مرة أخرى: متى تتعظُّ قياداتنا النقابية في قطاع الصحة؟

بقلم؛ علي حموت- نقابي بالنقابة الوطنية للصحة/ كدش

استطاع حراك التعليم المنطلق في أكتوبر 2023 ضد النظام الأساسي الجديد المدمر لمكاسب شغيلة، أن يحفز النقاش في أوساط شغيلة الصحة حول مصيرهم في ظل الترسانة القانونية، حيث أُخرجوا من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية منذ مايو 2021، قبل إصدار قانون رقم 09- 22 المتعلق بالوظيفة الصحية في 28 يونيـو 2023 وقانون رقم 08-22 المتعلق بإحداث المجموعات الصحية الترابية ببتاريخ 17 يوليوز 2023.

كانت القيادات النقابية للتنسيق النقابي تُسايِر للدولة في عملية إعداد النصوص التنظيمية التي تلائم استثناء نساء و رجال الصحة من النظام الأساسي للوظيفة العمومية. لكن حراك التعليم استطاع أن ينقل النقاش من جلسات الحوار القطاعي إلى قواعد شغيلة الصحة التي  بدأت ببعض المبادرات النضالية في نوفمبر 2023 محدودة إقليميا ومحليا، لكن منفلتة من رقابة القيادات النقابية، التي تعتبر النضال أبغض الحلال وتفضل المقاربة التشاركية. أُجهضت تلك النضالات في بدايتها حتى لا تلتقي مع نضالات شغيلة التعليم في فيلق واحد مناهض لتفكيك الوظيفة العمومية. [أنظر- ي https://www.almounadila.info/archives/24150]

إن ورش إصلاح القطاع الذي تقبل به القيادات النقابية هو توجه استراتيجي عام و شامل للدولة في تفكيك الوظيفة العمومية، وتسليع الخدمات العمومية و تخفيض كتلة الأجور حيث تعمل الدولة على تغيير علاقات الشغل بما يتماشى مع الدور الجديد للدولة. جل ما تطالب به القيادات النقابية في مواجهة هذا التعدي هو اشراكها في عملية التنزيل وتقديم فتات مالي يحسن الأوضاع المادية للشغيلة الصحية كمقابل للإصلاح. [أنظر- ي https://www.almounadila.info/archives/18474]

ضيعت القيادات النقابية فرصة تلاقي نضالات شغيلة التعليم وشغيلة الصحة في خندق واحد مناهض لتفكيك الوظيفة العمومية وتسليعها، هذا التلاقي كان بإمكانه أن يحفز أقساما أخرى من شغيلة الدولة التي اكتوت بنار الغلاء وخوصصة المرافق العمومية، وبالتالي إحداث تغير في ميزان القوى لصالح الشغيلة من شأنه أن يحصين المكتسبات التاريخية كالحق في الإضراب والتقاعد ويوقف هجوم الدولة على الوظيفة العمومية و تدهور القدرة الشرائية…

ما تعتبره القيادات مكاسبا (اتفاق 23 يوليوز) هو نفسه الهجوم الذي تعمل الدولة على تمريره

بعد أكثر من خمسة أشهر من الحراك، وقع التنسيق النقابي السداسي اتفاق 23 يوليوز 2023، يتضمن نقطتين أساسيتين: الوضعية الإعتبارية و المطالب ذات الأثر المالي.

بالنسبة للوضعية الإعتبارية تمحورت أساسا حول الحفاظ على صفة الموظف وأداء أجور الموظفين من الميزانية العامة للدولة. لكن الحفاظ على صفة الموظف مجرد خدعة لجأت لها الدولة لتوهيم الشغيلة وتعمل على ترويجها القيادات النقابية. الوظيفة العمومية ليست صفة بل علاقات الشغل تتعرض لتغير جذري، أي الانتقال من نمط توظيف قديم مركزي مع الوزارة إلى نمط توظيف جديد جهوي مع المجموعات الصحية الترابية، وما يتبع ذلك من تغيير في الحقوق بما يخدم الدور الجديد للدولة، أي الانتقال من الدولة الموظِّفة والمقدِّمة للخدمات إلى دولة تقتصر على تيسير سبل الاستفادة من تلك الخدمات إلى جانب هيئات أخرى وأهمها القطاع الخاص. توهمنا القيادات النقابية أنها حققت إنجازا عظيما ومكتسبا مهما و تاريخيا للشغيلة الصحية، بينما ذلك إعدادٌ لتراجع عظيم قادم في المستقبل. [أنظر- ي https://www.almounadila.info/archives/23937]

أما فيما يخص المطالب ذات الأثر المالي فقد شكلت تراجعا كبيرا الى الوراء مقارنة بالاتفاقات السابقة سواءا اتقاق ديسمبر 2023 أو اتفاق يناير 2024. كما أن باقي المطالب ذات الأثر المالي كانت مشروطة إما بالنصوص التنظيمية للوظيفة الصحية، أو بإصلاح التقاعد، أو مرتبط بلجان غرقت في جلسات روتينية و إجراءات مكتبية بعيدا عن القواعد، لإعطاء انطباع فعلي بأن القيادات النقابية شريك اجتماعي حقيقي، بينما الغرض هو ربح الوقت. وهذا ما أكدته الأيام، إذ بعد خمسة أشهر من الاتفاق التراجعي اشتكت القيادات النقابية من عدم التزام الحكومة بالاتفاق الموقع، وأصدرت بيان بتاريخ 24 دجنبر 2024 حول الموضوع، غير أن قيادات التنسيق النقابي لا تريد أن تتعظ، فسرعان ما يتم احتواء الوضع بالدعوة الى جلسة حوار أخرى تلتحق به القيادات وتخرج منتشية بانتصار وهمي، في انتظار دورة أخرى من تنصل الدولة وشكوى القيادات من ذلك. [أنظر- ي https://www.almounadila.info/archives/24446]

السبب الرئيسي ليس هو تنصل الدولة من التزاماتها، بل في تفضيل القيادات النقابية الحوار ومأسسته والشراكة الاجتماعية على النضال

ضيَّعتْ القيادات النقابية فرصة تاريخية لإحداث ضغط على الوزارة من أجل تحقيق مكتسبات إضافية للشغيلة بهرولتها نحو المقاربة التشاركية و الحوار القطاعي في عز حراك التعليم نهاية 2023، حيث انتظرت القيادات النقابية انتهاءه لتبدأ برنامجها النضالي بعد فوات الأوان، دام أكثر من خمسة أشهر، وانتهى بمسيرة وطنية في 10 يوليوز 2024 التي جوبهت بالقمع.

تستعمل القيادات النقابية النضال لمناوشة الدولة من أجل استئناف الحوار، بعيدا عن رقابة قواعد شغيلة الصحة، التي من المفترض أن لجموعاتها العامة في أماكن العمل كامل الصلاحية في تحديد البرنامج النضالي ومداها وانتخاب لجان التفاوض.

أثبتت التجربة أن الحوار الاجتماعي والمقاربة التشاركية أسهل طريقة لكبح نضالات الشغيلة وليس لانتصارها، وآلية لإفراغ النقابة من علة وجودها وجعلها ملحقة بأجهزة الدولة. كما تستعمل الدولة آلية الحوار الاجتماعي لضبط الوضع النقابي والتحكم في نضالية الشغيلة، ومن خلالها تضع القيادات النقابية نفسها في مكان الوسيط بين الشغيلة والدولة. ليست النقابة وسيطا بين الشغيلة والدولة بل أداةَ نضال، من أجل تحسين الأوضاع المادية للشغيلة وأيضا للنضال ضد مجمل سياسة الدولة المدمرة للخدمات العمومية والاجتماعية.. ووحدها قواعد الشغيلة من تملك سلطة القرار في البرامج النضالية وفي التفاوض وإخضاع خلاصات الحوارات مع الوزارة للتصويت في الجموع العامة. [أنظر- ي https://www.almounadila.info/archives/23965]

عود على بدء: القيادات النقابية تشتكي من جديد وتطالب بالعودة إلى طاولة الحوار

بعد خمسة أشهر من الاتفاق التراجعي ل 23 يوليوز 2024 عاد التنسيق النقابي مرة أخرى يشكو عدم اللتزام الوزارة باتفاقاتها، وهذه ليست المرة الأولى التي يتباكى التنسيق من عدم احترام الوزارة لعهودها، فبعد شهرين تقريبا بعمند توقيع الاتفاق أصدر بيانا بتاريخ 01 نوفمبر 2024 يدعو شغيلة الصحة إلى الاستعداد للنضال وخوض اضراب وطني يومي 07 و08 نوفمبر 2024 بسبب “توقف مسار تنزيل اتفاق 23 يوليوز 2024 بشكل غريب و غير مفهوم” و الدعوة إلى “إنزال وطني أمام مقر وزارة الصحة مصحوب بمسيرة وطنية سيعلن عن تاريخها لاحقا”. لكن بمجرد دعوة لجلسة حوار مع وزارة الصحة بتاريخ 13 نوفمبر 2024 حتى جرى تعليق البرنامج النضالي، وهو نفس المسار الذي ستلعبه لاحقا، حيث ستخرج قيادات التنسيق النقابي بتاريخ 24 ديسمبر 2024 مرة أخرى تشتكي من التأخر في تنفيد اتفاق 23 يوليوز 2024، أي شهر بعد تعليق البرنامج النضالي لنوفمبر 2024 احتجاجا على عدم الوفاء باتفاق جرى توقيعه منذ خمسة أشهر يوم 23 يوليوز 2024، هو الآخر جاء بعد مسار نضالي طويل دام هو الأخر أكثر من خمسة أشهر احتجاجا على عدم تنفيد اتفاقي ديسمبر 2023 ويناير 2024. ستعلن إذن قيادة التنسيق النقابي في يناير 2025 عن برنامج نضالي من أجل تنفيد الاتفاق وسرعان ما سيجري تعليقه بعد جلسة حوار مرة أخرى بتاريخ 24 يناير 2025.

بعد أكثر من سنة على توقيع اتفاق ديسمبر 2023 ومحضر اتفاق يناير 2024 وستة أشهر على توقيع اتفاق 23 يوليوز 2024، ما يزال التنسيق النقابي يدور في حلقة مفرغة بهدف تنفيذ الاتفاق. الدرس الذي لا تريد القيادات النقابية استخلاصه من هذا المسار الطويل من التفاوض الاستسلامي، هو أن الدولة/ الحكومة لا تخضع إلا تحت ضغط القواعد، وليس عن طريق استجداء الحوار. كما أن الشغيلة ليسوا ورقة احتياط تستعملها القيادات النقابية لمناوشة الحكومة كلما رفضت الحوار، بل تحقيق المطالب وفرض التزام الوزارة بتعهداتها رهين بجعل سلطة القرار النضالي والتفاوض بيد الشغيلة أنفسهم، فتحرر الشغيلة من صنع الشغيلة.

دروس الحراكات السابقة: التنظيم الذاتي داخل أماكن العمل، الديمقراطية في اتخاذ القرار… إلخ

مكننا حراك الصحة وما وصل له، من استخلاص ثلاثة دروس رئيسية تدون في رصيد تاريخ الحركة النقابية

* النضال الطبقي في وجه وهم الشراكة الاجتماعية:

أصرت القيادات النقابية قبل حراك الصحة وبعده على نهج سياسة التعاون الطبقي والسلم الاجتماعي والهرولة نحو الحوارات الاجتماعية. هذا المنظور للعمل النقابي القائم على القبول بجوهر سياسة الدولة والمطالبة فقط بالمشاركة في التدبير، يجد جذوره الرئيسية في طبيعة القيادة النقابية المتبقرطة التي تعمل على الحفاظ على امتيازاتها (تفرغات نقابية…)، وبالتالي ليست لها مصلحة في معارضة سياسات الدولة المعادية للشغيلة بل فقط تعمل على تلطيفها، وهي بذلك تفرض إيقاعها على نضالية القواعد كممثل لهم داخل النظام الرأسمالي، و تعمل كذلك على فرملتها كلما أحست أن ذلك يهدد كيانها.

أثبت تاريخ الحركة النقابية أن المقاربة التشاركية لا تنتج سوى الكوارث للشغيلة، و هي في الأصل إشراك في تدبير الهجوم على مكتسبات الشغيلة وحقوق الشعب المغربي. لذلك لن ينتصر نضالنا إلا إذا قطعنا مع وهم الشراكة الاجتماعية، فهي شراكة بين عدوين (دولة الرأسماليين من جهة، ونقابات الشغيلة من جهة أخرى)، وانتهاج خط النضال الطبقي.

* التنظيم الذاتي

لم يكن الملف الطلبي لشغيلة الصحة محط نقاش في القواعد في جموع عامة داخل أماكن العمل، كاملة السلطة التقريرية في تحديد خطوطه العريضة والبرنامج النضالي المناسب لكل فترة من فترات الحراك وانتخاب جهاز للتفاوض والتقرير في تعليق الإحتجاج أو الاستمرار في التصعيد.

صادف انطلاق حراك الصحة معركتين حراك التعليم ومعركة طلبة الطب التي كانت تخضع معظم قراراتها للجموع العامة و للتصويت، كان بالإمكان الاستفادة من تجاربها، لولا تفضيل قيادات النقابات بناء جدار فاصل حال دون تلاقي الشغيلة مع بعضها، و تبادل التجارب و الخبرات و الاستفادة من دروس النضال سواءا نجاحات أو إخفاءات.

*الملف المطلبي

نقطتين أساسيتن غابتا عن الملف المطلبي لشغيلة الصحة/

  1. الطابع المجاني والعمومي للخدمات الصحية: لا يمكن المطالبة بالحفاظ على مكاسب الوظيفة العمومية وأساس تلك المكاسب تم تخريبه، بدل الدفاع عن مطلب فارغ وخادع للشغيلة مثل مطلب الحفاظ على صفة الموظف العمومي، كان لزاما رفع شعار مجانية الخدمات الصحية والرفع من جودتها، والقطع مع كل سياسات الخوصصة والتسليع التي يعرفها القطاع.
  2. السلم المتحرك للأجور و الأسعار و وقف خوصصة الخدمات العمومية: غياب هذا الشعار يجعل كل المطالب ذات الأثر المالي بدون تأثير خصوصا مع ارتفاع أسعار المواد المعيشة و التضخم الحاصل. [أنظر- ي https://www.almounadila.info/archives/24372]
شارك المقالة

اقرأ أيضا