قانون المنع العملي للإضراب يُدمغ بخاتم “الارتجال العام”

الافتتاحية, سياسة10 فبراير، 2025

في خضم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها المغرب، برز إضراب 5 و6 فبراير  2025 كاختبار جديد لقدرة النقابات على تمثيل الشغيلة والدفاع عن حقوقهم. لكن ما حدث كان مثالاً صارخاً على أضرار خط القيادات النقابية الداعية له، إذ امتنعت مجددا عن توحيد الصفوف، وبناء استراتيجية واضحة، أو حتى حشد التأييد الشعبي الكافي لضمان نجاحه. بدلاً من ذلك، تحول الحدث إلى فُرصة ذهبية استغلتها الدولة لتعزيز قبضتها، عبر استغلال الانقسام النقابي وتواطؤ قياداته.

التعتيم، وإخفاء الحقائق، والصمت بشأن قضايا مصيرية، هذا ما طبع سلوك القيادات النقابية على امتداد زهاء ربع قرن الذي جرى فيه إعداد المصيبة التي حلت بالطبقة العاملة المغربية يوم  5 فبراير 2024، بمصادقة مجلس نواب الاستبداد على مشروع قانون الإضراب.

 فمنذ مطلع سنوات 2000 تتالت مشاريع قوانين للإضراب، تُحيلها الدولة على القيادات النقابية. وما من مرة عُرضت تلك المشاريع على نقاش الجموع العامة للشغيلة، لتَبصُّر ما يُعَدُّ لهم من قيود وللنظر في كيفية التصدي لها. وما من حملة تشهير جرى تنظيمها لإيقاظ الطبقة العاملة ضد قانون سيُفْرِغ النقابة من روحها بتجريدها من سلاح الامتناع عن العمل.

وكان صدور صيغة 2004، ضمن تعاقب مشاريع القوانين تلك، إيذانا بعدم عزم الدولة على تنفيذ ما وقعت عليه مع القيادات النقابية في العام 2003 بشأن تعديل (عوض مطلب إلغاء) الفصل 288 من القانون الجنائي المُجَرِّم للإضراب، ومادة مرسوم 05 فبراير 1958 بشأن إضراب الموظفين وظهير التسخير (1938)، وكلاهما عاصف بحرية الإضراب. وقد توازى تدفق مشاريع قوانين الإضراب تلك مع حملات تضليل ينظمها الإعلام البرجوازي ضد الإضراب العمالي بما هو مضر بمصلحة المواطن و بــ”الاقتصاد الوطني”، دون أدنى تصد من الأجهزة النقابية التي لا يصح حتى الحديث عن امتلاكها إعلاما حقيقيا في مستوى وظيفة النضال من أجل حقوق أقوى طبقة في المجتمع، طبقة الأجراء- ات.

وبعد سنوات مديدة من تخدير الشغيلة بشأن تقنين الإضراب، بجعل الموضوع مألوفا غير مستفز، وقعت القيادات النقابية في 30 أبريل 2022 اتفاقا مع أرباب العمل ودولتهم يقضي بإخراج قانون الإضراب إلى حيز الوجود ( دون سحبه من البرلمان)”وفق المنهجية والترتيبات التي ستتخذها اللجنة المحدَثة بموجب الميثاق الوطني للحوار الاجتماعي” حسب لغة الاتفاق. بعد أربعة أشهر من اتفاق العار ذاك، شرعت القيادات النقابية في جملة اجتماعات مع الدولة حول مشروع قانون الإضراب، اجتماعات لم تَعلم عنها القاعدة العمالية أي شيء، امتدت حتى أبريل 2024 . وفي هذا الشهر جرى توقيع اتفاق يقضي بــ”برمجة مناقشة مشروع قانون الإضراب والمصادقة عليه في الدورة البرلمانية الربيعية للعام 2024″. وبعد هذا الاتفاق عقدت الوزارة المعنية اجتماعات مع القيادات النقابية من مايو إلى يوليوز. اجتماعات تكتمت القيادات النقابية عن فحوى ما يجري فيها، وما يُعبَّر عنه فيها باسم الشغيلة في أخطر أمر، حق الإضراب، ما كان يوما أن يكون موضوع تفاوض. وفيما التزمت القيادات النقابية صمتا مطبقا بشأن تلك الاجتماعات، أوضح الوزير السكوري في لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب يوم  16 يوليوز 2024 أن اللقاءات التشاورية تعدت 20شهرا، فيها 30 لقاء مع الشركاء الاجتماعيين، وأنها “لا تزال مستمرة من أجل السعي إلى التوافق بعد بلوغ مراحل متقدمة”. لم تُكذِّب القيادات النقابية أقوال الوزير هذه، ولا هي أوضحت للقواعد العمالية ما توصلت إليه “المفاوضات”. وبما أنه لا يمكن التصريح بتفاهمات مضرة بالطبقة العاملة، واصلت القيادات إعلان اعتراضها على مشروع قانون الإضراب. وأقدمت الدولة على برمجة النقاش التفصيلي للمشروع يوم 23 أكتوبر 2024، فيما اعتبرته قيادة كدش “خرقا  لمنهجية التوافق… ومحاولة لفرض الأمر الواقع”، في بيان تضمن لأول مرة فكرة جبهة واسعة لمواجهة المشروع.

هي سيرورة مديدة من إشراك القيادات النقابية في صنع أغلال للطبقة العاملة لمنعها من مقاومة فعالة للاستغلال والاضطهاد، ما كان لحركة نقابية سليمة البنيان إلا أن ترفض أي تفاوض حول حرية الإضراب، وبالأحرى المطالبة بالإشراك في وضع قانون الإضراب.

هي سيرورة شبيهة بالعملية التي تورط فيها معظم قيادات نقابات التعليم بصدد النظام الأساسي لشغيلة هذا القطاع، وكان أن تصدى لها هؤلاء بحراك دام ثلاثة أشهر.

وأمام عزم الدولة على ختم العملية بمصادقة مجلس النواب، صدرت عن  الك.د.ش دعوة يوم 2 فبراير إلى إضراب عام، حُدد له يوم 5. دعوة سارعت قيادة إ.م.ش إلى مسايرتها مع إضافة إضراب يوم 6. يومان للإعداد كأن الإضراب العام يُطلَق بالضغط على زر. الأمر محسوم، ومجلس النواب متجه إلى المصادقة النهائية على مشروع القانون، علما من الدولة أن الطبقة العاملة غير مهيأة بأي وجه لمنع صدور القانون، يدل على ذلك فتور الدينامية النضالية بالساحة النقابية منذ انطفاء حراك التعليم، وإدراكا منها لضعف التنظيم النقابي الشديد، لا سيما في القطاع الخاص.

القيادات النقابية ذاتها مدركة تمام الإدراك أن ليس بالوسع- ولا هي تريد- تنفيذ إضراب عام يوقف فعلا الاقتصاد والحياة الاجتماعية، ومعها مشروع قانون الإضراب، باتخاذه شكل مواجهة حقيقية تنتصب فيه قوة الطبقة العاملة دفاعا فعليا عن سلاحها، وهو ما تبرر القيادات النقابية الامتناع عنه بتفادي تكرار انفلاتات 1981 و1990. فكان “الارتجال العام” يومي 5 و6 فبراير مجرد تحريك فوقي لما تبقى من قوى نقابية لتسجيل أن قانون الإضراب جرى التصدي له بإضراب عام. لو لم تكن الدولة على يقين تام أن لا إضراب عام، لما أقدم مجلس النواب على المصادقة على قانون الإضراب في نفس يوم “الإضراب العام”. فتلك المصادقة ستكون استفزازا بالغا لشغيلة في عز كفاح جماعي يجعل الإضراب العام الفعلي يمتد  بعد اليومين، أو حتى يتحول إلى عصيان مدني، أو وضع غليان اجتماعي منفلت، سائر نحو بداية وضع قبل ثوري.

ثمة  نوع من التفاهم، ضمني أو صريح، بين الدولة والبيروقراطيات النقابية: نحن سنمرر القانون في مجلس النواب، وأنتم تقومون بالإضراب العام ضده، نحن نكسب تقنين/تقييد الإضراب وأنتم مصداقية التصدي له.

قُضي الأمر. ولم يبق غير مواصلة التضليل بإعلان نجاح الإضراب بنسبة 80 و85 بالمائة. نسب تعني توقف الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما لم يعاينه المواطن بتاتا، ما سيزيد عدم ثقته في النقابات. فجاءت البيانات تعلن”المشاركة الواسعة” و”الانخراط بكثافة”  و”الملحمة النضالية” وحتى “الشلل التام”، وذهب بعضهم إلى وصف “الارتجال العام”بــــ”الصحوة النقابية والانتفاضة العمالية” و”صفحة أخرى مشرقة من تاريخ الطبقة العاملة المجيد”، أوصاف تنطبق على حراك التعليم الذي فاق رغم طابعه القطاعي “الارتجال العام”، وقعا ونتيجةً.

لا حاجة لسرد الوقائع المُكذِّبة لمزاعم البيروقراطيات النقابية حول درجة الاستجابة العمالية للدعوة إلى الإضراب العام. فكل مناضل- ة صادق عاين كيف كان “الارتجال العام” طلقة خُلَّباً، لم تربك الاقتصاد ولا الحياة اليومية. فخارج قطاعات الدولة المنظمة نقابيا، لم يؤثر “الإضراب” ولو بحد أدنى، والأمر طبيعي بالنظر لما بات يمثله القطاع الخاص من صحراء نقابية بفعل القمع وتعميم الهشاشة، وما تراكم من هزائم عمالية بفعل سياسة “الشراكة الاجتماعية” التي فرضتها القيادات ودرجة ضعف معارضيها. لم يحقق “الارتجال العام” أي نتيجة إيجابية، وسيكون مفعوله الوحيد مزيدا من إفقاد فكرة الإضراب العام ذاتها المصداقية، لدى الشغلية ولدى عامة المقهورين- ت المتطلعين إلى كفاح الطبقة العاملة.

فازت الدولة البرجوازية، بمعاونة من البيروقراطيات النقابية الموقعة اتفاق 30 أبريل 2022، بقانون يقيد الشغيلة بقصد تشديد الاستغلال لتعظيم أرباح الرأسماليين المحليين والأجانب، وانهزمنا، هذه هي الحقيقة. وفرصة إضراب عام فعلي يُسقط قانون الإضراب جرى تفويتها أيام حراك التعليم الممتد زمنيا ثلاثة أشهر، وكان ممكنا أن يمتد إلى قطاعات أخرى لو أتيح له وجود قدر من القوة لدى مُعارضي- ات خط القيادات.

بذلك انهزمنا، وما علينا سوى جعل دروس هزيمتنا تنير طريق نضالنا من أجل منظمات عمالية وفية لدافع وجودها: تنظيم الطبقة العاملة للنضال ضد فرط الاستغلال و التردي الاجتماعي، وتأهيلها في خضمه لكسب مقدرة إنجاز تغيير للنظام الاقتصادي-الاجتماعي ينهي الاستغلال وكل صنوف الاضطهاد والقهر الطبقي.

لا يمكن للنضال العمالي إلا أن يربح بعرض الحقيقة بكامل جلائها، ولم ينفع الكذب يوما سوى في صون هيبة البيروقراطيات وليس في إنماء وعي الجماهير.الحقيقة وحدها أداة نضال.  قول ما هو كائن أكبر خدمة يمكن إسداؤها لحركة نضال الطبقة العاملة.

في النهاية، فإن إضراب 5 و6 فبراير ليس مجرد حدث عابر، بل جرس إنذار يُعيد التأكيد على أن غياب الديمقراطية الداخلية في النقابات، والانقسام النقابي، والتبعية للسلطة، كلها عوامل تُهدد دور هذه المنظمات العمالية كدرع واقٍ لحقوق الطبقة العمالية ومكاسبها. ولن يقلب هذا الوضع سوى عمل نقابي مكافح من أسفل يقطع مع الأساليب البيروقراطية المعتادة الماهرة في التلاعب بنضال الطبقة العاملة وطموحها لتغيير حقيقي لأوضاعها.

شارك المقالة

اقرأ أيضا