لينين: ضد المقاطعة حسب ملاحظات كاتب اشتراكي ديمقراطي
نشر مقال “ضد المقاطعة” في متم يوليوز 1907 في كراسة حول مقاطعة مجلس الدوما الثالث، المطبوعة بمطبعة اشتراكية ديمقراطية سرية في بطرسبورغ. كان الغلاف يحمل إشارات زائفة:” موسكو، 1907. مطبعة غوريزونتوف. 40 شارع تفيرسكايا “، وفي سبتمبر 1907 صودرت الكراسة.
قبل أمد قصير، صادق مؤتمر المدرسين [أ] ذو الأغلبية الاشتراكية الثورية [ب]، وبمشاركة مباشرة لممثل بارز للحزب الاشتراكي الثوري، على مقرر حول مقاطعة مجلس الدوما الثالث. وقد امتنع المدرسون الاشتراكيون الديمقراطيون، وكذا ممثلو حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، عن التصويت معتبرين المسألة من اختصاص مؤتمر أو ندوة حزبية وليس اتحاد مهني لا حزبي.
تتصدر إذن مقاطعة مجلس الدوما الثالث الواجهة بما هي المسألة المطروحة على جدول أعمال التكتيك الثوري. وكما دل تدخل ممثله في المؤتمر المذكور، حسم الحزب الاشتراكي الثوري المسألة، رغم أننا لا نتوفر بعد على مقررات رسمية لهذا الحزب، ولا على نصوص من الأوساط الاشتراكية الثورية. والمسألة مطروحة على بساط البحث لدى الاشتراكيين الديمقراطيين.
ما هي حجج دفاع الاشتراكيين-الثوريين عن قرارهم؟ فمقرر المدرسين يتحدث فعلا عن عجز مجلس الدوما الثالث التام، وعن الطابع الرجعي والمضاد للثورة للحكومة التي قامت بانقلاب 3 يونيو [ت] وعن القانون الانتخابي الجديد المنحاز للملاكين العقاريين، الخ.( 1(
ُبني هذا الاستدلال كما لو كانت ضرورة وشرعية وسيلة ما للنضال أو شعار كالمقاطعة ينتجان عن طابع مجلس الدوما الثالث الرجعي للغاية. وجلي أن هذا الاستدلال غير صحيح بالنسبة لاشتراكي ديمقراطي، مادام لا يبحث الشروط التاريخية التي تتيح تطبيق المقاطعة. فالاشتراكي الديمقراطي، ذو المنظور الماركسي، لا يستنتج ضرورة المقاطعة من حدة الطابع الرجعي لهذه المؤسسة أو تلك، بل من وجود شروط نضال خاصة تسمح، كما بينت الثورة الروسية حديثا، بتطبيق الوسيلة الأصيلة المسماة بالمقاطعة. إن من يستدل حول المقاطعة دون اعتبار تجربة ثورتنا خلال سنتين، ودون التفكير فيها مليا، قد نسي الكثير ولم يتعلم شيئا. وسنشرع في بحثنا في مسألة المقاطعة بمحاولة تحليل تلك التجربة.
– 1 –
لاشك أن أكبر تجربة لثورتنا في مجال المقاطعة هي مقاطعة «دوما بوليغين»[ث]، علاوة على أنها ُكللت بالنجاح الكامل والآني. لذا يتعين ان تكون مهمتنا الاولى دراسة الظروف التاريخية لمقاطعة «دوما بوليغين».
عند بحث هذه المسألة، يأتي في المقام الأول ظرفان. أولا، كانت مقاطعة دوما بوليغين نضالا ضد توجيه (ولو مؤقت) لثورتنا على نهج دستور ملكي. ثانيا، كانت تلك المقاطعة في مناخ اندفاع ثوري واسع جدا وعام وقوي وسريع.
فلنتوقف عند الظرف الأول. ليست المقاطعة نضالا داخل مؤسسة معينة، بل ضد ظهور تلك المؤسسة وبشكل أوسع ضد تحقيقها. لذا فإن كل من ناضل، مثل بليخانوف ومناشفة آخرين، ضد المقاطعة، بناء على اعتبارات عامة بصدد ضرورة استعمال الماركسيين للمؤسسات التمثيلية، لم يكشف سوى عن نزعة عقائدية سخيفة. ليس الاستدلال على هذا النحو سوى تجنب لموضوع الخلاف بتكرار حقائق لا جدال فيها. فلا جدال حول ضرورة استعمال الماركسيين للمؤسسات التمثيلية. فهل يُستنتج من ذلك أنه يستحيل على ماركسي أن يسعى، في ظروف محددة، لحفز النضال ضد قيام تلك المؤسسة وليس انطلاقا منها؟ لا، لأن هذا الاستدلال العام لا يهم سوى الحالات التي لا مجال فيها للنضال ضد ميلاد هكذا مؤسسة. هنا مكمن الخلاف حول المقاطعة: هل من مجال للنضال ضد ميلاد هكذا مؤسسات ذاته؟ لقد أبان بليخانوف وشركاؤه بحججهم ضد المقاطعة، أنهم لم يفهموا كيفية طرح المشكل.
لنواصل. إن كانت المقاطعة نضالا ضد قيام مؤسسة معينة، وليس في إطارها، فإن مقاطعة دوما بوليغين كانت، علاوة على ذلك، ضد تطبيق نظام كامل من المؤسسات الملكية الدستورية. لقد أبانت سنة 1905 بجلاء إمكان نضال جماهيري مباشر عبر الإضرابات العامة (موجة إضرابات ما بعد 09 يناير[ج]) وعبر التمردات (“بوتمكين” [ح]). لذا فإن نضال الجماهير الثوري المباشر كان أمرا قائما. ومن جهة أخرى، كان قانون 6 أغسطس، الذي كان يحاول توجيه الحركة الثورية (بالمعنى المباشر والضيق للكلمة) على طريق دستور ملكي، هو أيضا أمرا قائما. وكان الصراع بين كلا الطريقين حتميا من الناحية الموضوعية: طريق النضال الثوري الجماهيري المباشر وطريق الدستور الملكي. وقد وجب القيام باختيار الطريق الذي ستنهجه الثورة في تطورها. والحال أن الاختيار لم يكن وقفا على إرادة هذه المجموعة أو تلك، بل على قوة الطبقات الثورية و تلك المضادة للثورة. وهذه القوة لا يمكن قياسها وامتحانها إلاّ في النضال. وقد كان شعار مقاطعة دوما بوليغين على وجه الدقة شعار النضال من أجل الطريق الثوري المباشر وضد الطريق الملكي الدستوري.و طبعا كان النضال على هذا الطريق الأخير ممكنا، لا بل حتى حتميا. إذ يمكن بدستور ملكي النظر في إمكان استمرار الثورة وإعداد اندفاع ثوري جديد. وليس نضال الاشتراكية الديموقراطية الثورية ممكنا مع دستور ملكي فحسب، بل حتى الزاميا. وتلك حقيقة أولية اجهد أكسلرود وبليخانوف للبرهنة عليها بحمية وبلا داع عام 1905. لكن ليس ذلك هو المشكل الذي كان التاريخ يطرحه آنذاك: فاكسيلرود وبليخانوف «خرجا عن الموضوع» أو بعبارة أخرى، عوضا المشكل التاريخي المطروح على القوى المناضلة بمشكل مستمد من آخر طبعة لكتاب اشتراكي ديموقراطي ألماني. كان النضال لاختيار الطريق الواجب اتباعه في المستقبل المباشر حتميا من الناحية التاريخية. هل السلطة القديمة هي من سيقوم بدعوة أول مؤسسة تمثيلية في روسيا، مما سيضع الثورة على الطريق الملكي الدستوري لفترة (قصيرة جدا أو طويلة نسبيا، فمن يدري)؟ أم أن الشعب هو الذي سيكنس أو يزعزع، في أسوأ الحالات، السلطة القديمة بهجوم مباشر وينتزع منها امكانية السير بالثورة على طريق ملكي دستوري، ويضمن (ودائما لوقت طويل إلى هذا الحد أو ذاك) طريق النضال الجماهيري الثوري المباشر؟ هذا هو السؤال الذي لم يفطن له أكسلرود وبليخانوف، والذي طرح، في خريف 1905، على الجماهير الثورية في روسيا. وكانت دعاوة الاشتراكية الديموقراطية لأجل المقاطعة النشيطة طريقة لطرح المشكل وطريقة واعية لطرحه لدى حزب البروليتاريا، وكانت هي شعار النضال لاختيار الطريق الواجب اتباعه في النضال.
لقد فهم دعاويو المقاطعة النشيطة، أي البلاشفة، على نحو صائب المسألة التي طرحها التاريخ موضوعيا. فبالفعل كان نضال أكتوبر 1905[خ] نضالا من أجل اختيار الطريق الواجب اتباعه في النضال. وكان النجاح فيه متقلبا: ففي البدء تفوق الشعب الثوري، وانتزع من السلطة القديمة إمكانية وضع الثورة فورا على سكة الملكية الدستورية، وعوض المؤسسات التمثيلية من النوع الليبرالي البوليسي بمؤسسات تمثيلية من النوع الثوري الخالص، أي سوفياتات مندوبي العمال، الخ. وكانت تلك حقبة أقصى درجة من الحرية ومن المبادرة الجماهيرية ومن اتساع وقوة الحركة العمالية على أرضية كنسها هجوم الشعب من المؤسسات الملكية الدستورية ومن القوانين ومن الدسائس، خلال «حقبة فاصلة» أضحت فيها السلطة القديمة عاجزة دون أن تقوى فيها سلطة الشعب الثورية الجديدة (سوفياتات مندوبي العمال والفلاحين والجنود، الخ) بعد على الحلول كليا مكان السلطة القديمة. و قد حل نضال ديسمبر المسألة في اتجاه آخر: انتصرت السلطة القديمة برد هجوم الشعب والحفاظ على موقعها. لكن جلي أن لامجال لاعتبار ذلك النصر نهائيا. فانتفاضة ديسمبر 1905 امتدت في جملة اضرابات وانتفاضات معزولة وجزئية خلال صيف 1906. وكان شعار مقاطعة مجلس دوما فيته [د] شعار النضال لمركزة تلك الانتفاضات وتعميمها.
لذا فإن أول خلاصة لتجربة الثورة الروسية في مقاطعة دوما بوليغين هي أن الخلفية الحقيقية للمقاطعة كانت النضال، الذي وضعه التاريخ على جدول الأعمال، من أجل طريق التطور الواجب اتباعه آنيا، والنضال لمعرفة من سيستدعي أول جمعية تمثيلية في روسيا: هل السلطة القديمة أم السلطة الجديدة التي أحدثها الشعب؟ ولمعرفة هل سيجري السير على طريق ثوري مباشر أم (لفترة) على طريق الملكية الدستورية؟
وترتبط بهذا مسألة، غالبا ما تبرز في المطبوعات، ودوما في النقاشات، بصدد الموضوع الذي يشغلنا، ألا وهي مسألة بساطة ووضوح و«استقامة» شعار المقاطعة، وكذا مسألة تطور خطي أم متعرج. إن إطاحة، أو في أسوء الحالات، إضعاف وإنهاك السلطة القديمة، والخلق الفوري لأجهزة جديدة للسلطة، هي بكل تأكيد الطريق الأكثر استقامة والأكثر افادة للشعب، لكنه يتطلب أكبر قوة. إن تفوقا ساحقا في القوة يمكن من الانتصار عبر هجوم جبهي مباشر. وعند نقص القوى، قد يلزم السير على طرق ملتوية والتريت والتعرج والتراجع، الخ. وطبعا، لا يستبعد طريق الملكية الدستورية الثورة إطلاقا إذ يهيئ ويطور أيضا عناصرها على نحو غير مباشر، لكنه طريق أطول وأكثر تعرجا.
نجد في كل الادب المنشفي، وخصوصا لسنة 1905 (إلى حدود أكتوبر)، اتهام البلاشفة بكل صدد بـ«السلوك أحادي الخط» ووعظهم بضرورة اعتبار الطريق المتعرج الذي يسلكه التاريخ. وسمة الأدب المنشفي هذه نموذج للمماحكة التي تستنتج أن الجياد تأكل الخرطال وأن نهر الفولغا يصب في بحر قزوين، وحيث تحجب الثرثرة بصدد ما لا جدال فيه موضوع النقاش الحقيقي. لا مجال لمناقشة أن التاريخ يتقدم عادة عبر تعرجات وأن على من هو ماركسي أن يعرف كيف يأخذ بعين الاعتبار تعرجات التاريخ الأكثر تعقيدا والأكثر غرابة. لكن هذا الاجترار الذي لا جدال فيه، لا يهم بتاتا مسألة معرفة ما يتوجب على من هو ماركسي عندما يطرح هذا التاريخ بالضبط على القوى المناضلة حل مشكلة الاختيار بين الطريق المباشر والطريق المتعرج. وإن التخلص من الأمر باستدلالات حول الالتواء المألوف للتاريخ هو بالضبط التحول إلى «رجل تحت جرس زجاجي» [ذ]. والغطس في تأمل تلك الحقيقة القائلة إن الجياد تأكل الخرطال. وإن الحقب الثورية هي بامتياز تلك التي تحل فيها بالضبط المجابهة بين القوى الاجتماعية المتصارعة، لفترات قصيرة نسبيا، مشكل اختيار البلد، لفترة طويلة جدا نسبيا، الطريق المباشر او المتعرج. وإن ضرورة أخذ هذا الطريق الأخير بعين الاعتبار لا تعفي باي وجه من هو ماركسي من مهمة معرفة كيف يفسر للجماهير، في لحظات التاريخ الحاسمة، ضرورة تفضيل الطريق المباشر. كما لا تعفيه من معرفة كيفية مساعدة الجماهير في نضالها لاختيار الطريق المباشر، ومعرفة كيفية طرح شعارات هذا النضال وهكذا دواليك. ووحدهم الجهلة الميؤوس من شفائهم والمتحذلقون البلداء قادرون، عند انتهاء المعارك التاريخية الحاسمة التي حتمت طريقا ملتويا، أن يسخروا ممن ناضل حتى النهاية لأجل الطريق المباشر. وذلك أشبه بسخرية المؤرخين-الدركيين الألمان، من شاكلة ترايتشكه، إزاء شعارات ماركس وحزمه الثوريين في العام 1848.
إن موقف الماركسية من طريق التاريخ المتعرج شبيه، في الجوهر، بموقفها من المساومات. فكل تعرج للتاريخ هو مساومة، مساومة بين القديم الذي لم يعد لديه من القوة ما يكفي لانكار الجديد كليا، والجديد الذي لم يقو بعد على إطاحة القديم. لا ترفض الماركسية المساومات مسبقا وتعتبر استعمالها محتما، لكن ذلك لا يلغي بتاتا أن الماركسية، بصفتها قوة حية وفاعلة للتاريخ، تناضل بشدة ضد المساومات. ومن لا يستطيع استيعاب هذا التناقض المزعوم لا يعرف الفباء الماركسية.
عبر انجلز ذات مرة، بطريقة بالغة الوضوح والايجاز، عن موقف الماركسية من المساومات، لا سيما في مقال «حول بيان بلانكيي الكومونة الفارين» (1874) (2) الذين كتبوا أنهم لا يقبلون أي مساومة. سخر إنجلز من ذلك البيان. وقال إن الأمر لا يتعلق بالتخلي عن استعمال المساومات التي تحكم بها علينا الظروف (أو التي تفرضها علينا الظروف: أعتذر للقارئ لكوني لا أسرد إلاّ من الذاكرة لاستحالة العودة إلى النص)، بل بوعي واضح للاهداف الثورية الحقيقية للبروليتاريا وبمعرفة السير نحوها عبر مختلف الظروف وعبر كل التعرجات والمساومات [ر].
إنه من وجهة النظر هاته يمكن الحكم على بساطة ودقة ووضوح المقاطعة بصفتها شعارا ينادي الجماهير. إن كل صفات هذا الشعار المذكورة ليست حسنة بحد ذاتها، بل فقط بقدر ما توجد، في الواقع الموضوعي الذي يطبق فيه الشعار، شروط النضال لاختيار طريق تطور مباشر أو متعرج. كان هذا الشعار، خلال حقبة دوما بوليغين، الشعار الصائب لحزب العمال، والشعار الثوري الوحيد، لا لكونه أكثر بساطة واستقامة ووضوحا، بل لأن الظروف التاريخية وضعت آنذاك أمام الحزب العمالي مشكلة مشاركته في النضال لأجل الطريق الثوري البسيط والمباشر ضد الطريق الملتوي للدستور الملكي.
وقد يتبادر السؤال حول المقاييس التي تقرر بموجبها أننا كنا آنذاك إزاء ظروف تاريخية خاصة. ما هو المؤشر الرئيس لخصوصية الواقع الموضوعي الذي لم يجعل من شعار بسيط واضح ومستقيم مجرد جملة، بل الشعار الوحيد المناسب لنضال حقيقي؟ هذا هو المشكل الذي سنتطرق له الآن.
– 2 –
إنه من السهل طبعا،عند القاء نظرة استدراكية على النضال الذي انتهى (على الأقل في شكله المباشر أو الآني)، وضع حصيلة لكل مؤشرات وأعراض الحقبة كيفما كان اختلافها وتناقضها. فنهاية النضال تحل كل شيء دفعة واحدة، وتبدد بكل بساطة كل الشكوك. لكن ما يتوجب علينا تحديده الآن، مادمنا نريد تطبيق دروس التجربة التاريخية على مجلس الدوما الثالث، هو مؤشرات الظاهرة التي كان من شأنها مساعدتنا على توضيح الوضع قبل النضال. سبق أن اوضحنا أن شروط نجاح 1905 تمثلت في اندفاع ثوري واسع جدا وعام، قوي وسريع. ويجب الآن أن نبحث، في المقام الأول، عن علاقة الاندفاع الثوري القوي للغاية بالمقاطعة، وفي المقام الثاني، السمات الخاصة والعلامات المميزة لاندفاع ثوري قوي للغاية.
ليست المقاطعة، كما قلنا آنفا، نضالا انطلاقا من مؤسسة معينة بل نضالا ضد ميلاد تلك المؤسسة. لا يمكن إحداث أي مؤسسة إلاّ من طرف النظام القائم، أي نظام الماضي. لذا فإن المقاطعة هي وسيلة نضال موجهة مباشرة لإطاحة النظام القديم أو موجهة، في أسوء الحالات أي عند ضعف هجوم إطاحته، لإضعاف النظام إلى درجة العجز عن ضمان خلق تلك المؤسسة وعن السماح لها بأن ترى النور(3). يستدعي نجاح المقاطعة إذن نضالا مباشرا ضد النظام القديم، وانتفاضات وعصيانا جماهيريا في حالات عديدة (ويعد هكذا عصيان جماهيري أحد الشروط المهيئة للانتفاضة). إن المقاطعة هي رفض الاعتراف بالنظام القديم، ليس بالأقوال بل بالأفعال طبعا، أي رفض لا يتجلى في نداءات وشعارات المنظمات وحسب، بل في حركة للجماهير الشعبية تخرق منهجيا النظام القديم وتخلق مؤسسات جديدة غير شرعية لكنها ذات وجود فعلي، الخ. بديهية إذن علاقة المقاطعة بالزخم الثوري الواسع: المقاطعة هي وسيلة النضال الأكثر حسما ليس ضد أشكال مؤسسة معينة بل ضد وجودها ذاته. المقاطعة اعلان حرب مباشرة على النظام القديم، وهجوم مباشر ضده. فبدون زخم ثوري واسع، وبدون هيجان جماهيري يتجاوز كل الشرعية القديمة، لا مجال لأي نجاح للمقاطعة.
بانتقالنا إلى مشكل طابع الزخم الثوري لخريف 1905 وعلاماته، سنرى بسهولة أنه جرى آنذاك هجوم جماهيري متواصل للثورة أرهق العدو وجد في مطاردته بصورة منهجية. إن حملات القمع وسعت الحركة بدل أن تضعفها. وأثار 9 يناير موجة إضرابات هائلة، وأقيمت المتاريس في «لودز» واندلع عصيان «بوتيمكين». وتعرضت الاطارات الشرعية، التي أقامها النظام القديم، لانتهاك منهجي في الصحافة والنقابات والتعليم وفي كل مكان، ومن طرف الجميع وليس من قبل الثوريين وحدهم، لأن النظام القديم خارت قواه فعلا وفقد زمام الأمور. لم تلق شعارات الثوريين صدى وحسب بل تأخرت عن الحياة، وهذا مؤشر أكيد وساطع بوجه خاص (من وجهة نظر المنظمات الثورية) على قوة الزخم الثوري. كان 9 يناير والإضرابات الجماهيرية التي تلته و”بوتمكين” أحداثا متقدمة على نداءات الثوريين المباشرة. ولم ترد الجماهير سنة 1905 على أي من تلك النداءات سلبيا، بالصمت ورفض خوض النضال. وفي وضع كهذا، جاءت المقاطعة حتما في مناخ مكهرب. ولم يكن ذلك الشعار «يخترع» شيئا آنذاك، ولا يقوم سوى بصياغة دقيقة وصائبة للاندفاع الثوري الذي كان يتقدم أكثر فاكثر صوب الهجوم المباشر. وبالعكس كان مناشفتنا هم من «يخترع»، وبقوا على بعد من الزخم الثوري، و انجروا خلف وعد أجوف من القيصر، من قبيل بيان 6 يونيو أو قانون 8 اغسطس، وأخذوا وعد الانعطاف نحو ملكية دستورية مأخذ جد. وكان المناشفة (وبارفوس) يضعون آنذاك تكتيكهم، لا على قاعدة زخم ثوري واسع قوي وسريع، بل على قاعدة وعد قيصري بانعطاف ملكي دستوري. ولا غرابة في انفضاح هذا التكتيك بما هوانتهازية سخيفة ومثيرة للشفقة. ولا غرابة أن كل استدلالات المناشفة حول المقاطعة تتفادى حاليا بعناية مقاطعة دوما بوليغين، أي أهم تجربة مقاطعة في ثورتنا. لكن لا يكفي الاعتراف بهذا الخطأ، الذي يمثل على الارجح اكبر اخطاء التكتيك المنشفي في الثورة.لا بد ايضا من فهم واضح لكون هذا الخطأ نابعا من عدم فهم الحالة الموضوعية التي جعلت من الزخم الثوري حقيقة ومن المنعطف الملكي الدستوري وعدا بوليسيا باطلا. لم يكمن خطأ المناشفة في تطرقهم للمشاكل دون روح ثورية ذاتية، بل في تأخر أفكار هؤلاء الثوريين البؤساء عن الوضع الثوري الموضوعي. إنه من السهل الخلط بين كلا سببي خطأ المناشفة، لكن هذا غير مقبول لدى من هو ماركسي.
– 3 –
إن علاقة المقاطعة بالشروط التاريخية الخاصة بمرحلة الثورة الروسية التي نحن بصددها تستوجب البحث من زاوية أخرى. ماذا كان المضمون السياسي لحملة الاشتراكية-الديموقراطية من أجل المقاطعة في خريف 1905 وربيع 1906؟ طبعا لم يقم مضمون تلك الحملة على تكرار كلمة مقاطعة أو على دعوة الجماهير إلى عدم المشاركة في الانتخابات. كما أن هذا المضمون لم تستنفده نداءات هجوم ثوري مباشر يتجاهل الطرق الملتوية والتعرجات المقترحة من طرف الأوتوقراطية القيصرية. فعلاوة على ذلك، كان النضال ضد الأوهام الدستورية في قلب كل التحريض من أجل المقاطعة، لا الى جانبه. وكان ذلك النضال، حقيقة، قوة المقاطعة الحية. تذكروا خطابات أنصار المقاطعة وكل عملهم التحريضي والقوا نظرة على أهم مقرراتهم لتقتنعوا بذلك.
لم يتأت أبدا للمناشفة فهم جانب المقاطعة هذا. فقد بدا لهم دوما أن النضال ضد الأوهام الدستورية، في حقبة الدستورية الناشئة، بلا مدلول وعبث و«فوضوية». وفي خطب مؤتمر ستوكهولم [ز]، جرى التعبير بوضوح عن وجهة نظر المناشفة تلك، وتتبادر الى الذهن بوجه خاص خطابات بليخانوف، هذا دون الحديث عن منشوراتهم.
وللوهلة الأولى، قد يبدو موقف المناشفة في هذه المسألة جازما كموقف من يلقن أهله بزهو أن الجياد تأكل الخرطال. أليست الدعوة إلى النضال ضد الأوهام الدستورية في الحقبة الدستورية الناشئة من قبيل الفوضوية؟ أليست وهما خالصا؟
إن ابتذال المشكل، الناتج عن دعوة خادعة إلى اعتماد الحس السليم في الاستدلالات من هذا القبيل، نابع من التغاضي عن مرحلة خاصة من الثورة الروسية، من نسيان مقاطعة دوما بولغين، ومن تعويض المراحل التي اجتازتها ثورتنا، بتعريف عام لثورتنا بمجملها، ماضيا ومستقبلا، بما هي ثورة ُتحدث النظام الدستوري. وهذا مثال عن عدم الاسترشاد بالمنهج المادي الديالكتيكي من قبل أناس مثل بليخانوف كانوا من أكثر المتشدقين بهذا المنهج.
في آخر المطاف، ليست ثورتنا البورجوازية بمجملها، ككل ثورة بورجوازية، سوى سيرورة إنشاء نظام دستوري لا غير. هذا صحيح. وهذه حقيقة مفيدة لفضح المظاهر شبه الاشتراكية لبرامج ونظريات وتكتيكات، الخ، الديموقراطيين البرجوازيين. لكن هل بإمكانكم استخراج أي فائدة من هذه الحقيقة لمعرفة ما النظام الدستوري الذي يجب على الحزب العمالي أن يقود إليه البلد في حقبة الثورة البرجوازية؟ وكذا لمعرفة كيف يجب على وجه الدقة أن يناضل الحزب العمالي من أجل نظام دستوري معين (وخاصة الجمهوري) في هذه الحقبة أو تلك من حقب الثورة؟ لا. إن الحقيقة العزيزة على اكسلرود وبليخانوف ضئيلة الفائدة في توضيح هذه المشاكل بقدر ما أن الاقتناع بكون الجياد تأكل الخرطال ضئيل الفائدة في تسهيل اختيار جواد مناسب وتعلم امتطائه.
كان البلاشفة يقولون في العام 1905 وبداية 1906 إن النضال ضد الأوهام الدستورية يجب أن يكون شعار اللحظة، لأن تلك الفترة بالضبط هي التي طرح فيها الوضع الموضوعي على القوى الاجتماعية المتصارعة مسألة معرفة من سينتصر في مستقبل قريب: هل الطريق المباشر للنضال الثوري والمؤسسات التمثيلية التي تخلقها الثورة مباشرة على قاعدة أشمل ديموقراطية، أم الطريق المتعرج للدستور الملكي والمؤسسات البوليسية «الدستورية» (بين مزدوجتين!) من قبيل «الدوما»؟
هل أثار الوضع الموضوعي هذه المسألة فعلا أم «تخيلها» بلاشفة لا نظرية لهم؟ لقد سبق وأن أجاب تاريخ الثورة الروسية.
كان نضال أكتوبر 1905 نضالا ضد توجيه الثورة على الطريق الملكي الدستوري، وكانت فترة أكتوبر إلى ديسمبر هي الفترة التي تحقق فيها النظام الدستوري البرولتاري الديموقراطي فعلا، الواسع والجريء والحر، والمعبر حقيقة عن الارادة الشعبية بخلاف النظام الدستوري المزيف لدستور دوباسوف وستوليبين [س]. كان النضال الثوري باسم نظام دستوري ديموقراطي حقيقي (أي قائم على قاعدة تخلصت بالكامل من النظام القديم وكل بشاعاته) يتطلب معركة شديد الحزم ضد إغراء الشعب بدستور بوليسي ملكي. هذا أمر بسيط جدا لم يفهمه إطلاقا الاشتراكيون الديموقراطيون المعارضون للمقاطعة.
تتجلى لنا الآن بوضوح مطلق مرحلتان في تطور الثورة الروسية: مرحلة صعود ثوري (1905) ومرحلة انحدار (1906-1907). كانت الأولى مرحلة أقصى تحرر للمبادرة الشعبية، وللمنظمات الواسعة والحرة لكل طبقات السكان، وأكبر حرية للصحافة، وأقصى رفض من طرف الشعب للاعتراف بالنظام القديم وبمؤسساته وباوامره. هذا كله مع غياب أي نظام دستوري معترف به بيروقراطيا ومدون شكليا في أنظمة أو قوانين. ثم جاء التطور الأشد تقلصا والانحدار المستمر للمبادرة والتنظيم الشعبيين وللصحافة الحرة، الخ. ومعها –سامحني الله- «الدستور» الذي وضع بإشراف دوباسوف وستوليبين، وباعتراف من دوباسوف وستوليبين، وبحماية من دوباسوف وستوليبين.
و الآن حيث نرى بوضوح وببساطة كل ما ورائنا، ربما لا يوجد متحذلق واحد ينكر شرعية وضرورة نضال البروليتاريا الثوري ضد توجيه الأحداث على طريق ملكي دستوري وشرعية النضال ضد الأوهام الدستورية وضرورته.
ليس هناك في الحقيقة حاليا ولو مؤرخ واحد رشيد لا يقوم بتقسيم مسيرة الثورة الروسية من 1905 إلى خريف 1907 إلى مرحلتين: مرحلة زخم «معادي للدستور» (إن صح التعبير) ومرحلة انحدار دستوري، أي مرحلة ظفر الشعب بالحرية وتحقيقها دون نظام دستوري بوليسي (ملكي) ومرحلة اضطهاد وخنق الحرية الشعبية بواسطة «الدستور» الملكي.
وتبدي حاليا حقبة الأوهام الدستورية، حقبة مجلس الدوما الأول والثاني، سمات واضحة تماما، ولم يعد صعبا فهم مغزى نضال الثوريين الاشتراكيين الديموقراطيين ضد الأوهام الدستورية آنذاك. لكن حينذاك، في 1905 وبداية 1906، لم يدرك ذلك الليبراليون في معسكر البرجوازية ولا المناشفة في معسكر البروليتاريا.
وكانت مرحلة مجلس الدوما الأول والثاني، بكل المعاني ومن كل الزوايا، مرحلة أوهام دستورية. فلم تجر خلالها أي خيانة للوعد العظيم: «لن يصبح أي قانون ساري المفعول دون مصادقة دوما الدولة». كان الدستور موجودا إذن على الورق ومثيرا على الدوام لعواطف الكاديت الروسي [ش] الذليلة. وكان دوباسوف وستوليبين يمتحنان الدستور الروسي خلال تلك الفترة، ويقومان بـ«تجربته» محاولين مطابقته وملاءمته مع الأتوقراطية القديمة. ويبدو أنهما كانا أشد أناس تلك الحقبة قوة، كانا يجهدان في تحويل «الوهم» إلى حقيقة. لكن الوهم انفضح. وأكد التاريخ بالكامل صواب شعار الاشتراكية الديموقراطية. لكن لم يكن دوباسوف وستوليبين وأمثالهما وحدهم من حاول تحقير «الدستور»، كما لم يكن الخدم الكاديت وحدهم من امتدحه ومشى بخنوع على أربع (مثل رودتشيف في الدوما الأول)، مبرزين أن الملك غير مسؤول وأنه من الوقاحة اعتباره مسؤولا عن المذابح المقترفة ضد اليهود. كلا، كانت اوسع الجماهير بدورها، وبكل تأكيد، تعتقد إلى درجة كبيرة إلى هذا الحد أو ذاك بـ«الدستور» خلال تلك المرحلة، وتؤمن بالدوما رغم تنبيهات الاشتراكية-الديموقراطية.
يمكن القول إن مرحلة الأوهام الدستورية في الثورة الروسية كانت مرحلة افتتان قومي بالصنم البورجوازي، مثلما تفتتن أمم غربية بكاملها بصنم القومية البورجوازية والشوفينية ومعاداة السامية، الخ. وكان فضل الاشتراكية الديموقراطية يتمثل في كونها الطرف الوحيد الذي لم تخدعه البورجوازية، والطرف الوحيد الذي رفع في حقبة الأوهام الدستورية راية النضال ضد تلك الأوهام.
**********
لكن يطرح السؤال حاليا: لماذا كانت المقاطعة وسيلة النضال الخاصة ضد الأوهام الدستورية؟
إن للمقاطعة سمة تنفر للوهلة الأولى وعلى نحو لا إرادي كل من هو ماركسي. فمقاطعة الانتخابات ابتعاد عن البرلمانية، أي رفض وسلبية واستنكاف. تلك كانت وجهة نظر بارفوس، الذي لم يدرس غير أمثلة ألمانية، حيث استشاط غضبا في خريف 1905، وحاول أن يبين أن المقاطعة النشيطة هي أيضا أمر سيء ما دامت مقاطعة. وهي لحد الآن وجهة نظر مارتوف الذي لم يتعلم من الثورة شيئا، ويتحول أكثر فأكثر إلى ليبرالي: فقد أظهر في مقاله الأخير في «توفاريشتش» [ص] عجزه حتى عن طرح المشكل مثلما يجدر باشتراكي ديموقراطي ثوري.
إن سمة المقاطعة هذه، المنفرة للماركسيين بوجه خاص، تجد تفسيرها في ظروف المرحلة التي أحدثت هكذا وسيلة نضال. كان مجلس الدوما الملكي الأول (دوما بولغين) طعما لصرف الشعب عن الثورة. وكان الطعم دمية بمعطف دستوري. ومال الجميع إلى عض السنارة، و كانوا جميعا ميالين إلى التعلق بدمية دوما بولغين ثم دمية دوما فيته، البعض بفعل مصالحه الطبقية الانانية والبعض الآخر بفعل بلادته. كانوا جميعا مفتتنين وكانوا جميعا ذوي إيمان صادق. ولم تكن المشاركة في الانتخابات مجرد أداء للواجبات العادية للمواطنين، بل كانت تكريسا للدستور الملكي. وكانت انتقالا من الطريق الثوري المباشر إلى الطريق الملكي الدستوري.
في لحظة كهذه، وجب على الاشتراكية-الديموقراطية أن تنشر قدر الامكان احتجاجها وتنبيهها على النحو الاشد قوة و الاكثر استعراضا. وكان هذا يعني بالضبط التخلي عن المشاركة والاستنكاف عن التصويت، وثني الشعب عنه، والمناداة بمهاجمة النظام القديم بدل العمل على أرضية المؤسسة التي أنشأها هذا النظام. وكان الافتتان القومي بالصنم البوليسي البرجوازي للملكية «الدستورية» يقتضي من الاشتراكية الديموقراطية، بصفتها حزب البروليتاريا، القيام بـ«استعراض» أمام أعين الشعب لوجهات نظرها المعارضة لذلك الصنم والمعرية له. وكان هذا الافتتان يستوجب النضال بكل القوى ضد تحقيق المؤسسات التي كانت تجسد ذلك الصنم.
ذاك هو التبرير التاريخي الكامل لا للمقاطعة الناجحة لدوما بولغين وحسب، بل أيضا لمقاطعة دوما فيته التي أخفقت على ما يبدو. ونحن الآن نرى لماذا لم يكن ذلك غير ظاهر إخفاق، ولماذا وجب على الاشتراكية الديموقراطية أن تحافظ حتى النهاية على اعتراضها على كل توجيه ملكي دستوري لثورتنا. فهذا التوجيه أفضى في الواقع إلى مأزق. لم تكن الأوهام حول الدستور الملكي غير تزيين بقصد الخداع وغير مقدمة تسمح بالتهيء لإلغاء «الدستور» من طرف النظام القديم..
قلنا آنفا إنه كان على الاشتراكية الديموقراطية أن تواصل حتى النهاية اعتراضها على إلغاء الحرية باسم «الدستور». فماذا تعني «حتى النهاية»؟ المقصود هو: طالما لم تصبح تلك المؤسسة التي حاربها الاشتراكيون الديموقراطيون فعلية رغما عنهم، وطالما لم يصبح توجيه الثورة الروسية نحو الملكية الدستورية، الذي يعني حتما انحدار الثورة وهزيمتها (لفترة)، أمرا واقعا رغما عن الاشتراكيين الديموقراطيين. كانت مرحلة الأوهام الدستورية محاولة للمساومة. وقد ناضلنا وكان علينا أن نناضل بكل قوانا ضدها. كان علينا أن نذهب إلى مجلس الدوما الثاني، ونحسب للمساومة مذ فرضتها علينا الظروف ضدا على إرادتنا ورغم جهودنا ومقابل فشل نضالنا. كم سيدوم ذلك؟ تلك طبعا مسألة أخرى.
ما خلاصة هذا كله بالنسبة لمقاطعة مجلس الدوما الثالث؟ ربما خلاصة أن المقاطعة، الضرورية في بداية مرحلة الأوهام الدستورية، ضرورية أيضا في نهاية هذه المرحلة؟ قد يكون هذا القول «لعبة ذهنية» من اسلوب «علم الاجتماع القياسي» وليس خلاصة جدية. ان ما كان من مضمون للمقاطعة في بداية الثورة الروسية لم يعد واردا الآن. لا يمكن اليوم تنبيه الشعب ضد الأوهام الدستورية ولا النضال ضد توجيه الثورة الروسية نحو مأزق الملكية الدستورية. ولا يمكن أن توجد في المقاطعة تلك القوة الحية التي وجدت فيها سابقا. وإن كانت ثمة مقاطعة فسيكون لها في جميع الحالات مدلول آخر ومضمون سياسي مغاير.
وفضلا عن ذلك، تمنح الأصالة التاريخية للمقاطعة التي تفحصناها حجة ضد مقاطعة مجلس الدوما الثالث. فحتما كانت انظار الأمة بكاملها مركزة، في بداية المنعطف الدستوري، على الدوما. وقد ناضلنا، وكان علينا أن نناضل، ضد تركيز النظر على مأزق، وضد ذلك الافتتان الذي كان ثمرة جهل وضعف وحساب مغرض مضاد للثورة. والآن لا مجال لأي افتتان قومي، بل حتى واسع شيئا ما، بالدوما عامة أو بالدوما الثالث. ومن هذه الزاوية لا ضرورة للمقاطعة.
– 4 –
يجب إذن البحث عن شروط تطبيق المقاطعة في الوضع الموضوعي للحظة المعينة. لا يمكن، بمقارنة خريف 1905 وخريف 1907 من وجهة النظر هذه، إلاّ أن نستنتج عدم صحة إعلان المقاطعة حاليا. يتميز الوضع الراهن عن سابقه قبل عامين على نحو جذري، سواء من وجهة نظر العلاقة بين الطريق الثوري المباشر وتعرجات الملكية الدستورية، أو من وجهة نظر زخم الجماهير، أو من وجهة نظر المهمة الخاصة المتمثلة في النضال ضد الأوهام الدستورية.
لم يكن توجيه التاريخ نحو ملكية دستورية آنذاك غير وعد بوليسي. أمّا اليوم فهو أمر واقع. وليس رفض الاعتراف الصريح به غير دليل خوف سخيف من الحقيقة. ومن الخطأ أن نستنتج من قبول هذا الأمر نهاية الثورة الروسية. كلا، فليس ثمة بعد أساس للاستنتاج الأخير. يجب على من هو ماركسي أن يناضل لتسير الثورة في خط مستقيم عندما يفرض الوضع الموضوعي ذلك النضال، لكن هذا لا يعني التغاضي عن التوجه المتعرج القائم فعلا. ومسيرة الثورة الروسية واضحة تماما من هذه الزاوية. ففي بداية الثورة شهدنا صعودا قصيرا لكنه واسع على نحو غير مألوف وسريع لدرجة الدوخة. بعدها شهدنا انحدارا بطيئا لكنه حتمي منذ انتفاضة ديسمبر 1905. مرحلة نضال ثوري جماهيري مباشر في البدء تلتها مرحلة توجه ملكي دستوري.
أيعني هذا أن هذا التوجه الأخير سيكون نهائيا؟ وهل يعني أن الثورة انتهت وأن مرحلة «دستورية» قد أرسيت؟ وأنه من غير الصائب انتظار صعود ثوري جديد والاعداد له؟ وأنه يجب التخلص من الطابع الجمهوري لبرنامجنا؟
لا أبدا. فليبراليون مبتذلون من قبيل الكاديت قادرون وحدهم على استنتاج مثل تلك الخلاصات ومستعدون لتبرير خنوعهم وتملقهم المفرط بأول حجة في متناولهم. كلا، فذلك يعني فقط أن دفاعنا عن كامل برنامجنا وعن كامل تصوراتنا الثورية يجب أن يكون مرفوقا بمطابقة نداءاتنا المباشرة للوضع الموضوعي في كل لحظة. إننا إذ ندعو إلى أن الثورة حتمية ونهيئ، منهجيا ودون توقف، مخزون مادة ملتهبة في كل المجالات، ونحافظ لهذه الغاية وبعناية على تقاليد أفضل مرحلة من ثورتنا وننميها ونخلصها من الطفيليات الليبرالية، لا نتخلى في الوقت ذاته عن العمل بتفاهة على طريق الملكية الدستورية التافه. نقطة وانتهى. يجب ان نعد اندفاعة ثورية واسعة جديدة، لكن ما من داع على الاقدام على مقاطعة دون التفكير في الامر مليا.
لا يمكن أن يكون للمقاطعة –كما قلنا سابقا- أي معنى في روسيا في هذه اللحظة إلاّ إذا كانت مقاطعة نشيطة. وهذا لا يعني رفضا سلبيا للمشاركة في الانتخابات بل استهانة بها لفائدة هجوم مباشر. وبهذا المعنى تعادل المقاطعة، حتما، الدعوة إلى الهجوم الأكثر قوة وحزما. هل نحن حاليا إزاء صعود ثوري واسع وعام، حيث لا معنى في غيابه لدعوة مماثلة؟ طبعا لا.
بوجه عام الفرق جلي بين الوضع الراهن وخريف 1905 فيما يخص «النداءات». وكما بينا سلفا، لم تستقبل الجماهير بالصمت ولو شعارا واحدا خلال السنة الماضية كلها. لقد كانت طاقة هجوم الجماهير الثوري متقدمة على نداءات المنظمات. ونحن حاليا في مرحلة توقف الثورة حيث بقيت جملة كاملة من النداءات، على نحو مطلق، دون صدى بين الجماهير. ذلك كان مصير النداء الى كنس دوما فيته (بداية 1906)، والنداء الى الانتفاضة بعد حل مجلس الدوما الأول (صيف 1906) ونداء النضال ردا على حل مجلس الدوما الثاني وعلى انقلاب 3 يونيو 1906. أنظروا ورقة لجنتنا المركزية بصدد هذه الأحداث [ض] ستجدون بها نداء مباشرا للنضال على النحو القابل للتطبيق وفق الشروط المحلية (مظاهرات واضرابات ونضال مفتوح ضد القوة المسلحة للحكم المطلق). كان ذلك نداء بالكلام بينما كانت الانتفاضة المسلحة في يونيو 1907 بكييف وفي أسطول البحر الأسود نداءات بالافعال، لكن لم يكن لأي من النداءين أي صدى بين الجماهير. مادامت أقوى مظاهر الهجوم الرجعي ضد الثورة وأكثرها مباشرة (حل الدوما مرتين وانقلاب) لم تستثر أي رد فعل حينها، فعلى ماذا يرتكز نداء جديد في شكل شعار المقاطعة؟ أليس واضحا أن الوضع الموضوعي قد يحكم على الشعار المطروح بالبقاء دون صدى؟ عندما يصل النضال ذروته ويتسع ويكبر ويعلو من كل مكان، يصبح “الشعار” صائبا وضروريا، ويصبح النداء إلى النضال واجب البروليتاريا الثورية. لكن لا يمكن اختلاق هذا النضال ولا إثارته بنداء واحد. و عندما تظل جملة نداءات الى النضال- سبق ان لقيت صدى في ظروف آنية أكثر- بلا نتيجة، علينا بالطبع أن نبحث عن أسس جدية «لاطلاق» شعار سيخلو من كل مضمون خارج شروط تطبيق النداءات إلى النضال.
إن على من يسعى لاقناع البروليتاريا الاشتراكية-الديموقراطية بصواب شعار المقاطعة ألاّ ينجذب برنين كلمات كان لها في وقتها دور ثوري عظيم. عليه أن يفكر مليا في الشروط الموضوعية لتطبيق هكذا شعار، وأن يدرك أن رفعه يعني افتراضا غير مباشر بتوفر شروط مد ثوري واسع وعام وقوي وسريع. لكن في حقب كالتي نحياها، وفي حقب توقف ثوري لحظي، لا يمكن بأي حال الافتراض، حتى غير المباشر، أن تلك الشروط قائمة. لابد من وعي واضح بهذا الأمر، ويجب أن يكون واضحا لكل واحد، وللطبقة العاملة برمتها. وإلاّ وقعنا في وضع من يستعمل كلمات كبيرة، دون أن يدرك دلالتها الحقيقية، أو وضع من لا يصمم على تسمية الأشياء بأسمائها بصراحة.
– 5 –
تمثل المقاطعة احدى أفضل التقاليد لأكثر مراحل الثورة الروسية غنى بالأحداث وأكثرها بطولة. قلنا آنفا إن احدى أهدافنا هو الحفاظ بعناية على تلك التقاليد وتطويرها وتخليصها من الطفيليات الليبرالية (والانتهازية). وعلينا أن نتناول ببعض التحليل هذا الهدف لتحديد طبيعته ولتفادي سوء الفهم والتأويل الخاطئ الممكنين.
تتميز الماركسية عن باقي النظريات الثورية، بكونها تقرن، على نحو فريد، الوضوح العلمي التام في تحليل الوضع الموضوعي والتحول الموضوعي بالاعتراف الجازم بدور الطاقة والابداع والمبادرة الثورية للجماهير، وأيضا، وبالطبع، للأفراد أو التجمعات أو المنظمات أو الأحزاب التي تحسن اكتشاف الارتباط بهذه الطبقات أو تلك وتحققه. وينبع التقدير العالي للحقب الثورية من تطور البشرية من مجمل التصورات التاريخية لماركس: ففي تلك الحقب تحل التناقضات العديدة المراكمة ببطء خلال ما يسمى بحقب التطور السلمي. وفي تلك الحقب يبرز، بأكبر قوة، الدور المباشر لمختلف الطبقات في تحديد أشكال الحياة الاجتماعية، وتنشأ أسس «البنية الفوقية» السياسية التي ستدوم أمدا طويلا على قاعدة علاقات انتاج مجددة. وعلى نقيض منظري البورجوازية الليبرالية، لم يكن ماركس يرى في تلك الحقب بالذات انحرافات عن السير «العادي» أو أعراض «مرض اجتماعي» أو نتائج تعيسة للافراط والأخطاء، بل أكثر اللحظات حيوية وأهمية وجوهرية، وأكثرها حسما في تاريخ المجتمعات البشرية. و في نشاط ماركس وانجلز نفسه تتبوأ حقبة مشاركتها في النضال الثوري للجماهير (1848-1849) مكانة مركزية. فمن تلك الحقبة ينطلقان لتحديد مصائر الحركة العمالية والديموقراطية في مختلف البلدان. وإليها يعودان على الدوام لتحديد الطبيعة الداخلية لمختلف الطبقات ولميولاتها وبالوجه الاكثر جلاء ووضوحا. ومن الحقبة ذاتها، الحقبة الثوية، ينطلقان دوما لتقييم التشكيلات السياسية اللاحقة، الأقل أهمية، والمنظمات والأهداف والصراعات السياسية. وليس عبثا أن يمقت زعماء الليبرالية المثقفون، من شاكلة سومبار، هذا الجانب من حياة وعمل ماركس ويعزونه إلى «مزاج المهاجر المر». هذا من طبع مثقفي العلم الجامعي البورجوازي والبوليسي: أن يختزلوا في مرارة شخصية، وفي المصاعب الذاتية لوضع ماركس وانجلز كمهاجرين، ما يمثل، لديهما القسم الأوثق ارتباطا بكامل فلسفتهما الثورية.
أورد ماركس في إحدى رسائله إلى كوجلمان، على ما أعتقد، ملاحظة مميزة جدا وهامة للموضوع الذي يشغلنا. فهو يسجل أن الرجعية بألمانيا نجحت في أن تزيل كليا ذكرى وتقاليد الحقبة الثورية لسنة 1848 [ط] من الذاكرة الشعبية، وأبرز تناقض أهداف الرجعية وحزب البروليتاريا فيما يخص التقاليد الثورية لبلد ما. تستهدف الرجعية استئصال تلك التقاليد وإظهار الثورة كـ«ريح جنون»، وهذا تعبير ستروفه لترجمة Das folle jahr (السنة المجنونة الذي استعمله المؤرخون الألمان من ذوي المنطق البرجوازي البوليسي، ويوجد حتى في التاريخ الجامعي الألماني عامة عند الحديث عن 1848). يتمثل هدف الرجعية في جعل السكان ينسون أشكال النضال وأشكال التنظيم والأفكار والشعارات التي ظهرت بكثرة وتنوع عظيم خلال الحقبة الثورية. وكما يدأب الزوجان ويب، هاذان المداحان البليدان للبورجوازية الانجليزية، على تقديم الحركة الشارتية [ظ]، تلك الحقبة الثوية من الحركة العمالية الانجليزية، بما هي مجرد طور صبياني و«ذنب فتوة»، وسذاجة لا تستحق اهتماما جديا، وانحراف شاذ وعرضي، يعامل المؤرخون البرجوازيون الألمان سنة 1848 بألمانيا. وعلى نفس المنوال تتصرف الرجعية إزاء الثورة الفرنسية، التي تبرز حيويتها وقوة تأثيرها على البشرية من خلال الحقد الشرس الذي تستثيره إلى يومنا هذا. وبنفس الطريقة يتنافس أبطال الثورة المضادة عندنا، خاصة «ديموقراطيو» الأمس، من شاكلة ستروفه وميليكوف وكيزفيتر، ليسخروا من التقاليد الثورية للثورة الروسية. لم تكد تمضي سوى سنتان على نضال الجماهير البروليتارية المباشر، الذي انتزع ذلك القسط من الحرية الملهب لحماس أقنان النظام القديم الليبراليين، حتى ظهر بين كتابنا تيار كبير ينعث نفسه بـالليبرالي (!!)، منغرس في الصحافة الكاديتية ومكرس لهدف وحيد، ألا وهو إظهار ثورتنا وأساليب النضال الثوري، والشعارات الثورية، كشيء دنيء وبدائي وساذج وعفوي وعديم المعنى، الخ… وحتى إجرامي… خطوة واحدة فقط [ع]تفصل ميليوكوف عن كاميشانسكي. وعلى العكس يرى أبطال الليبرالية الروسية في الرجعية التي بدأت بطرد الشعب من سوفياتات مندوبي العمال والفلاحين لدفعه إلى دوما دوباسوف وستوليبين، والتي تدفعه الآن إلى دوما الأكتوبريين، يرون فيها «سيرورة نمو الوعي الدستوري في روسيا”.
لا ريب أن من واجب الاشتراكية-الديموقراطية الروسية أن تدرس بعناية فائقة كل مظاهر ثورتنا، وأن تعرف الجماهير على كل طرقها في النضال وأشكالها في التنظيم، الخ، وأن تدعم في الشعب تقاليدها الثورية، وأن تغرس في الأذهان اقتناع أن النضال الثوري هو الوسيلة الوحيدة للحصول على تحسينات ولو ضئيلة الجدية والدوام، وان تفضح دون هوادة كل حقارة أولئك الليبراليين المغرورين الذين يفسدون المناخ الاجتماعي بأبخرة العبودية «الدستورية» والخيانة والجبن على طريقة مولتشالين. إن يوما واحدا من إضراب أكتوبر، أو انتفاضة ديسمبر، أهم مائة مرة، في تاريخ النضال من أجل الحرية، من شهور الخطابات الذليلة للكاديت في الدوما حول الملك غير المسؤول ونظام الملكية الدستورية. علينا أن نحرص، وما من أحد سوانا سيقوم بذلك، على أن يعرف الشعب تلك الأيام المفعمة بالحياة والغنية بالمضمون والعظيمة بدلالتها وبنتائجها وذلك على نحو أكثر تفصيلا وأكثر عمقا من شهور «الاختناق الدستوري» والازدهار على طريقة بلالايكين-مولتشالين [غ]، التي تغدقها بالمديح صحافتنا الحزبية الليبرالية والجرائد «الديموقراطية» (أوه! أوه!) اللاحزبية بتواطؤ عطوف من ستولبين وأتباعه من الدرك ورجال الرقابة.
لا شك أن التعاطف مع المقاطعة نابع على وجه الدقة، لدى الكثير من الناس، من رغبة محمودة لدى الثوريين في الحفاظ على تقاليد أفضل ماض ثوري وتنشيط مستنقع الرتابة اليومية الكئيب بلهيب نضال شجاع مفتوح وحازم. لكن تمسكنا بالتقاليد الثورية العزيزة علينا هو، بالضبط، ما يلزمنا بالاحتجاج الشديد ضد اعتقاد أن تطبيق شعار حقبة تاريخية معينة يمكنه أن يستثير أهم شروط تلك الحقبة. إن الحفاظ على تقاليد الثورة، وإتقان الاستفادة منها لأجل دعاوة وتحريض متواصلين، ولأجل تمكين الجماهير من معرفة شروط النضال المباشر والهجومي ضد المجتمع القديم، هو أمر يختلف تماما عن ترديد شعار منزوع من الشروط، التي ولدته وضمنت نجاحه، قصد تطبيقه على شروط مغايرة جوهريا.
إن ماركس، الذي كان يثمن عاليا التقاليد الثورية وينتقد بلا رحمة من يسئ اليها من مرتدين وضيقي الفكر، كان يطلب، في الآن ذاته، من الثوريين أن يعرفوا كيف يفكروا وكيف يحللوا شروط تطبيق أساليب النضال القديمة، بدل الاكتفاء بترديد شعارات معروفة. ربما ستظل التقاليد «القومية» لسنة 1792 بفرنسا، وإلى الأبد، نموذج بعض أساليب النضال الثوري. لكن هذا لم يمنع ماركس عام 1870، في العريضة الشهيرة إلى الأممية، من تنبيه البروليتاريا الفرنسية من مغبة إسقاط خاطئ لتلك التقاليد عن فترة مغايرة[ف].
كذلك الشأن عندنا. يجب أن ندرس شروط تطبيق المقاطعة، وأن نغرس في الجماهير فكرة أن المقاطعة تكتيك شرعي تماما، وضروري أحيانا في لحظات المد الثوري (مهما قال المتحذلقون الذين ينتسبون هدرا إلى ماركس). لكن هل نحن إزاء هذا المد، الذي هو شرط إعلان المقاطعة الأساسي؟ هذا هو السؤال الذي يجب معرفة طرحه باستقلال والجواب عنه بتحليل جدي للواقع. إن واجبنا هو أن نهيئ، قدر المستطاع، قدوم ذلك المد وأن لا نمتنع مسبقا عن المقاطعة في لحظة مناسبة. بيد أنه من الخطأ، الذي لا مراء فيه، اعتبار شعار المقاطعة قابلا للتطبيق على وجه العموم، في كل جمعية تمثيلية سيئة أو بالغة السوء.
تذكروا الدواعي التي دافعنا بها وبرهنا على ضرورة المقاطعة، خلال «أيام الحرية» وستدركون توا استحالة إسقاط بسيط لتلك الحجج على الوضع الراهن.
إن المشاركة بالانتخابات تخفض المعنويات، وتسلم للعدو موقعا، وتدوخ الشعب الثوري، وتسهل التفاهم بين القيصرية والبرجوازية المضادة للثورة، الخ. هذا ما قلناه مدافعين عن المقاطعة في 1905 وفي بداية 1906. ما هي المقدمة الجوهرية لتلك الحجج؟ تلك المقدمة، التي لم يفصح عنها دوما، لكنها كانت ضمنية كأمر بديهي حينئذ، هي الطاقة الثورية الغنية للجماهير التي تبحث عن منافذ مباشرة خارج كل القنوات «الدستورية» وتجدها. تلك المقدمة هي هجوم الثورة المتواصل ضد الرجعية، وهو هجوم كان من الجريمة اضعافه بالسيطرة والدفاع عن موقع سلمه العدو عنوة لإضعاف الهجوم العام. حاولوا تكرار هذه الحجج خارج تلك المقدمة الجوهرية وستشعرون توا بنشاز كل «موسيقاكم» ونشاز النغمة الأساسية.
كما أن محاولة تبرير المقاطعة بالفرق بين الدوما الثاني و الثالث عبثية أيضا. إن إيجاد فرق جدي وأساسي بين الكاديت (الذين سلموا الشعب في الدوما نهائيا للمئات السود [ف] ) والأوكتوبريين [ق]، وإيلاء أهمية فعلية بعض الشيء للدستور الشهير الذي مزقه انقلاب 3 يونيو، لهو من قبيل نزعة ديموقراطية مبتذلة أكثر من كونه اشتراكية ديموقراطية ثورية. لقد قلنا دوما وأكدنا أن دستور الدوما الأول والدوما الثاني ما هو إلاّ سراب، وأن ثرثرة الكاديت لم تكن تجدي سوى لستر «نزعتهم الأكتوبرية»، وأن الدوما عاجز مطلقا عن تلبية مطالب البروليتاريا والفلاحين. إن 3 يونيو 1907، بالنسبة لنا، نتيجة طبيعية وحتمية لهزيمة ديسمبر 1905. لم «نفتتن» أبدا بمحاسن دستور مجالس الدوما، لذا لا يمكن أن نخيب للغاية بفعل الانتقال من رجعية مزيفة، مرفقة بجمل روديتشيف الجوفاء، إلى رجعية صريحة فظة وبلا قناع. لا بل ربما كانت هذه الأخيرة وسيلة أعظم فعالية لتبديد أوهام كل أولئك البلداء الليبراليين طليقي العنان ومجموعات السكان التي دوخوها.
قارنوا مقرر المناشفة بستوكهولم ومقرر البلاشفة بلندن حول دوما الدولة. سترون أن الأول مفخم ومحشو بجمل وكلمات طنانة حول دوما الدولة وأهمية عمله. أمّا الثاني فهو بسيط وجاف وواضح ومتواضع. المقرر الأول مفعم بتحمس بورجوازي صغير لزواج الاشتراكية الديموقراطية مع النزعة الدستورية («سلطة جديدة خارجة من حضن الأمة» الخ. دوما بنفس قريحة النفاق الرسمي). جوهر المقرر الثاني يقول: بما أن الثورة المضادة قد ألقت بنا في زريبة الخنازير الملعونة هذه، فسنعمل هنا أيضا لصالح الثورة دون تباك وأيضا دون تبجح.
إن المناشفة، بدفاعهم عن الدوما ضد المقاطعة في مرحلة النضال الثوري المباشر، التزموا أمام الشعب بأن يكون الدوما نوعا من أداة الثورة. وقد اخلوا علانية بهذا الالتزام. أمّأ إذا كنا التزمنا، نحن البلاشفة، فذلك لنبرهن، فقط، على أن الدوما حقارة جهنمية للثورة المضادة وأن لا نفع جدي يرجى منها. لحد الآن أكدت الأحداث بالكامل وجهة نظرنا. ويمكن أن نكون على يقين أنها ستواصل تأكيدها. ما من حرية في روسيا دون «تصحيح» استراتيجية أكتوبر-ديسمبر و تجديدها على قاعدة وقائع جديدة.
لذا حين يقال لي «لا يمكن استعمال مجلس الدوما الثالث على غرار الثاني، ولا يمكن أن نفسر للجماهير ضرورة المشاركة به»، أرغب في الرد: إذا جرى فهم كلمة استخدام بالطريقة المنشفية المفخمة، أي إذا اعتبر الدوما «أداة» للثورة الخ، فالأمر مستحيل طبعا. لكن مجلسي الدوما الأول والثاني كانا في الواقع مجرد أدراج مفضية إلى الدوما الأكتوبري، ومع ذلك استعملنا كليهما لهدف بسيط ومتواضع(4) (دعاوة وتحريض نقدي وتفسير الوضع للجماهير) سنعرف دوما كيف نستعمل لأجله أسوأ المؤسسات التمثيلية. لن يحدث خطاب في الدوما «أي ثورة» ولا تتميز الدعاوة بصدد الدوما بأي صفة خاصة، لكن الاشتراكية الديموقراطية ستستخلص من كليهما نفس الفائدة وأكثر أحيانا مما هو في خطاب مطبوع أو ملقى في جمعية أخرى.
كما يجب، بنفس البساطة، ان نفسر للجماهير مشاركتنا في الدوما الأكتوبري. بعد هزيمة ديسمبر 1905 وفشل محاولات 1906-1907 لترميم تلك الهزيمة، القت بنا وما زالت الرجعية في مؤسسات دستورية مزيفة ومتزايدة السوء. إننا سندافع دائما وفي كل مكان عن اقتناعاتنا وسنطبق وجهة نظرنا مرددين: لا خير يرجى طالما دام النظام القديم وطالما لم يقتلع. إننا سنعد المجال لمد جديد، وإلى غاية قدومه ولأجل هذا القدوم، يجب العمل بمزيد من الضراوة دون رفع شعارات عديمة المعنى خارج ظروف المد.
ومن المجانب للصواب اعتبار المقاطعة خطا تكتيكيا يضع البروليتاريا، وقسما من الديموقراطية البورجوازية الثورية، بوجه الليبرالية والرجعية. ليست المقاطعة خطا تكتيكيا بل طريقة خاصة للعراك تطبق في شروط خاصة. ومن الخطأ خلط البلشفية مع «نزعة المقاطعة» مثلما هو خلطها مع «النزعة القتالية». إن الفرق بين خط المناشفة التكتيكي وخط البلاشفة واضح وقد تبلور في المقررات المختلفة مبدئيا، التي صادق عليها المؤتمر البلشفي الثالث بلندن والندوة البلشفية في جنيف في ربيع 1905. لم يجر الحديث آنذاك، ولم يكن ممكنا أن يجري، لا عن «نزعة المقاطعة» ولا عن «النزعة القتالية». في انتخابات الدوما الثاني، حيث لم نكن آنذاك من المقاطعين، و في ذلك الدوما ذاته، تميز جذريا خطنا التكتيكي عن الخط المنشفي، وهذا ما يعرفه الجميع. تختلف خطوط التكتيك بصدد كل وسائل وطرق النضال وفي كل حلبات النضالات، دون أن ينفرد خط ما بمناهج نضال خاصة. ولو أمكن تبرير أو تحديد مقاطعة الدوما الثالث بانهيار الآمال الثورية المعلقة على الدوما الأول أوالثاني وبانهيار دستور «شرعي» و«قوي» و«صلب» و«حقيقي»، لكان ذلك أسوأ أنواع المنشفية.
– 6 –
خصصنا الختام لبحث أقوى الحجج، والماركسية منها لا غير، المؤيدة للمقاطعة. لا معنى للمقاطعة النشيطة خارج صعود ثوري واسع. لكن الصعود الثوري إنما ينمو انطلاقا مما هو أقل. وعلامات الصعود الثوري جلية. يجب رفع شعار المقاطعة لأن هذا الشعار يدعم وينمي ويوسع الصعود الثوري الناشئ.
هذه في نظري أهم الحجج التي تحدد، بشكل واضح إلى حد ما، الميل إلى المقاطعة في الأوساط الاشتراكية-الديموقراطية. وإن الرفاق الأقرب إلى العمل البروليتاري مباشرة لا ينطلقون من استدلال «مبنى» وفق نمط معين، بل من جملة انطباعات كسبوها من صلتهم بالجماهير العمالية.
إن احدى المسائل القليلة التي لا يبدو حولها خلاف لحد الآن بين الأجنحة الاشتراكية الديموقراطية هي سبب التوقف المستديم في تطور ثورتنا. ذلك السبب هو أن «البروليتاريا لم تنهض». وفعلا كاد نضال أكتوبر- ديسمبر يستند بالكامل على البروليتاريا وحدها. فوحدها البروليتاريا المنظمة قاتلت منهجيا، ودون هوادة، لفائدة الأمة برمتها. ولا غرابة أن ينهك هذا النضال، على نحو لا يتصور، البروليتاريا في بلد تعتبر فيه نسبة السكان البروليتاريين الاضعف (على مستوى أوروبا). علاوة على أن قوى الرجعية الحكومية والبرجوازية مجتمعة لم تكف عن مهاجمة البروليتاريا خلال سنة ونصف. واهلكت الملاحقات البوليسية واعمال التقتيل افضل عناصر البروليتاريا خلال سنة ونصف سنة. أمّا التسريحات المنهجية، بدءا بالإغلاق «القمعي» لمصانع الدولة وانتهاء بدسائس الرأسماليين ضد العمال، فقد القت جماهير العمال إلى بؤس لم يسبقه نظير. والآن، كما يؤكد بعض العمال الاشتراكيين الديموقراطيين، تلاحظ بين الجماهير علامات صعود حالة ذهنية ثورية وتراكم للقوى داخل البروليتاريا. ويتعزز هذا الانطباع المبهم والمدرك بصعوبة بحجة وازنة: يلاحظ في بعض قطاعات الصناعة استئناف أكيد للأعمال. فالطلب المتزايد على العمال سيقوي حركة الاضرابات. وعلى العمال أن يحاولوا تعويض ولو جزء من خسائرهم إبان القمع والتسريحات. وأخيرا لا تكمن الحجة الثالثة والأهم في الاهتمام بحركة إضراب غير أكيدة ومنتظرة عموما بل بإضراب هام جدا سبق أن حددته المنظمات العمالية. منذ بداية 1907، تفحص ممثلو 10 آلاف عامل نسيج وضعهم وحددوا مراحل تقوية النقابات في ذلك القطاع. واجتمع ممثل العمال ( بلغوا 20 ألف) مرة ثانية وقرروا إعلان إضراب عام لعمال النسيج في يونيو 1907. ويمكن أن تشمل هذه الحركة مباشرة 400 ألف عامل. وقد صدرت هنا من منطقة موسكو، أي من أهم مراكز الحركة العمالية في روسيا وأهم مركز صناعي وتجاري. وفي موسكو بالضبط دون غيرها يمكن للحركة العمالية الجماهيرية أن تكتسي طابع حركة شعبية واسعة لها دلالة سياسية حاسمة. ويمثل عمال النسيج، ضمن مجمل الجماهير العمالية، العنصر الأقل أجرا والأقل تطورا والأضعف مشاركة في الحركات السالفة والأوثق ارتباطا بالفلاحين. ويمكن أن تدل مبادرة هؤلاء العمال على أن الحركة ستشمل شرائح من البروليتاريا لا يقارن اتساعها مع سابقاتها، هذا علما أن صلة حركة الإضراب بالصعود الثوري داخل الجماهير أمر برهن عليه تاريخ الثورة الروسية مرارا.
إن تركيز الاهتمام على هذه الحركة وإيلائها مجهودا خاصا دون تأخير لهو واجب حقيقي على الاشتراكيةالديموقراطية. إن عمل هذا القطاع هو الذي يجب أن يحضى بأهمية مطلقة بالنسبة لانتخابات مجلس الدوما الأكتوبري. يجب اقناع الجماهير بضرورة تحويل حركة الاضرابات تلك إلى هجوم واسع وعام ضد الأوتوقراطية. ويشير شعار المقاطعة، على وجه الدقة، إلى انتقال الاهتمام من الدوما إلى نضال الجماهير المباشر. إن رفع شعار المقاطعة هو شحن الحركة الجديدة بمضمون سياسي وثوري.
هذه هي، على وجه التقريب، الطريقة التي توصل بعض الاشتراكيين الديموقراطيين إلى يقين ضرورة مقاطعة الدوما الثالث. لا شك أن هذا الاستدلال لصالح المقاطعة ماركسي، ولا يمت بصلة للترديد البسيط لشعار منزوع عن سياقه التاريخي الخاص.
لكن تلك الحجة، مهما كانت مقنعة، غير كافية بعد بنظري لجعلنا نتبنى آنيآ شعار المقاطعة. فهي تؤكد فقط على ما لا يجوز أن يقربه شك لدى اشتراكي ديموقراطي يفكر في دروس ثورتنا، الا وهو أنه لا يمكننا الامتناع عن المقاطعة وأن علينا أن نستعد لرفع هذا الشعار في اللحظة المطلوبة، وأن طريقة طرحنا لمشكل المقاطعة لا تلتقي في شيء مع طريقة اليبراليين والجهلة: الاستنكاف أو عدم الاستنكاف؟(6)
لنعتبر ما يقوله أنصار المقاطعة من الاشتراكيين الديموقراطيين عن تبدل ذهنية العمال، وانتعاش نشاط الصناعة واضراب عمال النسيج في يوليو، أمرا مبرهنا ومطابقا كليا للواقع. فماذا ينجم عن هذا كله؟ إننا إزاء حركة جزئية لها دلالة ثورية(7). هل يجب أن نكرس كل جهودنا لدعمها وتطويرها جاهدين لتحويلها إلى عمل ثوري معمم ثم إلى حركة هجومية؟ نعم. ولا خلاف حول هذا بين الاشتراكيين الديموقراطيين (ماعدا على ما يبدو المتعاونين مع توفاريشتش). لكن هل من حاجة في الدقيقة نفسها، في بداية ذلك التحرك الجزئي، وقبل أن يصبح عاما، إلى رفع شعار المقاطعة لتطوير الحركة؟ هل بوسع هذا الشعار مساعدة الحركة الحالية على التطور؟ ذلك سؤال آخر تتعين الاجابة عليه سلبيا بنظري.
يمكن ويجب أن نطور حركة عامة انطلاقا من تحرك جزئي بحجج وشعارات صريحة ومباشرة دون علاقة بمجلس الدوما الثالث. فكل تسلسل الأحداث بعد ديسمبر تأكيد لوجهة النظر الاشتراكية الديموقراطية حول دور الدستور الملكي وحول ضرورة نضال مباشر. إننا نقول: أيها المواطنون إن كنتم لا تريدون تراجع قضية الديموقراطية في روسيا دوما بنفس الحتمية وبسرعة متزايدة كما حدث بعد ديسمبر 1905، إبان هيمنة السادة الكاديت على الحركة الديموقراطية، إذا كنتم لا تريدون ذلك ساندوا العمل الناشئ للحركة العمالية وساندوا نضال الجماهير المباشر. إذ ليس ثمة خارج ذلك النضال ضمانة للحرية بروسيا.
إن تحريضا من هذا النوع سيكون دون شك تحريضا اشتراكيا ديموقراطيا ثوريا وحازما. وهل من ضرورة لاضافة: أيها المواطنون، لا تثقوا في مجلس الدوما الثالث وانظروا إلينا نحن الاشتراكيين الديموقراطيين نقاطعها استنادا على احتجاجنا.
ليست تلك الاضافة، في شروطنا الحالية، زائدة وحسب، بل غريبة وتكاد تكون سخرية. وحتى دون ذلك لا يؤمن أحد بالدوما الثالث. إذ لا يوجد، ويستحيل أن يوجد، في شرائح السكان التي قد تغذي الحركة الديمقراطية افتتان بالدوما الثالث كما كان الأمر، بلا جدال، بالنسبة للدوما الأول وبالنسبة للمحاولات الأولى لإنشاء أي نوع من المؤسسات بروسيا بشرط ان تكون دستورية.
كان اهتمام شرائح واسعة من السكان عام 1905 وبداية 1906 مستقطبا من طرف أول مؤسسة تمثيلية، رغم ان تلك المؤسسة ارتكزت على دستور ملكي. هذه واقعة. وكان على الاشتراكيين الديموقراطيين أن يحاربوا ذلك ويتظاهروا بأكثر الطرق استعراضا.
لم يعد الأمر الآن كما كان. فليس «الافتتان» بـ«البرلمان» الأول هو السمة المميزة للحظة، وليس الإيمان بالدوما بل نقص الإيمان بصعود الحركة.
في ظل هذه الشروط، لن ندعم الحركة بتاتا، ولن نزيح العقبات الفعلية التي تعترضها، إذا طرحنا شعار المقاطعة قبل أوانه. بل ثمة أكثر من هذا: إذا فعلنا ذلك سنضعف قوة تحريضنا، لأن المقاطعة شعار يترافق مع حركة بادئة، والمصيبة أن شرائح واسعة من السكان لا تؤمن في هذه اللحظة بصعود الحركة، ولا ترى قوتها.
علينا أولا أن نبرهن عمليا على قوة هذا المد: بعد ذلك، سننجح دوما في رفع شعار للتعبير غير المباشر عن هذه القوة. لكن قد نتساءل هل سيكون شعار خاص يصرف الأنظار عن …الدوما الثالث ضروريا لحركة ثورية هجومية؟ ربما لا. لكي نمر بمحاذاة شيء هام من شأنه بالفعل جر جماهير عديمة التجرية ولا عهد لها أبدا بالبرلمان، ربما يكون ضروريا أن نقاطع هذا الشيء الذي يجب أن نمر بمحاذاته. لكن للمرور بمحاذاة مؤسسة غير قادرة إطلاقا على جر الجماهير الديموقراطية أو شبه الديموقراطية الحالية، ليس من الضروري أن نعلن المقاطعة. لا يكمن الامر الأساسي اليوم في المقاطعة، بل في المجهودات الصريحة والمباشرة لتحويل التحرك الجزئي إلى تحرك عام، و الحركة المهنية إلى حركة ثورية، والدفاع ضد التسريحات إلى هجوم ضد الرجعية.
– 7 –
لنلخص. إن شعار المقاطعة ناتج عن مرحلة تاريخية خاصة. ففي 1905 وبداية 1906، كانت الحالة الموضوعية تتطلب من القوى الاجتماعية المنخرطة في النضال أن تحدد النهج الذي ستتبعه في الحال: الطريق الثوري المباشر أو المنعطف نحو ملكية دستورية. ومذاك، كان الموضوع الرئيسي لدعاوة المقاطعة هو النضال ضد الأوهام الدستورية. وكان شرط نجاح المقاطعة هو اندفاع ثوري واسع وعام وقوي وسريع.
لم يكن الوضع خريف 1907 من جميع الجوانب هذه يفرض بتاتا ضرورة هكذا شعار ولا يبرره نهائيا.
يجب علينا، إذ نواصل عملنا اليومي لاعداد الانتخابات، ودون التخلي مسبقا عن المشاركة بأكثر المؤسسات التمثيلية رجعية، أن نكرس كل عملنا الدعاوي والتحريضي لنفسر للشعب العلاقة بين هزيمة ديسمبر والانحدار الذي شهدته الحرية لاحقا وكذا تدني مكانة الدستور. علينا أن نرسخ في الجماهير الاقتناع بأن ذلك التدني سيتواصل ويتقوى حتما في غياب نضال جماهيري مباشر.
دون أن نمتنع عن تطبيق شعار المقاطعة في مراحل الصعود حيث يمكن أن تتأكد الضرورة الملحة لذلك، علينا حاليا أن نبذل قصارى جهدنا لنحول صعود الحركة العمالية هذا أو ذاك، عبر فعل مباشر وآني، إلى هجوم شامل وواسع وثوري ضد الرجعية برمتها وضد دعائمها.
هوامش :
1 – في ما يلي نص هذا القرار: «اعتبارا لما يلي: 1) ان القانون الانتخابي الذي دعيت بموجبه الدوما الثالثة يحرم الجماهير العمالية من حقوقها الانتخابية المتواضعة أصلا والتي كلفت غاليا. 2) إن هذا القانون تزوير واضح وفظ للارادة الشعبية لفائدة أكثر الشرائح رجعية وامتيازات. 3) ستكون الدوما الثالثة ثمرة انقلاب رجعي، سواء بطريقة انتخابهاأو تركيبها. 4) ستستعمل الحكومة مشاركة الجماهير الشعبية في الانتخابات لتعطيها مدلول تزكية شعبية للانقلاب. فإن المؤتمر الرابع لمندوبي اتحاد المدرسين والمربين بروسيا، يقرر: 1) التخلي عن أي علاقى مع الدوما الثالثة وهيئاتها. 2) عدم المشاركة كمنظمة مباشرة أو مداورة في الانتخابات. 3) إن يتشر بصفته منظمة وجهة نظر حول الدوما الثالثة وانتخاباتها كما يعبر عنها هذا القرار.»
2 – نشر هذا المقال في المجموعة الالمانية Internationales aus dem « Volksstaat » ” حول الموضوعات الدولية عن” دولة الشعب”
3 – يتعلق الأمر في مجمل هذا النص بالمقاطعة النشيطة، أي ليس بمجرد امتناع عن المشاركة في مساعي النظام القديم بل هجوم ذد هذا النظام. ويجب تذكير القراء الذين يجهلون المنشورات الاشتراكية-الديموقراطية لفترة مقاطعة دوما بولغين، أن الاشتراكيين-الديموقراطيين تحدثوا صراحة عن المقاطعة النشيطة معارضين قصدا المقاطعة السلبية ورابطين عمدا المقاطعة النشيطة بالانتفاضة المسلحة.
4- قارن بجريدة بروليتاري (جنيف). 1905، مع المقال حول مقاطعة دوما بولغين ( الاعمال الكاملة، جزء 9 – ص 181-189 ) حيث ورد أننا لا نمتنع عن استعمالها على وجه العموم، لكن لدينا اللحظة هدف آخر: النضال من أجل الطريق الثوري المباشر. قارن أيضا العدد 1 من جريدة بروليتاريي (روسيا): المقال «بصدد المقاطعة» حيث الاشارة إلى الابعاد المتواضعة لخدمات ال عمل داخل الدوما. “البروليتاري” (الصادرة بجنيف)ن جريدة اسبوعية لاشرعية بلشفية، جريدة مركزية لحزب العمال الاشتراكي-الديمقراطي الروسي، صدرت بقرار مؤتمر الحزب الثالث. ُعين لينين في 27 ابريل (10 مايو) بقرار من اجتماع اللجنة المركزية بكامل الاعضاء، مسؤولا عن الجريدة المركزية. صدرت هذه بجنيف بين 14 (27) مايو و12 (25) نوفمبر 1905، أي 26 عددا. واصلت البروليتاري خط الايسكرا اللينينية القديمة وكانم لها نفس توجه الجريدة البلشفية فبيريود؟ نشر لينين بهذه الجريدة زهاء 80 ملاحظة ومقال. وحددت مقالاته السيمياء السياسية لبروليتاري ومضمونها الايديولوجي وتوججها البلشفي. قام لينين بعمل هائل بصفته مديرا محررا. كانت بروليتاري ترد دون تأخر على كل الاحداث الهامة بالحركة العمالية الروسية والعالمية، وتخوض نضالا بلا رحمة ضد المناشفة وباقي العناصر التحريفية والانتهازيةز وقامت بالكثير من اجل نشر قرارات مؤتمر الحزب الثالث وتوحيد البلاشفة على صعيد تنظمي وايديولوجي. كانت بروليتاري تدافع بدأب عن الماركسية الثورية، وتدرس كل المشاكل الاساسية التي تطرحها الثورة الجارية. وكانت بتسليط الضوء من كل الزوايا على احداث 1905 تعبأ أوسع جماهير العمال من اجل انتصار الثورة. وكانت بروليتاري تمارس تأثيرا كبيرا على المنظمات الاشتراكية-الديمقراطية بالداخل.وكان يُعاد نشر بعض مقالات لينين ببروليتاري في الجرائد البلشفية المحلية وتوزع في مناشير. ُبعيد مغادرة لينين الى روسيا في بداية نوفمبر 2005 كفت بروليتاري عن الصدور. وكان فوروفسكي محررا للعددين الاخيرين (25 و26). لكن لينين كان كتب لها بعض المقالات لم تنشر الا بعد مغادرته جنيف.
5- “بروليتاري ” (الصادرة في روسيا)، جريدة بلشفية لا شرعية. صدرت من 31 اغسطس ( 3 سيبتمبر) 1906 الى 28 نوفمبر (11 ديسمبر 1909) بادارة لينين. صدر منها 50 عددا. كان متعاونا بانتظام مع ” يروليتاري” كل من فلاديميرسكي، وفوروفسكي، ولوناتشارسكي، و دوبروفسكي،، وكان عمل النشر التقني من انجاز شليشتر، الخ. اعدت الاعداد الفعشرون الاولى للطباعة وركبت في فيبورغ ( طبعت في بطرسبورغ واشير الى موسكو لاسباب امنية) وفي ما بعد تدهورت الشروط جدا فقامت هيأة التحرير، بقرار من لجان الحزب بموسكو وبطرسبورغ، بنقل مكان اصدار الجريدة الى الخارج ، فصدر الاعداد مكن 21 الى 40 في جنيف ، والاعداد ىمن 41 الى 50 بباريس) .
في الواقع كانت بروليتاري جريدة مركزية للبلاشفة. كان عمل التحرير الاساسي من فعل لينين. وضمت اغلب الاعداد العديد من مقالاته، اكثر من مائة مقال وملاحظة له حول اهم مسائل النضال الثوري للطبقة العاملة. كانت الجريدة تضم تحاليل معمقة لمشاكل التكتيك والسياسة العامة ، وتقارير عن انشطة اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي-الديمقراطي الروسي، وقرارات كونفرانسات اللجنة المركزية واجتماعاتها بكامل الاعضاءن ورسائل اللجنة المركزية حول مختلف مسائل نشاط الحزب وجملة كاملة من وثائق اخرى. كانت الجريدة وثيقة الارتباط بمنظمات الحزب المحلية. قامت جريدة بروليتاتري، خلال سنوات الردة الستوليبينية بدور رئيس في الحفاظ على المنظمات البلشفية وتعزيزها في النضال ضد التصفويين، والاوتزوفيين، والانذاريين و بناة الاله. تمكن المناشفة، بدعم من التوفيققين، في اجتماع اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي بكامل الاعضاء في يناير 1910 ، وتحت غطاء محاربة الاتجاهات التكتلية، من استصدار قرار بايقتف اصدار جريدة بروليتاري.
6 – قارن في توفاريشتش مثال تأملات ليبرالية عند متعاون سابق مع المنشورات الاشتراكية الديموقراطية والذي أصبح اليوم متعاونا مع الصحف الليبرالية، مارتوف
7 – ثمة رأي يعتبر اضراب النسيج حركة من طراز جديد تعزل الحركة المهنية عن عن الحركة الثورية. سنصرف النظر هن هذا الرأي، أولا لأن تأويل كل اعتراض ظاهرة معقدة على نحو متشائم هو منهجية خطيرة من حيث المبدأ وغالبا ما اظلت العديد من الاشتراكيين-الديموقراطيين. وثانيا ان كان لاضراب النسيج السمات المذكورة لواجب علينا نحن الاشتراكيين الديموقراطيين محاربتها بقوة. وفي حالة نجاح نضالنا سيطرح المشكل تماما على الوجه الذي قمنا به.
كتب: 26 يونيو 1907
المصدر: الاعمال بالفرنسية – دار التقدم – الجزء 13
ترجمة ونسخ: جريدة المناضل (مارس 2005)
==============================
ملاحظات الناشر
أ- يتعلق الامر بالمؤتمر الرابع لمندوبي اتحاد معلمي روسيا، الذي انعقد في فيلندا من 19 الى 24 يونيو ( 2 الى 7 يوليوز) 1907. كان من المندوبين 50 اشتراكيا ثوريا، و23 اشتراكيا ديمقراطيا، و 18 لا حزبيا، يمثلون أجمعين زهاء 2000 معلم منظم بروسيا. كانت بجدول الاعمال النقط التالية: -تصويت على انظمة الاتحاد، الانتخابات الى الدوما الثالث، العلاقات بباقي المنظمات النقابية، العلاقات مع الزيمستفو الحالي، مقاطهة مناصب المعلمين المسرحين، الاسعاف المتبادل، الح. جرى المؤتمر في مناخ صراع حاد بين الاشتراكيينالديمقراطيين والاشتراكيين الثوريين. كان لينين بتوصيفه لاتحاد المعلمين بانه”مهني وسياسي” يستند على كون الاتحاد، طبقا للبند الاول من نظامه، يخوض بموازاة نضاله من اجل تحسين الاوضاع المادية للمعلمين النضال من اجل حرية التعليم ويقوم في الآن ذاته بدور نقابة ورابطة سياسية.
ب- الاشتراكيون الثوريون، حزب ظهر في روسيا في متم1901 ومطلع1902 باتحاد مجموعات وحلقات شعبوية مختلفة(” اتحاد الاشتراكيين الثوريين”، حزب الاشتراكيين-الثوريين” ، الخ). كانت جرائده الرسمية هي جريدة Révolutsionnaïa Rossia [روسيا الثورية] و Vestnik Rousskoï Révolutsii [بريد الثورة الروسية] (1902-1905)، و Znamia Trouda [لواء العمل] (1907-1914). لم يكن الاشتراكيونالثوريون يرون فرقا بين البرويتاريا وصغار الملاكين، وكانوا يموهون التراتب الاجتماعي والتناقضات الداخلية للفلاحين، وينكرون دور البروليتاريا القيادي في الثورة. كانت تصوراتهم خليطا انتقائيا من الافكار الشعبوية والتحريفية: كان يجهدون، حسب تعبير لينين من أجل “سد ثقب الشعبوية باستعمال موضة “النقد” الانتهازي للماركسية” ( راجع اعمال لينين باريس- موسكو، جزء9، ص.320). كان تكتيك الارهاب الفردي، الذي يدعو اليه الاشتراكيون الثوريون كوسيلة اساسية للنضال ضد الاتوقراطية، يسبب ضررا بالغا للحركة الثورية، ويزيد صعوبة تنظيم الجماهير من اجل النضال. كان البرنامج الزراعي للاشتراكيين الثوريين ينص على الغاء الملكية الخاصة للارض، وتسليم هذه الارض للجماعات، وتطبيق “مبدأ العمل”، و” الانتفاع بالتساوي” بالارض وتطوير العمل التعاوني. لم يكن في الواقع ببرنامج “تشريك الارض” هذا أي مضمون اشتراكي. برهن لينين بتحليله لهذا البرنامج على ان الحفاظ على الانتاج السلعي والاقتصاد الخاص على ارض مشتركة لا يمنع سيادة الراسمال، ولا يحرر الفلاحين الكادحين من الاستغلال والهلاك، و ليس بوسع العمل التعاوني في نظام راسمالي أن ينقذ صغار الفلاحين بالنظر الى انه يشجع اغتناء برجوازية القرى. واكد لينين في الآن ذاته على ان مطلب انتفاع بالتساوي بالارض ليس مطلبا اشتراكيا بل يكتسي، على الصعيد التاريخي، طابعا ثوريا ديمقراطيا تقدميا بقدر ما هو موجه ضد الملكية العقارية الرجعية. كان الحزب البلشفي يزيل قناع محاولات الاشتراكيين الثوريين الظهور بمظهر اشتراكيين، ويناضل بضراوة لانتزاع الفلاحين من تأثيرهم، ويظهر ما يلحقهم تكتيك الارهاب الفردي من ضرر بالحركة العمالية. لكن البلاشفة كانوا مع ذلك يتحالفون مؤقتا مع الاشتراكيين الثوريين وببعض الشروط لمحاربة القيصرية. كان تنوع الفلاحين الطبقي يحدد التقلب السياسي والايديولوجي والارتخاء التنظيمي للاشتراكيين الثوريين، وتذبذبهم الدائم بين البرجوازية الليبرالية والبروليتاريا. منذ سنوات الثورة الروسية الاولى انشق حزبهم الى جناح يميني اسس حزب العمل الاشتراكي الشعبوي (الشرعي) القريب من الكاديت، وجناح يساري اكتسى شكل اتحاد شبه فوضوي “للقصويين”. شهد حزب الاشتراكيين الثوريين خلال حقبة الرجعية الستوليبينية ركودا شاملا على صعيد الافكار والتنظيم. واثناء الحرب العالمية الاولى اتخذت اغلبية الاشتراكيين-الثوريين مواقف اشتراكية-شوفينية. وبعد انتصار الثورة الديمقراطية البرجوازية في فبراير 1917، كان الاشتراكيون الثوريون، مع المناشفة والكاديت، الدعامة الرئيسية للحكومة المؤقتة المضادة للثورة، حكومة البرجوازيين والملاكين العقاريين. أما زعماء الحزب ( كيرنسكي/ افكسينتييف، تشيرنوف) فقد كانوا اعضاء بتلك الحكومة. رفض حزب الاشتراكيين الثوريين مساندة الفلاحين الذين كانوا يطالبون بتصفية الملكية العقارية وايد الحفاظ على الوضع القائم في هذا المضمار، وارسل الوزراء الاشتراكيونالثوريون حملات عقابية ضد الفلاحين الذي استولوا على اراضي الملاكين العقاريين. بعد اكتوبر 1917 اسس الجناح اليساري حزب الاشتراكيين الثوريين اليساريين المستقل، الذي اعترف رسميا بالسلطة السوفييتية وابرم اتفاقات مع البلاشفة. لكن اغلبية الاشتراكيين الثوريين بقيت معارضة لها وهاجرت اغلبية قيادتهم.
ت- انقلاب 3 (16) يونيو 1907، تجلى في حل مجلس الدوما الثاني ( من طرف الحكومة) وتغيير قانون الانتخاب الى الدوما. يوم 1 يونيو 1907، وبذريعة اتهام مختلق من الاوخرانا ضد المجموعة الاشتراكية الديمقراطية ( علاقات مع منظمة عسكرية وتحضير انتفاضة مسلحة) طالب ستولبين بوقف مشاركة المجموعة في اجتماعات الدوما، وكان اعضاء المجموعة الاشتراكية الديمقراطية مهددين بالاعتقال. وقد احدث مجلس الدوما لجنة لبحث مدى صحة التهم. لكن الحكومة، دون انتظار نتائج اشغالهـا، اعتقلت اعضاء المجموعة الاشتراكية الديمقراطية ليلة 2 (15) الى 3 (16) يونيو. ونُشر يوم 3 يونيو بيان من القيصر يقضي بحل مجلس الدوما الثاني وتغيير القانون الانتخابي. كان هذا القانون يزيد بنسب كبيرة عدد ممثلي الملاكين العقاريين والبرجوازية التجارية والصناعية في الدوما، ويخفض مرارا عديدة تمثيل العمال والفلاحين المقلص اصلا. كان ذلك خرقا فظا لبيان 17 اكتوبر 1905 وللقانون الاساسي لعام 1906، الذينيقضيانبعدم اصدار الحكومة أي قانون الا بمصادقة مجلس دوما الدولة. وكانت المقتضيات الجديدة تنص على اختيار ناخب كبير بهيئة ملاكي الارض من قبل 230 شخص، وناخب كبير بالهيئة الحضرية من الفئة الاولى من قبل 1000 شخص، وناخب كبير بالهيئة الحضرية من الفئة الثانية من قبل 000 15 شخص، وناخب كبير بهيئة الفلاحين من قبل 000 60 شخص، وناخب كبير بالهيئة العمالية من قبل 000 125 شخص. هكذا كان بوسع الملاكين العقاريون والبرجوازية اختيار 65% من كبار الناخبين، والفلاحين 22% ( مقابل 42% من قبل)، والعمال 2% ( مقابل 4 % من قبل). وكان القانون يحرم من حق التصويت السكان الاهالي بروسيا الاسيوية والشعوب التركية في اقاليم استراخان و ستافروبول و يقلص بالنصف تمثيل سكان بولونيا والقوقاز. هذا علاوة على حرمان غير الناطقين بالروسية من حق التصويت. انعقد الدوما الثاني، المنتخب طبقا للقانون الجديد، اول مرة يوم 1 نوفمبر 1907. وكان مشكلا اساسا من المائة السود والاكتوبريين. كان انقلاب 3 يونيو، حسب تعبير لينين، “انعطافا في تاريخ ثورتنا” (الاعمال الطبعة الروسية الرابعة، الجزء 15، ص 3) ، وفتحت حقبة الردة الستوليبينية.
ث- دوما بوليغين، “مؤسسة تمثيلية” ذات سلطة استشارية وعدت حكومة القيصر باجتماعها في 1905. ويوم 6(19) اغسطس 1905 ُنشر بيان للقيصر وقانون حول ارساء دوما الدولة ونظام انتخابي. سميت الدوما ” دوما بوليغين” باسم وزير الداخلية الذي كلفه القيصر بوضع مشروع جمعية تمثيلية. اعطي حق الانتخاب الى هذه الدوما للملاكين العقاريين، وكبار الراسماليين، وعد\د ضئيل من الفلاحين المالكين. لم يكن للفلاحين ضمن 412 مقعدا التي ينص عليها القانون غير 51. وكانت اغلبية السكان من عمال وفلاحين فقراء، وعمال زراعيين، و مثقفين ديمقراطيين، محرومة من حق التصويت. ومنعت النساء والجنود، ومن يتابع الدراسة، ومن يقل عمرهم عن 25 سنة وجملة من القوميات المضطهدة بروسيا القيصرية، من التصويت. لم يكن يحق لمجلس دوما الدولة التصويت على القوانين، بل مناقشة بعض المسائل بصفته هيئة استشارية لدى القيصر. كتب لينين بصدد دوما بوليغين انها”السخرية على النحو الاكثر وقاحة من التمثيل الوطني” ( الاعمال، باريس – موسكو ، الجزء 9 . ص 199). دعا البلاشفة العمال والفلاحين الى مقاطعة نشيطة لدوما بوليغين، وركزوا حملتهم التحريضية على الشعارات التالية: انتفاضة مسلحة، جيش ثوري، حكومة ثورية مؤقتة. ورأى المناشفة امكان المشاركة في الانتخابات وايدوا التعاون مع البرجوازية الليبرالية. استعمل البلاشفة حملة المقاطعة لتعبئة كل القوى الثورية، و شن اضرابات سياسية جماهيرية وتحضير الانتفاضة المسلحة. لم تجر الانتخابات ولم تتمكن الحكومة الاولى من دعوة الدوما. وكنس صعود الثوراة والاضراب السياسي العام في اكتوبر 1905 الدوما. راجع بخصوص مسالة دوما بولغين مقالات لينين التالية: “البازار الدستوري” .” وحدة القيصر مع الشعب و الشعب مع القيصر”،” في مؤخرة البرجوازية الملكية أو في مقدمة البروليتاريا الثورية والفلاحين” ، الخ ( الاعمال موسكو-باريس .جزء 8 ، ص 353-357 ، جزء 9 ، ص .181-189 ، 195-204 ، 217-229 )
ج – 9 يناير 1905 (“الاحد الدامي”): في هذا اليوم 9(22) يناير اطلقت الحكومة النار على حشد سلمي من العمال في بطرسبورغ كان متجها نحو قصر الشتاء لتسليم عريضة للقيصر. اثارت هذه المذبحة استياء كل العمال. و بدأت بالبلد برمته اضرابات احتجاج بشعار:” تسقط الاوتوقراطية”. مثلت احداث 9 يناير بداية ثورة 1905-1907.
ح – ” بوتمكين”، مدرعة من الأسطول الروسي بالبحر الأسود كانت من 14 الى 24 يونيو 1905 مسرحا لتمرد ثوري هام. كان لهذا التمرد اهمية سياسية استثنائية: لاول مرة يحدث عمل ثوري جماهيري في الجيش و الاسطول، ولاول مرة تنتقل وحدة عسكرية هامة الى جانب الثورة.
خ- يتعلق الامر بالاضراب السياسي العام في اكتوبر 1905، و بالانتفاضة المسلحة في ديسمبر 1905 بموسكو، ذروتي ثورة 1905-1907.
د- دوما فيته Witte: اول دوما، استدعي يوم 27 ابريل (10مايو) 1906 بمقتضى نظام وضعه فيته رئيس مجلس الوزراء. كان الاضراب العام لاكتوبر 1905 الذي تدفق على البلد برمته قد اجبر القيصر على نشر بيان يوم 17 اكتوبر حيث يعلن دعوة مجلس دوما الدولة ذي صلاحيات تشريعية . كانت الحكومة تأمل بذلك شق الحركة الثورية واضعافها، ثم ادخال البلد الى طريق الملكية الدستورية. وفي يوم 11(24) ديسمبر 1905، سنت الحكومة قانونا بشان الانتخابات الى دوما الدولة. وجرت الانتخابات في فبراير- مارس 1906. وشن البلاشفة حملة مقاطعة للدوما، مما ادى الى نسف هيبة المجلس وخفض ايمان قسم من السكان به. لكن تبينت استحالة اجهاض الانتخابات. يُعزى فشل المقاطعة بشكل رئيس الى غياب اندفاع ثوري جماهيري قادر على منع دعوة مجلس الدوما. وقد زاد من صعوبة العملية أن المناشفة سعوا الى خلخلة المقاطعة، وكان لدى الفلاحين اوهام دستورية قوية. عندما اجتمع المجلس ارتاى لينين فائدة في استعماله للقيام بالتحريض والدعاوة الثوريين ولفضحه بما هو تزوير فظ للتمثيل الشعبي. بلغ عدد النواب 478 منهم 179 كاديت، و63 autonomistes ، و16 اكتوبري، و105 لا حزبي، و97 ترودوفيك، و18 اشتراكي-ديمقراطي. كان اذن ثلث الاصوات بيد الكاديت. كانت المسالة الاولى بالدوما هي المسالة الزراعية. جرى التقدم ببرنامجين زراعيين اساسيين، مشروع قانون الكاديت وقعه 42 نائبا، ومشروع قانون الترودوفيك المعروف باسم ” مشروع المائة وأربعة”. كان الترودوفيك، بعكس الكاديت، ميالين الى الحفاظ على الملكية الكبيرة للارض رافضين نقل الملكية مقابل تعويض “بتقدير منصف” سوى لاراض يعمل بها الفلاحون بادواتهم الخاصة او اراض مكرية. لم يكن الدوما الاول، رغم ضعفه وما اتخذ من انصاف اجراءات، في مستوى امال الحكومة فيه. فتم حله يوم 8 (21) يوليو 1906.
ذ- رجل الجرس الزجاجي، بطل قصة لتشيخوف بهذا العنوان. نموذج البرجوازي البليد الخائف من كل تجديد ومبادرة.
ر- راجع انجلز ” ادب المهاجرين السياسي” ( ماركس وانجلز، الاعمال،الطبعة الروسية الثانية ، جزء 18)
ز- مؤتمر ستوكهولم، المؤتمر الرابع( التوحيدي) لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي المنعقد بستوكهولم من 10 الى 25 ابريل (23 ابريل الى 8 مايو) 1906. كان المناشفة اغلبية بالمؤتمر، ومرد ذلك الى أن منظمات حزبية بلشفية عديدة من التي قادت الجماهير في نضالاتها المسلحة كانت قد حطمت. بينما كان للمناشفة منظمات كثيرة الاعضاء بالمناطق غير الصناعية، حيث لا اعمال مسلحة جماهيرية، ولذلك تمكنوا من الحصول على عدد اكبر من المندوبين. كانت المسائل الرئيسية التي ناقشها المؤتمر:1- مراجعة البرنامج الزراعي.2- تحليل الظرف والمهام الطبقية للبروليتاريا.3- الانتفاضة المسلحة.4 – الموقف من دوما الدولة.5- أعمال حرب الانصار.6- الاتحاد مع الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية الوطنية.7- انظمة الحزب. نشب صراع حاد بين البلاشفة والمناشفة طيلة المؤتمر حول هذه المسائل كلها. القى لينين خطابات وقدم تقارير حول كل واحدة من تلك المسائل، وشارك في اشغال اللجنة المكلفة بصياغة مشروع الانظمة. اثرت غلبة المناشفة بالمؤتمر على القرارات المتخذة. وبعد صراع شرس صادق المؤتمر على المقررات المنشفية حول الدوما والانتفاضة المسلحة وتبنى البرنامج الزراعي المقترح من المناشفة. اما بخصوص الموقف من الاحزاب البرجوازية فقد اكتفى المؤتمر بتأكيد قرارات المؤتمر العالمي بامستردام. .وصادق المؤتمر دون نقاش على مقرر تراض حول النقابات، والمقرر حول الموقف ازاء حركة الفلاحين. وفي الآن ذاته صادق المؤتمر، بالحاح من قاعدة الحزب، على الفقرة الاولى من الانظمة بالصيغة التي اقترحها لينين، رافضا المقترح الانتهازي لمارتوف. ولاول مرة ضمت الانظمة الصيغة البلشفية حول المركزية الديمقراطية. كانت اللجنة المركزية المنتخبة من المؤتمر مكونة من 3 بلاشفة و7 مناشفة، وكانت هيئة تحرير الجريدة المركزية سوسيال ديمقراط مكونة من المناشفة حصرا. كشف الصراع بالمؤتمر لمناضلي القاعدة كل دلالة وعمق الخلافات المبدئية بين البلاشفة والمناشفة. حلل لينين اشغال المؤتمر في كراسة “تقرير حول مؤتمر التوحيد لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ( رسالة الى عمال بطرسبورغ)”.
س- دوباسوف، حاكم عام موسكو الذي سحق انتفاضة ديسمبر المسلحة، كان ابتداء من 1907 عضوا بمجلس الدفاع عن التراب. ستوليبين، رئيس مجلس الوزراء من 1906 الى 1911.
ش- الكاديت: اعضاء الحزب الدستوري الديمقراطي، االحزب الرئيسي للبرجوازية الليبرالية الملكية بروسيا. اُسس هذا الحزب في أكتوبر 1905، وكان مكونا من ممثلي البرجوازية، والملاكين العقاريين اعضاء الزيمستفو ومثقفين برجوازيين. وكان أشهر اعضائه ب.ميليوكوف، و س.مورومتسيف، و ف. ماكلاكوف، وأ. شينغاريف، و ب.ستروفه، وف. روديتشيف، الخ. كان مطلبهم الاشد راديكالية هو ملكية دستورية. كان الهدف الرئيسي للكاديت محاربة الحركة الثورية، ويميلون الى تقاسم السلطة مع القيصر والملاكين الاقطاعيين. ساندوا بنشاط خلال الحرب العالمية الاولى سياسة الحكومة القيصرية القائمة على الغزو. و حاولوا خلال ثورة فبراير الديمقراطية البرجوازية انقاذ الملكية. و سنوا، مستغلين موقعهم بالحكومة المؤقتة، سياسة معادية للشعب وللثورة. وبعد ظفر ثورة اكتوبر كان الكاديت من الد اعداء السلطة السوفييتية وهاجر اغلبهم.
ص- “توفاريشتش” [ الرفيق] جريدة يومية برجوازية صدرت في سان بطرسبورغ بيم 15(28) مارس 1906 و 30 ديسمبر 1907(12 يناير 1908). لم تكن رسميا جريدة لاي حزب، لكنها في الواقع جريدة يسار الكاديت. ساهم فيها بنشاط س. بروكوبوفيتش و أ . كوسكوفا. كما كتب بها مناشفة.
ض- ورقة اللجنة المركزية “رسالة الى منظمات الحزب” العدد 1، كتبت بمناسبة انقلاب 3 يونيو. جاء فيها: ” لا يمكن ان تبقي البروليتاريا والاشتراكية الديمقراطية، الناطقة باسمها، دون رد ودون احتجاج على فعل العنف هذا. لا تتخلى الاشتراكية الديمقراطية عن مواصلة الثورة وتطويرها.” كانت اللجنة المركزية تدعو منظمات الحزب، دون اعلان تدخل فوري، الى ” مساندة الحركة الناشئة وتطويرها حتى النهاية، والمبادرة توا الى التحرك، حيث امكن الاستناد بيقين على دعم نشيط وفعال من جماهير هامة، دون نسيان اخبار اللجنة المركزية.
ط- راجع رسالة ك. ماركس الى كوغلمان بتاريخ 3 مارس 1869.
ظ- الشارتية: حركة ثورية جماهيرية للعمال الانجليز سببها وضعهم الاقتصادي القاسي وغياب حقوق سياسية. بدأت الحركة حوالي 1840 بتجمعات ومظاهرات هائلة، ودامت حتى بداية سنوات 50 مع تقطعات. ما كان ينقص الحركة الشارتية هو قيادة بروليتارية تحركها روح ثورية حازمة وبرنامج محدد بوضوح. في هذا بالذات يجب البحث عن اسباب اخفاقاتها.
ع – بلالايكين، شخصية برواية سالتيكوف- شتشيدرين بعنوان “غزلية لزماننا”، يتعلق الامر بثرثار ليبرالي، مغامر وكذاب علاوة على ذلك، يضع مصالحه الانانية فوق أي اعتبار. مولتشالين، شخصية بمسرحية غريبويدوف “مصيبة امتلاك نباهة كثيرة”، وصولي و متملق.
غ- راجع ك. ماركس و ف. انجلز مختارات بالفرنسية في جزاين – جزء 1 . دار التقدم موسكو 1964 ص. 528 .
ف- ” المائة السود” عصابات ملكية خلقتها الشرطة القيصرية لمحاربة الحركة الثورية. كانت عصابات المائة السود تقتل الثوريين وتهاجم المثقفين التقدميين وتنظم المذابح بحق اليهود.
ق- الاكتوبريون، اعضاء حزب الاكتوبريين ( او “اتحاد 17 اكتوبر”) المؤسس بروسيا بعد نشر بيان القيصر في 17 (30) اكتوبر 1905. انه حزب مضاد للثورة كان يمثل ويدافع عن مصالح البرجوازية الكبيرة والملاكين العقاريين الذي يطبقون طرائق تسيير راسمالية . على على رأسه أ . غوتشكوف ، رجل الصناعة الشهير ومالك البنايات بموسكو و م. رودزيانكو، المالك العقاري الكبير. كان الاكتوبريون يساندون بلا تحفظ السياسة الداخلية و الخارجية للحكومة القيصرية.
اقرأ أيضا