لماذا ترتعد الرجعية الدينية من نيل النساء حقوقا قانونية أساسية؟
بقلم- قدس
بمجرد الإعلان عن الخطوط العريضة لمقترح تعديلات مدونة الأسرة عمت مواقع التواصل الاجتماعي نقاشات، يكشف جانب منها رهاب من يرون في مقترح التعديلات تهديدا لنمط العلاقات الأسرية السائد بين الرجال والنساء. ويحذرون من خطورتها على تماسك المجتمع وانسجام مكونات الأسرة. ويعتبرونها ابتعادا عن ثوابت المرجعية الدينية. ويتهمون تلك التعديلات أنها تمنح النساء امتيازات، خاصة المالية، على حساب الرجال. ويتناسى هؤلاء أن المرجعية التي ينطلقون منها تعتبر «الرجال قوامون على النساء» وأن من واجبهم الإنفاق الأسري باعتبارهم معيلي الأسرة، رغم أن هذا الوضع اهتزت ركائزه في مجتمع تتركز فيه الثروات بيد أقلية، ويضطر فيه أغلب الرجال والنساء لبيع قوة عملهم- هن العضلية والذهنية لإعالة الأسرة.
يزيد من حمى هذا النقاش الدائر انتشار أراء شخصيات دينية معروفة، تنظر للنساء على أنهن خلقن ليكن مطيعات مملوكات للرجال في علاقات زواج شبيهة بعلاقة الأسياد بالعبيد. يهاجم هؤلاء في حلقات تبث على منصات التواصل الاجتماعي مشروع التعديلات، معتبرين إياها تضييقا لحقوق الرجل وتتحيز للنساء، ويتهمون من يصفونهم بالمتنفذين في الهيئة المكلفة بصياغة التعديلات بتبنيهم لاتجاه حداثي غربي. يتكأ هؤلاء المدافعون عن اضطهاد النساء القانوني ومن لف حولهم على سلطة تأويل النصوص الدينية لتبرير الانقضاض على حقوق النساء. ويثير نيلهن مكاسبا ولو طفيفة ذعرهم، لأن من شأن ذلك أن يقوض علاقات السيطرة الذكورية، لا سيما على مستوى الأسرة التي تحافظ على إعادة إنتاج نفس علاقات الاضطهاد الطبقي والجندري.
مقترح تعديلات مدونة الأسرة وموقف قوى سياسية رجعية دينية.
أثنى قسم من الرجعية الدينية المندمج في مؤسسات النظام السياسي على احترام الملك للضوابط الشرعية في منهجية اقتراح تعديلات مراجعة مدونة الأسرة، ومنها «ضابط عدم تحريم حلال ولا تحليل حرام»، ويرمي هذا الطرف مسؤولية ترجمة تلك الضوابط على الحكومة عبر صياغة مشروع قانون يضمن وحدة واستقرار الأسرة القائم على علاقة الزواج الشرعي، هذاما عبر عنه بلاغ صادرعن حركة التوحيد والإصلاح، الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية. وينسجم هذا مع منظور الحركة الرجعي، التي تنظر لأنماط علاقات زواج أخرى يمكنها أن تنشأ بين راشدين على أنها رذيلة وانحلال أخلاقي ويلصقونها بالغرب المتحلل وهم يغمضون عيونهم عن تحولات جارية أمامهم، ويتشبثون بالمقابل بحق الرجل في إقامة زواج التعدد رغم تراجعه في سياق التحولات أيضا، وهو نمط زواج يجعل من النساء مجرد إماء لمتع الرجال الجنسية. وتتصدى هذه التنظيمات بعدائية بالغة لحق الاعتراف القانوني بالأطفال المولودين خارج نمط الزواج المحدد شرعيا لديهم، ورفض إثبات نسب أبيهم البيولوجي باستعمال الخبرة الجينية. ويتمسكون بالإبقاء على هذا الظلم والقهر الذي يمارَس ضد فئة من الأطفال والنساء باسم الدفاع عن تأويل للشرائع. يا ترى ما نوع «الفضيلة» في تحيز شرائع للطرف الأقوى في مجتمع ذكوري (الرجل)؟ والذي يمكنه إقامة علاقة جنسية قد تكون برضى أو بإكراه الطرف الآخر (المرأة)، دون تحميله التبعات الاجتماعية، التي تعني الحق في الأبوة للطفل المولود في إطار تلك العلاقة.
الدعاية الرجعية دائمة التربص بحقوق النساء
ستزداد حدة هذا السعار الرجعي بعد صياغة مشروع القانون. لقد اعتبر البيان الصادر عن مجلس الإرشاد لجماعة العدل والإحسان، التعديلات الواردو بالمشروع «مخيفة ومجحفة»، وأنها «ستزيد من عزوف الشباب عن الزواج مما سيضاعف التأثير على معدلات الخصوبة وعلى الهيكل العمري للسكان». تصرف هذه الجماعة نظرها عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، من بطالة جماهيرية وأزمة الهجرة وأهوال أخرى تنخر البلد، والكامنة جذورها في بنية نظام اقتصادي اجتماعي سياسي تبعي، وتحكم بالباطل وتنوح «بالعواقب» التي ستنجم عن نيل النساء بعض الحقوق الجزئية. ألن تتسبب موجات الهجرة الكثيفة، لا سيما وأن غالبية من يهاجرون شباب، في تغيير بنية الهرم السكاني للشعب المغربي؟ ألا يؤثر غلاء الأسعار وانهيار القدرة الشرائية والبطالة وتوسع الخوصصة، كما ارتفاع نسب التعليم بالنسبة لكلا الجنسين وإن بتفاوت، على بنية المجتمع المغربي؟ مثل: سن الزواج، ومعدل الخصوبة وحجم الأسر. إن تراجع معدلات الخصوبة وارتفاع سن الزواج مرده تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، شملت أوضاع النساء كذلك. وأصبحن يبحثن أكثر عن استكمال مسارهن التعليمي والأكاديمي، وإيجاد فرص شغل لتحقيق استقلالهن المالي، ويملن نحو مزاولة أنشطة إنسانية أخرى. ويساهم هذا الواقع في خلخلة نمط التفكير الأبوي الرجعي السائد، والذي يسجن النساء في أداء مهام محض أسرية: الزواج المبكر وإنجاب الأطفال والاعتناء بهم والتعويل على الآباء والإخوة والأزواج لإعالتهن.
يرِد في بيان الجماعة أن «التعديلات غير المتوازنة وغير المنصفة ستفاقم حالات الطلاق المتفاقم أصلا»، وتضيف أن تلك التعديلات ستحول الأسرة إلى «حلبة صراع». هل يجب أن تتخلى النساء عن حقوقهن الانسانية التامة لتفادي الصراعات الأسرية؟ تتفكك الأسر جراء تزايد العبء الاقتصادي والاجتماعي الذي تتحمله الأخيرة في ظل مجتمع رأسمالي، يقضي على كل ما هو اجتماعي تضامني محولا إياه إلى سلعة تباع وتشترى. وما أسماه البيان «بيوت تسودها السكينة والمودة والرحمة…إلخ»، تتحول في أحيان كثيرة إلى سلب النساء حياتهن وكرامتهن، حيث تضطر النساء، لا سيما المتحدرات من طبقات اجتماعية فقيرة لتحمل علاقات زواج مأزومة، وترتكب في حقهن شتى صنوف العنف في الفضاء الزوجي، ويتولين في حالة الطلاق ثقل مسؤولية الاعتناء بالأطفال لوحدهن.
تُزاوج هذه الجماعة بين نوعين من الخطاب، ادعاء الوصاية على النساء وصون حقوقهن في إطار حدود الاجتهاد الديني مع عدم المس بالثوابت القطعية، وهذا خطاب مرن شكلا يداهن جمهور النساء، اللواتي يشكلن قاعدة أساسية في تنظيم الجماعة وأغلبهن متعلمات ويواجهن واقع الاضطهاد، أما الشق الجوهري لخطابها فهو تأمين جذور القهر الذكوري باسم الشرع المقدس. ويلاحظ تصاعد نبرة العدل والإحسان بعد الكشف عن المضامين العامة لمشروع التعديلات، وأعاد البيان الصادر عن مجلس إرشاد الجماعة الأمور لحقيقتها، ووضع هذا التنظيم الرجعي في موقعه الحقيقي المدافع عن دوام اضطهاد النساء القانوني والرافض قطعا لأبسط المكاسب، رغم إقراره أن التعديلات عامة وغير مفصلة. تعتبر العدل والاحسان كباقي الجماعات والتنظيميات الدينية قضايا النساء مجالها المفضل لممارسة بكائيات تطرب الأتباع وميدان مناسب لنقد أخلاقي يعبأ الأنصار، فبما يتمايزون غير ما يسمونه فقه النساء؟
تُكن جماعة العدل والاحسان عداء شديدا لكل ما من شأنه أن يكون قاعدة لتمرد النساء على وضعية التبعية والخضوع. وتستدعي ترسانتها الأيديولوجية لتقصف بها حق النساء في أن يتحررن من اضطهاد عمَّر لقرون مديدة ولا يزال. إن الدعاية الرجعية دائمة التربص بحقوق النساء، وستزداد شراستها كلما تقدمت النساء صوب امتلاك مصيرهن بأنفسهن. ويتلاقى منظور حركات الرجعية الدينة مع مصالح مجتمع برجوازي طبقي، يريد كلاهما الإبقاء على استقرار وظائف الأسرة الاجتماعية: التحكم في حياة النساء ومنها الإنجابية والجنسية بواسطة تشريعات رجعية، وتحميلهن كلفة الاعتناء بقوة العمل وضمان إعادة إنتاجها. وعكس أعداء حقوق النساء والأطفال باختلاف مبرراتهم، فإن إسقاط كل القوانين المكرسة لاضطهاد النساء والمقوضة للمساواة تعد جزءا من مهام التحرر من القهر السياسي والاقتصادي والثقافي الجاثم على شعبنا.
اقرأ أيضا