تافسوت إيمازيغن/ الربيع الأمازيغي: دروس الماضي الكفاحي لمستقبل أكثر كفاحية
تحل الذكرى الخامسة والأربعون لانتفاضة الربيع الأمازيغي الأولى بمنطقة القبايل- الجزائر (20 أبريل 1980)، والذكرى الخامسة والعشرين لانتفاضة الربيع الأمازيغي الثانية بنفس المنطقة، ومعهما يزداد حال الأمازيغية (لغة وثقافة) ترديا، رغم كل الادعاءات الرسمية بإنصافها وإدماجها.
أُطلِقت دعوتان لتخليد ذكرى الربيع الأمازيغية، الأولى تدعو إلى مسيرة بمراكش، والثانية بالعاصمة الرباط. ويبدو أن الأولى تحظى بإجماع من طرف فعاليات الحركة الأمازيغية وتنظيمات النضال الأخرى، وعلى رأسها فروع تنسيقية أكال للدفاع عن الأرض والثروة وجمعيات المناطق المتضررة من زلزال الحوز وطلبة الحركة الثقافية الأمازيغية بمواقع جامعية عديدة… إلخ.
اختارت المبادرة الأولى مراكش كونها المركز الحضري للمنطقة التي ضربها الزلزال، ويساعد ذلك في تجميع ضحاياه وفرصة للتضامن معهم وللضغط على الدولة من أجل تسريع تنفيذ التزاماتها بخصوص إعادة الإعمار. بينما اختارت المبادرة الثانية الرباط وجعلت شعارا لها “دورة محمد شفيق” “عرفانا لما قدمه للقضية الأمازيغية علميا وفكريا”، كما وَرَد في بلاغ لـ”اللجنة الوطنية لمبادرة تافسوت ن ايمازيغن” (13 مارس 2025).
تعيد المبادرة الأولى ربط الجسور مع تقاليد الربيع الأمازيغي الكفاحية كما تجذَّرت في منطقة القبايل بالجزائر (1980 و2001). فالربط بين النضال من أجل الحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية والمطالب الاقتصادية والاجتماعية واختيار مدينة مراكش حيث بالإمكان ضمان أكبر مشاركة جماهيرية لضحايا سياسات الدولة، مؤشر إلى ذلك الاتجاه، رغم أن كل الإطارات الملتحقة بالمبادرة لا تشاطر هذا المنحى. يعيد هذا إلى الأذهان الوثيقة المطلبية لانتفاضة الربيع الأمازيغي الثانية بمنطقة القبايل بالجزائر، الوثيقة المعروفة بـ”أرضية القصور” في 11 يونيو 2001، والتي تتضمن 15 نقطة غير قابلة للمساومة… حيث طالب القبايليون بالاعتراف بالهوية الأمازيغية واتخاذ خطة إصلاح ونهوض اقتصادي بالمنطقة.
بينما يشير اختيار المبادرة الثانية (مبادرة الرباط) لتكريم محمد شفيق شعارا لمسيرتها إلى توجهها السياسي المراهن على الدولة والحوار معها لإحقاق الحقوق الأمازيغية، وليس على النضال الجماهيري. كان لمحمد شفيق دور كبير في إجهاض مسعى نقل الربيع الأمازيغي من الجزائر إلى المغرب سنة 2000. ففي سياق تلك الانتفاضة جرى تأسيس لجنة “تاودا إيمازيغن” بالمغرب سنة 2000، وأُنشِئت لجان للتعبئة. لكن النظام المغربي تدخل بسرعة من أجل إفشال تلك التعبئة، مستعملا محمد شفيق لتلك الغاية، مُصدرا بيانا عُرف باسمه: “بيان محمد شفيق”. وكان الخيار واضحا بالنسبة لكاتب البيان والموقعين عليه: “لم يُرَد له أن يكون في جو من التهريج ولا في جو من البلبلة، أريد له أن يقدم بلباقة، وأن ننتظر بأناة ولباقة. بدون تهريج، ولكن مع توضيح الأمور”، أيْ اختيار أسلوب تقديم المذكرات المطلبية التي رسختها أحزاب المعارضة الليبرالية بالمغرب (ما سُمي سابقا بـ”الكتلة الديمقراطية” والتي كانت تضم الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية…).
كان محمد شفيق، إلى جانب أحمد الدغرني وعبد الحميد الزومري، ضمن وفد شارك في مفاوضات سرية مع محمد رشدي الشرايبي مدير ديوان الملك محمد السادس، ومزيان بلفقيه، ومستشار الملك ، وحسن أوريد الناطق الرسمي باسم القصر الملكي. جاء هذا اللقاء في سياق تجذر انتفاضة القبايل بالجزائر، وكانت قيادات من الحركة الأمازيغية بالمغرب ستشارك في لقاء كانت ستحتضنه جامعة “مولود معمري” بمدينة تيزي وزو بالجزائر، وجرى التراجع عن تلك المشاركة بعد اتصال من محمد شفيق بأحد أعضاء الوفد (أحمد الدغرني) بمبرر أن “مستجدات كثير ستحصل في المغرب”. وكان المستجد هو المشاركة في تلك المفاوضات السرية.
وجد محمد شفيق لدى النخبة المثقفة التي كانت في قيادة الحركة الجمعوية الأمازيغية استعدادا لقبول ذلك المسار. فهذه النخبة تربَّت في سياق سياسي هيمنت فيه الأحزاب الليبرالية (على رأسها الاتحاد الاشتراكي) على معارضة المَلكية التي قمعت كل معارضة جذرية، فاسحة المجال أمام هيمنة الأولى. اقتفت قيادة الحركة الأمازيغية آثار “استراتيجية النضال الديمقراطي”، التي أرستها تلك الأحزاب الليبرالية، وحاملة شعار “الأمازيغية مسؤولية وطنية” إشارة إلى أن الحركة تريد تعبئة كل قطاعات المجتمع من مؤسسات وأحزاب وتنظيمات، دون أن تتعداها للتغلغل في الطبقات الشعبية القادرة وحدها على حمل المطالب الأمازيغية.
يُفسَّر الاختلاف بين تجربتي القبايل/ الجزائر والمغرب باختلاف السياق السياسي وخصوصيات التيارات المتدخلة في حركتي كلا البلدين ودور الحركة العمالية. ففي الجزائر كان لليسار الثوري دور كبير في تخصيب منظورات الحركة (خصوصا بمدينة بجاية)، كما كان للحركة العمالية دور كبير في تجذير الانتفاضة بالقبايل، خصوصا نقابات التعليم في بجاية وتيزي وزوز، حيث قام تنسيقٌ للجان الطلاب ونقابات المدرسين وعمال التربية وبعض لجان القرى والأحياء ببناء جنين للتنظيم في القاعدة في المدن والقرى.
أما في المغرب فالأسلوب السائد هو ما أشاعته أحزاب المعارضة الليبرالية: تنسيقات وطنية فوقية تتكون من تمثيلية الإطارات والهيئات مع سعي واعٍ إلى عدم الانغراس شعبيا، وقد أظهر سلوك هذه الجمعيات إبان حراك الريف تخوفها من أي نضال شعبي منبعث من أسفل، وكان حراك الريف 2016/ 2017 أقرب إلى انتفاضة الربيع الأمازيغي الثانية (2000) سواء من حيث أسباب الاندلاع (اغتيال ماسنيسيا كرماح في القبايل، واغتيال محسن فكري في الحسيمة) أو تطورات الأحداث والمطالب المرفوعة، رغم فروقات جوهرية في ما يخص تنظيم الاحتجاج: في القبايل تأسست تنسيقيات العروش والقرى وكانت تنظيما من أسفل مع تعددية سياسية، بينما في الريف انفردت قيادة (على رأسها الزفزافي) بالقرار محاربة أي تعددية سياسية في صفوف الحراك.
النقابات العمالية بالمغرب الخاضعة لهيمنة بيروقراطيات عمالية موالية لأحزاب برجوازية والدولة، فهي ترفض الانخراط في هذا النضال، شأنَ رفضها الانخراط في النضال من أجل المطالب النسوية والقضايا البيئية… إلخ. أما اليسار فضعيف إلى حد لا يستطيع معه التأثير في الحركة القائمة المناضلة من أجل الحقوق الأمازيغية.
سينحدر وضع الأمازيغية (ثقافة ولغة) ما دامت الحركة المناضلة من أجلها تراهن على “إرادة سياسية حقيقية” لدى الدولة من إجل إنصافها، وهي جملة واردة في البلاغات الداعية لكلا المسيرتين (الرباط ومراكش). فقط تنظيم شعبي وعمالي من أسفل وديمقراطي حتى النهاية، هو ما يستطيع إجبار الحاكمين على الرضوخ للمطالب الشعبية، وضمنها الحقوق الثقافية واللغوية والأمازيغية. حتى ما يجري “تثمينه” حاليا من طرف تنظيمات الحركة الأمازيغية على أنه “تطورات دستورية”، فقد جرى انتزاعها من الحاكمين بسبب خوفهم من ثورات 2011، وقبلها إدماج الأمازيغية في التعليم والإعلام (الناقص حسب تنظيمات الحركة)، جرى فرضه على الحاكمين بسبب خوفهم من امتداد نار انتفاضة الربيع الأمازيغي الثانية بالقبايل/ الجزائر 2000 إلى المغرب.
اقرأ أيضا