واحات باني الغربي/ طاطا، الرأسمالية تدمر وتستنزف بيئتنا

بقلم- ماسين

تمتد واحات طاطا من السفوح الجنوبية للأطلس الصغير إلى مشارف الصحراء جنوبا على مساحة 25925 كيلومتر مربع، وعلى الموقع الفلكي بين خطي عرض 28 و30 درجة شمال خط الاستواء، وبين خطي الطول 5 و9 درجة غربا، وتنتمي واحات طاطا إلى الحوض الكبير لدرعة الأسفل، حيث تحده سلسلة جبال الصغير في الشمال وسلسلة جبال باني في الجهة الشرقية الجنوبية.

مناخ قاس يفاقم المعاناة
يسود واحات طاطا المناخ الصحراوي الجاف والمعروف بارتفاع درجة الحرارة صيفا وانخفاضها في فصل الشتاء وجفاف تام طيلة السنة، ذلك راجع إلى انفتاح المنطقة على الصحراء الكبرى وما تتعرض له من تيارات جافة قادمة من الجنوب وإلى موقعها ضمن العروض المدارية الجافة. كما تَحُول جبال الأطلس الصغير في الشمال وجبل باني في الغرب دون تسرب الكتل الهوائية الرطبة إلى الواحات، الشيء الذي يجعل المنطقة تعيش ظروفا مناخية صعبة وقاسية تؤثر على أنشطة السكان الاقتصادية ويفاقم مآسيهم.
تتميز المنطقة كذلك بمناخ قاري يجعل التساقطات ضعيفة جدا وقد تنعدم في بعض الشهور من السنة، فمعدل فالتساقطات السنوية بمحطة طاطا لا تتجاوز 100 ملم في السنة، وتتلقى في بعض الأحيان تساقطات مطرية عنيفة تكون على شكل زخات رعدية فجائية في فصل الصيف مما ينجم عنها خسائر كبيرة كتدمير التربة وانجرافها، وكذا تدمير لبعض المباني السكنية والبنيات التحتية وقنوات السقي والخطارات، كما وقع سنوات 1995-2003-2014-2024.
تظهر ظاهرة التصحر بالمناطق الجنوبية والصحراوية عموما، وفي الواحات خاصة على شكل كتبان رملية زاحفة نحو المناطق الرطبة ذات خصوصيات طبيعية هشة ومحدودة (الواحات)، حيث أصبحت هذه الظاهرة تزداد بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، إذ بدأت الواحات تفقد أجزاء كبيرة من مساحاتها، كواحات فم الزكيد وأقا وواحة توكريح… بسب توالي الجفاف والتعرية الريحية والرملية وحتى المائية بسبب فيضانات الأودية خاصة في فصل الخريف.

المياه بالواحة بين الندرة والاستنزاف
استقر الانسان في الواحات بسبب توفرها على مصادر مائية مهمة، وعمل على ابتكار آليات وتقنيات ساهمت بشكل كبير في تدبير الموارد المائية واستدامتها خاصة في فترات الجفاف والعجز المائي، مما مكنه من ممارسة أنشطة اقتصادية متنوعة خاصة في القطاع الفلاحي، لأن السدائم المائية بالمنطقة عميقة، مكونة أساسا من فرشات مائية باطنية هامة، تستمد مخزونها المائي من الأمطار والثلوج المتسربة من أعالي جبال الأطلس الصغير التي تخرج على شكل عيون في أقدام الجبال وعلى جنبات الأودية والأنهار. فيشكل الماء عصب الحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة الجافة.
ونظرا لتوالي سنوات القحط وصار الجفاف الحاد شيئا بنيويا في المنطقة، فإن واحات طاطا تعرف عجزا كبيرا في المياه وانخفاض في مستوى الفرشة المائية التي تتغذى عليها عيون الواحات، ولتعويض هذا النقص لجأت السكان إلى حفر الآبار والثقوب المائية، وهو ما انعكس سلبا على الفرشة الباطنية وزاد من عمقها.
ما زاد من حدة وتدهور هذه الموارد المائية هو التدخل الرأسمالي الاستثماري العنيف، خاصة ما بعد 2010، بعد أن جففت رأسمالية البطيخ الأحمر واحات زاكورة والمحاميد، وانتقلت إلى واحات طاطا، وتم الاستنزاف من خلال الضخ المفرط وارتفاع الطلب على الماء.

من الفلاحة المعاشية الى الاستثمارات الفلاحية
يلعب النشاط الفلاحي دورا مهما في النسيج الاقتصادي المحلي، بحيث يشغل حوالي %80 من السكان النشيطين، وهي فلاحة معاشية وتسويقية محدودة في الأسواق الأسبوعية المجاورة للواحات، ولم تصل درجة الانفتاح على الأسواق الكبرى إلا بعد ظهور الضيعات الفلاحية الكبرى للبطيخ والخضروات الموسمية، واستحواذها على مئات الهكتارات من الأراضي السلالية عن طريق الكراء، وأحيانا عن طريق الترامي على الأملاك الفردية والجماعية، حيث فتحت وزارة الداخلية هذا الباب من خلال إصدار قانوني 67-17 و65-17، من أجل استحواذ على ما يقارب مليون هكتار من الأراضي السلالية بالمغرب ومن بينها أراضي طاطا وأراضي المحبس بآسا الزاك، وكل ذلك من أجل إدخال هذه المناطق البوار، كما يسمونها، إلى سلسلة الإنتاج الاقتصادي على حساب السكان.
أسالت الأراضي الشاسعة والمنبسطة لعاب الرأسمالية الزراعية، حين تم تجفيف مناطق درعة العليا وزيز، بواسطة ضيع تمور المجهول من طرف رأسمالية دولية (خاصة الكيان الصهيوني) والمحلية، بحث تمثل المساحة الصالحة للزراعة في واحات طاطا 64150 هكتار أي ما يقارب ثلث المساحة الإجمالية للإقليم، وتهم بالخصوص الواحات ومجاري الأودية ومناطق الفيض ومخاريط الانصباب (الفم/ ايمي/ الخنك)، فظهرت المضخات الآلية الحديثة والصهاريج البلاستيكية لتجميع المياه، من أجل السقي على مدار اليوم والأسبوع، الأمر الذي أثر في منسوب المياه وعمق آبار السكان الذين يعيشون على ما تنتجه الأرض من مزروعات وكذلك النخيل خلال مواسم الحصاد.
أصبحت هذه الاستثمارات الزراعية تصدر آلاف الأطنان من المزروعات إلى الأسواق الداخلية والعالمية، والتي تستنزف المياه، فرغم منع السلطات زراعة البطيخ بسبب احتجاجات السكان وعرائض الجمعيات، إلا أن هذه الرأسمالية الزراعية لا تزال تنهب ثروات المنطقة المائية بإدخال زراعات دخيلة على المنطقة كالطماطم والقرع والبصل، والتي بدورها تحتاج كميات كبيرة من الماء، علاوة على تدمير البيئة الهشة أصلا بسبب المبيدات الحشرية والمخلفات البلاستيكية.

تدمير البنى التقليدية وتدخل الدولة ومؤسساتها
هذه التحولات التي واكبت الإنتاج الفلاحي بدأت تنهي بقايا السقي والفلاحة التقليديين بالواحات (واحات طاطا، فم الحصن، أكوليز، إسافن، تسنت، توكريح…)، التي كانت تعتمد نظام السقي بوسائل تقليدية كالشادوف أو أغرور، والطاسة، والخطارات. ويعزى ذلك إلى توالي سنوات الجفاف وانتشار مرض البيوض الذي يصيب النخيل، وهناك عوامل أخرى مؤثرة كالتصحر وملوحة التربة. لكن لرأسمالية الزراعية فاقمت الأمر بشكل جلي.
كان تدبير الأمور بواحات طاطا كغيرها من الواحات بالشريط الجنوبي – الشرقي من تافيلالت إلى آسا، يجري عبر مؤسسة «الجّْمَاعة» التي توكل لها مهمة تدبير وتنظيم العلاقات الاجتماعية وكذلك علاقة الإنسان بالطبيعة، وهذه الأعراف تفصل بين مستعملي الماء، وفض النزاعات المرتبطة بتوزيعه، وكذا طرق تقنينه وحمايته من الإهدار، من خلال حق النوبة.
فكان النظام العرفي هو محاولة عقلنة استعمال المياه والحفاظ عليها من كل عوامل التلوث، وكذلك حماية هذه المادة الحيوية من كل تبذير وعشوائية الاستعمال، كما أنه يحفظ التساكن واللحمة الاجتماعية وإيجاد حلول توفيقية دائمة لضمان الأمن والأمان الهشين، اللذين كانت تهددهما باستمرار الخصومات والمنازعات حول الأرض والماء. فلعبت هذه التنظيمات دورا بارزا في تنظيم واستقرار الحياة الاجتماعية في مثل هذه المناطق الجافة.
في نهاية التسعينات تدخلت الدولة من خلال مؤسساتها، لتأسيس جمعيات خاصة لتدبير المياه، سواء السقي أو الشروب، وهي محاولة لضبط السكان في استعمالهم للماء، وكذا كوسيلة لإدخال الممكنة الجديدة للواحات التقليدية، فأصبحت هذه الجمعيات خاصة التنموية الوسيط بين السكان أو الفلاحين مع مؤسسات الدولة، واستعملتها الدولة خاصة وزارة الداخلية غير ما مرة في الانتخابات أو لضبط احتجاج السكان، وجعلتها كترباق يستنجد به من أجل تنمية المنطقة، وسبيلا لذلك، واستعملت من طرف منتخبين وأشخاص لاغتناء على حساب المقهورين.
شجعت الدولة منذ بداية الألفية الثالثة تناسل الجمعيات كالفطر، كي تقوم بالأدوار المنوطة للدولة، فباتت هي الفاعل الرئيس في الواحات، من خلال تقديم دعم المشاريع والدعم المالي والمنح من طرف مؤسسات الدولة، لدر الرماد في أعين السكان، حول أوهام التنمية والازهار.
ومع توالي الإجهاز على أملاك القبائل والمداشر، أحدثت الدولة الجماعات السلالية لتدمير ما تبقى من الأراضي الجماعية، وضمها للدولة وتكون تحت إشرافها وبذلك تدق اخر مسمار في نعش التنظيمات التقليدية والملكيات الجماعية.
وبسبب التغيرات المناخية وتفاقمها وغياب أي بديل اقتصادي أمام تعديات الدولة ومحدودية تدخلها في الواحات بطاطا، في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة، تشهد هذه المنطقة نزيفا ديمغرافيا يتمثل في الهجرة الخارجية والداخلية بشكل كبيرـ ما يفرغ الواحات من العنصر البشري ويدمر التراث الثقافي للمنطقة مع توالي السنين.

من أجل واحات صامدة
تعيش الواحات بالمغرب عامة، وضعا مزريا، يتمثل أساس في تفاقم آثار الاحتباس الحراري، الناتج عن الإنتاج المفرط وغير العقلاني لموارد الطبيعة، من قبل الرأسمالية الساعية لمراكمة الأرباح على حساب الكوكب، ما يهدد الحياة البشرية والطبيعية على الأرض، فتجد سكان المناطق المهمشة نفسها تحت نير التغيرات المناخية وهو نفس الحال الذي أضحت واحات طاطا تشهده مؤخرا: استفحال الجفاف وامتداد التصحر وتهديدات الفيضانات، ما يترتب عنها من ضحايا هذه المخاطر البيئية والطبيعية.
لهذا لا بد من تعبئة السكان وتوعيتهم بطبيعة ومخاطر التغيرات المناخية وأسبابها، وكذا سبل المقاومة ومسؤوليات الدولة ومؤسساتها، وكذا تنظيم الضحايا والسهر على التشهير بأوضاعهم وأضاع الواحات وذلك من خلال:
– تحميل الدولة مسؤولية حماية الممتلكات ومصادر عيش السكان بهذه الواحات، بتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية خاصة الطبية بجودة عالية؛
– وضع تدابير استباقية لحماية السكان من المخاطر المحتملة فيضانات وحرائق وموجات الحر، وذلك بتوفير المعدات الطبية والإنقاذ وطائرات للتدخل الآني والعاجل اثناء وقوع الكوارث، فتجربة الفيضانات الأخيرة خير دليل على تقصير الدولة في إنقاذ الضحايا؛
– منع الفلاحة المستنزفة للماء بشكل فوري وعاجل، عوض الحديث عن التقنين أو التقليص؛
– فرض ضريبة تصاعدية على كبار الفلاحين المستغلين للماء بالواحات.
في الأخير، إن معاناة الواحات من شح الأمطار، وارتفاع الحرارة، والحرائق، والفيضانات، ليست ظواهر مؤقتة ولا عرضية، بل هي نتاج تغيرات مناخية جديدة أكثر شدة، لهذا من الضروري اليوم أن يعيَ كادحو وكادحات البلد عامة، والواحة بالخصوص بأبعاد قضية البيئة والتغيرات المناخية، وإدراجها في نضالاتهم- هن ضد من يراكمون الأرباح على حسابهم- هن.
لهذا، لا مناص من النضال لأجل مشروع اقتصادي بديل قائم على تلبية الحاجات الأساسية للإنسانية، وعلى الحفاظ على استدامة المحيط البيئي، أكثر واقعية من وهم استمرار الحياة على الأرض مع الاستنزاف المجنون للمحيط البيئي، وارتفاع معدلات التلويث الحالية. لم يعد النضال ضد النظام الرأسمالي مبرَّرا بعجزه الهيكلي عن تلبية الحاجات الأساسية وحسب، بل أيضا بحماية الحياة فوق الأرض المهددة بالتغيرات المناخية الناتجة عن منطق هذا النظام. ما يجعل أفق هذا النضال متمثلا في الاشتراكية البيئية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا