوجه التالي:
“يلفت المؤتمر انتباه جميع أعضاء الحزب إلى أن تحقيق الوحدة واللحمة في صفوف الحزب، وإشاعة الثقة التامة بين أعضائه، وتأمين حسن تفاهم حقيقي في العمل يجسد فعلا وحدة إرادة طليعة البروليتاريا، إلى أن كل هذا ضروري جدا في الظرف الراهن، إذ تشدد جملة من الظروف الترددات بين السكان البرجوازيين الصغار في البلاد”.
وبعد أن يصف القرار الوضع التكتيلي في الحزب وخطورته على ضوء “المحاولات المتكررة التي يقوم بها أعداء الحزب”، ينتقل إل تخصيص فقرة لشرح مناورات الثورة المضادة، لا سيما، “فتنة كرونشتادت”. ويتابع الشرح في الفقرة اللاحقة مشيرا إلى أن الأعداء “يبذلون الآن جميع جهودهم لاستغلال الخلافات في داخل الحزب الشيوعي الروسي”. فإن منع التكتلات داخل الحزب لا يعدو كونه، آنذاك، قرارا استثنائيا فرضته ظروف استثنائية بعد أن كان الحزب، منذ نشأته كتكتل سنة ١٩٠٣ حتى المؤتمر العاشر في ١٩٢١، حزبا مبنيا على صراعات التكتلات- منها ما تطور إلى انشقاق ومنها ما لم يتخط حدود الحزب فما لبث أن ذاب بعد أن زالت أسبابه. وفي مطلق الأحوال، أي حتى لو كان قرار المؤتمر العاشر مبدأ بذاته في نظر الذين صاغوه والذين تبنوه (والحال أن جميعهم رأي فيه إجراءا استثنائيا)، فأيهما أكثر “لينينة” وأيهما نتبع: نظام البلشفية في سنوات نضالها المجيد ضد الحكم القيصري وقيادتها لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وتأسيسها لأول ديكتاتورية بروليتارية في التاريخ، كل ذلك تحت قيادة لينين، أو نظام الحزب البلشفي في السنتين الأخيرتين من حياة لينين السياسية، في مرحلة بدأ فيها الانحطاط البيروقراطي للثورة الذي كتب عنه لينين كتابات عديدة يحذر منه ويدعو إلى مقاومته. ان الاختيار بين ذينك النظامين يتوقف على غاية صاحبه الحقيقية: أيسعى لبناء حزب ثوري يا ترى، أو يسعى لمنع أية معارضة في حزبه؟ هو ذا جوهر الخيار.
نقول هذا ونرجو ألا يستنتج منه أحد أن الحزب البلشفي تحول بين ليلة وضحاها، بعد المؤتمر العاشر، إلى حزب بيروقراطي لا مناقشة حقيقية فيه. بالعكس، فبالرغم من قرار المنع- الذي رأينا الظروف التي أملته- شهد الحزب مناقشات عديدة، لا بل تكتلات عديدة قبل أن يسدل الانحطاط البيروقراطي الناجز ستاره الحديدي على أي نقاش وأية معارضة، في الثلاثينات. فقد استمر تكتل “المعارضة العمالية بالرغم من قرار ١٩٢١، وفي عام ١٩٢٢ شكر لينين نفسه تكتلا جديدا مع تروتسكي حول مسألتي التجارة الخارجية والقوميات كما تثبته بصورة قاطعة رسائله الأخيرة التي لم تنشرها موسكو إلا سنة ١٩٧٠، أي ٤٦ عاما بعد وفاة مؤسس البلشفية (أنظر مؤلفات لينين باللغتين الانكليزية والفرنسية، المجلد ٤٥). وفي ٥ ديسمبر ١٩٢٣، صوت المكتب السياسي بالاجماع على قرار استوحى من توصيات لينين وجاء فيه: “ينبغي على الحزب أن يقوم بتعديل جدي لسياسته في اتجاه تطبيق صارم ومنهجي للديمقراطية العمالية” التي “تقتضي بالنسبة لجميع الرفاق حرية تفحص مسائل الحزب الرئيسية ومناقشتها علنيا، كما تقتضي انتخاب الموظفين والهيئات من القاعدة إلى القمة” (عن كتاب “الحزب البلشفي”، تأليف بيار بروويه). وفي العام ذاته، أسس تروتسكي المعارضة اليسارية بينما تكتل ضده سائر أعضاء المكتب السياسي. وفي سنة ١٩٢٥، فرط التكتل بين ستالين وزينوفييف وكامينيف، فانضم الأخيران إلى المعارضة مع تروتسكي (١٩٢٦) بينما بدأ تكتل ستالين- بوخارين (كان هذا الأخير يمثل الاتجاه اليميني في الحزب) يلجأ تدريجيا إلى اجراءات قمعية ضد المعارضين. وفي نهاية سنة ١٩٢٧، طرد أعضاء المعارضة من الحزب. وفي يناير السنة التالية، نفي تروتسكي والمعارضون المتصلبون إلى سيبيريا (كان مصير تروتسكي أن نفي مرتين إلى سيبيريا، مرة من قبل الثورة المضادة في ١٩٠٦ ومرة من قبل الثورة المنحطة في ١٩٢٨). وبالرغم من ذلك، شهد الحزب بعض المناقشات بين الاتجاه اليميني والوسط البيروقراطي بعد أن أقصي اليسار. غير أن القمع الستاليني اشتد تدريجيا حتى بلغ ذروته في محاكمات موسكو بدءا من عام ١٩٣٦: على ثلاث دفعات، مر جميع البلاشفة القدامى البارزين عدا ستالين طبعا وعدا تروتسكي الذي كان من حظه أن نفي إلى خارج الاتحاد السوفياتي سنة ١٩٢٩، مروا جميعا أمام محكمة صورية بعد أن اضطرت غالبيتهم العظمى تحت ضغط التعذيب الجسدي والنفسي إلى الإدلاء بـ”اعترافات” خرافية خارقة مثل العمالة والتجسس والإرهاب بالارتباط بالامبريالية وبالفاشية (كذا!)، وأعدموا. ومثلهم أعدم رسميا وغير رسميا آلاف عديدة من المناضلين المخلصين الذين كان “ذنبهم” الوحيد أن عارضوا القائد العظيم، أب الشعوب، ستالين، أو أحد أزلامه…. كانت تلك المأساة التي سوف تبقى أبشع فصول تاريخ الشيوعية وأحد أبشع فصول تاريخ البشرية عموما، كانت القضاء النهائي على آخر ما تبقى من الإرث اللينيني في الحزب البلشفي، قضاء نهائيا على المركزية الديمقراطية التي غدت مركزية بيروقراطية لا بل… ديكتاتورية بوليسية!
خلاصة القول بالنسبة للتكتلات، وبصرف النظر عن صحة منعها الاستثنائي في ١٩٢١ أو عدم صحته، إن منعها المستمر يشكل دون ريب مدخلا ملائما للانحطاط البيروقراطي كما أثبتته التجربة التاريخية اثباتا حاسما. فكما كتب تروتسكي سنة ١٩٢٣: “إذا أردنا ألا تكون ثمة تكتلات، يجب ألا تكون ثمة تجمعات دائمة. وإذا أردنا ألا تكون ثمة تجمعات دائمة، يجب أن نتجنب التجمعات المؤقتة. أخيرا، لكي لا تكون ثمة تجمعات مؤقتة، يجب ألا تكون ثمة خلافات في الآراء، لأنه حيثما يوجد رأيان، يتجمع الناس حتما وفقا لهما…” (“في النهج الجديد”). وكم كان تروتسكي بعيدا أن عن أن يتصور، عند كتابة هذه الأسطر، إلى أي حد سيتحقق هذا التدرج في القضاء على المعارضة الذي وصفه! وبالرغم من أنه يبرر قرار المؤتمر العاشر (وقد كان بين الذين أيدوه) فإنه يشدد على أن ذلك القرار كان في قصد الذين أقروه قرارا مؤقتا مرهونا بالظروف العامة والحزبية. وقد ناضل بدءا من عام ١٩٢٣ في سبيل إعادة المركزية الديمقراطية اللينينية في الحزب بما في ذلك رفع حظر التكتلات. وهو يكتب في النص ذاته: “كما تثبته التجربة والادراك السياسي السليم، فإنه من البديهي أن منع التكتلات وحده (من قبل المؤتمر العاشر) لم يحمل أي ضمانة مطلقة ولا حتى جدية ضد ظهور تجمعات جديدة ايديولوجية وعضوية. إن الضمانة الأساسية، في هذا الصدد، هي قيادة صحيحة والاهتمام المولى للحاجات الراهنة التي تنعكس في الحزب، ومرونة الجهاز، الذي ينبغي عليه، لا أن يشل، بل أن ينظم مبادرة الحزب، وألا يخشى النقد وألا يحاول تجميده باللجوء إلى فزاعة التكتلات”.
إن التكتلات ليست سوى نتائج طبيعية أو مرضية لانعكاس الظروف الاجتماعية والسياسية العامة داخل الحزب. إن منعها بالتالي إما أن يكون قسريا فيلجأ إلى قمع وإرهاب يمارسها “الجهاز”- وهي حال الأحزاب الستالينية- أو يكون تشجيعا للانشقاق. إن المعالجة الصحيحة لمسألة التكتلات ليست في حظرها بل في احترام حقوقها الديمقراطية بما يسمح بمطالبتها باحترام المركزية أي قرارات الأكثرية. إن معالجتها السليمة هي في اقناعها، اقناعا، بضرورة الحفاظ على وحدة الحزب. أما إذا كانت الخلافات أعمق من أن تتحمل التعايش في حزب واحد، فعلى الوحدة السلام! إن اللينينية أيضا تراث انشقاقي!…
أخيرا، إذا بات من يعتبر أن منع التكتلات حديث شريف لا يجوز التشكيك بجدواه لجميع المؤمنين في كل زمان ومكان، يبقى أن المؤتمر العاشر، في مطلق الأحوال، لم يمنع الاتجاهات! والحال أن جميع الستالينيين لا يعتبرون حظر التكتلات وحده “لينينيا”، بل أيضا منع الاتجاهات. أما دحض هذا الزعم الأخير، فسهل جدا.
إن قرار ١٩٢١ لم ينص سوى على منع التكتلات وقد وصفها بأنها “كتل لها مناهجها الخاصة وميل إلى الانكماش في نفسها إلى حد ما وإلى إنشاء انضباطها الكتلوي الخاص”. إن “الانكماش على النفس” و”الانضباط الكتلوي” هما الميزتان الرئيسيتان للتكتل الذي هو نوع من التنظيم داخل التنظيم. أما الاتجاه، فهو تجمع مؤقت (غالبا ما يحصل في مرحلة التحضير لمؤتمر أو خلال المؤتمر) لحزبيين يلتقون على موقف موحد من مسألة أو أكثر، ليخوضوا سوية النقاش داخل الحزب في محاولتهم لإقناع أكثرية الأعضاء. وخلافا للتكتل، ليس أعضاء الاتجاه ملزمين بأي انضباط في التصويت ولا تربطهم سوى مواقعهم المشتركة حول مسائل محددة بينما يتبنى التكتل مواقعا موحدة من جميع المسائل يدافع عنها أعضاؤه حتى في حال عدم موافقتهم على أحد المواقف.
ليس ان المؤتمر العاشر لم يمنع الاتجاهات فحسب، بل رفض منعها أو الانتقاص من حقوقها، رفضا صريحا. فقد صوت المؤتمر ضد مشروع تعديل على قرار منع التكتلات اقتراحه ريازانوف يقضي بأن يمنع تشكل لوائح مرشحين إلى الانتخابات الحزبية بناء على المناهج، أي تقدم الاتجاهات إلى الانتخابات بلوائح خاصة بها. وقد تدخل لينين ضد اقتراح ريازانوف قائلا: “أظن أن أمنية الرفيق ريازانوف هي للأسف غير قابلة للتحقيق. فنحن لا نستطيع أن نحرم الحزب واعضاء اللجنة المركزية من حق الاحتكام إلى الحزب إذا أثارت مسألة أساسية خلافات. لا أرى كيف نستطيع ذلك! إلى المؤتمر الحالي لا يستطيع أن يفرض شروطا على الانتخابات في المؤتمر المقبل: فلو انطرحت مثلا، مسألة كمسألة صلح برست- ليتوفسك؟ هل تضمنون أن مسائل مثل تلك لا تستطيع أن تنطرح؟ لا يسعنا الجزم في ذلك. فقد يلزم عند ذاك التصويت وفقا لمناهج (…) إن قراركم يؤكد: لا انتخابات وفقا لمناهج. أظن أننا لا يسعنا أن نمنعها. إذا أدى قرارنا حول الوحدة وأيضا، بالطبع، مجرى الثورة، إلى توحيدنا، فإن الانتخابات وفقا لمناهج لن تتكرر. ولن ينسى الدرس الذي تلقيناه في هذا المؤتمر. اما إذا أثارت الظروف خلافات أساسية، فهل يمكن منع عرضها على الحزب بأكمله ليحكم فيها؟ كلا. إنها امنية مغالية، غير قابلة للتحقيق، وأقترح رفضها”. (لينين، المؤلفات، المجلد ٣٢، ص. ٢٧٤).
هذه المداخلة للينين في المؤتمر العاشر- التي لم تتفضل دار التقدم بترجمتها إلى العربية مع نصوص المؤتمر العاشر الأخرى التي نشرتها في المجلد ٣، الجزء ٢، لمختارات لينين- لا تؤكد حرصه على حق الاتجاهات فحسب، بل تثبت ما ذكرناه آنفا عن الطابع الاستثنائي لمنع التكتلات: يقول لينين “إذا أدى قرارنا حول الوحدة… إلى توحيدنا” (أي أنه لا يجزم في أن التكتلات ستذوب فعلا)، ثم يتابع “أما إذا أثارت الظروف خلافات أساسية…” (أي أنه لم يعتقد قط أن منع التكتلات يستطيع بذاته الحؤول دون خلافات أساسية في المستقبل).
كلمة الجزم في هذا الموضوع للأممية الشيوعية، وهي المرجع الأعلى. والحال أن المؤتمر الثالث للأممية الذي انعقد في يونيو ١٩٢١، أي بعد المؤتمر العاشر للحزب البلشفي بثلاثة أشهر فقط، تبنى قرارا طويلا بعنوان “أطروحات حول بنية الأحزاب الشيوعية وأساليبها ونشاطها” لم ينص قط على منع التكتلات. فلو كان المنع هذا “مبدأ لينينيا” لكان حريا بذلك المؤتمر الذي ترأسه لينين بنفسه، أن يدرج هذا المبدأ في قرار حول بنية الأحزاب الشيوعية يستند إلى التجربة البلشفية. وهذا القرار بالذات يؤكد على ضرورة تمثيل الاتجاهات الهامة في قيادة الحزب، لا بل هو مصاغ توكيدا على قاعدة متبعة في بعض الأحزاب ليس في انتخاب المندوبين إلى المؤتمر فحسب (هذا أضعف الإيمان في الديمقراطية الحزبية!) بل في انتخاب الهيئات القيادية. يقول القرار (البند ٤٧): يجب ألا تقمع الآراء التكتيكية المختلفة ذات الطابع الجدي في الانتخابات إلى القيادة المركزية. بل على العكس، يجب العمل من أجل تمثيلها في اللجنة القيادية (أي اللجنة المركزية) من قبل أفضل المدافعين عنها. بيد أنه ينبغي أن تكون القيادة الضيقة (أي المكتب السياسي) منسجمة في مفاهيمها ولكي تكون واثقة وحازمة، يجب ألا تستند إلى سلطتها الخاصة فحسب، بل أيضا، إلى أكثرية متينة، جلية وعديدة، في اللجنة القيادية بمجملها”.
إن التوضيحات الواردة أعلاه بصدد مسألة التكتلات والاتجاهات لكفيلة بأن تظهر للقارئ الذي لم يتح له التعرف على غير المفهوم الستاليني للمركزية الديمقراطية (الديمقراطية بالاسم والبيروقراطية بالفعل)، كم عظيمة هي المسافة التي تفصل بين ذاك المفهوم- التشويه والمفهوم اللينيني الأصلي. وهذا لا ينطبق على موضوع المركزية الديمقراطية وحسب، كما سبق وذكرنا في بداية مقالنا، بل يصح بالنسبة لمعظم مفاهيم مفاهيم الماركسية واللينينة. أما التروتسكية- وهو الاسم الذي درج على نهج الأممية الرابعة- فقبل أن تكون إسهاما خاصا لتروتسكي وللأممية وتطويرا خلاقا للماركسية- اللينينية في ضوء المستجدات والتحولات التي يشهدها العالم منذ العشرينات، قبل ذلك، وفضلا عنه، هي دفاع عن الماركسية واللينينية الأصيلتين الحقيقيتين في وجه التشويه والتحريف الستالينيين. بنتيجة ذلك وعلى سبيل المثال، ليس ثمة مفهوم “تروتسكي” للمركزية الديمقراطية، في الواقع بل مفهوم لينيني حافظت عليه ولا تزال تمارسه الحركة التروتسكية. بيد أنه لهذا السبب بالضبط، أكان الأمر يتعلق بالمركزية الديمقراطية أو بسواها، لن يجد المرء طريقا إلى الماركسية واللينينية الحقيقيتين إلا طريق التروتسكية.
إننا لن نغالي إذا قلنا أن اية دراسة لكامل التراث الماركسي اللينيني الأصيل تمر اليوم عبر التروتسكية!
* نذكر مرة أخرى بأن الستالينية، حسب فهمنا لها، لا علاقة لها بالموقف من شخصية ستالين، بل هي النظام البيروقراطي الذي ساد في الاتحاد السوفياتي وفي الأممية الثالثة منذ منتصف العشرينات ولا يزال سائدا في جوهره بالرغم من التعديلات التي دخلت عليه. وإننا نعتبر أن خروتشوف لم يمس إطلاقا جوهر الستالينية بل اكتفى بالتضحية بذكرى ستالين كبشا على محرقة الجماهير الناقمة، تفاديا لانفجار نقمتها على الستالينية كنظام. وبهذا المعنى، فالأحزاب الشيوعية التي ترعرعت في الأممية الستالينية (قبل حلها من قبل ستالين سنة ١٩٤٣) لا تزال ستالينية بالرغم من تخليها عن ذكرى ستالين، تمثلا بخلفه…
اقرأ أيضا