الحركة النقابية المغربية وحَراك 20 فبراير
اندفعت شعوب المنطقة نهاية سنة 2010 في سيرورة ثورية أسقطت رؤوس أنظمة وأجبرت أخرى على تقديم تنازلات سياسية ومادية ما كانت تتصور أنها ستُقدِم عليها. كان للحركة العمالية دور كبير في تلك الإنجازات الثورية العظيمة، خصوصا دور اليسار النقابي في الاتحاد العام التونسي للشغل ودور الحركة العمالية في مصر (المحلة والقناة) وأيضا في البحرين. أعاد ذلك الدورُ للحركة العمالية ما لها من إمكانات ثورية كامنة، جرى إعلانُ دفنِها أكثر من مرة منذ انهيار «شيوعية المعسكر الشرقي»، كما أعاد للثورة راهنيتها، دافعة إلى الخلف أوهام التغيير السلمي والتدرُّجي، التي جرعتها للكادحين- ات أصنافٌ عديدة من معارضة برجوازية خانعة.
في المغرب، ومع امتداد السيرورة الثورية محليا، انطلقت بالموازاة مع الحراك السياسي المعروف بـ»حركة 20 فبراير»، نضالاتٌ عمالية (لاسامير وعمال الوساطة لدى المجمع الشريف للفوسفاط، ونضالات القسم المعطل من الطبقة العاملة الحامل للشهادات العليا ومعطلي الهضبة الفوسفاطية)، فضلا عن نضالات شعبية (فلاحي دكالة والسراغنة… إلخ). إلا أنه في الاتجاه المعاكس لهذه الهبَّات النضالية العمالية والشعبية من أسفل، كان سلوك القيادات النقابية مساعدا للمَلكية والرأسماليين في تجاوز سياق السيرورة الثورية وامتدادها المحلي (حراك 20 فبراير) بأقل كلفة، وبطريقة رسَّخت الحكمَ المَطلق للمَلكية وفتح الباب في ما بعد لها وللرأسماليين لتشديد هجومهما على الطبقة العاملة وشرائح الشعب الكادح، لاسترداد ما تنازلا عنه سنة 2011 واستئناف ما شرَعا فيه قبل تلك السنة (إصلاح منظومة الأجور، تفكيك الوظيفة العمومية، إصلاح صندوق المقاصة، تطبيق حقيقة الأسعار على البنزين، الشروع في تفكيك المؤسسات العمومية مثل المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، الهجوم على جبهة حرية التعبير بإصدار مدونة الصحافة والنشر… إلخ).
أربك حَراك الـ 20 فبراير حسابات الحاكمين، وانفلت الوضع بتدفق مئات آلاف الشباب والكادحين- ات إلى الشارع. وما أثار هلع الحاكمين أكثر هو أن الحركة المطلبية الشعبية ترفع مطلب التغيير السياسي، تغيير الدستور. لأول مرة منذ فرض أول دستور للحكم المطلق عام 1962، تنزل الجماهير إلى الشارع للمطالبة بتغييره، ومن المشاركين مَن رفَعَ مطلبَ المجلس التأسيسي لوضع الدستور الجديد، بعد أن دفن أغلبُ قوى المعارضة المغربية هذا المطلب منذ مطلع سنوات 1970.
كان أول ما قامت به المَلكية، هو استقبال المستشار الملكي محمد المعتصم قادةَ النقابات العمالية يوم 28 فبراير 2011، أي أسبوعا فقط بعد انطلاق التظاهرات، وأسبوعين قبل خطاب التاسع من مارس الذي أضفي عليه طابع الإنجاز التاريخي للمَلكية.
طيلة عقود لم يجتمع قادة الحركة النقابية المغربية معا من أجل الدفاع عن مصلحة من يمثلونهم، أي عبيدُ الأجرة، لكنهم اجتعوا استجابة لدعوة الاستبداد من أجل إنقاذه من حركة نضال جارية قد تتحول إلى ثورة، في سياق ثوري إقليمي. لأول مرة التقى نوبير الأموي (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل) وعبد الرحمان العزوزي (الفيدرالية الديمقراطية للشغل) والميلودي موخاريق (الاتحاد المغربي للشغل) وحميد شباط (لاتحاد العام للشغالين بالمغرب) ومحمد يتيم (الاتحاد الوطني للشغل). لم يلتقوا مع القاعدة العمالية في وحدة ما أحوج عمال المغرب إليها، بل للاستماع للسيد مستشار الاستبداد.
عرض القادة النقابيون على المستشار الملكي تمنياتهم في تحسين أوضاع العمال وارتقاء المغرب إلى الديمقراطية، بينما جرى في الواقع تقييدهم بهذا الاستقبال بالتزام الهدوء. وهو ما أكدته بالحرف ثريا الحرش القيادية آنذاك في نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في حوار بثته فضائية “ميدي 1” يوم 23 أكتوبر 2014: «لو لم تكن لدينا روح المواطنة لكنا يوم 20 فبراير خرجنا إلى الشارع مع المحتجين، بل على العكس من ذلك جلسنا كنقابات على طاولة الحوار ووقعنا على اتفاق 26 أبريل 2011».
لم يكن للقادة النقابيين أي دور في إنجاح حركة 20 فبراير. كلهم بلا استثناء كانوا ضد حركة 20 فبراير، فمَن منهم ساندها، و جند القوى و الإمكانات لنجاحها؟ من منهم خاطب القاعدة النقابية للانضمام إلى شباب 20 فبراير؟ السادة القادة رفضوا 20 فبراير لأنهم محكومون بما يربطهم إلى الدولة: سياسة «الشراكة الاجتماعية» و»الحوار الاجتماعي» و»الميثاق الاجتماعي»، هذه السياسة التي حلت مكان النضال الطبقي والحفاظ على علة وجود النقابات، أي الدفاع عن مصالح الأجراء.
أما من شارك من النقابيين- ات، وحتى بعض الأجهزة المحلية أو الوطنية للنقابات، إنما فعل ذلك بشق عصا الطاعة إزاء القيادات النقابية، وهؤلاء المعارضون هم من أنقذ شرف الحركة النقابية المغربية في هذه المرحلة التاريخية التي افتتحها 20 فبراير.
استمر نفس النهج، المرتعب من أي نضال عمال وشعبي منبعث من أعماق الشعب. فبعد سنوات من حراك العشرين فبراير، رأينا القيادات النقابية تُعامِل حَراكي الريف وجرادة بنفس التعامل، وامتنعت عن حشد التضامن العمالي مع هذين الحَراكين الشعبيين. ومنذ سنة 2016 وشغيلة قطاع التعليم في نضال لا ينقطع ضد تفكيك الوظيفة العمومية، كان آخره حراك التعليم العظيم لسنة 2023، حيث تعاونت القيادات النقابية مع لدولة من أجل هزم ذلك الحراك.
بعد 10 سنوات من حراك العشرين فبراير والتباكي على تملص الدولة من تنفيذ ما التزمت به من صفقة مع القيادات النقابية لإطفاء ذلك الحراك (اتفاق أبريل 2011)، وقعت هذه القيادات اتفاقا آخر، 30 أبريل 2022، التزمت فيه مع الرأسماليين ودولتهم، بتنفيذ هجمات تاريخية خطيرة، منها نزع سلاح الطبقة العاملة بالتفاهم على إصدار قانون تكبيل الحق في الإضراب، والمزيد من تعديل مدونة الشغل لما فيه مصلحة الرأسماليين، وتفكيك أنظمة التقاعد.
يعزى هذا الدرك الأسفل الذي آلت إليه الحركة النقابية، المفترض فيها أن تكون أداة نضال الطبقة العاملة ضد الاستبداد السياسي والاستغلال الرأسمالي، من جهة إلى كون تلك القيادات النقابية أذرعا لقوى سياسية غير عمالية، تسعى لضبط النضالات العمالية في حدود لا تهدد الاستبداد السياسي والطبقة البرجوازية، أو قيادة تابعة بشكل كلي للملكية (الاتحاد المغربي للشغل). ومن جهة أخرى، إلى انعدام أي معارضة نقابية يسارية ذات خط طبقي مستقل كليا عن البيروقراطيات النقابية، وقد أبرز المؤتمر الأخير للاتحاد المغربي للشغل مصير تكتيكات مجاراة البيروقراطيات من أجل الحصول على مواقع في الأجهزة.
لا تزال سمات مرحلة ما بعد صفقة القيادات النقابية مع الاستبداد سنة 2011 قائمة، ما يطرح مرة أخرى ضرورة بناء معارضة نقابية يسارية طبقية، تتحمل مهمة الإنصات لنبض الطبقة العاملة والتجاوب مع اندفاعاتها إلى الكفاح، وتجسيد التضامن الطبقي، وتنظيم التعاون النضالي المخترق لجميع النقابات، والسير قدما على طريق التسيير الذاتي للنضالات تحت راية المصالح الطبقية للعمال.
فلننهض بمسؤوليتنا في إنقاذ ما تبقى من الحركة العمالية من التخريب الذي تدفع إليه سياسة البيروقراطيات النقابية ومجاراتها اليسارية، ولتتحد كل قوى المعارضين- ات لهذا التخريب في يسار نقابي على أسس التمسك بمصلحة العمال الطبقية. ولنعمل على تلاحم حركة العمال بالتدفقات الشعبية التي تلوح في الأفق.
اقرأ أيضا