النسوية (في معجم الماركسية النقدي) (*)
بقلم: فرانسواز باليبار Françoise Balibarوناديا لابيكا Nadya Labica
ترجمة : إبراهيم بن صالح
التوق إلى تحسين وضع المرأة هو إرادة جماعية من أجل التصدي للاضطهاد الذي تتعرض له بصفة خاصة. وقد كانت هذه النزعة موجودة قبل أن توجد الماركسية نفسها. (أنظر مثلاً الحركات النسائية أثناء الثورة الفرنسية وإعلان حقوق المرأة لأوليمب دوغوج، وبالرغم من أن تحرير المرأة كان محور مناقشات الأحزاب الاشتراكية الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر، فإن الماركسيين الأوائل كثيراً ما كانوا يأخذون الحركة النسائية بمعنى ضيق فيقصرونها على البورجوازية، بل كانوا يأخذونها في أحسن الحالات على أنها حركة نسائية يكتنفها الغموض وفي أسوأ الحالات على أنها مطلب طبقي، مطلب من مطالب الطبقة البورجوازية: “كان رفاقي في الحزب يتهمونني بمناصرة المرأة”، هذا ما قالته الكسندرا كولونتاي في سيرتها الذاتية(1). لقد كانت مطالب الحركة النسائية البورجوازية تتمثل في: تمكين المرأة من حق الانتخاب وممارسة الأعمال الحرة والمساواة في الحقوق السياسية وتمكينها من فرصة التكون مثلما يتكون الرجل. وكانت هذه المطالب مردودة برمتها من قبل الحركة الاشتراكية الماركسية لأنها مطالب تتنزل خارج علاقات الإنتاج: إن الذين يتهجمون على الطرق التي تُعامَل بها النساء حالياً، بدون أن يبحثوا عن السبب في النظام الاقتصادي للمجتمع المعاصر هم بمثابة الأطباء الذين يعالجون الداء في موضع ما دون فحص الحالة العامة للمريض(2). وظلت هذه المعارضة لأطروحاتالحركة النسائية البورجوازية على حالها زمناً طويلاً، حتى إن المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية لم تُدرَج في برنامج الأممية الاشتراكية. ومع هذا فإن بعض الاشتراكيين وفي مقدمتهم بيبل كانوا يناضلون بإصرار من أجل أن تنال المرأة حقها في الانتخاب،ولِيؤخذَ هذا المطلب اليسير بعين الاعتبار: “إن عدم المساواة الواضح والملموس بين الرجال والنساء قد ولَّد لدى العناصر المتقدمة من النساء الطموح إلى تحقيق الحقوق السياسية كي يتمكَّن من التحرك في إطار الشرعية فيصلن إلى تحقيق المساواة الكاملة. وهذه هي الفكرة نفسها التي حدتْ بطبقة الشغيلة لتقود التحركات في كل مكان من أجل الفوز بالسلطة السياسية. ما يمكنأن يكون صحيحاً بالنسبة إلى طبقة الشغيلة لا يمكن ألا يكون كذلك بالنسبة إلى النساء” (3). وتقول الكسندرا كولونتاي أيضاً: “لقد اندفعتُ إلى النضال في جو الانتخابات وحاولتُ توجيه الحركة العمالية نحو تبني مسألة المرأة كواحد من أهداف نضالها”، وأضافت: “كان من الصعب جداً كسب تأييد رفاقي لهذه الفكرة” (4). وبالفعل، فإنه في مؤتمر الأممية الثانية فقط (16) – 22 آب/ أوغسطس (1891) استطاع أنصار المرأة بالكاد في النهاية وبعد معركة حامية أن يُدرِجوا في اللائحة العامة بنداً يطالب بـ “حمل الأحزاب الاشتراكية. على فرض حقوقللمرأة تكون مطابقة لحقوق الرجل في المجالين المدني والسياسي” (5).
فسنة 1891 تُعَدُّ إذا منعرجاً في تاريخ العلاقات بين الماركسية والحركة النسائية؛ إنه الاعتراف بالمضمون التقدمي إن لم نقل الثوري لهذه الحركة والاعتراف بقيمتها السياسية. تقول الكسندرا كولونتاي: “لقد سخَّرتُ حياتي لجمع كل ما له صلة بالنضال من أجل تحرير المرأةوبالتالي لبيان مضمون هذا النضال…وللتأكيد على ما له من أهمية في تسوية المشكلات الاجتماعية لعصرنا، وخاصة منها مشكلة تحرير المرأة تحريراً كاملاًّ (6). ابتداء من هذا التاريخ، حلت فترة تمتد إلى سنة 1925 كانت فيها الماركسية ذات تأثير عميق في تطور الحركة النسائية؛ ففي ذلك الوقت بالفعل انبثق في صلب الحركة النسائية “تيار نسائي ماركسي” يعارض الحركة النسائية البورجوازية ويعتني كبيرَ اعتناءٍ بكيفية التباين معها. وهكذا في المؤتمر الأول للمناديات بحق الانتخاب المنعقد في سان بيترسبورغ سنة 1908 “تدخلت مجموعة من العاملات ببرنامجهن الخاص وأقمن خط التباين بوضوح بين الانتخابات البورجوازية وحركة تحرير نساء الطبقة العاملة”(7).
إن هذا التأكيد الدقيق على دور العاملات الطلائعي – وهن المنتميات للطبقة العاملة – هو الذي كان يميز الحركة النسائية الماركسية من الحركة النسائية البورجوازية، وهذا بالفعل يُعَد واحداً من بين إسهامات الماركسية الأساسية العديدة في الحركة النسائية. إن للعاملات دوراً أساسياً ينبغي أن يقمن به في النضال الثوري (لأن الثورة لا يمكن أن تقوم دون مشاركة العاملات المستغَلات) وفي النضال من أجل تحرير المرأة ونظراً لوجود معركة النساء الحقيقية في الساحة الاقتصادية فإنهن يُعتبرن الوحيدات القادرات على القضاء كلية على الاضطهاد الخاص بجنسهن. تقول كولونتاي: “لقد حددتُ لنفسي غاية هي كسب العاملات لمصلحة الاشتراكية، وفي الوقت نفسه العمل من أجل تحرير المرأة” (8).
تهدف الماركسية إذاً إلى إدماج الحركة النسائية فيها بتبنيها مطالبها وتوفير القواعد النظرية التي تنقصها. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن الأمر يتعلق بنوع من التعديل في الحركة النسائية العفوية التي تعد جزءاً من بين أجزاء أخرى أساسية في نضال الطبقات ضد الاستغلال الرأسمالي.
وحول هذه النقطة بالذات تبلورت الاختلافات بين الماركسية والحركة النسائية “الراديكالية”. إن المناصرين الماركسيين للمرأة يَعْزُونَ فشل سياسة الأحزاب الاشتراكية “معها”، ومن بعد الأحزاب الشيوعية إلى تخلف في النظرية الماركسية في كل ما يتصل بقضية النساء. تقول مارت بيغو في كتابها استعباد النساء،1921(9):”لم تقم الماركسية مع المرأة بما قامت به مع البروليتاريا من عمل نظري دقيق”. أما النساء الراديكاليات فيرون أنه مهما كان المجهود النظري الذي سيُبذل، فلن يصل إلى ردم الهوة التي تفصل الحركة النسائية عن الماركسية، وذلك لسبب بسيط، هو أن المشاكل التي تعالجها الحركة النسائية ليست في نهاية التحليل ذات صبغة اقتصادية.
لقد انعكست هذه الاختلافات النظرية على نوع الإستراتيجية التي رسمتها الحركة النسائية. فالمرأة تعتبر تحرير المرأة مقدمة للثورة البروليتارية: “إن أرقى تغيير في وضع المرأة لن يأتي لها إلا يوم تقع التحولات الأكثر جذرية المتلازمة معها” (10). إذاً بالنضال في سبيل الثورة البروليتارية تكون المرأة قد عملت خيراً من أجل تحررها: “على أن ما يرجى من المرأة ألا تبقى في الصفوف الخلفية للنضال، والحال فإن كفاحها هو كفاح من أجل الحرية الشخصية وإنقاذ الذات، أما الرجال فعليهم إسنادها”(11). ولعله من نافل القول أن نكرر ما قاله لينين منأنه حتى حين تنجز الثورة ستظل الطريق المزمع قطعها طويلة: “إن القوانين وحدها لا تكفي… وإنما هي مجرد بداية”(12). ولكن الواضح على العموم وللينين أيضاً أن التغيير المنشود هو نتيجة طبيعية لتغير المجتمع، فالثورة، حين تغير الظروف المادية، تجعل تحرر النساء أمراً ممكناً. فهي حينئذ الشرط اللازم والكافي لتحقيق الغرض: “يجب أن يكون تحرر العاملات من مشمولات العاملات أنفسهن، فهن اللائي يجب أن يعتنين بتطوير المؤسسات (محاضن، مقاصف… إلخ). ومن شأن هذا النشاط النسائي أن يترتب عنه تغير كلي في الوضع، الذي يعانين منه في المجتمع الرأسمالي”(13). إن كل ما سبق هو بالتحديد ما تحتج عليه النساء الراديكاليات، مستندات في ذلك إلى حجج مستمدة من تاريخ البلدان الاشتراكية.
ولعلنا نجد الخلافات نفسها في ما يتصل بأشكال التنظيم وممارسات الحركة النسائية. فبالنسبة إلى الماركسيين يجب على النساء أن ينتظمن داخل حزب الطبقة العاملة: “والآن، نحن النساء، ماذا علينا أن نفعل؟ لا بد من فعل شيء بالتأكيد سوف ننتظم لا باعتبارنا “نساء” وإنما باعتبارنا بروليتاريات، لا باعتبارنا منافسات لأزواجنا وإنما باعتبارنا رفيقات لهم في المعركة” (14). وأما صاحبات النزعة النسائية من النوع الآخر فإنهن يرين غير ما سبق. إنهن يعتبرن الحركة النسائية المستقلة، ذات الأعمال النوعية الخاصة هي الوحيدة القادرة على بلورة مطالب النساء وتحقيقها. ومن جهة ثانية، وبينما تقدم الماركسية المستوى الاقتصادي على غيره من المستويات، تفكر الأخريات تفكيراً ضيقاً. فلينين مثلاً لا يلوك كلامه كثيراً كي يدين بعض ممارسات هؤلاء النساء، حتى وإن كن من العاملات، فيقول: “حُكِيَ لي – وهو يعاتب كلارا زتكين – أن في سهرات المطالعة والنقاش التي تنظمها النساء لا يكون مدار حديث هؤلاء إلا حول الجنس والزواج”؛ وهو ما لم يكن يعتبره أمراً سليماً لأنه لا يثق كثيراً بكل مَنْ – مِنَ الرجال والنساء – يركز اهتمامه دوماً على مسألة الجنس دون سواها، حتى كأنه بوذا يتأمل سرته. إن هؤلاء اللائي يشاركن في المناقشات المعنية تنقصهن معارف ضرورية لتتمكن من النقاش من وجهة نظر ماركسية والنتيجة هي أن قضايا الجنس لم تكن تعالج باعتبارها عنصراً من عناصر قضية اجتماعية كبيرة وإنما كانت القضية الاجتماعية تبدو كأنها ملحقة بالمشاكل الجنسية(15).
لقد عاشت بعض مناضلات الحركة النسائية الماركسيات في أجواء هذه الخلافات بكيفية مؤلمة، لعل ألكسندرا كولونتاي كانت أحسن مثال على ذلك وهي مثال مؤثر بحق. فقد ناضلت هذه المرأة طيلة حياتها من أجل أن يناقش الحزب البلشفي مسائل الأخلاق الجنسية، والأشكال الجديدة للعائلة والعلاقات “الحرة”. فكولونتاي ترى أنه حتى حين يقع تحقيق المساواة في الشغل والسياسة وأمام القانون، ستظل المرأة خاضعة لازدواج أخلاقي [أي لأخلاق من نوعين] يجعلها في مرتبة أقل من مرتبة الرجل. لذلك ينبغي للنساء أن يخضن معركة خاصة بهن، معركةُ نساء. ولكن للأسف الشديد لم تكن وجهة النظر النسائية هذه مسموعة البتة. لقد أنهت كولونتاي حياتها منفية تمارس وظيفة ديبلوماسية. ولم يتم اكتشاف باعُ أكبر المناضلات الماركسيات في الحركة النسائية إلا منذ وقت قريب. ولا نعتقد أن هذا الصمت يرجع إلى الصدفة دون سواها. فالتحليل الماركسي للحركة النسائية لم يتعدل طيلةالخمسين سنة الأخيرة رغم ما عرفته حركة النساء في الستينات والسبعينات من تطور هذا على الأقل ما لاحظه ج. ل. روبير سنة 1978 حيث يقول: “إن النقص الكبير الذي سجلناه في الفكر النظري وبعض الجهل بالمسائل النسائية، أفضيا إلى استحالة تقديم جواب عن هذه المسائل غير الجواب الذي يناسب الظرف القائم”.
بيبلبوغرافيا
Maïté ALBISTUR, Daniel ARMOGATHE, Histoire du féminisme français – du Moyen Age à nos jours, Paris, Editions Des Femmes, 1977; August BEBEL, Die Frauund der Socialismus, 1879, trad. franç.: G. CARRÉ, La femme dans le passé, le présent et l’avenir, 1891, et Cl. PRÉVOST, La femme et le socialisme, Berlin, DietzVerlag, 1962. Trad. anglaise: WomanunderSocialism, NY, Schocken Books, 1971; Marthe BIGOT, La servitude des femmes, Librairie de l’Humanité, 1921; Alexandra KOLLONTAI, Autobiographie, 1926, trad. C. FAURÉ, N. LAZAREVITCH, Berg-Belibaste, 1976; ID., Marxisme et révolution sexuelle, recueil de textes traduits et présentés par J. STORA-SANDOR, Maspero, 1973; H LEFEBVRE, Critique de la vie quotidienne, Paris, L’Arche, 1981; V. LÉNINE, Les tâches du Mouvement ouvrier féminin dans la République des Soviets, o., t. 30 (et aussi dans le recueil Sur l’émancipation de la femme. Ed. de Moscou, 1966); Eleanor MARX, Edward AVELING
La question féminine, 1891, trad. J. C. CHAUMETTE, et Comment devons-nous nous organiser, trad. B. AVAKIAN-RYNG, tous les deux dans Dialectiques, n°8, 1975; Andrée MICHEL, Le féminisme, «Que sais-je?», n°1782; Jean-Louis ROBERT, Le PCF et la condition féminine 1920-1939, polycopié du CERM, sept. 1978; Stratégies des femmes, Coll., Paris, Ed. Tierce, 1984; M. THIBERT, Le féminisme dans le socialisme français de 1830 à 1850, Paris, 1926; Clara ZETKIN, Batailles pour les femmes, Paris, ES, 1980.
========
إحالات:
- سيرة الكسندرا كولونتاي الذاتية، 1926، ص 27.
- E. Marx, La question féminine, 1887.
- بيبل المرأة والاشتراكية، 1879.
- سيرة ذاتية، ص 26.
- Cité par E. Marx, Comment devons-nous nous organiser? 1892.
- سيرة ذاتية،17.
- الكسندرا كولونتاي، سيرة ذاتية، 27.
- الكسندرا كولونتاي، سيرة ذاتية، 30.
- Marthe Bigot, La servitude des femmes, 1921.
- E. Marx, La question féminine; souligné par nous.
- بيبل، المرأة والاشتراكية.
- Les tâches du mouvement ouvrier féminin dans la République des Soviets, 23 sept. 1919, O., t. 30, 34.
- Lénine, ibid.
- E. Marx, Comment devons-nous nous organiser?
- Clara Zetkin dans ses Erinnerungen an Lenin.
مصدر : جيرار بنسوسان .G.BenSussanو جروج لابيكا G. Labica :معجم الماركسية النقدي، دار محمد علي للنشر ، صفاقس، دار الفارابي، بيروت، 2003، صفحات 1275 إلى 1278.
اقرأ أيضا